لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49921
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49921 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عمر بن الخطّاب مع الرعية:

الكلُّ يحاول أن يرسم عمر بن الحطاب في صورة اُسطورية كما شاءها له مناوئوا بني هاشم؛ حتّى يغطّوا بدخانها الكثيف فضائل البيت العلوي، بينما الواقع إنّ عمر بن الخطّاب لم تكن له مؤهلات الخلافة النّفسيّة والاجتماعيّة، وإنّ أدنى تمحيص لسلوكه وشخصيته يثبت ذلك.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النّهج: وكان عمر بن الخطّاب صعباً عظيم الهيبة شديد السّياسة، لا يحابي أحداً ولا يراقب شريفاً ولا مشروفاً، وكان أكابر الصحابة يتحامون ويتفادون من لقائه. وهو لولا هذه النّرفزة، لما استطاع أبو بكر أن يحصل على شيء من السّقيفة، وعمر هو الذي شدّ بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده، ودفع في صدر المقداد، ووطئ في السّقيفة سعد بن عبادة وقال: اقتلوا سعداً قتل الله سعداً. وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السّقيفة: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب. وتوعّد عمر مَن لجأ إلى دار فاطمةعليها‌السلام من الهاشميين وأخرجهم منها، ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ولا قامت له قائمة(1) .

وبلغ حقد النّاس وكرههم به مبلغاً كبيراً، فقد ذكروا أنّه وبينما هو جالس في المسجد بُعيد وفاة أبي بكر، إذا برجل أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أدنوا منك فإنّ لي حاجة؟ قال عمر: لا. قال الرجل: إذا أذهب فيغنيني الله

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح النّهج 1 / 174.

١٦١

عنك. فولّى ذاهباً، فأتبعه عمر ببصره، ثمّ قام فأخذه بثوبه، فقال له: ما حاجتك؟ فقال الرجل: بغضك النّاس وكرهك النّاس. قال عمر: ولِمَ ويحك؟! فقال الرجل: للسانك وعصاك(1) .

وحيث بلغ القمع وحرّ الدرّة، بأن أتته امرأة حامل يوماً بعد أن استدعاها لأمرها، فأسقطت ما في بطنها من شدّة الهيبة(2) . وإذا علمنا أنّ النّاس لم يكونوا يجثون على ركبهم، ولا كانت النّساء تسقط أجنّتها لمّا تلقى عليّاًعليه‌السلام ، وهو مَن هو في التنمّر والشّجاعة و...، لعلمنا إذن، إنّ ذلك كلّه كان بسبب خشونة زائدة لا تميّز ظالماً ولا مظلوماً، تلك الخشونة التي سمّاها التاريخ البدوي عدالة، إنّها درّته التي لا توقر امرأة ولا شريفاً، ولا حتّى فاطمة إذ أزمع على حرق دارها.

والذي لا ينكر لعمر بن الخطّاب إنّه لم يحاب الأهل؛ إذ لم يكن له أهل يذكرون، وكان يهتمّ في أن يظهر للناس عظيماً ومتقشفاً. ولكن السؤال القرآني هو: لماذا أخذ حقّ غيره، ومن خوّله حقّ ممارسة السّلطة حتّى وإن كان عدلاً؟

إنّ الخلافة لا تعطى للناس لبساطتهم، إنّها قرار إلهي، وخلافة عمر كانت فيها ميزات خفيفات، أتلفتها هنات جسيمة، فمن ميزاتها تلك، أنّه خلع خالد بن الوليد، وهو بذلك أعطى للتاريخ دليلاً، على أنّ صاحبه أبا بكر كان مخطئاً لمّا تجاوز عن خالد وغفر له، كما تقدّم.

ثانياً: إنّه أعاد فدك لآل البيتعليهم‌السلام تزلّفا إليهم، مع أنّه كان محرّضاً لأبي بكر أن يسلبهم ذلك الحقّ. والظاهر: أنّ أبا بكر وعمر منعا آل البيت ذلك الحقّ حتّى لا يقووا به نفوذهم، ولكن ما أن استتبّ الأمر حتّى جاءت بها نفسه على أهلها، ولو كان مقتنعاً أنّها لله، لما حابى بها آل البيتعليهم‌السلام إذاً، لما

____________________

(1) تاريخ الخلفاء، ابن قتيبة / 20.

(2) ابن أبي الحديد، شرح النّهج / 174.

١٦٢

كان شديداً في الحقّ كما تصفه الرّوايات المزيّفة.

بيد أنّ سلبيات عمر التاريخيّة، ونوادره في السلوك السّياسي والاجتماعي والفقهي لم ينسها التاريخ، ومن تلك النّوادر:

* - سطحية سياسية، العنف معتمدها.

* - القمع الاجتماعي.

* - الشّذوذ الفقهي.

1 - سطحية سياسية:

كان عمر بن الخطّاب - كما تقدّم - يرهب الشّريف والمنافق معاً، فكان يحاسب الاُمويّين حساباً عسيراً، لكنّه في نفس الوقت يؤمّرهم على أصقاع وسيعة، وفي ذلك تكمن سطحيته سياسية؛ لأنّ بني اُميّة لم يكونوا مكتّفي الأيادي بعد أن كانوا طويليها في زمن البعثة، وليس بني اُميّة عناصر ساذجة، وإنّما هُم جهاز وحالة قابلة للنشوء في كلّ لحظة، فتأميرهم لا يعني سوى صبّ مزيد من النّفوذ في جعبتهم، ولقد قووا في زمن عمر بن الخطّاب وهو لم يكن يريد تقويتهم إنّما رأي رآه، ولكن الاُمّة دفعة ثمنه، ولم يكن مثل الإمام عليّعليه‌السلام حيث أوّل ما قام به هو عزل معاوية من دون رجعة في الموقف؛ لأنّه يدرك أنّ الإمارة تقوّي، وبأنّ بني اُميّة ليسوا فئة عادية، فهو لا يزال يفوّت عليهم هذه الفرص حتّى وهم يعرضون عليه البيعة.

لقد جاء أبو سفيان بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ والعباس، فنادى من وراء الباب:

بني هاشمٍ لا تطمعوا الناسَ فيكُمُ

ولا سـيما تيم بنَ مرّة أو عَدي

فـما الأمـرُ إلاّ فـيكُمُ وإليكُمُ

ولـيس لها إلاّ أبـو حسنٍ علي

أبـا حسنٍ فاشدُد بها كفَّ حازمٍ

فـإنّك بالأمرِ الذي تبتغي ملي

بصوت عال: يا بني هاشم، يا بني عبد مُناف، أرضيتم أن يلي أبو فيصل؟ أما والله، لو شئتم لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً. فناداه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام :

١٦٣

«ارجع يا أبا سفيان، فوالله، ما تريد الله بما تقول، ولا زلتَ تكيد للإسلام وأهله ونحن مشاغيل برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وورد أيضاً في تاريخ الطبري بسنده: إنّه لمّا استخلف أبو بكر، قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فيصل، إنّما هي بنو عبد مُناف. فقيل له: إنّه قد ولى ابنك. قال: وصلته رحم. وكذلك فعل عمر بن الخطّاب بعد أن ولى على الشّام يزيد بن أبي سفيان، ومعاوية بن أبي سفيان بعده، ثمّ عثمان بن عفان، إعراباً عن هذه المودّة بينه وبين بني اُميّة.

هذا الوعي السّياسي العميق كان يملكه الإمام عليّعليه‌السلام ، وقد تجلّى في رفضه لشخص أبي سفيان الطليق، في حين افتقد هذا الوعي الخليفتان وبرز في عهد عمر؛ لأنّه الأطول عهداً بالخلافة. إنّهعليه‌السلام أدرك أن لا مرونة مع تيّار قوّي يبني نفسه في الخفاء؛ ليعيد مكانته في الجزيرة العربيّة، ويسعى إلى تدمير بني هاشم والانتقام للأجداد. ولكن عمر قد دفع ثمن سطحيته السياسيّة، لقد استفاد الاُمويّون من مودته لهم، وصبروا على لذعه وتشدّده السّطحي، فقوّوا شوكتهم، وحقّقوا قدراً من التراكم والنّفوذ، مكّنهم من السّيطرة على أسباب القوّة في الجزيرة العربيّة، وبعد ذلك، وجدوا أنّ المرحلة قد نضجت لإزاحة عمر بن الخطّاب عن الخلافة، ذلك؛ لأنّ عمر هذا طالت خلافته كثيراً، ثمّ لأنّه بدأ يتّجه في غير مجرى مصالحهم، ولأنّ مصلحتهم المرحلية في طوّر متقدّم لا يصلح لها عمر.

فعمر بن الخطّاب ليس جديراً بالخلافة بالمقياس القبلي للاُمويّين، وهو ليس في شرف بني عبد الدار، ثمّ لأنّه بدا لهم، إنّ عثمان قريبهم بدا يشيخ ولم ينلها، وهو المرشّح بعد عمر لقربه كيف لا، وعثمان هو الذي كتب الكتاب لأبي بكر خلافة عمر، وهو الوحيد الذي لم يقف ضدّ عمر، بل تحمّس لذلك حتّى قال له أبو بكر: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فهم أدركوا وبترتيباتهم الخاصّة، أنّ الأمر لعثمان لا مناص، وحيث إنّ الشّام تحوّلت إلى منطقة نفوذ للاُمويّين، وقد كانوا يكرهون عمر بن الخطّاب نفسه، بقول ابن قتيبة:

١٦٤

وكان أهل الشّام قد بلغهم مرض أبي بكر واستبطأوا الخبر، فقالوا: إنّا لنخاف أن يكون خليفة رسول الله قد مات وولي بعده عمر، فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب، وإنّا نرى خلعه(1) .

وهكذا لم يكن عمر ليرضي أهل الشّام الذين شرّبوا في قلوبهم حبّ بني اُميّة منذ تولّوهم، ولذلك لا بدّ من التفكير في مخطط تصفية لعمر؛ حتّى ينزاح عن الطريق، وكان عمر بن الخطّاب يواجه معارضتين:

الاُولى: بنو هاشم الذين فضّلوا السّكوت؛ حفاظاً على وحدة الاُمّة واستقرارها.

الثانية: بنو اُميّة الذين كانوا يتحرّكون ضمن مشاريعهم وأهدافهم الخاصّة.

ولما قُتل عمر، وظنّ أنّ الذي قتله قد يكون من طريق آل البيتعليهم‌السلام ، أو من جهة اُخرى مسلمة من الذين رأوا فيه خطراً على مصالحهم، وكان عمر رجلاً شديداً قد ضيّق على قريش أنفاسها(2) . ولمّا طُعن، قال لابن عباس: أخرج فناد في النّاس: أعن ملأ ورضى منهم كان هذا؟ فخرج فنادى، فقالوا: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا. ودخل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال: يا علي، أعن ملأ منكم ورضى كان هذا؟ فقال عليعليه‌السلام : «ما كان عن ملأ منّا ولا رضىً». حتّى قال: الحمد لله الذي لم يقتلني رجل يحاجّني بلا إله إلاّ الله يوم القيامة(3) .

كان الذي قتله هو أبو لؤلؤة، قيل فارسي، إلاّ أنّه لم يكن قتله لعمر بن الخطّاب انتقاماً من القادسية، كما يزعم بعض البهلوانيين، إنّما شاع عند العرب أن يتّهموا الفرس بالمجوسيّة والحقد على العرب، حتّى في عصرنا هذا. وكان الاُمويّون يعتمدون على العنصر الموالي في دعم نفوذهم عن طريق العطايا والشّراء. لماذا قتل عمر؟

____________________

(1) الإمامة والسّياسة، ابن قتيبة / 20.

(2) نفس المصدر السّابق / 27.

(3) نفس المصدر السّابق / 22.

١٦٥

هناك من رأى أنّ أبا لؤلؤة قاتل عمر، كان قد حملته روح الانتقام إلى تنفيذ هذه العملية. وكان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة، وهو نصراني حسب بعض الرّوايات ومجوسي حسب اُخرى. وجاء في اُسد الغابة: إنّ المغيرة كان يستغلّه - أي: أبي لؤلؤة - كلّ يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ المغيرة قد أثقل على غلّتي، فكلّمه يخفّف عنّي. فقال له عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك - إلى أن قال: - فاصطنع له خنجراً له رأسان(1) ، وهذه الرّواية، إنْ صحّت فإنّها تُظهر مدى الانسحاق الذي عانت منه الفئات الضعيفة، وهذا واحد من الذين امتلكوا الشّجاعة لقتله.

لكنني أرى عكس ذلك، فأبو لؤلؤة قد يكون منفّذاً لهذه المؤامرة التي خطّتها وهندستها عقول كثيرة، ولا أدل على ذلك من مقتل الهرمزان وسكوت عثمان على ذلك، وعدم إقامة الحدّ على عبيد الله بن عمر، الذي راح ينتقم لأبيه من مجموعة أشخاص، ممّا اضطر عثمان إلى غلق هذا الملف وعدم إشاعة الأمر.

لقد سبق أن أكّدنا على النّفوذ الذي بقي في حوزة الاُمويّين، والدليل على ذلك: إنّ أبا سفيان لمّا عرض الخلافة على عليّعليه‌السلام ، قال له: لو شئت لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً. فهذا دليل على النّفوذ والقوّة التي كانت لا تزال تحتفظ بها الكتلة الاُمويّة، وبقي أبو سفيان حاقداً على عمر وأبي بكر، لولا أنّهما رتّبا أمر إمارة ابنيه في الشّام(2) .

كانت علاقة المغيرة بن شعبة مع الاُمويّين متينة على الكوفة، والمغيرة هذا هو سيّد أبي لؤلؤة فيه نظر في السّيرة، كان عمر قد عزله بعد أن ولاه على البصرة؛ وذلك بعد أن شهد عليه بالزنا(3) . بيد أنّ عمر - كما سبق أن قلنا، وللسطحية السياسيّة التي كان يتحلّى بها - ولاّه مرّة اُخرى على الكوفة، مع أنّ في الصحابة من هو أكثر انضباطاً واستقامة،

____________________

(1) اُسد الغابة في معرفة الصحابة لعزّ الدين بن الأثير الجزري 3 / 674 - 675، دار الفكر.

(2) يزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان.

(3) اُسد الغابة 4 / 472.

١٦٦

ويعرف عنه الدهاء(1) .

قال الشّعبي نقلاً عن ابن الأثير الجزري: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. وذكروا أنّه تزوّج ثلاثمئة امرأة في الإسلام، وقيل ألفاً. وإذا ما جمعنا بين الدهاء الذي يعني عند الأربعة: تجاوز المسطرة التشريعية إلى حدّ الدهاء في قتل الأبرياء. وبين الأزمة السياسيّة التي كانت بين المغيرة بن شعبة وعمر بن الخطّاب، لما كان عزله عن البصرة، وما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك بالنّسبة إلى داهية عربي كبير، ثمّ بنو اُميّة الذين كانوا يشترون العملاء بالمال والوعود، إنّنا نتمكّن من الوصول إلى نتيجة، وهي: إنّ قتل عمر لم يكن بتلك البساطة والتلقائية، وإنّما كان عملاً منظّماً.

كيف نهتدي لذلك؟ لقد سبق أن تحدّثنا عن واقع الجزيرة العربيّة قبل وبعد البعثة، والرّوح القبلية التي كانت أساس الاجتماع العربي، ثمّ العنصر اليهودي الذي كان لا يرى مانعاً من التحالف مع القبائل الوثنية؛ لمحاصرة الرّسالة في بدايتها، ولمّا طُرد اليهود من الجزيرة العربيّة، بقي بعض المندسّين الذين قبلوا الإسلام؛ كتكتيك ضروري للبقاء، وكتكتيك توارثي لهدم معالم الإسلام، وكان من اُولئك كعب الأحبار الذي كان مصدراً لكثير من الإسرائيليات في الأحاديث النّبوية(2) . وكان هذا الأخير من المقرّبين إلى عمر بن الخطّاب، كان كعب يعلم أنّ عمر بن الخطّاب معرّض للموت، وأنّه أكّد له غير مرّة أنّه سيموت شهيداً، وبهذه الكلمة، سوف يغطّي عن أشياء تُدار خلف النّور، فهي إشعاع غيبي، يغيب السؤال والاستفسار في تعجّب عمر واندهاشه.

نحن نسأل ثانية: من أين له هذا؟ وهل يعلم الغيب؟ ومتى علمه رجال الصحابة الكبار حتّى يعلمه يهودي تأسلم؟

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) ذكروا أنّ كعب هو الذي توسّط مع عمر بن الخطّاب لإدخال أبي لؤلؤة إلى المدينة؛ بحجّة إنّها خلت من الصنّاع والحدّادين.

١٦٧

الواقع: إنّ عمر بن الخطّاب كان يطوف يوماً في السّوق، وإذا به يلقى أبا لؤلؤة، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإنّ عليّ خراجاً كثيراً. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كلّ يوم. قال: وأيش صناعتك؟ قال: نجّار نقّاش حدّاد. قال: فما أرى خراجك كثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنّك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالرّيح لفعلت؟ قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى. قال: لئن سلمت لأعملنّ لك رحى يتحدث بها من بالشّرق والمغرب. ثمّ انصرف عنه، فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن(1) .

هذا الوجه الأوّل للمشهد التآمري، أمّا الوجه الثاني، قال ابن الأثير: ثمّ انصرف عمر إلى منزله، فلمّا كان الغد، جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، أعهد فإنّك ميّت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: الله! إنّك لتجد عمر بن الخطّاب في التوراة؟ قال: اللّهمّ لا، ولكنّي أجد حليتك وصفتك وأنّك قد فني أجلك. قال: وعمر لا يحسّ وجعاً. فلمّا كان الغد، جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلمّا كان الغد، جاء كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلمّا أصبح، خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوى كبّر ودخل أبو لؤلؤة في النّاس... الخ(2) .

إنّ الذي ورث غباء الأوّلين والآخرين، لا يمكن أن تجتاز عليه هذه الحيلة، فهل هذا يجري بالاتفاق؟ كيف يقول أبو لؤلؤة ذلك، فيجد كعب الأحبار ينتظر عمر ليقول له ما قال؟! لماذا لم يأته قبل ذلك بأشهر أو عشرة أيّام أو خمس، حتّى يقول له قد بقي لك كذا وكذا، إذا كانت أوصاف عمر - كما رآها في التوراة - ثابتة وقديمة، كما قرأها قبل البعثة وبعدها؟ الظّاهر أنّ كعباً هذا كان يرقص على الحبال، لذلك أراد أن يثبّت نفسه في المجتمع، بأنّه من أهل الأسرار وصاحب الكشوف؛

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل 2 / 49.

(2) نفس المصدر / 50.

١٦٨

ليلتف حوله المسلمون، وإلا، فأين يوجد عمر بن الخطّاب في التوراة، وفي أيّ سفر من أسفاره تقرأه الآن؟ وكيف يتسنّى للتوراة - التي أنزلها له - أن تحوي أخباراً عن عمر، والقرآن المهيمن على الكتب والنّاس والدهور، لم يفهم منه كبار الصحابة، إنّ عمر سيقتل بعد ثلاث أيام؟ إنّها اللعبة.

ولمّا طعن عمر بن الخطّاب، دخل عليه كعب الأحبار، فلمّا رآه عمر، قال: -

تـوعـدّني كـعبٌ ثـلاثاً أعـدها

ولا شكَّ أنّ القولَ ما قال لي كعبُ(1)

ومـا بـي حـذارُ الموتِ إنّي لَميتٌ

ولـكنْ حـذارَ الـذنبِ يتبعه الذنبُ

كان ذلك الاتفاق والصدفة كما فهم عمر بن الخطّاب؛ لأنّه تولّى منصباً لا تسنده فيه حنكة ولا عصمة. ولم يكن مثل عليّعليه‌السلام الذي كان يعلم بموته - كما ورد في الأثير - من دون أن يحتاج إلى راهب من أهل الكتاب يعلّمه بذلك(2) . وكذلك اقتضت سنّة التاريخ أن يكون عمر بن الخطّاب ضحية خفته، وتسمّنه حقّاً ليس له؛ إذ لم يعرف من يصلح للاُمّة ومَن لم يصلح لها، ثمّ مات بالقوّة التي مهّد لها بجهله بخفايا الاُمور، إنّه لا يعلم حتّى إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات، فكيف يعرف عن مسائل السّماء، كما أدرك ذلك يعسوب المؤمنين.

ولو راجعنا الملفّات التاريخيّة طرّاً، لاستطعنا إدراك مدى الحرص الذي بداه زعماء الانتهازية، الذين مهّدوا لحكم عثمان وكانوا معروفين لدى الملأ. لقد كان عمرو بن العاص أحد دواهي العرب من المساهمين في المؤامرة، وكذلك المغيرة بن شعبة - كما سبق ذكره - وتورّطهم في العملية كانت له أسبابه الخفية، والتي اكتشفت فيما بعد، وهو التخطيط الاُموي لقلب معادلة الخلافة واستمالتها إليهم.

ذكر أبو عليّ مسكويه في تجارب الاُمم(3) : وقد كان

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل.

(2) ولست أدري لماذا لم يخبر كعب الإمام عليّعليه‌السلام عن موته ويكشف له عن الغيب؟ اللّهمّ إلاّ أنّه يعلم أنّ عليّاًعليه‌السلام أعلم بالسّتورات منه.

(3) تجارب الاُمم، أبو عليّ مسكويه الرازي (320 - 421) 1 / 264، دار سروش للطباعة والنّشر، طهران / 1322 ش 1987 م.

١٦٩

جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون - أي: بخصوص الخلافة بعد مقتل عمر - فجلسا بالباب، فحصبهما(1) سعد وأقامهما. فتحصبهما لم يكن اعتباطياً وفلتة تلقائيّة، فالرّجلان من أدهى العرب - كما تقدّم - ومن عملاء الاُمويّين، ثمّ إنّ رمي سعد لهما بالحصباء دليل على أنّ أمرهما ليس عاديّاً.

وهكذا كانت قصّة التبييت لمقتل عمر بن الخطّاب، الذي بالغ في مودّته للفئات الاُمويّة وصفات الإيمان(2) ، رغم ما كانوا يلقونه منه من قسوة عابرة، حيث كان عمّاله من أمثال؛ سمرة بن جندب، وعاصم بن قيس، والحجّاج بن عتيك، ونافع بن الحرث، وأبو هريرة، ومعاوية، وابن العاص، والمغيرة بن شعبة، ويزيد بن أبي سفيان. وكان قد توصّل إلى أنّهم نهبوا الأموال، وكدّسوها بعد أن كانوا فقراء، مثل أبي هريرة، لمّا قال له عمر: علمت أنّي استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثمّ بلغني أنّك ابتعت أفراساً بألف وستمئة دينار(3) .

ومع ذلك لم يقم عليه الحكم الشّرعي، بل اكتفى بمقاسمتهم الأموال، وكان من الواجب أن يحاكمهم على هذا الاختلاس ويعزلهم، ولكنّه لم يفعل ذلك، والتاريخ يروي عكس هذا، ظلّ أمثال؛ أبي هريرة ومعاوية وابن العاص وغيرهم من الطلقاء، أمراء إلى آخر أعمارهم، ولعلّ هذا هو السّرّ؛ فعمر بن الخطّاب سواء أكان سطحيّاً في اختياراته أو ذكيّاً فيها، فإنّه كان قاصداً في الإبقاء عليهم في هذه الإجارات.

وذكر بن أبي الحديد في شرح النّهج: أنّه قيل لعمر: إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان، وسعد بن العاص، وفلانا وفلاناً من المؤلّفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعبّاس والزبير وطلحة؟! فقال: أمّا عليّ فأنبه من

____________________

(1) حصبهما: رماهما بالحصباء.

(2) رأيي: إنّ الاُمويّين كانوا أذكياء ومخططين بارعين، لقد أدركوا مدى ضعف عمر بن الخطّاب لمّا لجأ على مودّتهم وتأليفهم دون الآخرين.

(3) أقول: لعلّه ربح في (اللوطو) ما يكفيه غناء في حياته بعد الفقر والحاجة.

١٧٠

ذلك؛ وأمّا هؤلاء النّفر من قريش، فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد.

والواقع هو: أنّ عمر بن الخطّاب كان حريصاً على أن يراهم على مقربة منه، وحتّى لا يذيع أمرهم في الأصقاع الاُخرى، وإلا كيف يجعلهم ضمن السّتّة المرشّحين للخلافة بعده، أليس ممكن أن يؤدّي ذلك إلى فساد عريض؟!

لقد وفّق التيّار الاُموي في تحقيق جزء من مخططه الهدّام، ونجح في توقّعاته لمّا أثبت عثمان خليفة. وكان المغيرة بن شعبة قد قام خطيباً لمّا انصرف عثمان إلى بيت فاطمة بنت قيس، فقال: يا أبا محمّد، الحمد لله الذي وفّقك، ما كان لنا غير عثمان. وعليّ جالس(1) .

فملخّص القضية: إنّ عمر راح ضحية قشريته السياسيّة، إذ ركّز على عليّعليه‌السلام وشيعته، وأرخى اللجام للزمرة الاُمويّة ومكّن لها، فكان أن تطوّر نفوذهم، بحيث اقتضى أن يعزل عمر عن الخلافة لصالح مرشّحهم عثمان، وتدبير العملية كان بواسطة مجموعة عناصر مشبوهة، منهم المغيرة بن شعبة قاتل سعد بن عبادة، وهو بذلك اكتسب خبرة في التصفية الجسدية للسياسيين المعارضين، إذ يُعتبر أوّل منفّذ لعملية الاغتيال السّياسي تلك، وعمر بن الخطّاب قُتل بخنجر أبي لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة.

وملفّ المغيرة هذا فيه بعض الفواصل المشبوهة، بدأت وانتهت كالتالي:

1 - عزله عمر عن البصرة بعد أن شهد عليه بالزنا.

2 - كان على علاقة وثيقة بالاُمويّين.

3 - أبو لؤلؤة مولاه.

4 - هو قاتل سعد بن عبادة، حسب بعض الرّوايات.

5 - هو الذي أتى يتلصّص على المرشّحين بعد مقتل عمر، كما تقدم.

____________________

(1) أبو عليّ مسكويه، تجارب الاُمم 1 / 288.

١٧١

6 - هو صاحب الخطبة أعلاها.

7 - تولّى الإمارة في زمن معاوية، وكان عميلاً له على الكوفة.

8 - رجل زان بشهادة عمر، ومسرف يحبّ المال، فقد كان أوّل من رشى في الإسلام، ومن إسرافه أن تزوّج أكثر من ألف امرأة مع التطليق، حسب صاحب اُسد الغابة.

9 - إنّه أحد دهاة العرب الأربعة.

ثمّ ماذا بعد؟

إنّ عبيد الله بن عمر راح ينتقم لأبيه، وقتل أبا لؤلؤة وقتل معه اُناساً براء، مثل جفينة - رجل نصراني - كان من أهل الحيرة وظهيراً لسعد بن مالك، ثمّ قتل الهرمزان، فضربه بالسّيف، وقال الهرمزان: لا إله إلاّ الله. ثمّ أخذه سعد بن أبي وقّاص وحبسه في بيته وأخذ سيفه، ثمّ أحضره عند عثمان(1) فاستشار عثمان من كان حوله، وقال: أشيروا عليّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق. فقال عليعليه‌السلام : «أرى أنْ تقتله». وقال عمرو بن العاص: إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث، ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه وقد جعلتها ديّة وأحتملها في مالي(2) .

والملاحظ، إنّ عثمان كان في أجواء الحدث، ورأى أن يطوي هذا الملف، لاغياً كلّ الأحكام الإسلاميّة، وهو يعلم أنّ أقضى النّاس وأعلمهم بشرع الله عليّعليه‌السلام قد قضى بقتله. ولقد أراد الإمام عليّعليه‌السلام أن يقيم عليه الحد أثناء خلافته، ففرّ عبيد الله بن عمر إلى معاوية بالشّام، وذلك دليلاً على أنّ عثمان كان متجاوزاً لحكم شرعي خطر تجاه عبيد الله.

____________________

(1) التاريخ الكامل لابن الأثير 2 / 75.

(2) ذكر اليعقوبي: إنّ عبيد الله قتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته. وروى بعضهم عنه أنّه قال: يغفر الله لحفصة؛ فإنّها شجّعت عبيد الله على قتلهم. وذكر: أنّ عثمان قال له: يا عدو الله، قتلت رجلاً مسلماً وصبية طفاة، وامرأة لا ذنب لها؟! قتلني الله إن لم أقتلك. فلمّا ولي ردّه إلى عمرو بن العاص.

١٧٢

وبذلك تتوضّح الرؤية أكثر من خلال حضور عمرو بن العاص كشفيع لعبيد الله، وإقناع عثمان بالعفو عنه، بعد أن تبيّن الحكم الحقيقي فيه في قضاء الإمام عليّعليه‌السلام .

فالتدبير لقتل عمر بن الخطّاب لم يكن بذلك البساطة التي رواها التاريخ المطرّز، وإنّما هي نتيجة لمخطط مدروس، يمكن رمقه من خلال التحوّلات التي جرت فيما بعد ذلك.

2 - القمع الاجتماعي:

من العوامل التي سهّلت على التيّار الاُموي القيام بعملية الاغتيال هذه، هو العزلة الشّعوريّة التي كانت تفصله عن عامّة المجتمع، الذي كان يبحث عن المواقع التي تبعده عن عمر بن الخطّاب، ذلك أنّ ما قام بن عمر كان يختلف كثيراً كثيراً عمّا كان يقوم به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والطبع العمري كان مرفوضاً من كلّ فئات المجتمع.

لقد كان المجتمع العربي ذا خصوصيات في الطبع والمزاج، وإنّ الطبيعة القاسية والغاضبة التي صنعتها إيّاه بيئة الصحراء، جعلته منه مجتمعاً عصبيّاً متمرّداً، ولهذا قال الله سبحانه لنبيّه مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن:( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (1) . وبهذا المنهاج سار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطّ الدعوة والإرشاد، بيد أنّ عمر بن الخطّاب لم يسر كذلك، ولعلّ مرجع هذا لفراغه من الاستحقاق الذي يشدّ إليه الرعية، ولخلوّه من الخصائص التي تحمدها عليه العرب، فلجأ إلى القمع، كتعويض عن ذلك الاستحقاق المفقود، ولعلّ مردّه أيضاً إلى طبيعته التي جبل عليها، إذ أنّ صورته الجسدية تحتوي على كلّ سمات الغلظة والفضاضة.

في شخصية عمر علامات يمكن إرجاعها إلى عاملين أساسين، يمكننا من خلالها رسم الحالة النّفسية لعمر بن الخطّاب، بالشّكل الذي قد لا يتفق مع ما ذهب إليه العقّاد في عبقريته؟

الأوّل: العامل الجسدي.

الثاني: عامل العقدة النّفسيّة.

____________________

(1) سورة آل عمران / 159.

١٧٣

أوّلاً: المظهر الجسدي.

للصفات الجسدية دور في معرفة السلوك النّفسي للأشخاص، وعمر بن الخطّاب له ميزاته الجسدية التي تنسجم مع سلوكه الاجتماعي، لقد كان عمر طويلاً جسيماً، أصلع أشعر شديد الحمرة، كثير السّبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفّة، وكان رجلاً أعسر أصلع آدم قد فرع النّاس كأنّه دابة، حسب يعقوب بن سفيان في تاريخه(1) . وكان إذا مشى تدانت عقباه، نضيف إلى ذلك، إلى أنّه كان جهوري الصوت، ومدمناً على الخمرة في الجاهلية وحتّى قُبيل التحريم. ويروى أنّه آخر من بقي متعلّقاً بها ويقول: اللّهمّ بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر(2) .

إنّ عمر بن الخطّاب قد دخل الإسلام بعاطفة تلقائية كما ورد في السّيرة، وهو وإن كان أصله كذلك، فإنّ الإسلام لا يؤاخذ من حسن إسلامه على ظروفه السّابقة:( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى ) (3) . غير أنّ رواسب التربية وعوالق الطفولة تستمرّ مع الأنساب حتّى الشّيخوخة، ويبقى محتفظاً بقسط كبير منها.

إنّ المظهر الجسدي الذي كان يتميّز به عمر، لم يكن بعكس النّفسيّة المتوازية، وخصوصاً فإنّ الإنسان الأعسر هو في حدّ ذاته إنسان مضطرب وعصبي، ولذا كم حاول العقّاد أنْ يتحايل لصنع صورة خيالية عن عمر في العبقرية، ولكنه - رحمه الله - لم يكن سوى مغالط؛ إذ أنّ الشّكل الفيزيائي لعمر لم يكن شكل العباقرة في كلّ مدارس السّلوك والأشخاص، من سرّ الأسرار لأرسطو طالس إلى آخر مدارس السّلوك في أوربا، ورغم أنّ الخمر كان من عادة العرب، إلاّ أنّ التواريخ والسّير تثبت، إنّ من بين العرب من كان يتورّع عنها، ويؤكّد التاريخ أيضاً، إنّ عمر بن الخطّاب كان من المدمنين الكبار، وإنّه لم ينقطع عن الخمر إلاّ بعد أن حرمت تحريماً شديداً، وبعد أن أعيي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسّؤال الشّافي.

____________________

(1) الإصابة في تميّز الصحابة لابن حجر العسقلاني 2 / 518، دار صادر.

(2) ابن كثير التغير.

(3) سورة الأنعام / 164.

١٧٤

ويعرف المدمن على المسكرات عادة بعدم القدرة على السّيطرة على نزواته وأعصابه. فهو معروف بفجاجة الشّخصية؛ خصوصاً إذ انقطع عن تناول الخمر الذي أمسى من ضرورياته الجسدية. وعادة ما كان العربي يندفع إلى الادمان بأحد السّببين، إمّا أن يلتمس من خلاله النّشوة والطرب...، وذلك كان من دأب سادات العرب وكبراءها، وإمّا بدافع الانسحاق؛ طلباً للهروب والتعويض بالخيال.

هذه العوامل اجتمعت كاملة لتصنع من عمر بن الخطّاب الرّجل المُهاب، الذي يخشى من قسوته وخشونته.

ثانياً: عامل العقدة.

لكي نتمكّن من الحفر النّفسي في شخصيّة عمر بن الخطّاب، يجب أن ندرك بعض المسائل الضرورية، وهي: إنّ عمر إنسان، وهو بذلك يكسب الطبيعة المشتركة مع باقي البشر، ضمن النّماذج الطبيعية التي يتقاسمها البشر. وكونه إنساناً معناه: أنّه خاضع للمؤثّرات البيئية والتربوية، وبالتالي تجرى عليه سنن الحياة ومحدّداتها النّفسية والاجتماعيّة. وعمر بن الخطّاب الذي قضى أغلبية عمره في أحطّ بيئة جاهلية، لا يمكننا تصوّر تحرّره الكامل من رواسبها، خصوصاً أنّه حافظ على مجموعة من هذه السّمات في ظلّ إسلامه، والتي منها؛ حدّة الطبع والفضاضة وعدم احترام كرام القوم.

ما يقوم به عمر في فترة خلافته من ضرب النّاس دون مبرّرات وقمعهم دون هوادة؛ ليس إلاّ حالة من التعويض النّفسي، يحاول من خلالها الدفاع عن حالة نفسيّة كامنة تعتريه، وهي دون شكّ جعلته يتطلّع بذلك الشّكل العنيف إلى الخلافة حتّى وهو يعلم أنّها ليست حقّاً له، وحالة من التعويض النّفسي لصغار يجده في نفسه منذ زمان، هذا الصغار الذي كوّن عنده مركّباً للنقص، يوجّه سلوكه باستمرار، وهو لا يجد توازنه النّفسي إلاّ بالانتقام من الآخرين أو زجرهم بالعنف حتّى لا يظهروا عليه، ولذلك نجده يبدأ دائماً بقمع النّاس وإذلالهم، حتّى إذا ذلّوا نجده يرجع ويقوم بعملية معاكسة - بعد تحقيق رغبة الانتقام -، وبروز عقدة الأثمية، لذا يبرّر من خلالها

١٧٥

تواضعه، وما كان عمر بن الخطّاب يبدأ في معاملاته بالتواضع؛ وذلك لأنّه وقع بين مجموعة قوى نفسيّة تتجاذب طبعه باستمرار. عمر بن الخطّاب لم يكن رجلاً مذكوراً عند العرب، ولم يكن له وزن قبلي يثبته، ولا سند له من الأنساب يسنده، لذلك كان يحاول الانتقام من خلال الخلافة، ليس من أجل كسب ما ضاع منه، وإنّما من أجل الانتقام من الأمراء وأصحاب الرّفعة والشّرف.

وكان هذا من بين الأسباب التي جعلت المجموعة الاُمويّة تنقم عليه، فلمّا علم أنّ عمرو بن العاص - أحد عمّاله على مصر - قد جمع في حوزته مالاً كثيراً، بعث إليه بمحمّد بن مسلمة؛ ليأخذ قسماً من أمواله، فلمّا رأى عمرو بن العاص ذلك منه، قال: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر، والله، لقد رأيت عمر وأباه على كلّ واحد منهما عبائة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزرّرات الديباج(1) .

كما أنّ سعد بن عبادة لمّا حدثت له المناوشة مع عمر بن الخطّاب في السّقيفة، نال منه واستحضر ماضيه وذكّره بأصله، لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. وإذا ما استنطقنا الأنساب الذي يعتبر أرقى فنّ أهتمّ به العرب، سنجد عمر بن الخطّاب محدود النّسب وضيعاً، مما ترك في نفسه عقدة لا يدركها إلاّ مَن أدرك مقدار وقيمة النّسب في جزيرة العرب.

يروي محمّد بن السّائب الكلبي النّسّابة، وأبو مخنف لوط بن يحيي الأزدي النّسّابة في كتاب الصلابة في معرفة الصحابة، وكتاب التنقيح في النّسب الصريح، بإسنادهم إلى ابن سيابة عبد الله، في نسب عمر بن الخطّاب، قال(2) :

____________________

(1) ابن أبي الحديد في الشّرح / 175.

(2) الكشكول، الشّيخ يوسف البراني 3 / 212 - 213، دار مكتبة الهلال، بيروت.

١٧٦

كان عمر بن الخطّاب متولّداً من نجيبين متضادّين نفيل وهو من نجباء الحبشة. ثمّ قال ذاكراً نسبه إليهما بعد أن قال: إنّ نكاح الشّبهة من أبواب الحلال وإنّ المتولد منه ومن الزنا يكون أنجب من الولد للفراش - إلى أن قال: - ثمّ قال: وأمّا تفصيل نسبه وبيانه وهو إنّ نفيل كان عبداً لكلب بن لؤي بن غالب القرشي، فمات عنه ثمّ وليه عبد المُطّلب، وكانت صهاك قد بُعثت لعبد المُطّلب من الحبشة، فكان نفيل يرعى جمال عبد المُطّلب وصهاك ترعى غنمه، وكان يفرّق بينهما في المرعى، فاتفق يوماً اجتماعهما في مراح واحد، فهواها وعشقها نفيل، وكان قد ألبسها عبد المُطّلب سروالاً من الأديم، وجعل عليه قفلاً وجعل مفتاحه معه لمنزلتها منه، فلمّا راودها، قالت: ما لي إلى ما تقول سبيل وقد ألبست هذا الأديم ووضع عليه قفل. فقال: أنا أحتال عليه. فأخذ سمناً من مخيض الغنم ودهن به الأديم وما حوله من بدنها حتّى استلّه إلى فخذيها وواقعها، فحملت منه بالخطّاب، فلمّا ولدته، ألقته على بعض المزابل بالليل خيفة من عبد المُطّلب، فالتقطت الخطّاب امرأة يهودية جنازة وربّته، فلمّا كبر كان يقطع الحطب، فسمّي الخطب لذلك بالحاء المهملة فصحّف بالمعجمة.

وكانت صهاك ترتاده في الخفية، فرآها ذات يوم وقد تطأطأت عجيزتها ولم يدر مَن هي، فوقع عليها فحملت منه بحنتمة، فلمّا وضعتها ألقتها على مزابل مكّة خارجها، فالتقطها هشام بن المغيرة بن وليد وربّاها فنُسبت إليه، فلمّا كبرت وكان الخطّاب يتردد على هشام، فرأى حنتمة فأعجبته، فخطبها إلى هشام فزوّجه إيّاها فولدت عمر، وكان الخطّاب والد عمر؛ لأنّه أولد حنتمة إيّاه ثمّ تزوجها وحده؛ لأنّه سافح صهاك قبل فأولدها حنتمة والخطّاب من اُمّ واحدة وهي صهاك. هذا ملخّص كلام الكلبي.

وبقيت حنتمة مجهولة النّسب، إذ اختلف في أمرها نسابة العرب، فمنهم من حاول أن ينسبها إلى هشام بن مغيرة على أساس إنّها ابنته، بينما هي متبنّات، واختلفوا فيها إذا كانت هي بنت هاشم بن مغيرة اُمّ هشام بن مغيرة، ولو كان كما قالوا، لما امتعض العرب من خلافته، ولاحترم مقاماتهم كما هو منهج النّبوة(1) .

كان وضع عمر في طفولته ينوء بالبؤس والمعاناة، فهو

____________________

(1) اُسد الغابة. أقول والكلبي هو واحد من النّسّابين الكبار، حيث لا يرقى إليه من انتحلها من المؤرّخين والمحدّثين، وهو من أقواهم فيما لو راجعنا بن خليكان في وفيات الأعيان.

١٧٧

الصغير الذي وجد نفسه مقطوع النّسب لا يجد ما يفاخر به أبناء جيله، والنّسب عند العرب يشكّل عقدة للكبار فكيف بالصغار.

والواقع هو أنّ الحالة النّفسية عند عمر تشكّلت ضمن هذه العوامل الاجتماعيّة، ممّا كوّن عنده عقدة النّقص، وما تولّد عنها من روح عدوانيّة ونزعة تعويضية هازلة. هكذا، وخلافاً لما وصفه به العقّاد وغيره، يمكننا اكتشاف الأسباب التي جعلت عمر بن الخطّاب يكون على ذلك الطبع من الفظاظة والحدّة، فلم ينجح أحد من درّته أصلاً، وأوّل ما ضرب عمر بدرّته اُمّ فروة بنت أبي قحافة، لمّا توفّي أبو بكر وبكت على أخيها ومعها مجموعة نساء، فأخرج عمر درّته وعلا بها اُمّ فروة فهربت الأخريات. وقيل: درّة عمر أهيب من سيف الحجاج(1) .

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة، ويروى: أنّ عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم، حتّى اضطرّه إلى مفارقة دار الهجرة وارتدّ إلى نصرانيته؛ وذلك بسبب لطمة لطمها. ويروى: أنّه قال بعد أن ندم على ارتداده:

تنصّرتْ الأشرافُ من أجلِ لطمةٍ

وما كانَ فيها لو صبرتَ لها ضررُ

فـيا لـيتَ اُمّي لمْ تلدني وليتَني

رجعتُ إلى القولِ الذي قاله عُمَرُ

هذه الفظاظة والعنجهيّة والقمع الاجتماعي الذي ميّز خلافة عمر، أثار عليه جبهتين:

الأولى: قوم شرفاء ساءهم أن يكون عمر أميراً عليهم، مسفّهاً لهم لا يوقر كبيراً ولا صغيراً(2) .

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح النّهج.

(2) يروى أنّه رأى شيخاً يسير الهوينا، فقال: مَن هذا؟ قالوا: رجل متنسّك. فضربه بالدرّة قائلاً: لا تمت علينا ديننا أماتك الله. هل ضرب هكذا رجل ظلماً حقّاً في نظر منهج النّبوة؟

١٧٨

الثانية: قوم أرادوا تجميع الأموال ك: ابن العاص، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، و...، فساءهم استفزاز عمر لهم وإن كان محتفظاً بإمارتهم.

3 - الشّذوذ الفقهي.

يؤخذ على عمر بن الخطّاب أنّه - خلافاً لما يدّعي مؤرّخوا البلاط - رجل عديم الملكة الفقهية، وليس هذا فحسب، بل متجرّئ على الفتوى، فكان يأتي بالنّوادر، متجاوزاً كلّ النّصوص.

يقول ابن أبي الحديد: وكان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثمّ ينقضه، ويفتي بضدّه وخلافه، قضى في الجدّ مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثمّ خاف من الحكم في هذه المسألة، فقال: مَن أراد أن يتقحّم جراثيم جهنّم، فليقل في الجدّ رأيه(1) . واعترف غير مرّة بقصوره الفقهي أمام جمهور المسلمين، وشاع عنه قوله: كلّ النّاس أفقه من عمر.

وفي إحدى المناسبات قال: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النّبي إلاّ ارتجعت ذلك منها. فقالت له امرأة: ما جعل الله ذلك، أنّه تعالى قال:( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (2) . فقال عمر: كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال.

ويمكننا تلخيص بعض ما ورد عن شذوذه الفقهي الذي رفضه الصحابة، ورأوه مخالفة للقرآن وسنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما يلي:

1 - حكم عمر بالقضاء على مجنونة قد زنت. (الحاكم والبيهقي وأبو داود).

2 - حكم عمر على المضطرّة بالحد. (البيهقي، ابن الجوزيّة).

3 - حكم عمر بحرمة المتعتين - الحج والزّواج -. (الصحاح).

4 - حكم عمر بإلغاء حيّ على خير العمل في الأذان بعد أن كانت مشروعة في عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) شرح النّهج 3 / 181.

(2) سورة النّساء / 20.

١٧٩

5 - عمر يزيد في الآذان: الصّلاة خير من النّوم.

لقد كان عمر مندفعاً إلى العمل بالرّأي حتّى في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثيراً ما أثار متاعب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد خالف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من المواطن، فكيف به إذا استتبّ له الأمر ولم يجد له سلطاناً رادعاً؟! وهكذا كانت سيرة عمر، وتلك هي بعض ما أخذ عليه.

أمّا قمّة الرّزيّة، فهي عندما قُتل ولُعب مرّة اُخرى بالخلافة ومنعها عن الإمام عليّعليه‌السلام .

١٨٠