السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام0%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 155679
تحميل: 6366

توضيحات:

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155679 / تحميل: 6366
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

عن رأيه الخاص، وإنّما كان عن رأي المسلمين واتّفاقهم.

متى ولا نعلم أنّه حتّى استشار أحداً في تقمّصه للخلافة، ومصادرته لتركة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأميمه لفدك وغيرها؛ مما أوجب التضييق الاقتصادي على العترة الطاهرة؟!

وعلى أي حال، فقد حفظت السيّدة زينب وهي في عهد الصبا هذا الخطاب الخالد، وهي إحدى رواته، وكان ذلك آية في نبوغها فقد روته بحرفيته، وكانت مع اُمّها حينما أدلت بهذا الخطاب الذي هو أحد الركائز المهمّة في مذهب أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد رجعت معها وهي تجرّ أذيال الخيبة، قد مزّق الأسى فؤادها؛ فلم يرع أبو بكر مكانتها، ولم يستجب المسلمون لمطالبها، وقد استولت عليها الآلام والهموم على ما تُمنى به الاُمّة من الكوارث والأزمات من جراء إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن القيادة العامة للعالم الإسلامي.

اعتذار مرفوض

وجهد أبو بكر وعمر على إرضاء زهراء الرسول وتطييب خاطرها على ما اقترفاه في حقّها، فاستأذنا بالدخول عليها فأبت أن تأذن لهما، وعرضا على الإمام (عليه السّلام) رغبتهما الملحّة في مقابلة سيّدة النساء، فانطلق الإمام نحو الصدّيقة والتمس منها إجابتهما، فسمحت لهما بالدخول، فلمّا مثلا عندها أشاحت بوجهها عنهما، وقدّما إليها اعتذارهما، فقالت:«أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به؟» .

فأجابا: نعم.

فقالت:«نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَنْ أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَنْ أرضى

١٠١

فاطمة فقد أرضاني، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني؟» .

فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فانبرت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي مغيظة محنقة، فخاطبت أبا بكر وشاركت معه صاحبه قائلة:«إنّي اُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه» .

وفزع أبو بكر وقال رافعاً عقيرته: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة. ووجّهت إليه أعنف القول قائلة:«والله، لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة اُصليها» (١) .

وخرج أبو بكر ولم يظفر برضا زهراء الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان ذلك من أعظم الصدمات التي واجهها في أيام حكومته. ومن الطبيعي أنّ عقيلة بني هاشم قد شاركت اُمّها البتول في سخطها على أبي بكر، وعدم رضائها عنه.

مآسي البتول (عليها السّلام)

وطافت موجات قاسية من الآلام والأحزان ببضعة الرسول ووديعته؛ فقد استغرق الأسى قلبها الرقيق المعذّب، وغشيتها سُحب قاتمة من اللوعة والحزن على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تزور بلهفة جسده الطاهر، فتطوف حوله

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤، الطبعة الأولى.

١٠٢

وهي ذاهلة اللبّ، منهدّة الكيان، فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول:

ماذا على مَن شمّ تربةَ أحمدٍ = أن لا يشمَ مدى الزمانِ غواليا

صُبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها = صُبّت على الأيام صرنَ لياليا

قل للمغيّبِ تحتَ أطباقِ الثرى = إن كنتَ تسمعُ صرختي و ندائيا

قد كنتُ ذات حمى بظلِ محمّدٍ = لا أختشي ضيماً و كانَ جماليا

فاليوم أخضعُ للذليلِ وأتّقى = ضيمي وأدفعُ ظالمي بردائيا

فإذا بكت قمريةٌ في ليلها = شجناً على غصنٍ بكيتُ صباحيا

فلأجعلنَّ الحزنَ بعدكَ مؤنسي = ولأجعلنّ الدمعَ فيك وشاحيا(١)

وحكت هذه الأبيات ما عانته زهراء الرسول من لوعة وشجون على فراق أبيها الذي استوعب حبّه عواطفها ومشاعرها، وقد بلغ من عظيم حزنها عليه أنّه لو صبّت مصائبها على الأيام لخلعت ضياءها ولبست السواد القاتم.

كما صوّرت هذه الأبيات الرقيقة مدى عزّتها وعظيم مكانتها في أيام أبيها سيّد الكائنات؛ فقد كانت من أعزّ وأمنع نساء المسلمين، ولكنّها بعد فقد أبيها تنكّر لها أصحابه، وأجمعوا على هضمها والغضّ من شأنها حتّى صارت تخضع للذليل، وتتّقي الظالمين لها بردائها، إذ ليس عندها قوّة تحميها ولم تكن تأوي إلى ركن شديد.

وقد خلدت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ووديعته إلى الأسى والحزن، وقد وجدت في البكاء راحة نفسية لها، وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصاب أبيها، وكان ممّن وسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثواه الأخير،

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ٢ / ١٣١.

١٠٣

فقالت له:«هذا أنس بن مالك؟» .

- نعم يا بنت رسول الله.

فانبرت وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب قائلة:«كيف طابت نفوسكم أن تحثّوا التراب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!» (١) .

وغرق أنس في البكاء، وانصرف وقد نخب الأسى فؤاده.

وبلغ من عظيم حزن الصدّيقة على أبيها أنّها كانت تُطالب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن يريها القميص الذي غُسّل فيه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا جاء به إليها تأخذه بلهفة وتوسعه تقبيلاً وشمّاً؛ لأنّها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه. وخلدت زهراء الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل، وظلّ شبح أبيها يطاردها في كلّ فترة من حياتها القصيرة الأمد.

وكانت ابنتها الصدّيقة الطاهرة زينب في حزن بهيم، تنظر إلى اُمّها وقد أشرفت على الموت من كثرة البكاء على أبيها، فكانت تشاركها في أحزانها وآلامها ولوعتها.

وثقل على أتباع أبي بكر بكاء الصدّيقة على أبيها، فشكوا ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً، فعرض الإمام عليها ذلك فأجابته؛ فكانت في نهارها تمضي إلى خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وزينب (عليهم السّلام)، فتجلس تحت شجرة من الأراك، وتأخذ باللوعة والبكاء على أبيها طيلة النهار، فإذا أوشكت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار.

وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقلعوها، فكانت تبكي في حرّ الشمس، فسارع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فبنى لها بيتاً سمّاه (بيت الأحزان)، وظل هذا البيت رمزاً لأساها وغضبها على القوم على مرّ العصور.

ويقول الرواة: إنّ الإمام قائم آل محمّد (عجّل الله تعالى فرجه) قال

____________________

(١) سنن ابن ماجة / ١٨، المواهب اللدنية ٢ / ٣٨١.

١٠٤

في هذا البيت:

أم تراني اتخذت لا وعُلاها = بعد بيت الأحزانِ بيتَ سرورِ

وكانت بضعة رسول الله وحبيبته مع أطفالها يمكثون طيلة النهار في ذلك البيت الحزين، وهي تناجي أباها وتندبه وتبكيه، فإذا جاء الليل أقبل الإمام (عليه السّلام) فأرجعها مع أطفالها إلى الدار.

واستولى الحزن على بضعة الرسول وذاب جسمها، وقد فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها، ولم تتمكّن من النهوض والقيام، وكانت ابنتها العقيلة إلى جانبها تقوم بخدماتها ورعايتها، وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها، فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟

فرمقتهنَّ بطرفها، وأجابتهنَّ بصوتٍ خافت مشفوع بالأسى والحسرات قائلة:«أجدني كارهة لدنياكنَّ، مسرورة لفراقكنَّ، ألقى الله ورسوله بحسرات، فما حُفِظ لي الحق، ولا رُعيت منّي الذمّة، ولا قُبلت الوصية، ولا عُرِفت الحرمة» (١) .

أجل، لم يُحفظ حقّها، ولم تُرعَ ذمّتها؛ فقد أصرّ القوم على هضمها والتنكّر لها، وانصرفن النسوة وقد غامت عيونهنَّ بالدموع، وعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول وغضبها عليهم، وقد عرفوا مدى تقصيرهم في حقّها.

وهرعت بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها، فقلنَ لها: يا بنت رسول الله، صيّري لنا في حضور غسلك حظّاً(٢) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٥.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٧.

١٠٥

فلم تجبهنَّ إلى ذلك، وقالت:«لا حاجة لي في حضوركنَّ» .

إلى جنة المأوى

وذوت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما تذوي الأزهار، ومشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الإهاب، وبدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة التي استهانت بها، وطلبت حضور ابن عمّها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فعهدت إليه بوصيتها، وأهم ما فيها:

١ - أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

٢ - أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين هضموها وظلموها؛ فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها على حدّ تعبيرها.

٣ - أن يعفي موضع قبرها ويخفيه؛ ليكون رمزاً لغضبها على القوم، غير قابل للتأويل والتصحيح على ممر الأجيال الصاعدة.

وضمن لها الإمام جميع ما عهدت به إليه، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون.

وطلبت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أسماء بنت عميس أن يُصنع لها سرير يواري جسدها الطاهر؛ فقد كانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فيها أجسامهم، وكرهت ذلك سيّدة النساء، فعملت لها أسماء سريراً يُستر مَنْ فيه، كانت قد رأته حينما كانت في الحبشة.

فلمّا نظرت إليه ابتسمت، وهي أوّل ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى(١) .

وفي آخر يوم من حياة الصدّيقة أصبحت وقد ظهر عليها بعض التحسّن، وبدا عليها الفرح والسرور؛ فقد علمت أنّ هذا اليوم هو خاتمة حياتها، وفيه تلتحق بأبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة، وعمدت الصدّيقة إلى أطفالها فغسلتهم،

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٢.

١٠٦

وصنعت لهم من الطعام ما يكفيهم يومهم، ثمّ أمرت ولديها الحسن والحسين (عليهما السّلام) أن يخرجا لزيارة قبر جدّهما ولا يشاهدا وفاتها، وألقت عليهما وعلى بنتها زينب نظرة الوداع، وقلبها الزاكي يذوب ألماً وحزناً، وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات من الهواجس، وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان.

والتفتت وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أسماء بنت عميس، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها، فقالت لها:«يا اُمّاه» .

- نعم يا حبيبة رسول الله.

-«اسكبي لي غسلاً» .

فسارعت أسماء وأتتها بالماء، فاغتسلت فيه، وقالت لها:«ايتيني بثيابي الجدد» . فأحضرتها لها، وقالت لها:«اجعلي فراشي في وسط البيت» .

وذعرت أسماء، وعلمت أنّ الموت قد دنا من وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وصنعت لها ما أرادت، فاضطجعت في فراشها، واستقبلت القبلة، ونادت أسماء قائلة بصوت خافت:«يا اُمّاه، إنّي مقبوضة الآن، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد» .

وأخذت تتلو آيات القرآن الكريم حتّى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن، ويستقبلها أبوها التي كرهت الحياة من بعده.

لقد سمت تلك الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها، وأظلمت الأرض لفقدها، فما أضلّت سماء الدنيا مثلها في قداستها وطهرها، وقد انقطع بموتها آخر مَنْ كان في الدنيا من نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

١٠٧

وكانت زينب إلى جانب اُمّها، وقد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحياة، فذابت أسى، وعجّت بالبكاء والعويل.

وقفل الحسنان (عليهما السّلام) من مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الدار فلم يجدا اُمّهما فيها، فبادرا يسألان أسماء قائلين:«أين اُمّنا؟» .

فأجابتهما، وهي غارقة في البكاء قائلة: يا سيّدي، إنّ اُمّكما قد ماتت، فأخبرا بذلك أباكما.

وكانت هذه المفاجأة كالصاعقة، فهرعا إلى جثمان اُمّهما، فوقع عليها الحسن (عليه السّلام) وهو يقول:«يا اُمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني» . وألقى الحسين (عليه السّلام) بنفسه عليها وهو يعجّ بالبكاء قائلاً:«يا اُمّاه، أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي» .

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً، وتواسيهما بمصابهما الأليم، وطلبت منهما أن يُخبرا أباهما بموت سيّدة النساء، وسارعا نحو مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد علا صوتهما بالبكاء، فاستقبلهما المسلمون قائلين: ما يبكيكما يا بني رسول الله، لعلّكما نظرتما قبر جدكما فبكيتما؟

فأجابا:«أوَ ليس قد ماتت اُمّنا فاطمة!» .

وهزّ النبأ المؤلم مشاعرهم؛ فقد ندموا على تقصيرهم تجاه بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد ماتت وهي ساخطة عليهم؛ لأنّهم لم يحفظوا مكانتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا علم الإمام (عليه السّلام) بموت الصدّيقة تصدّع قلبه، وودّ مفارقة الحياة، ورفع صوته

١٠٨

قائلاً:«بمَنْ العزاء يا بنت محمّد؟ كنتُ بكِ أتعزّى، ففيم العزاء من بعدك؟!» .

وخفّ مسرعاً نحو البيت وهو يذرف أحرّ الدموع، وألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول:

لكلّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ = وكلّ الذي دونَ الفراقِ قليلُ

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ = دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ

وكانت العقيلة زينب إلى جانبها اُمّها وهي تعجّ بالبكاء، قد ذاب قلبها؛ فقد فقدت جميع آمالها، وليس شيء أوجع على الطفل من فراق اُمّه.

وهرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام، وقد ساد فيهم وجوم رهيب، وعهد الإمام (عليه السّلام) إلى سلمان الفارسي أن يخبر الجماهير بأنّ مواراة جثمان بضعة الرسول قد اُجّل هذه العشية، فقفلوا إلى منازلهم.

وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام (عليه السّلام) لتشاهد جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فحجبتها أسماء ومنعتها من الدخول قائلة: قد عهدت إليّ أن لا يدخل عليها أحد(١) .

ولمّا مضى شطر من الليل قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فغسّل الجسد الطاهر، ومعه الحسنان (عليهما السّلام)، وأسماء، وزينب وهي تنظر إلى جثمان اُمّها وقد نخب الحزن قلبها، وتبكي عليها كأقسى وأمرّ ما يكون البكاء.

وبعد الفراغ من الغسل أدرجها في أكفانها، ودعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم؛ ليلقوا عليها نظرة الوداع، فألقوا بنفوسهم على جثمان اُمّهم وهم يوسعونها تقبيلاً، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم، وبعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام (عليه السّلام) عليها الرداء، ولمّا حلّ

____________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ / ٣٦٥.

١٠٩

الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى على الجسد الطيب، وعهد إلى مَنْ كان معه من خلّص صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمثال سلمان الفارسي وبني هاشم فحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير، وأودعها في قبرها، وأهال عليها التراب، وعفى موضع قبرها؛ ليكون دليلاً حاسماً على غضبها ونقمتها على مَنْ غصب حقّها.

ووقف الإمام الثاكل الحزين على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به موجات من الحزن والألم القاسي، فأخذ يؤبّن زهراء الرسول بهذه الكلمات التي تحكي لوعته وأساه على هذا الرزء القاصم، وقد وجّه خطابه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعزّيه قائلاً:«السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، السريعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ؛ فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة؛ أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودّعٍ لا قالٍ ولا سئم؛ فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين» (١) .

وحكت هذه الكلمات الحزن العميق والألم الممض الذي في نفس الإمام (عليه السّلام)؛ فقد أعلن شكواه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ما مُنيت به حبيبته من الخطوب والنكبات، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها لتخبره بما جرى عليها من الظلم في الفترة القصيرة التي عاشتها بعده.

____________________

(١) نهج البلاغة - محمّد عبده ٢ / ٢٠٧.

١١٠

كما أعلن الإمام عن أساه وشجاه على فقده لبضعة الرسول، فهو في حزن دائم وليل مسهّد، لا تنطفئ عنه نار اللوعة عليها حتّى يلتحق إلى جوار الله، وإنّه إذ ينصرف عن قبرها المقدّس فليس ذلك عن سأم ولا عن ملالة وكراهية، ولكن استجابة لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر، ولولا ذلك لأقام عنده ولا يريم عنه.

وعاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سيّدة نساء العالمين في مثواها الأخير، وقد نخب الحزن فؤاده ينظر إلى أطفاله وهم يبكون اُمّهم أمرّ البكاء، وأشجاه خصوصاً العقيلة زينب فكادت تندب اُمّها بذوب روحها تبكي عليها صباحاً ومساءً قد خلدت إلى الأسى والحزن.

لقد قطعت عقيلة بني هاشم دور طفولتها الحزينة وقد طافت بها الآلام القاسية والرزايا الموجعة؛ فقد فقدت جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يفيض عليها بعطفه وحنانه، ولم تمض بعد وفاته إلاّ أيام يسيرة حتّى فقدت اُمّها الرؤوم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب؛ فقد صُبّت عليها الكوارث والمصائب، والتي كان من أقساها جحد القوم لحقّها، وإجماعهم على هضمها وهي ابنة نبيّهم الذي برّ بدينهم ودنياهم.

لقد وعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي في سنّها الباكر الأهداف الأساسية التي دعت القوم إلى هضم اُمّها وجحد حقوقها وإقصاء أبيها عن قيادة الاُمّة، كلّ ذلك طمعاً بالحكم والظفر بالإمرة والسلطان.

وفاة أبي بكر

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه، وقد قلّد صاحبه عمر شؤون الخلافة، وقد لاقى معارضة شديدة من أعلام

١١١

الصحابة، كان من بينهم طلحة؛ فقد قال له: ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النفوس، وتنفض منه القلوب؟(١) .

وسكت أبو بكر، فاندفع طلحة يشجب عهده لعمر قائلاً: يا خليفة رسول الله، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يده، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة؟

وسارع أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر وهم يعلنون رفضهم وسخطهم وكراهيتهم لخلافة عمر، قائلين: نراك استخلفت علينا عمراً وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيت عنّا؟! وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل؟

فأجابهم أبو بكر: لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم من نفسي(٢) .

وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف أكثر المسلمين ورغباتهم إلاّ أنّه لم يحفل بهم، وأقام صاحبه خليفة من بعده، وتوفّي أبو بكر وانتهت بذلك خلافته القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة كان من بينها معاملة العترة الطاهرة التي هي وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) في اُمّته كأشخاص عاديّين؛ فقد جرّد عنها هالة التقديس الذي أضفاه عليها النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما فتحت الباب للحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلم آل البيت (عليهم السّلام) والإمعان في قتلهم تحت كلّ حجر ومدر.

ولعلّ أقسى ما جرى عليهم من الكوارث فاجعة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان؛ فقد استشهد الإمام الحسين

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٥٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٤٣، دار إحياء الكتب العربية.

١١٢

ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصورة مروّعة، ومُثّل بجثمانه المقدّس بوحشية لم يعهد لها مثيل، وسُبيت عائلته ومعها حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم من كربلاء إلى الشام.

كلّ هذه الرزايا كانت ناجمة عن إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة للمسلمين.

في عهد عمر

وتولّى عمر بعد وفاة أبي بكر شؤون الدولة الإسلاميّة، وقد قبض على الحكم بيد من حديد، وساس البلاد بعنفٍ حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة؛ فإنّ درّته - فيما يقول المؤرّخون - كانت أهيب من سيف الحجّاج، حتّى إنّ ابن عباس مع قربه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ومكانته العلميّة لم يستطع أن يجهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته، كما تحاماه أهله وعياله فلم يستطع أحد منهم أن يجهر برأيه أو يفرض إرادته عليه.

وعلى أيّ حال، فقد نهج عمر في سياسته منهجاً خاصاً لا يتّفق في كثير من بنودها مع سياسيّة أبي بكر، خصوصاً في السياسة المالية؛ فقد كان السائد في سياسة أبي بكر المساواة بين المسلمين إلاّ أنّ عمر عدل عنها، وميّز بعض المسلمين على بعض؛ ففضّل العرب على الموالي، وقريشاً على سائر العرب، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين(١) .

اعتزال الإمام (عليه السّلام)

واعتزل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة طيلة خلافة عمر كما اعتزل في أيام أبي بكر، وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير على

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٨٤.

١١٣

ضياع حقّه وسلب تراثه؛ فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه، وعزله عن جميع ما يتعلّق بأمر الدولة، حتّى ألصق خده بالتراب على حدّ تعبير بعض المؤرّخين.

يقول محمّد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي: إنّ عليّاً وضعه الأوّلون - يعني الشيخين - وأسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسيّاً(١) .

وقد صار جليس بيته تساوره الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسّد الأرق، ويتجرّع الغصص، قد كظم غيظه، وأسلم أمره إلى الله. وانطوت نفوس أبنائه على حزن لاذع وأسىً عميق على عمر؛ فقد روى المؤرّخون أنّ الحسين (عليه السّلام) خفّ إلى عمر وكان على المنبر يخطب، فصاح به:«انزل، انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك» .

وبهت عمر، واستولت عليه الحيرة، وراح يقول: صدقت، لم يكن لأبي منبر. وأخذه فأجلسه إلى جنبه، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً: مَنْ علّمك؟

-«والله ما علّمني أحد» .

شعور طافح بالأسى والألم انبعث عن إلهام وعبقرية، رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) منبر جدّه الملهم الأوّل لقضايا الفكر الإنساني، وأنّه لا يليق أن يرقاه غير أبيه باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله)، ورائد العلم والحكمة في دنيا الإسلام.

وعلى أيّ حال، فقد كان هذا الشعور سائداً عند ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقتصر على الإمام الحسين (عليه السّلام) وإنّما كان شاملاً للعقيلة زينب كما يدلّل على ذلك

____________________

(١) نهج البلاغة ٩ / ٢٨.

١١٤

خطابها الرائع في البلاط الاُموي؛ فقد قالت ليزيد: وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين... وهذه الكلمات صريحة فيما ذكرناه.

وقد بحثنا عن شؤون عمر وأيام حكومته في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، فلا نعيد تلك البحوث.

اغتيال عمر

وبقي عمر على دست الحكم يتصرّف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله، وكان فيما يقول المؤرّخون: شديد البغض والكراهية للفرس، يبغضهم ويبغضونه؛ فقد حظر عليهم دخول يثرب إلاّ مَنْ كان سنّه دون البلوغ(١) .

وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد، وأفتى بعدم إرثهم إلاّ مَنْ ولد منهم في بلاد العرب(٢) ، وكان يُعبّر عنهم بالعلوج(٣) .

وقد قام باغتياله أبو لؤلؤة وهو فارسي، أمّا السبب في اغتياله له فهو أنّه كان فتى متحمّساً لوطنه واُمّته، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس وإذلالهم، وقد خفّ إليه يشكو ممّا ألمّ به من ضيق وجهد من جرّاء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج، وكان مولى له، فزجره عمر وصاح به: ما خراجك بكثير من أجل الحِرف التي تُحسنها.

وألهبت هذه الكلمات قلبه، فأضمر له الشرّ، وزاد في حنقه عليه أنّه اجتاز على عمر فسخر منه، وقال له: بلغني أنّك تقول: لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٥.

(٢) الموطّأ ٢ / ١٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

١١٥

ولذعته هذه السخرية، فخاطب عمر: لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(١) ، فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(٢) ، وهي التي قضت عليه، ثمّ هجم على مَنْ في المسجد فطعن أحد عشر رجلاً، وعمد إلى نفسه فانتحر(٣) ، وحُمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً، فقال لمَنْ حوله: مَنْ طعنني؟

- غلام المغيرة.

- ألم أقل لكم: لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً فغلبتموني؟(٤) .

وأحضر أهله له طبيباً، فقال له: أيّ الشراب أحبّ إليك؟

- النبيذ.

فسقوه منه فخرج من بعض طعناته صديداً، ثم سقوه لبناً فخرج من بعض طعناته، فيئس منه الطبيب، وقال له: لا أرى أن تُمسي(٥) .

الشورى

ولمّا أيقن عمر بدنوّ الأجل المحتوم منه أخذ يطيل التفكير فيمَنْ يتولّى شؤون

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٢.

(٢) الصفاق: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٧.

(٥) الاستيعاب (المطبوع على هامش الإصابة) ٢ / ٤٦١.

١١٦

الحكم من بعده، وقد تذكّر أعضاء حزبه الذين شاركوه في تمهيد الحكم لأبي بكر، فأخذ يُبدي حسراته عليهم؛ لأنّهم جميعاً قد اقتطفتهم المنيّة، فقال بأسى وأسف: لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته؛ لأنّه أمين هذه الاُمّة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته؛ لأنّه شديد الحبّ لله تعالى.

لقد استعرض الأموات وتمنّى أن يقلّدهم الحكم، ولم يعرض لسيّد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ولا للصفوة الطاهرة من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب، ولا لأبي ذرّ، ولا لرؤساء الأنصار من الذين ساهموا في بناء الإسلام واستشهد أبناؤهم في سبيله.

لقد تمنّى حضور أبي عبيدة وسالم يقلّدهما منصب رئاسة الدولة، مع العلم أنّهما لم يكن لهما أيّة سابقة تُذكر في خدمة الإسلام.

لقد رأى عمر أن يجعلها شورى بين المسلمين وانتخب مَنْ يمثّلهم، وهم ستة:

١ - الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

٢ - عثمان بن عفان الاُموي.

٣ - طلحة.

٤ - عبد الرحمن بن عوف.

٥ - الزبير.

٦ - سعد بن أبي وقاص.

وقد اختار عمر هؤلاء النفر لصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقد كان معظم أعضائها من المنحرفين عن الإمام والموالين لبني اُميّة، ولم يكن مع الإمام سوى الزبير، وهو لا يغني شيئاً. وقد جمع عمر أعضاء الشورى، وقدّم في كلّ

١١٧

واحد منهم سوى الإمام، فانصرف عنه، فقال عمر لمَنْ حضر عنده: والله إنّي لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.

فقالوا له: مَنْ هو؟

- هذا المولّي من بينكم.

- ما يمنعك من ذلك؟

- ليس إلى ذلك من سبيل(١) .

ودعا عمر بأبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى، فقال له: يا أبا طلحة، إنّ الله أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله. والتفت إلى المقداد فعهد إليه بمثل ما عهد إلى أبي طلحة، ثمّ قال له: إذا اتفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما، وإن اتّفق ثلاثة على رجل ورضي ثلاثة منهم برجلٍ آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.

والتاع الإمام (عليه السّلام) وعرف أنّها مكيدة دُبّرت ضدّه؛ فقد قال لعمّه العباس:«يا عمّ، لقد عُدلت عنّا» .

وسارع العباس قائلاً: مَنْ أعلمك بذلك؟

وكشف الإمام (عليه السّلام) الغطاء عمّا دبّره عمر ضدّه قائلاً:«لقد قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، ثمّ قال: كونوا مع عبد الرحمن،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩٥.

١١٨

وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر لعثمان، وهم لا يختلفون؛ فإمّا أن يولّيها عبد الرحمن عثمان، أو يولّيها عثمان عبد الرحمن» .

وصدق تفرّس الإمام؛ فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثاراً لمصالحه، وابتغاءً لرجوعها إليه من بعده.

إنّ أدنى تأمّل في وضع الشورى يتّضح منه صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ووضعها عند القوى المنحرفة عنه.

وعلى أيّ حال، فإنّ الشورى بأسلوبها الهزيل قد ألقت الاُمّة في شرّ عظيم، وفرّقت كلمتها، وأشاعت الطمع والتهالك على الحكم والسلطان بين أبنائها، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان؛ فقد قال لأبي الحصين: بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً، فأخبرني عن شيء أسألك عنه.

- سلني عمّا بدا لك.

- أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم؟

- قتل الناس عثمان.

- ما صنعت شيئاً.

- مسير عليّ إليك وقتاله إياك.

- ما صنعت شيئاً.

- مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم.

- ما صنعت شيئاً.

- ما عندي غير هذا.

وطفق معاوية يبيّن أسباب الخلاف والفرقة بين المسلمين قائلاً: أنا اُخبرك؛ إنّه لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر.

وأضاف يقول:

١١٩

ثمّ جعلها - عمر - شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(١) .

لقد شاعت الأطماع السياسيّة بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد.

وعلى أيّ حال، فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وقد ألمحنا إليها في هذه البحوث؛ وذلك لأنّها تُلقي الأضواء على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم، والتي أدّت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كلّ كائن حيّ.

انتخاب عثمان وحكومته

واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين، وكثر الجدل فيما بينهم، فانبرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين، قائلاً:«لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، وعائدة كرم، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف، وتخالف منه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضلال، وشيعة لأهل الجهالة» .

ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته؛ فقد استجابوا لعواطفهم، وكان الاُمويّون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان.

____________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٧٣ - ٧٤.

١٢٠