لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49882
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49882 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخلفاء إليه في الأحكام، دليل على أنّهم هُم أيضاً في حاجة إلى توجيهه وإرشاده.

وكلّ ما تتطلبه مسؤولية الخلافة كان متوفّراً في شخص الإمام عليّعليه‌السلام ، فالفقه والقضاء اللذان شكّلا روح الدولة الإسلاميّة، كانتا ميزتين للإمام عليّعليه‌السلام ، وبعد ذلك لم يكن هناك قطاع أهمّ في مجتمع الإسلام من القطاع العسكري، والإمام عليّعليه‌السلام لا شكّ كان أكبر وأعلى رجل عسكري في دولة الإسلام. ولم يثبت التاريخ أنّ أحداً من الصحابة أو غيرهم كان أشجع منه وأقوى، ولا يمكن قياس أبي بكر أو عمر أو عثمان أو أيّ كان بالقدرة العسكرية للإمام عليّعليه‌السلام .

لقد اكتملت كلّ مؤهّلات الخلافة لدى الإمام عليّعليه‌السلام ، والذين يحرصون على نجاح مشروع الاُمّة، هم اُولئك الذين اختاروا لها عليّاًعليه‌السلام ؛ لأنّه الوحيد الذي يستطيع تطوير هذا المشروع والذهاب به بعيداً في خطّ التقدّم، ولكن لا بدّ أن نتذكّر العوامل الاُخرى التي يمكنها أن تعرقل مشروع الإمامة، وهي ذاتها التي كانت عقبة في وجه مشروع النّبوّة، إنّه العامل (القبلي)، الذي بقي راسخاً في نفوس الأغلبيّة السّاحقة، فرفضت على عليّعليه‌السلام (الإمامة) مثلما رفضت على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبوّة، لا لشيء إلاّ لأنّهما من (بني هاشم)، وكلّ ذلك رؤية قبليّة محضة لقضايا إسلامية مجرّدة؛ وبذلك يكون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أثبت للإمام عليّعليه‌السلام الوصيّة، فمن كان راضياً بولاية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجب عليه القبول بولاية الإمام عليّعليه‌السلام ، وأكمل الله دينه يوم تمّت الرسالة واكتملت بالولاية، وهي آخر ما نزل من القرآن.

وظلّ النّفاق يختمر في النّفوس ينتظر الفرصة كي تسنح؛ ليقلب للرسالة المجن، فتولّي نفوس أدبارها باتجاه الضلالة من جديد، ويفتح الملف المثقل بكلّ الحسابات القديمة، فاليوم يوم الحساب وآن لبني هاشم أن يدفعوا ثمن الانتصار المحمدي، ولترفع ثياب المشركين المقتولين بسيف عليّعليه‌السلام في نفوس المنافقين، فيتربّصوا الدوائر بعترة محمّد الطاهرةعليه‌السلام .

١٢١

ستأتي الرّزية ويبدأ المنعطف ويبدأ أوّل مؤتمر في تاريخ (البدو)، حيث يزاح الإسلام وتطرح قشوره؛ بحثاً عن المنافع الشّخصيّة، وسيبدأ التاريخ المفضوح من جدول أعمال السّقيفة، ليكون ما بعدها أتراماً وأتراماً على آل البيت النّبوي.

ولذلك تتبلور الصفة المتميّزة للإمام عليّعليه‌السلام أيّام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويدلّ هذا أيضاً على أنّ الإمام عليّعليه‌السلام اختير لمؤازرة الوحي، بينما غيره كان موضوعاً للرسالة والوحي، أي أنّ الوحي كان ينقل بواسطة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبمؤازرة عليّعليه‌السلام ، لينتهي إلى العامّة من النّاس الذين من بينهم عناصر معيّنة اختصّت بصحبة النّبي(1) .

وصحبته ليست سوى حالة من التمحور حول الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتلقّي الوحي عنه، من دون أن تكون ملزمة لعصمتهم، بمعنى عدم تبدّلهم وتراجعهم عنه، ولم تكن الصحبة تعني بالضرورة (الخلافة) أو فيها ما يؤشّر إلى ذلك، بعكس ما يبعث به مفهوما (الوصيّة) و(الوزارة) اللذان أختصّ بهما الإمام عليّعليه‌السلام ، وبذلك تكون كلّ الخصال متحقّقة في شخص عليّعليه‌السلام سوى (الوصيّة)، وفعلاً، لقد أوصىصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإمامة لعليّ من بعده، بحيث بلغ حدّ التواتر، وحضره جمع غفير من الصحابة وسمعوه ووعوه وعلّقوا عليه بـ (بخ بخ لك) أو ما شابهها من العبارات. وكان هذا الحديث هو ورقة المعارضة منذ أن اُحيلت الخلافة إلى (الرأي).

لم يغادر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الحياة حتّى وقف تلك الوقفة التاريخيّة الكبرى بحجّة الوداع، ليعلن بصريح النّصّ إنّ عليّاً ولي للمؤمنين بعده، وقصّة الخبر كالتالي(2) :

____________________

(1) ولهذا يجب أن نميّز عليّاًعليه‌السلام عن الصحبة، فهو ليس صحابيّاً فحسب؛ إذ له ألف وألف رابطة ووظيفة في هذا الدين، وكلّها كانت تجري بعين الوحي.

(2) استطاع عبد الحسين الأميني النّجفي في كتابه العملاق: الغدير. إحصاء رواة الحديث من الصحابة والتابعين والعلماء، فكان أن أثبت بالأسانيد الموثقة أنّ عدد رواة الحديث من الصحابة (110)، وعدد رواته من التابعين (84)، وعدد رواته من العلماء (359).

١٢٢

كان يوم الثامن عشر من ذي الحجة في سنة عشرة من الهجرة، حيث وصل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حجّة الوداع، وكان اسم المكان (غدير خم)، يقع على مقربة من الجحفة بناحية رابغ بين مكّة والمدينة.

وذكر اليعقوبي في تاريخه: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قام خطيباً (بغدير خم)، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: «ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه». ثمّ قال: «أيّها النّاس، إنّي فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الثقل الأكبر كتاب الله، سببٌ طرفه بيد الله وطرفٌ بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي»(1) .

وذكر ابن كثير في تاريخه: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان بن هدبة بن حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد وأبي هارون، عن عدي بن ثابت، عن البراء، قال: كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع، فلمّا أتينا على غدير خم، فسح لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت شجرتين، ونودي في النّاس الصلاة جامعة، ودعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً وأخذ بيده فأقامه عن يمينه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألستُ أولى بكلّ امرئ من نفسه؟». قالوا: بلى. قال: «هذا مولى مَن أنا مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه». فلقيه عمر بن الخطّاب، فقال: هنيئاً لك، أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وذكره النّسائي في خصائصه(2) ، حيث قال: أخبرنا محمّد بن المثنى، قال: حدّثنا يحيى بن حماد، قال: أخبرنا أبو عوانة عن سليمان (الأعشر)، قال: حدّثنا

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 109، دار صادر.

(2) الخصائص - النّسائي / 150، تحقيق وتعليق: الشّيخ محمّد باقر المحمودي - الطبعة الأولى / 1403 هـ، 1983 م.

١٢٣

حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل (عامر بن وائلة)، عن زيد بن أرقم، قال: لمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حجّة الوداع ونزل (غدير خم)، أمر بدوحات فقصمن، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كأنّي دعيتُ فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما؛ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». ثمّ قال: «إنّ الله مولاي وأنا وليّ كلِّ مؤمن». ثمّ إنّه أخذ بيد عليّ (رض) فقال: «مَن كنتُ وليَّه فهذا وليّه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه»(1) .

ولم يجد خصوم (الولاية) دليلاً قوي العود ليسندوا به خصومتهم، وبعضهم ممّن عرف بنقص الحياء، لجأ إلى التحايل على النّصّ و(الشّطح) في تأويله بما يعرقب أطرافه، ظانين أنّهم أمام أمّيين لا يعلمون الكتاب، فذكر ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة: (لا نسلّم أنّ معنى الولي ما ذكروه، بل معناه النّاصر؛ لأنّه مشترك بين معان كالمعتق والعتيق، والمتصرّف في الأمر، والنّاصر والمحبوب، وهو حقيقة في كلّ منها، وتعيين بعض معاني المشترك من غير دليل، يقتضيه تحكّم لا يعتدّ به، وتعميمه في مفاهيم كلّها لا يسوغ)(2) .

وقد تلقّف هذه بعض المهرّجين (ورددوها من دون استحياء، ولم أكن لأتصوّر كيف أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يوقف المسلمين بغدير خم، ويقول لهم: «ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟». ثمّ يقول ما قال، فتنزل الآية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (3) . كلّ هذا فقط ليقول للمسلمين: إنّ عليّاً قريبكم، أو غيرها من المعاني التي نعتوها.

____________________

(1) نفس الحديث رواه النّسائي بأسانيد وطرق مختلفة، وكذلك رواه جمع غفير من المحدّثين، كابن حنبل في المسند، والحاكم في المستدرك، والحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب، والطبري في مؤلفه الخاص، والطبراني في المعجم الأوسط، والسّيوطي في الدرّ المنثور، وغيرها من كتب الحديث. ورجاله رجال الصحاح على شرط البخاري ومسلم على حد قول (الحاكم)، وغيرها من الموثقات التي يضيق بها المقام.

(2) مثل هذه (الجهالات) استنسخها صاحب الرد على أباطيل المراجعات بجهل أوسع ونصب كثير.

(3) سورة المائدة / 3.

١٢٤

السّقيفة:

كنّا قد عرفنا إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن - حاشاه - غافلاً عن قيمة الخلافة والاستخلاف، وكانت خطبة الوداع برنامجاً لهم، يقيهم عثرات المستقبل.

وأكّد فيها على آل بيتهعليه‌السلام ، وولّى فيها الإمام عليّعليه‌السلام بقوله: «ألا مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه». كرّرها ثلاث مرات(1) ، وحذّرهم من مغبّة التجاوز للنصّ ابتغاء الرأي والباطل، كما حذّرهم من مغبّة التضليل والافتتان والرّدة والافتان.

ذكر اليعقوبي في تاريخه: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً مضلّلين يملك بعضكم رقاب بعض، إنّي خلّفت فيكم الثقلين ما أنْ تمسكتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي». ثمّ أمر النّاس بالالتزام بما أعلنه وأودعه فيهم قائلا: «إنّكم مسؤولون فليبلّغ الشّاهد الغائبَ»(2) .

وكان الإمام عليّعليه‌السلام هو المرشّح لولاية المسلمين بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد أن تبيّن أمر الولاية، نزلت الآية الكريمة:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ) (3) . وحيث أنّ الوضع يومئذ لا يسمح بالمعارضة، فإنّ المجموعة المنافقة لم تعلّق باستثناء بعض الحالات، واستمرّت في صمتها تترقّب الفرصة، وفي وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدأت المؤامرة تتبلور وتنعكس على أرض الواقع الإسلامي.

____________________

(1) وفي لفظ أحمد بن حنبل (كرّرها أربع مرات).

(2) تاريخ اليعقوبي / 903 - 93.

(3) سورة المائدة / 3. وذكر السّيوطي في الدرّ المنثور والخطيب البغدادي في التاريخ، نزولها في الغدير.

١٢٥

١٢٦

الوفاة وملابساتها:

هناك أمران أساسيان في تناولنا لوفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأجواء التي أحاطت بهذا النّبأ التاريخي العظيم.

الأوّل: إنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله الذات البشري، الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... (شيء).

الثاني: إنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو همزة الوصل بين السّماء والأرض، وبما هو الرّسول المرسل... (شيء آخر).

والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذات كبشر، ترك أثراً بالغاً في نفوس الكثير من النّاس إثر موت قريب بشري. وهؤلاء هم الذين ارتبطوا بشخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كبطل وكعبقري، فتشكّل وجدانهم على غرار هذا الاعجاب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه، فإنّهم لا يرون الأهمّية الجوهريّة التي كانت تميّز شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله هو لها وليست هي له، لذلك تراهم سرعان ما فكّروا في مستقبل حياتهم وطرق التكيّف مع الأوضاع الجديدة، حيث غاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي غاب معه الوحي.

وفي نفس الأثناء، كانت هناك فئة تؤمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبي بما هو رسول الوحي، وبما هو الرّسالة. فهل ذهاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذات، يعني بالضرورة

١٢٧

ذهاب الرّسالة؟ فهؤلاء هُم الذين والوا عليّاًعليه‌السلام ، امتداد طبيعي في شخصيّة الإمامعليه‌السلام بما هو الشّخص المرشّح لمواصلة المسيرة؛ بحكم ما يملكه من مؤهّلات الإمامة، وما أورثه إيّاه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من علم ضروري للقيام بهذه المهمّة الرّساليّة.

وقد ردّ الله سبحانه في القرآن عن اُولئك الذين يحيدون عن أوامر الرّسالة فور اعتقادهم بوفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) (1) . وقد حدث ذلك في معركة (اُحد)، حيث فرّ جميع الصحابة باستثناء عليّعليه‌السلام وأفراد معدودين، ووضع الفارّون سيوفهم في الأغماد لمّا سمعوا إنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات، حتّى نزل عليهم التوبيخ الإلهي.

هذان التصوّران كانا سائدين في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده، وقد تجلّت صورتهما لمّا رفع عمر بن الخطّاب سيفه، يهدّد مَن قال بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورأى أنّه حيّ وسوف (يرجع) كما رجع موسىعليه‌السلام ، وأعتقد به الكثير منهم. وذلك دليل على أنّ هذا التصوّر موجود عند البعض، حتّى ورد من قال: إنّ محمداً قد مات.

هذان التصوّران هما أساس الاختلاف في زمن الوفاة، ووقائعها كالتالي: بعد قدومه إلى المدينة بأيّام قلائل، جهّز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشاً لفتح تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، على حدّ تعبير ابن الأثير. وعقد في ذلك لاُسامة بن زيد على هذا الجيش الذي اجتمع فيه المهاجرون والأنصار، وكان فيهم أبو بكر وعمر - كما ذكر اليعقوبي - وكان قد ابتدأ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المرض في أواخر صفر(2) ، وكان اُسامة يوم اشتكى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه (بالجرف) فتأخّر؛ ممّا أغضب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله يحثّ على المسيرة(3) .

لقد توفّي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) سورة آل عمران / 144.

(2) التاريخ الكامل لابن الأثير 2 / 317.

(3) لنا مع اُسامة وجيشه جولة خاصة.

١٢٨

يوم الاثنين 12 من ربيع الأوّل(1) ودفن من الغد نصف النّهار(2) .

وذكر اليعقوبي: إنّ وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان طالع سنتها الجدي ثماني عشر درجة(3) .

وفي أثناء مرضه واحتضارهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما بعد وفاته - جرت أحداث خلّفت وراءها محناً سياسية واجتماعية رهيبة. ولكي نفهم مشكلة الخلافة وملابساتها، لا بدّ من استحضار هذه المشاهد، واستنطاق الفواصل الحسّاسة فيها؛ من أجل الخروج بمخطط فكري وسياسي، يمكننا فهم الحالة الإسلاميّة بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد ابتدأ على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المرض وهو قد جهّز جيش اُسامة بن زيد، وكان من المنطقي - حسب النّظرة التي نحملها نحن الآن عن الصحابة الكبار وميزاتهم؛ كأبي بكر وعمر وعثمان - أن يعقد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد كبار الصحابة، لكنّه عقد لاُسامة وهو يومها فتى صغيراً، وكثر الطعن في ذلك، وتكلّم بعض الصحابة في إمارة اُسامة، وقالوا كلاماً يمجّه منطق الصحبة والإيمان.

ذكر ابن سعد في الطّبقات: أنّ سرية اُسامة بن زيد بن حارثة إلى أهل (ابني) - وهي أرض السرات ناحية البلقاء -، وقال: فلمّا كان يوم الأربعاء، بدأ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المرض، فحمّ وصدع، فلمّا أصبح يوم الخميس، عقد لاُسامة لواء بيده، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اغزُ بسم الله في سبيل الله، فقاتل مَن كفر بالله». فخرج وعسكر بالجرف، فلم يبقَ أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار انتدب في تلك الغزوة، فيهم: أبو بكر وعمر بن الخطّاب، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد وغيرهم، فتكلّم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين! فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غضباً شديداً، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة، فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد، أيّها النّاس، فما مقالة بلغني عن بعضِكم في إمارة اُسامة؟ ولئن طعنتم في إمارة اُسامة لقد طعنتم

____________________

(1و2) ابن الأثير / 323، وحسب التقويم الإسلامي الشّيعي: إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي في 28 من صفر.

(3) اليعقوبي - التاريخ 3 / 113.

١٢٩

في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله، إنّه كان للإمارة خليق وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة». ثمّ نزل فدخل بيته وذلك يوم السّبت لعشرة خلون من ربيع الأوّل، وثقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يقول: «انفذوا بعث اُسامة». وفي الملل والنّحل: «جهّزوا جيش اُسامة، لعن الله مَن تخلّف عنه»(1) .

وعلى الرّغم من أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حرص على تجهيز الجيش، وتبيّن من خلال إصرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله على بعثه، فإنّ الصحابة لم يطيعوا ورجعوا بعد أن وصلوا إلى الجرف.

وهناك لفتة يجب الوقوف على أطلالها: نحن في البداية نختار لأنفسنا منهجاً برهانيّاً علميّاً، لنجعله برهاناً غير مباشر. سنفترض أنّ الخلافة لعليّعليه‌السلام ، ونحلّل على أساس هذا الغرض، فإذا أوقفنا تناقض أوقفنا (الدور) وكان افتراضنا خاطئ، واختيارنا لهذا البرهان لا يعني إنّه لا برهان له بطرق اُخرى دائماً؛ لأنّ هذا النّمط من الاستدلال هو أقرب إلى الوجدان، وأكثر انسجاماً مع العقل العلمي.

لقد سبق أن قلنا: إنّ وجود الخلاف بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حول (الخلافة)، يقتضي أن يكون أحد الفريقين على خطأ. أو بتعبير أدق: أن يكون أحد الفريقين (مدّعياً) حقّاً ليس له، أو أنّ الفريق الآخر (مغتصباً) لحقّ ليس له أيضاً.

لنفترض - طبقاً لاُسلوبنا البرهاني المتقدّم - إنّ الإمامة ثبتت، وأنّ المسألة محض اغتصاب(2) ، وعلى هذا الأساس ننطلق إلى الأجواء التي أحاطت بالصحابة والمسلمين عند وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانت تتخلّلها بعض نقاط الاستفهام، تشكّل لغزاً فيما لو ربطناها بما جرى بعد ذلك من أحداث.

فالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد علم منذ حجّة الوداع، أنّه سيستقبل الآخرة، وهو يعلم بذلك كما تثبت الروايات الصحيحة. فكيف يجهّز جيش اُسامة، وبتلك الطريقة

____________________

(1) المقدمة الرابعة (من الملل والنحل) الشّهرستاني.

(2) اقترحت هذه الطريقة من البرهان، وإلا فلو افترضت (الادّعاء)، فليس بيني وبين النّتيجة السّلبيّة سوى نصّ أو نصّين صريحين ينهيان المسألة من الأساس.

١٣٠

التي استنكرها عليه بعض الصحابة، في الوقت الذي احتفظ فيه بالإمام عليّعليه‌السلام وهو رمز الجيش الإسلامي؟ إنّ للتاريخ ثغرات يمكن أن تتسلل منها الفضائح وتنكشف.

لقد علم عمر بن الخطّاب أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سيموت لا محالة(1) ، وبأنّه كان مصرّاً على الحضور بعيد وفاته؛ ليعرف كيف وإلى أين ستؤول الأوضاع، إنّه سمع من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع وبغدير خم: إنّ ولي المسلمين هو (علي بن أبي طالب). وكان قد تقدّم إليه بالتهنئة قائلاً: (بخ بخ لك يا أمير المؤمنين)، ولكنّه أصرّ أن لا تؤول إليه، وأنّ ذلك رهين بحضوره المستمر؛ ولهذا أبى أن يجهّز جيش اُسامة إن تردد عمر بن الخطّاب وتقنعه بالروح.

وكان لإمارة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعقده لاُسامة، درس للصحابة؛ كي يعلموا أنّ الإمارة بالنّصّ لا بالرأي، وبأنّ تشددهم برأيهم لم يقنع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بتغيير وجهة نظره، وفي ذلك ردع لكلّ من يتطلّع لخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإحباط معنوي كي لا تطمع نفوس بها؛ ولذلك حرصت هذه النّفوس على الحفاظ على معنوياتها وأفشلت مسيرة جيش اُسامة وتقوّلت فيه.

وهنالك رأي كسير يحتاج إلى جواب يجبره، هو أنّ بعض (مبرّرة) الخيانات التاريخيّة، رأوا في ذلك دليلاً على تعلّق عمر بن الخطّاب وأبي بكر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهما فضّلا البقاء إلى جوار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى مقربة منه؛ ليطمئنّوا عليه.

وكسر هذا التبرير يمكن جبره بثلاث مسائل:

أولاً: لقد سبق أن ذكرنا الطريقتين اللتين كان يتعامل بهما الصحابة مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّ هؤلاء من الصنف الأوّل الذين اهتمّوا بشخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يهتمّوا برسالته. ولولا ذلك، لكان عليهم الاستجابة لداعي الجهاد، خصوصاً وأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن مَن تخلّف عن جيش اُسامة.

ثمّ إنّ

____________________

(1) الرّوايات السنّيّة تثبت أنّ عمر وغيره من الصحابة بكوا في حجّة الوداع وعيانهم بقرب وفاته.

١٣١

هؤلاء كانوا قد طعنوا ابتداء في إمارة اُسامة، وليس حبّاً في الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثانياً: إنّ عمر بن الخطّاب رفض تجهيز جيش اُسامة على وجه الإطلاق، وإنّه رفض أن يكون اُسامة على رأس الجيش، ليس ذلك في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بل حتّى بعده. وقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه(1) : أنّ عمر بن الخطّاب طلب من أبي بكر عزل اُسامة بن زيد في خلافته، فوثب بلحية عمر قائلاً: ثكلتك اُمّك وعدمتك يابن الخطّاب! استعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأمرني أن أنزعه؟! فعمر بن الخطّاب كان له موقف ثابت من إمارة اُسامة، وبقي ثابتاً على هذا الموقف حتّى بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثالثاً: إنّ تعامل الرجلين مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه، لا يدلّ على تعلّقهما الشديد به، بل الواضح إنّهما كانا مصدر إزعاج له في مرضه، ونهى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمر أكثر من مرّة، ففي تخلّفه وتقوّله في جيش اُسامة، خرج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله معصب الرأس غاضباً: «لعن الله مَن تخلّف عن جيش اُسامة». ثمّ إنّ أبا بكر لم يكن حاضراً عند وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ذكر ابن الأثير في تاريخه: ولمّا توفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان أبو بكر بمنزله بالسّنح(2) .

أمّا عمر بن الخطّاب، فقد وقف موقفاً قمعيّاً، إذ حال بين الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه والكتابة. وهي أكبر لغز في تاريخ الإسلام، ما تزال (المبرّرة) تغضّ الطرف عنه، ولا تمعن فيه النّظر، وهو ما سمّي: برزية يوم الخميس. حيث أخرج مسلم في كتابه الوصيّة من الصحيح، قال: عن سعيد بن جبير، من طريق آخر عن ابن عبّاس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس. ثمّ جعل تسيل دموعه حتّى رؤيت على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».

____________________

(1) وكذلك الدحلاني في السّيرة، والحلبي وغيرهما.

(2) التاريخ الكامل لابن الأثير 2 / 323.

١٣٢

فقالوا: إنّ رسول الله يهجر(1) .

وأخرجه الطبراني في الأوسط بهذا اللفظ: لمّا مرض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: «ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فقال النّسوة من وراء السّتر: ألا تسمعون ما يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: قال عمر: فقلت إنّكن صويحبات يوسف(2) ، إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه. قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «دعوهنّ فإنّهن خير منكم»(3) .

و (يهجر) هذه التي استخدمها عمر، ليست أدباً يليق بمقام النّبوّة، وعمر يعلم أنّ من راحة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقدّم له ما يطلب، ولم يؤذن لعمر بن الخطّاب أن يفتي في حضرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبأنّه: (حسابنا كتاب الله). والأحاديث تؤكّد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله غضب لذلك غضباً شديداً، وهو ما يفيد قولنا، بأنّ حضور عمر بن الخطّاب كان له هدف مرسوم وغاية محدّدة. ولو كان أطاع

____________________

(1) ذكره أحمد بهذا اللفظ ومسلم في صحيحه 3 / 75، دار المعرفة / بيروت.

(2) ترى مَن هنّ صويحبات يوسف؟ هل هي (زليخة) التي عشقت فتى غير زوجها وراودته عن نفسه؟ أم زائراتها اللائي قطعن أيديهن وسلّمن (لزليخة) في رغبتها في (يوسف)؟ أهكذا (عمر) شبّه نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل سلمان رشدي أتى بجديد؟

(3) لا اُريد الإطالة في عرض الحديث وأسانيده وطرقه المختلفة التي اكتضّت بها كتب الصحاح السّتة وتواريخهم، ومن بين اُولئك البخاري في صحيحه في باب مرض الرّسول وفي كتاب العلم، كما أخرجه مسلم في باب الوصيّة، وأحمد والطبراني في الأوسط وكنز العمال الجزء الثالث، ومن المؤرّخين ذكره الطبري في التاريخ، وسعد في الطبقات بسنده عن سعيد بن جبير عن بن عبّاس.

وذكر البخاري في باب جواز الوفد، من كتاب الجهاد والسّيرة من صحيحه: حدّثنا بن عينية عن سلمان الأحول، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، أنّه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! إلى أن قال: فقالوا: هجر رسول الله. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «دعوني، فالذي أنا فيه خيرٌ ممّا تدعونني إليه». وأوصى عند موته بثلاث: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.... قال: ونسيت الثالثة.

قلت: وليس هذه: (نسيت الثالثة). سوى الرديف الطبيعي ل‍ـ(كذا وكذا) التي سبق أن رأيناها عند الطبري في بحث حديث (الدار)، وكأنّ المؤرّخين والمحدّثين فطروا على نسيان (الرّزايا) التي تعتبر بؤرة لفهم ما حصل، ولماذا وحديث (الدواة) أشهر من نار على علم لدى كلّ المحدّثين، وهو بحقّ أعظم رزيّة على حد قول ابن عبّاس.

١٣٣

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في السّير مع جيش اُسامة لكان خيراً له وأقرب للتقوى، كما يجب أن يتحلّى بها صحابة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحماة العقيدة، وأفضل له من قذف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالهجران(1) .

أولاً: لأنّه تخلّف عن جيش اُسامة ولم يجب أمر الرّسول.

وثانياً: لأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رآه حاضراً طلب فوراً الدوات والقرطاس؛ لأنّه يعلم أنّ وجود عمر في المقام يهدف كسب الخلافة لصالح مخططه، والدليل على ذلك؛ أنّه هو نفسه الذي عارض طلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحجّة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر - بمعنى يهذي - أي: أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد صلاحيّة النّبوّة في تلك اللحظة، وهو لا يزال بين أظهرهم. وأعطى منذ ذلك الوقت - عمر بن الخطّاب - نفسه صلاحية الاجتهاد والتقدير. وعمر هذا، كان يدرك ماذا يمكن أن يكتب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك القرطاس، ولم يكن ابن عبّاس ولا الآخرين يجهلون حقيقة الموقف لمّا قال: الرّزية كلّ الرّزية لما حيل بين الرّسول والكتابة. فهي رزيّة؛ لأنّ دليلها تجلّى في أحداث السّقيفة وما بعدها.

ويورد ابن أبي الحديد في شرح النّهج عن ابن عبّاس، قال: خرجت مع عمر إلى الشّام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره، فقال لي: يابن عبّاس، أشكو إليك ابن عمّك - أي الإمام عليّعليه‌السلام - سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولا أزال أراه واجداً، فما تظنّ موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إنّك لتعلم. قال: أظنّه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة. قلت: هو ذلك، إنّه يزعم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد الأمر له. قال: يابن عبّاس، وأراد رسول الله الأمر فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك، إنّ رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره، فنفذ

____________________

(1) (الهجر) في اللغة: هو القول السيِّئ. وفي لسان العرب لابن منظور: الهجر برفع الهاء: القبيح من الكلام. والهجر أيضاً بمعنى الهذيان. والهجر بالضم: الاسم من الاهجاء وهو الإفحاش. وكذلك إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي. وهجر في مرضه، بمعنى هذى. وكان هذا ما أراده عمر بن الخطّاب من كلمته، مما زاد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ألماً ووجعاً... وأمرنا لله.

١٣٤

أمر الله ولم ينفذ مراد رسول الله، أو كلّما أراد رسول الله كان أراده الله!

وهذه الكلمة التي أقلّ (قسوة) من (يهجر)، تدلّ على مدى معرفة عمر بن الخطّاب بمجريات الاُمور ومدركاً لكلّ الأبعاد، وأبى إلاّ أن يوقف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده حده، ويقوم بقمع آل البيت حتّى لا يحضروا له الدواة.

إنّ الحؤول دون (نصّ) جديد في تأكيد المسألة، هو ما دفع عمر بن الخطّاب لمنع الإتيان بالدواة والقلم. ولقد ألف عمر بن الخطّاب مخالفة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته وخلّف له متاعب كثيرة، كتلك التي في صلح الحديبية، وكرفضه إمارة اُسامة. ولقد مات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله غاضباً، وهو يعلم أنّ القوم حريصون على (إمارة) المسلمين، وعلم بكلّ ما سيقع، فكان همّه أن يسرّ إلى عليّعليه‌السلام بما ينبغي أن يقوم به في الأحوال التي سيواجهها في المستقبل، وبقي معه حتّى فاضت روحه الطاهرة وهو يتوسّد صدر الإمام عليّعليه‌السلام (1) . وما أن فاضت روحه الطاهرة حتّى تفرّقت الصفوف من حول الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبقَ حوله إلاّ عليّعليه‌السلام وآل بيتهعليهم‌السلام .

لم يروِ التاريخ عن أنّ عمر بن الخطّاب - هذا الذي أبى السّير مع اُسامة - حبّاً

____________________

(1) من المفارقات العجيبة التي تروى لدى العامة، أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مات مستنداً إلى عائشة. وهذا تلفيق تاريخي اصطنعوه، فالظّاهر من التاريخ: إنّ الذي اهتم بمرضه ودفنه هو الإمام عليّعليه‌السلام ، وأورد بن سعد في الطبقات أكثر من رواية، تقول بأنّه توفّي في حجر عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

وروى الحاكم في المستدرك عن أحمد بن حنبل، بسنده عن اُمّ سلمة قالت: والذي أحلف به، إنْ كان عليّ لأقرب النّاس عهداً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . إلى أن قالت: فأكبّ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يساره ويناجيه، ثمّ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من يومه ذلك، فكان عليّ أقرب النّاس عهداً به. وذكر من ذلك بن سعد، وكذلك صاحب الكنز، أنّه قيل لابن عبّاس: أرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال: نعم، توفّي وإنّه لمستند إلى صدر علي. فقيل له: إنّ عروة يحدّث عن عائشة أنّها قالت: توفّي بين سحري ونحري. فأنكر بن عبّاس ذلك قائلاً للسائل: أتعقل؟ والله لتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّه لمستند إلى صدر عليّ وهو الذي غسّله.... وذكر ذلك الحاكم في مستدركه وعلّق على سنده قائلاً: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (أي: البخاري ومسلم)، وصحّحه الذهبي.

١٣٥

وتعلّقاً بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرو عنه إنّه اهتمّ بجنازة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ ما في الأمر أنّه بدأ يقول كلاماً غريباً عن منطق العقل لا سند له من الكتاب، مفاده أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمت. وبقي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جثّة هامدة بين يدي آل البيت يغسّلونه، في الوقت الذي راح الآخرون يتطاحنون على حقّ محسوم بالنّصّ واستغلالاً للظرف، وركوباً لفرصة (غياب) الإمام عليّ وآل البيتعليهم‌السلام .

وإنّني ما زلت إلى اليوم أتسأل، لا عن زهد عمر وأبي بكر وغيرهم في جنازة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بسبب التسابق إلى السّقيفة، بل أتسأل عن اُولئك الذين لا يزالون يبرّرون التاريخ المفضوح، كيف لا يفهمون (اللعبة) التاريخيّة وحال دونهم والحقيقة، أنّهم أعيد تركيبهم تاريخياً؛ ليصبحوا أكثر أهمّية من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاُمّة.

ذكر ابن سعد في الطبقات: إنّه غسّل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب، والفضل بن العبّاس، واُسامة بن زيد.

وفي رواية ابن الأثير في التاريخ الكامل: ولمّا توفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان أبو بكر بمنزله بالسّنخ وعمر حاضر، فلمّا توفّي قام عمر فقال: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي، وإنّه والله ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، والله ليرجعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّه مات. وأقبل أبو بكر وعمر يكلّم النّاس. (إلى أن قال): فأقبل أبو بكر على النّاس، فلمّا سمع النّاس كلامه، أقبلوا عليه وتركوا عمر... الحديث.

وهذا الحديث وثيقة قابلة للنقد، والسؤال الذي يجب توجيهه لهذه الوثيقة: لماذا وبأي دليل يكون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس ميّتاً في ذهن عمر؟ وما هو الانسجام في قياس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بموسى بن عمرانعليه‌السلام ، إذ أنّ الثاني ذهب بروحه وجسده، بينما الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بقيت جثّته هامدة أمامهم؟!ثمّ كيف تتحوّل وجهة النّظر هذه إلى قمع وإرهاب واتهام بالنّفاق، وتهديد بالقتل الذي حرّمه الله إلاّ بالحقّ؟ ولماذا نجد عمر، الذي فقد وعيه وبدأ يقول الغرائب ولم يستطع أحد الاقتراب

١٣٦

منه، كيف يهدأ ويسلس ويحضر له الضمير والعقل لمّا جاء أبو بكر وقال ما قال؟!

هذا لغز تاريخي يجب إخضاعه للحفر المنهجي، وإزالة الملابسات التبريرية عنه، لإظهار وجه الحقيقة من خلاله، فلا عمر بن الخطّاب كان يجهل (وفاة) الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف ذلك وهو من أتهمه (بالهجران) واعترف بأنّه افتقد الوعي، وحسابنا كتاب الله! ولم يكن عمر يجهل الآية التي تلاها عليه أبو بكر:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) . فلقد كان يعرفها وهو الذي سمع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينعى نفسه إليهم، وإنّما أمر آخر كان يشغل بال عمر، هو أن يصرف النّاس عن التفكير فيما بعد (الوفاة)؛ حتّى يربح الوقت لكي يأتي أبو بكر وتتم العمليّة. وما أن جاء أبو بكر حتّى سمعوا بأمر الأنصار واجتماعهم في السّقيفة، فالتحقوا بهم مسرعين، وانتهى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبقى إلاّ أمر السّقيفة، حيث يدخلها عمر بن الخطّاب بكلّ قوّة وتحضير من دون أن تتخلّله رقّة من أثر وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

دخل عمر السّقيفة ليطرح رأيه ويلغي رأي الجميع، متذرّعاً بأنّ أبا بكر هو الوحيد الذي يصلح للاُمّة، وكأنّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتمكّن خلال هذه السّنين الطوال أن يصنع من هذا أصلح للاُمّة سوى أبي بكر. وبدأ أبو بكر مضطرباً يريد الخلافة ولا يريدها، وكان عمر بن الخطّاب يتشدّد في تشجيع أبي بكر. لقد تركوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله طريح فراشه وانشغلوا بأمر الخلافة.

يقول ابن كثير: توفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين وذلك ضحى، فاشتغل النّاس ببيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، ثمّ في المسجد البيعة العامّة في بقية يوم الاثنين وصبيحة الثلاثاء، كما تقدّم ذلك بطوله، ثمّ أخذوا في غسل رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينه والصلاة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله تسليماً بقية يوم الثلاثاء، ودفنوه ليلة الأربعاء(2) .

____________________

(1) سورة آل عمران / 144.

(2) البداية والنّهاية لابن كثير 6 / 305 5، دار الكتب العلمية / بيروت.

١٣٧

وكان عمر وأبو بكر قد سمعا باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فلحقوا بهم - حتّى لا يفوّتا عليهما الفرصة - ومال جماعة من الأنصار إلى سعد بن عبادة زعيم الخزرج وكان مريضاً.

وفي تاريخ اليعقوبي(1) : وبلغ أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح الخبر، فقالوا: يا معشر الأنصار، منّا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وفي (الإمامة والسّياسية)(2) : فأجابوا جميعاً - أي أجاب الأنصار سعد بن عبادة - أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليانك هذا الأمر، فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضا. قال: فأتى الخبر إلى أبي بكر ففزع أشدّ الفزع، فقام معه عمر فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة.

لقد فزع أبا بكر لمّا رأى الأنصار مجتمعين في السّقيفة، وما فزع لوفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يحزن كما حزن آل البيتعليهم‌السلام المنشغلون بتجهيز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . لقد توفّي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر في منزله بالسّنخ مع أهله.

لقد ذكر ابن هشام في السّيرة عن ابن إسحاق: لمّا كان يوم الاثنين، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عاصباً رأسه (إلى أن قال:) قال: فلمّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كلامه، قال أبو بكر: يا نبي الله، إنّي أراك قد أصبحت أبنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم ابنة خارجة، أفأتيها؟ قال: نعم. ثمّ دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أبو بكر إلى أهله بالسّنخ)(3) (أخرجه الطبري). ولم يفزعه أمر (الوفاة) مثل ما أفزعه أمر (السّقيفة).

وما أن رأى الأنصار أبا بكر وعمر، وعلموا مدى حرصهما على الفوز بالخلافة، حتّى قالوا: منّا أمير ومنكم أمير. ولم يستطع أبا بكر إقناعهم، فتقدّم عمر بن الخطّاب وقال: خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام. فلمّا تيسر عمر للكلام، تجهّز أبو بكر وقال له: على رسلك فستكفى الكلام. فتشهّد أبو بكر وانتصب له

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 123، دار صادر.

(2) تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسّياسة (ابن قتيبة): (1 - 2 ص 5)، مؤسسة الوفاء / بيروت لبنان.

(3) سيرة بن هاشم 4 / 305، دار الكتاب العربي. أقول: وأولى له أن يسير مع جيش اُسامة بدل الذهاب إلى (بنت خارجة).

١٣٨

النّاس، (إلى أن قال:) والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين وأنتم أحقّ النّاس، ألاّ يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم، وإنّما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر، وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر، وكلاهما له أهل. فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من النّاس أن يكون فوقك يا أبا بكر(1) .

كان المخطط الذي رسمه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - وهم في طريقهم إلى السّقيفة - متكاملاً، ولم يفصّل لنا التاريخ فيما قيل بين الثلاثة وهم في طريقهم إلى الأنصار، وليس من المنطق أن يسيروا كلّ هذه المسافة دون أن يتحدّثوا في موضوع السّقيفة. المخطط هو أن تكون الخلافة لهؤلاء الثلاثة على أن يؤازر بعضهم بعضاً ويثني بعضهم على الآخر، وما دام أبو بكر هو المقرّب في الحلف قدموه على أن تكون الخلافة دولة بينهم، فأقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقالوا: يا معشر الأنصار، منّا رسول الله فنحن أحقّ بمقامه. وقالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منّا الأمراء وأنتم الوزراء.

فقام ثابت بن قيس بن شماس - وهو خطيب الأنصار - فتكلّم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريشاً أولى بمحمّد منكم، وهذا عمر بن الخطّاب الذي قال رسول الله: اللهمّ أعزّ الدين به، وهذا أبو عبيدة الذي قال رسول الله فيه: أمير هذه الاُمّة، فبايعوا أيّهما شئتم. فأبيا عليه وقالا: والله ما كنّا لنتقدّمك وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر وثنى عمر، ثمّ بايع مَن كان معه من قريش)(2) .

ولم يقتنع أغلبية الحاضرين بهذه (اللعبة) المكشوفة، فقد قام الحباب بن المنذر وقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا

____________________

(1) ابن قتيبة - الإمامة والسياسة / 5 - 6، مؤسسة الوفاء / بيروت.

(2) تاريخ اليعقوبي.

١٣٩

وأصحابه، فيذهبوا أبنصيبكم من هذا الأمر(1) .

والذين بايعوا أبا بكر جرياً على رأي عمر بن الخطّاب من الأوس، إنّما فعلوا ذلك؛ لأنّ حدّة الصراع التاريخي بين الأوس والخزرج لا تزال حيّة في كثير من النّفوس، وإنّهم بايعوا أبا بكر فقط؛ ليمنعوا الخزرج من هذا الامتياز.

ذكر ابن الأثير: ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد، قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير وكان نقيباً: والله، لئن وليتها الخزرج مرّة، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر. فبايعوه، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل النّاس يبايعون أبا بكر من كلّ جانب. غير أنّ سعد بن عبادة لم ينكسر أمام هيمنة أبي بكر وعمر وأبى أن يبايع، وأدرك بعض الأنصار طبيعة اللعبة وأحاطوا بأطرافها، وعلموا أنّها بداية لمسيرة طويلة، وأنّها ستحوّل إلى دولة بين أبي بكر وعمر، وفي تلك اللحظة قال أبو بكر للحباب: أمنّا تخاف يا حباب؟ قال: ليس منك أخاف، ولكن ممّن يجئ بعدك. قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك، فالأمر إليك وإلى أصحابك، ليس لنا عليكم طاعة. قال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم(2) .

إنّ معارضة سعد بن عبادة (رض) لبيعة أبي بكر، تركت تحدّياً كبيراً لتيّار الرّأي، وتشدّده في الرّفض لم يكن حبّاً في الإمارة، بقدر ما هو رفض لأبي بكر وعمر بن الخطّاب، وللطريقة التي ركبوها في إلغاء رأي الآخرين وتثبيت أنفسهم، فقال يومها سعد بن عبادة: أما والله، لو أنّ لي ما أقدر به على النّهوض، لسمعتم منّي في أقطارها زئيراً يخرجك أنت وأصحابك، ولألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع خاملاً غير عزيز. فبايعه النّاس جميعاً حتّى

____________________

(1) ابن الأثير، التاريخ الكامل / 330.

(2) الإمامة والسّياسة، ابن قتيبة / 9، مؤسسة الوفاء / بيروت.

١٤٠