لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49898
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49898 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخلافة بعد وفاة عمر:

دخلت الخلافة في المشهد الثالث من لعبتها، لتفضي ويفضي معها الاختيار الأرعن إلى أسوأ وضع عرفته الاُمّة، وإلى أوّل اهتزاز سياسي شهده المجتمع الإسلامي.

لقد طُعن عمر في يوم الأربعاء ومات يوم الخميس - حسب صاحب اُسد الغابة - وبعد ذلك ترك الخلافة في ستّة أشخاص. إنّني ما زلت أرى أنّ عمر بن الخطّاب أبداً لا يزهد في الخلافة، وعديم الدهاء إلاّ في استخلافه الستّة، وإذا ما أمعنّا النّظر في ملابسات الخلافة بعد مقتل عمر، سوف يتبيّن لنا أمرها كالشّمس في رائعة النّهار، والحكاية كالتالي:

لمّا قُتل ابن الخطّاب، قيل له على أثر طعنه(1) : استخلف. فقال: عليكم هؤلاء الرّهط الذين توفّي رسول الله وهو عنهم راض؛ عليّ، وعثمان بن عفان، وعبد الرّحمن، وسعد خال رسول الله، والزبير بن العوام بن عمّته، وطلحة، فليختاروا رجلاً منهم ويشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالنّاس صهيب، ولا يأتين اليوم الثالث إلاّ وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيّام الثلاثة، فاحضروه أمركم، وإن مضت الأيّام الثلاثة قبل قدومه، فاقضوا أمركم.

ثمّ قال

____________________

(1) الطبري وآخرون بألفاظ شبه مختلفة، كابن قتيبة، وابن أبي الحديد في الشّرح، وآخرين.

١٨١

لأبي طلحة الأنصاري: إنّ الله تعالى طالما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحث هؤلاء الرّهط حتّى يختاروا رجلاً.

وقال لصهيب: صلِّ بالنّاس ثلاثة أيّام، وأدخل عليّاً وعثمان، والزبير وسعداً، وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم؛ فإن اجتمع خمسة ورضوا واحداً منهم وأبى واحد، فاشرخ رأسه واضرب رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا واحداً وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة منهم رجلاً واحداً منهم وثلاثة رجلاً منهم، فحكّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حكم فليختاروا رجلاً منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه النّاس.

لقد جرى الجمهور على تقبّل هذا الحديث دون إكمال العقل والنّظر فيه، وكأنّ عمر ينطق بالوحي، لذلك سوف نتبيّن - ونحن نتأمّل بثاقب النّظر ونافذ الرّأي - إنّ العملية محسوبة سلفاً، ودقّة الترتيب تفيد أنّ الأمر كان مخطّطاً في ذهن عمر منذ زمان، والمسألة تبدو حسابية، ولم نعهد على العرب هذه البديهية في الحساب، غير أنّ بديهية الإمام عليّعليه‌السلام كانت أسرع، ففهم مقاصد اللعبة، فقال للعبّاس فور انتهاء عمر من كلامه: «عدلت عنّا». قال له العبّاس: وما علمك؟ قال الإمام عليّعليه‌السلام : «قرنَ بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر؛ فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرّحمن، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيولّيها عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرّحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إنّي لا أرجو إلاّ أحدهما».

فخلع عبد الرّحمن نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين. وفي اليوم الرّابع، صعد عبد الرّحمن المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّي قد سألتكم سرّاً وجهراً عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرّجلين؛ إمّا عليّ وإمّا عثمان، فقم إليّ يا علي(1) . فوقف

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ.

١٨٢

تحت المنبر، وأخذ عبد الرّحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر؟(1) . قال: اللّهمّ لا، ولكن على كتاب الله وسنّة نبيّه، وعلى جهدي وطاقتي.

قال: فأرسل يده، ثمّ نادى: قُم يا عثمان. فأخذ بيده وهو في موقف عليّ الذي كان فيه، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر؟ قال: اللّهمّ نعم. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثمّ قال: اللّهمّ اسمع واشهد، اللّهمّ اسمع واشهد، إنّي جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.

فجعل النّاس يبايعون وتلكّأ عليّعليه‌السلام ، فقال عبد الرّحمن:( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (2) . فرجع عليّ يشقّ النّاس حتّى بايع عثمان وهو يقول: «خدعة وأيما خدعة»(3) .

وروى القطب الرّاوندي: إنّ عمر لمّا قال: كونوا مع الثلاثة التي عبد الرّحمن فيها. قال ابن عبّاس لعليّعليه‌السلام : ذهب الأمر منّا.

ماذا سنستفيد يا ترى من هذه اللعبة التاريخيّة المتقونة؟ وكيف نقف على حقيقتها؟ ولكن قبل أن نشقّ خضمها، يجب أن نوجّه إليها في البدء مجموعة من الأسئلة:

1 - من أين، ولِم، وكيف جاءت هذه النّظرية السياسيّة ذات التركيب السّداسي؟!

2 - لماذا السّتّة بالضّبط؟

____________________

(1) وعند ابن الأثير وغيره: وسيرة الشّيخين.

(2) سورة الفتح / 10.

(3) ابن مسكويه في تجاربه 1 / 265.

١٨٣

3 - وكيف يكون ابن عمر شاهداً ومبشّراً في اللحظة الحرجة، ولماذا صهيب يصلّي بالنّاس وأبو طلحة يتولّى قطع الرقاب؟ إنّ هذه الأسئلة وعشرات اُخرى مثلها، جدير بنا طرحها على هذا النّصّ؛ لنقف على علاّته وهناته.

يبدأ عمر بفرض رؤيته للخلافة من بعده، وطرحها على أساس أن تُقبل ولا تحور، فهي نصّ منصوص لا رأي بعده، وكيف بالتاريخ يغفل هذا الموقف ولا يعيد طرح السؤال. فعمر بن الخطّاب هو الذي حال دون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابة الكتاب الذي لا يضلّ النّاس بعده، هو الذي رأى أنّ الأمر متروك للمسلمين ينظرون فيه، كيف يقول في وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الرّسول يهجر، حسبنا كتاب الله. ولم يترك للناس حرّية النّظر في شؤون الاُمّة، وحسبهم كتاب الله أيضاً، ثمّ لماذا يلزم المرشّحين السّتّة بمخطّطه، ويقضي بقتل مَن خالف؟!

ثمّ لماذا لا يكون القتل بالسّوية، حتّى في الثلاثة الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف؟ ولماذا يقضي بالقتل على ستّة، توفّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عنهم راض، كما شهد بذلك، ثمّ مَن أعطاه الحقّ في ذلك، وما مبرّر ذلك من النّصّ؟!

ولست أدري، هل استلهم عمر فكرته هذه من شريعة حمورابي أو من حلم رآه؟ أيّ نصّ قرآني، وأيّ سنّة نبويّة اعتمدها في هذا المخطّط الذي جعل فيه الدم وإزهاق الأرواح وارداً؟!

كان عمر يهدف من خلال مخطّطه إلى مجموعة أغراض:

أوّلاً: كان يهدف إلى إذلال كبراء المسلمين من جهة، والإمام عليّعليه‌السلام من جهة خاصّة؛ فمن جهة الآخرين، جعل عليهم عبداً يصلّي بهم خلال الفترة الانتقالية، وهو صهيب، ثم جعل السّلطة التنفيذية في يده وأبي طلحة؛ كي ينفّذا عقوبة القتل لكلّ متمرّد من المرّشحين السّتّة، مع احتمال وقوع القتل على الإمام

١٨٤

عليّعليه‌السلام ، وكذلك إذلالهم من خلال سلبهم حقّ المشاركة في الاختيار السّياسي.

أمّا من جهة الإمام عليّعليه‌السلام ، فإنّه وضعه في مصاف مَن هُم دونه بلا شكّ؛ حتّى يجرّده من امتيازه، ويربّي العامّة على عدم تعظيم قدرهعليه‌السلام . والملاحظ في ذلك أنّ طلحة والزبير ظلاّ يريا الخلافة لعليّعليه‌السلام منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وواجها أبا بكر وعمر وتمرّدا على البيعة، وكانا ضمن المعتصمين في بيت فاطمةعليها‌السلام ، وحدثت لهما مناوشة وصدام مع عمر بن الخطّاب، إلاّ أنّ سياسة عمر بن الخطّاب في إنزالهما منزل عليّعليه‌السلام في الخلافة، جعلهما يطمعان ولا يريان في عليّ ميزة عنهما بعد هذا الانحطاط الذي منيت به العصبة الهاشمية، ولذلك راحا ينازعان الإمام عليّعليه‌السلام يوم الجمل.

إنّ عمر بن الخطّاب لم يكن وحده صاحب المخطّط، وإذا كان هو صاحبه فلأنّه فكّر فيه مليّاً، ولم يكن مخطّطاّ تلقائياّ كما سطّرته كتب التاريخ؛ لأنّه عنصري الدّقّة والترتيب الحاضرين فيه يستبعدان صدوره عن تلقائيّة، فمنذ البداية كان عمر بن الخطّاب يمهّد لخلافة عثمان، ولكن الحرص على إحضار السّتّة له أسبابه التكتيكيّة، لقد حاول عمر من خلال هذا الترتيب أن يظهر للناس من بعده، أنّ عليّاّعليه‌السلام على الرّغم من حضوره، فإنّه لم يستطع الفوز بها؛ لعدم جدارته ورفض النّاس له، وبهذا سيسلب منه ورقة الخلافة ويسقطه سياسيّاً، كما أنّه أراد أن يسقط معه مناوئيه القدامى وهما طلحة والزبير. وما وجود سعد بن أبي وقّاص وعبد الرّحمن بن عوف سوى لتحقيق التوازن في المخطّط؛ ليفضي الأمر في نهاية الجولة إلى عثمان بن عفان.

يجب أوّلاً: أنّ نمحّص هذه الشّخصيات السّت؛ لنرى خلفية اختيارهم ليس هؤلاء السّتّة - كما زعم - هُم الوحيدين الذين توفّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو راض عنهم، فهناك عمّار وأبو ذر وسلمان والمقداد، هُم من أهل الإيمان والعلم والقضاء، ولهم سابقية لا يرقى إليها الكثير ممّن اختارهم عمر، ولهم من العلم ما لا يوازيه علمهم، بل وأنّه اختار من بينهم مَن ليس فيه ما ادعاه عمر.

لقد أقبل

١٨٥

على طلحة، وهو له من المبغضين منذ رفض استخلاف أبو بكر إيّاه، فقال له: أقول أم أسكت؟ قال: قُل؛ فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال: أمّا إنّي أعرفك منذ اُصيبت إصبعك يوم اُحد والبأو الذي حدث لك، ولقد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم اُنزلت آية الحجاب(1) .

رتّب عمر الأمر على هذه المعطيات التالي:

- عبد الرّحمن بن عوف صهر عثمان، زوج أخته اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

- سعد ابن عمّ عبد الرّحمن، وكلاهما من زهرة.

- طلحة تيمي ابن عمّ أبي بكر، صاحب ضغن تجاه بني هاشم.

- الزبير بن عمّة عليّعليه‌السلام صفيّة بنت عبد المُطلب.

- عثمان من بني أبي معيط.

- عليّعليه‌السلام من بني هاشم.

إنّ التركيز على الانتماء القبلي ضرورة لفهم ديناميكية الخلافة والاستخلاف بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واستضعاف النّصّ. هناك أربعة من هؤلاء يعلم عمر ويعلمون هُم أيضاً أنّهم غير مرغوب فيهم من قبل المسلمين، وأنّ الأمر سيبقى بين اثنين لا ثالث لهما؛ عليّعليه‌السلام وعثمان.

أمّا الباقون، فإنّهم سيسلّمونها تلقائيّاً لعثمان، باستثناء الزبير وطلحة مع

____________________

(1) قال أبو عثمان الجاحظ في السّفيانيّة: إنّ الكلمة المذكورة هي: أنّ طلحة لمّا اُنزلت آية الحجاب، قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم وسيموت غداً فننكحهن. فقال أبو عثمان: لو قال لعمر قائل: أنت قُلت: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مات وهو راض عن السّتّة، فكيف الآن لطلحة إنّه مات عليه السّلام ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها! لكان قد رحاه بمشاقصه، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا، فكيف هذا؟!

١٨٦

بعض الشّكوك.

ولعلّ الإمام عليّعليه‌السلام قد فطن لتلك اللعبة لمّا قال للعبّاس - كما سبق -: «فلو كان الآخران معي - يقصد طلحة والزبير - لم ينفعاني، بله أنّي لا أرجو إلاّ أحدهما». وفعلاً فإنّ طلحة لم يسلّمها للإمام عليّعليه‌السلام ، وما بقي معهعليه‌السلام سوى الزبير، فعبد الرّحمن بن عوف سيسلّمها لصهره عثمان، فإذا فعل فإنّ سعداً ابن عمّه لن يخالفه، وطلحة من المفترض أن يمنعها عن عليّعليه‌السلام ؛ لتلك الضغينة التي ذكرها المؤرّخون بين تيم وبني هاشم، وهو ابن عمّ أبي بكر، ولكن كان من المحتمل أن يخالف بها رأي عمر وعثمان لكراهيته لهما، وأمّا الزبير فلقد رأى أن يسلّمها إلى ابن عمّه عليّعليه‌السلام بعد أن رآها لن تتمّ له، وبعد أن تحرّكت فيه الحمية تجاه قريبه لمّا رأى الآخرين مالوا إلى أبناء عشيرتهم، كما لأنّ الزبير وقتئذ من شيعة عليّعليه‌السلام .

ثمّ كان عمر بن الخطّاب قد ضيّق الأنفاس على السّتّة، ورسم لهم مخطّطاً يعكس مدى حرصه على تفويت الخلافة على عليّعليه‌السلام ، فقال آمراً أبا طلحة: أنّه إذا أبى واحد ورضي خمسة، فاشلخ رأس الواحد. ومن البديهي أنّ الواحد المفترض معارضته للجميع، هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ثمّ بقتل الاثنين، واللذين لا يمكن أن يكونا سوى عليّ والزبير في أسوأ الاحتمالات، وإذا ما انضاف طلحة، وكان هذا احتمال وارد بسبب الكراهية التي لا يزال يحملها طلحة لعمر؛ فإنّ عمر قضى برفض هذا الثلاثي من خلال قوله: فكونوا مع الثلاثة التي فيهنّ عبد الرّحمن بن عوف. علماً أنّ عبد الرّحمن لا يمكن أن يكون إلاّ مع عثمان، وسعد لا يمكن أن يخالف الاثنين:

أوّلاً: للعمومة التي تربطه بعبد الرّحمن، ولأنّه من زهرة.

ثانياً: بأنّه لا يزال يجد في نفسه من عليّ وهو الذي قتل الكثير من عشيرته، وقتل أباه ببدر.

١٨٧

فالثلاثة الذين فيهم عبد الرّحمن لن يكونوا منذ البداية سوى عبد الرّحمن، وبالتالي سعد وعثمان؛ ولهذا قال الإمام عليّعليه‌السلام : «قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر؛ فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرّحمن، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيولّيها عثمان أو يوليها عثمان عبد الرّحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعان، بله إنّي لا أرجو إلاّ أحدهما».

وذكر الرّاوندي: أنّ عمر لمّا قال: كونوا مع الثلاثة التي عبد الرّحمن فيها، قال ابن عبّاس لعليّعليه‌السلام : ذهب الأمر منّا، الرّجل يريد أن يكون الأمر في عثمان.

ونحن نتسأل، ما هي الحكمة التي تجعل عمر يقضي بالقتل في الثلاثة التي ليس فيها عبد الرّحمن بن عوف؟ ولماذا لا يقول بالعكس ما دام أنّه قال: إنّ هؤلاء توفّي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عنهم راضٍ؟ ثمّ لنفرض: إنّ الأمر كما أراد، إذن لكان من المفترض لو عصت مجموعة عليّعليه‌السلام ، أن يُقتل هو والزبير! وعلى الرّغم من أنّ عمر رفض أن يكون ابنه خليفة بعده، وعجبت كيف خوّله للاختيار؟!

ولو تساوت المعادلة: إنّ عمر رأى ابنه لا يستحقّ الخلافة، وهو القائل: ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟! مع ذلك جعله حكماً بين السّتّة فيما لو اختلفوا ثلاثاً ثلاثاً، حتّى إذا رفضوا مشورته - والتي في الغالب يفسّرها الإجراء الاستثنائي، قتل أبو طلحة(1) والخمسون الذين معه - الثلاثة الذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف.

____________________

(1) بعد أن استتبّ الأمر لعثمان، قال عليّعليه‌السلام : «أما لئن بقي عثمان لأذكرته ما أتى، ولئن مات لتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون». ثمّ قال:

حلفتُ بربِّ الراقصاتِ عشيةً

عدونَ خفافاً فابتدرنَ المـُحصّبا

لَيختلينْ رهطَ ابنِ يعمر قارناً

نجيعاً بنو الشدّاخ ورداً مُصلّبا

والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن. ابن الأثير الكامل.

١٨٨

ذكروا أنّ عمر قال: لو كان أبو عبيدة لاستخلفته(1) . وهو بذلك يكون قد وفي بالعهد ولو بإثباته بالكلام، ضمن الصفقة الثلاثية التي جرت في سقيفة بني ساعدة، غير أنّ موته أفسد المخطط، فأعدّ عمر بن الخطّاب هذه الهندسة السياسيّة الحاقدة.

أمّا مجريات الاُمور بين المستخلفين السّتّة، فإنّها تتحفنا بحقائق اُخرى؛ فعبد الرّحمن بن عوف كان عرّاب المشروع العمري، وهو الذي طرح نفسه كشاهد بعد أن تنازل عنها، وفجأة أصبح وكأنّه هو المنصّب الرّئيس لمّا تسلّم مجلس الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا بقي الأمر كلّه بيده، دعا عليّاًعليه‌السلام قبل عثمان. وكانت هذه عملية تمويهية، فهو يدرك أنّ عليّاً سوف يرفض سلفاً اقتراحه وشروطه، حتّى أنّه كان سبب عزل عليّعليه‌السلام وتنصيب عثمان، اتّباع سيرة الشّيخين، وكان عليّعليه‌السلام ذا موقف حادّ من هذا الشّرط؛ ذلك أنّه شرط لا مغزى له بعد شرطَي كتاب الله، وسنّة رسوله، وهذا كان يعني واحداً من أمرين:

- إمّا أنّ سيرة الشّيخين تمثّل الكتاب والسّنّة، وبالتالي فإيرادها هُنا سيكون لغواً زائداً.

- أو أنّها شيء جديد، فلا يلزم عليّعليه‌السلام باتّباعها؛ والدليل على أنّه شيء جديد، إنّ عليّاًعليه‌السلام تمسّك بالكتاب والسّنّة، فعُزل بسبب عدم قبوله بسيرة الشّيخين.

ولفتة اُخرى وهي الأهم: إنّ الإمام عليّعليه‌السلام كان ينظر إلى الخلافة كحقّ مقدّس ومسؤولية ربّانية، وهو لهذا تمسّك برأيه، ولم يكن بينه وبينها - لو كان فعلاً همّه الخلافة - سوى الاعتراف - ولو علناً - بسيرة الشّيخين.

دعنا نر سيرة الشّيخين في سياسة عثمان، وإلى أيّ وضع أدّى المخطّط السّداسي العمري.

____________________

(1) انظر الطبري وابن الأثير.

١٨٩

١٩٠

عثمان أو الفتنة الكبرى:

الخليفة الثالث عثمان صنيعة وضع هو في حدّ ذاته مسلسل لواقع التآمر التاريخي على عصبة بني هاشم، وهُنا يمكننا القول: إنّ منطق القبيلة وارد في هذا الاختيار. وأيّاً كانت خلفيات هذا الاختيار، فإنّ عثمان لم يكن حلاًّ للمجتمع العربي في تلك الفترة، بقدر ما كان نتيجة حتميّة لسنوات طويلة من التقوية للجناح الاُموي، الذي كان عثمان يشكّل واجهته الإسلاميّة. فشخصية عثمان - كما عرف عنها على أقلّ التقادير المجمع عليها - ضعيف الإرادة كسيرها، لا يقوى على اتخاذ القرار ولا على الصمود في العدل بين العامّة والأقرباء.

لقد استفزّ عثمان بسياسته المسلمين جميعاً، وبعضهم حاول أن يجد المبرّرات لعثمان، فراح يلفّق ويركّب؛ لخلق واقع تاريخي مزيّف، لا يعكس حقيقة وواقع العهد العثماني. لقد أدرك هذا المأزق بعض المفكّرين المتأخّرين، ورأوا أنّ عثمان لم يكن يمثّل اتجاهاً إسلامياً في سياساته، يقول سيد قطب: وإنّه لمِن الصعب أن نفهم روح الإسلام في نفس عثمان، ولكن من الصعب كذلك أن نعفيه من الخطأ، الذي نلتمس أسبابه في ولاية مروان الوزارة في كبرة عثمان(1) .

____________________

(1) العدالة الاجتماعيّة في الإسلام / 160، دار الشّروق.

١٩١

إنّ المسألة ليست بهذه البساطة، فعثمان منذ البداية سلك نمطاً من الخلافة العشائرية، حيث حمل بني اُميّة على رقاب النّاس، وهو إنذار سبق أن قاله عمر بن الخطّاب عند مقتله، وقد مُني عثمان بمعارضة قويّة أكثر من أيّ خليفة آخر؛ والسّبب في ذلك، هو أنّ عثمان بلغ مستوى أكثر تعسّفاً في تقريب عشيرته، وإعطائها المناصب الحسّاسة في الدولة الإسلاميّة.

ولو أخذنا بعين الاعتبار عامل العشيرة في تشكيل الكيان المعارض لعثمان، سوف ندرك أنّ عثمان لم يتعرّض للقتل لأنّه خالف الالتزام الديني فحسب؛ وإنّما لأنّه رفع من عشيرته، ومكّن لها وسلّمها مقاليد الخلافة. كيف - إذاً - بدأت خلافة عثمان، وكيف انتهت؟

لقد تعهّد عثمان منذ تسلّمه مقاليد الخلافة، بأنّه سيتمسّك بسيرة الشّيخين أبي بكر وعمر، وعثمان بن عفان رجل يعي كلامه، وهو واحد المقرّبين إلى الشّيخين، ومدرك لكلّ مسالكها في الداخل والخارج، وهو الذي عاش مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشهد غدير خُم، فهو يدرك أنّ الشّيخين هُما أوّل مغامرين في الإسلام، وعرف أيضاً، أنّه إذا سلك مسيرة الشّيخين، فإنّه سينطلق من نفس منطلقاتها، وهي التعاطي السّلبي مع آل البيتعليهم‌السلام والصحابة الكبار.

لقد بدأ بدعم الطلقاء وأبنائهم خلافته، بتعطيل حكم الإسلام في قضية عبيد الله بن عمر قاتل؛ الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة؛ انتقاماً لأبيه - كما تقدّم -، وقد استفتى الصحابة وقضى عليّعليه‌السلام بقتله، وعثمان أقسم إنّه سيقيم عليه الحد، إلاّ أنّه تجاوز عنه بعد أن تدخّل عمرو بن العاص، وكان ذلك بمثابة أوّل شرخ في جهاز القضاء في عهد عثمان.

كان منذ البداية قد أسفر عن الوجه الحقيقي لتوجهه السّياسي، وهو العمل على بناء عشيرته وتقويتها، بعد أن كانت حركة الإسلام قد أضعفتها وكسرت شوكتها، كما كان جهازه الاستشاري مؤلّفاً من الذين أدخلهم الخوف إلى الإسلام، واستبعد كبار الصحابة. فلمّا وصل الخبر بما يروّج حوله من نعي وانتقاد، أرسل إلى؛ معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وآخرين مثلهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه، فلمّا اجتمعوا عنده قال: إنّ لكلّ امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم

١٩٢

وزرائي ونصحائي وأهل عمّالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما تحبّون، فاجتهدوا لي رأيكم ثمّ أشيروا عليّ. كانت هذه في التشكيلة الاستشارية التي اعتمدها عثمان في إدارة الدولة وقمع الجماهير المسلمة.

إنّ الواقع الاجتماعي الذي تشكّل في عهد عثمان، أدّى إلى انفجار ثوري لم يخفّف منه النّفوذ العشائري لعثمان، وأسفر الوضع عن وجود ثلاث فئات مهيّئة للتمرّد، الفئة الأولى: وهي الفئة التي تمرّدت انطلاقاً من الخلفيّة الاقتصاديّة، ففي الوقت الذي تراكمت فيه الثّروة لدى الجانب الاُموي، وغيرهم من الذين ساروا في خطّهم وأعانوهم على تعميق نفوذهم، نجد أنّ قطّاعاً واسعاً من الجماهير المسلمة، استمرّت تعاني الفقر في أسوأ حالاته، الفقر الذي يجعل المجتمع مهيأ للدخول في صراع طبقي طالباً للمساواة الاجتماعيّة.

كان خطّ الأغنياء وخطّ الفقراء يتّجهان بشكل معاكس، الغني ازداد اتّساعاً إلى درجة الفحش، وازداد - تبعاً لذلك - الفقر عمقاً إلى درجة الانسحاق؛ وبذلك اتّسعت الهوة بين فئتين: إحداهما مسكت بأسباب الثّراء فبلغت مستوى تكسير قطع الذهب بالفؤوس، وفئة اُخرى قلب لها الواقع ظهر المجن، فراحت تفكّر في قطع القد، وغالباً ما باتت تغالب الطوى.

لقد كان عثمان يملك خمسين ومئة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مئة ألف دينار، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة. وبلغ الثّمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته، خمسين ألف دينار، وخلّف ألف فرس وألف أمة. وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم، ومن ناحية السّراة أكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلّف زيد بن ثابت من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس، غير ما خلّف

١٩٣

من الأموال والضياع.

وبنى الزبير داره بالبصرة، وبنى أيضاً بمصر والكوفة والإسكندرية. وكذلك بنى طلحة داراً بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها بالجصّ والآجر والسّاج. وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات. وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظاهر والباطن. وخلّف يعلى بن جنبه خمسين ألف دينار وعقار، وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف درهم، وتحوّل بيت مال المسلمين في عهده إلى بيت مال لبني اُميّة، ولم يراع عثمان مشاعر المسلمين ولا أحكام الشّريعة في نهبه أموال المسلمين، وصبّها مدرارة في خزائن أهل بيته.

ويذكر اليعقوبي في تاريخه: حدّث أبو إسحاق عن عبد الرّحمن بن يسار، قال(1) : رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة، إذا أمسى أتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة، جعلها فرضاً من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله. فألحّ عليه، فقال: إنّما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت والله، ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك، إنّما أنا خازن المسلمين. وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: أيّها النّاس، زعم عثمان أنّي خازن له ولأهل بيته، وإنّما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت. كان بذلك عثمان يرى أنّ الدولة الإسلاميّة ملكاً لعشيرته؛ وكان مبرّره في ذلك، أنّه تأوّل - حسب ما ذكر الواقدي - في مال المسلمين، صلة رحمه.

كما ويذكر الواقدي أيضاً بإسناده: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص. كما روي الكلبي عن أبيه مخنف بن مروان: ابتاع خمس إفريقية بمئتي درهم ومئتي ألف دينار، وكلّم عثمان فوهبها له، فأنكر النّاس ذلك على عثمان.

____________________

(1) المسعودي، مروج الذهب.

١٩٤

ويذكر ابن أبي الحديد: إنّه قد أتاه - أي عثمان - أبو موسى من العراق بأموال جليلة، فقسّمها كلّها في بني اُميّة، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة، فأعطاه مئة ألف من بيت المال أيضاً، بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وكذلك سار عثمان في رعيّته يوسّع لأقربائه في العطايا والإمارات، ولا أدلّ من ذلك معاوية بن أبي سفيان، الذي منحه كامل الصلاحية في إدارة الشّام، فكان أطول الأمراء إمارة. وحيث كثر الغنى الفاحش، وتسابق الغزاة على الأمصار؛ لكسب المزيد من الغنى، واضطرّت الطبقة الثرية أن تستورد الرقيق من الأمصار لاستغلالهم في استثماراتهم، واستولى بني اُميّة على بعض مزارع الكوفة وهجروا أهلها. وبقيت طبقة هنالك من الفقراء العرب ناقمين على الفئة الثريّة، وكذلك اُولئك الذين فتحوا البلدان ولم تتح لهم الفرصة - كما أتيحت لغيرهم من بني اُميّة - للإقامة في الأمصار والاستحواذ على ممتلكاتها.

كان هذا الواقع الطبقي الذي تشكّل بفعل السّياسة المنفلته لعثمان، سبباً في تشكّل حالة من الرّفض والتمرّد، تمثّلها الفئات المحرومة في المجتمع، وهُم غالباً اُولئك الذين ضاقوا من الاحتكار الاُموي في عهد عثمان، وتمرّدوا تلقائياً لمّا ثقل عليهم أمرهم، وكانوا هُم القاعدة التي استجابت لفكرة التحدّي والثورة على عثمان، تلك الحالة التي يصوّرها أبو ذر (رض) قائلاً: عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج إلى النّاس شاهراً سيفه! فهذا دليل على وجود فئة مسحوقة ومغلوب على أمرها، لا تسطيع الافصاح عن واقعها، مقموعة بعمّال عثمان وعناصر عشيرته ذات النّفوذ الوسيع في كلّ الأصقاع.

الفئة الثانية:

فئة تحرّكت من الخلفيّة العشائريّة، حيث ضاقت بالنّهج العشائري في سياسة عثمان، وتعامله اللامتكافئ مع العشائر الاُخرى، فهناك طائفة من المسلمين ثاروا على عثمان، لمّا رأوه متحيّزاً إلى أقربائه بشكل يفسد عليه سياسته. والحسّ القبلي لمّا ينته يومها في نفوس الغالبية السّاحقة ممّن دخل في الإسلام، والجانب القبلي - كما

١٩٥

سبق أن ذكرنا - يشكّل إحدى مكوّنات الاجتماع العربي حتّى مع وجود الإسلام، والبنية المجتمعيّة للعرب، كانت ولا تزال تنتج - باستمرار - نزوعاً قبليّاً ضمن أنماط شتّى في السّلوك السّياسي والاجتماعي...، ومن اُولئك الذين ثاروا عليه، رجال كانوا غير متضرّرين اقتصادياً.

ويذكر التاريخ: أنّ عبد الرّحمن بن عوف الذي أثبته في الخلافة، كان قد أنكر عليه إذ رآه ينهج هذا النّهج، وعبد الرّحمن رغم أنّه بلغ غناه مداه في عهد عثمان، ورغم مصاهرته لعثمان، ورغم تجاوزه للحقّ الشّرعي في خلع عليّعليه‌السلام (1) عن الخلافة وتثبيت عثمان... فإنّه يأبى أن ينهج عثمان نهجاً يقوّي فيه عشيرته، ومثل ذلك طلحة، فلم يكن هو الآخر متضرّراً من الحالة الاقتصادية، بل لقد كانت غلّته يومذاك من العراق تعد بألف دينار كلّ يوم، مثل عبد الرّحمن بن عوف الذي كان على مربطه ألف فرس، وألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم... ولكن القضية لها خلفيات اُخرى، فلا زهرة من عبد الرّحمن، ولا تيم من طلحة براضية بهذا الوضع الذي آل إليه الاُمويّون بمؤازرة عثمان؛ حيث حملهم على رقاب النّاس.

لقد سلب عثمان إرث آل البيتعليهم‌السلام وهو فدك، وأقطعها واحداً من عشيرته وهو مروان، وفي ذلك مهانة لبني هاشم، لها أن تقرع الوجدان العربي. وكذلك لمّا رأوا عثمان يستقبل الحكم طريد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة؛ ليقضي بطرد أحد سادة العرب والمسلمين أبي ذر إلى الرّبذة.

لقد رأوا العرب من مختلف القبائل، إنّ هذا هو عثمان، وإنّ عشيرة بني اُميّة راحت تطأ كلّ العشائر، وحيث إنّ عثمان أظهر توجهه العشائري للمسلمين، وأفصح عن وجهة نظره الخاصّة تجاه أقربائه، واعترف لهم أنّه يعمل بمقتضى الاجتهاد؛ لذلك أحيا فيهم النّخوة العربيّة، والنّزعة القبليّة مجدّداً، فراحوا يفكّرون في الثّورة والتغيير.

الفئة الثالثة:

انطلقت هذه الفئة من الخلفيّة الاصلاحيّة، متجاوزة كلّ الخلفيات الاُخرى،

____________________

(1) أقول: إنّ الإمام عليّعليه‌السلام أنزله الدهر حتّى أضحى يشرط عليه سفالة العرب شروط خلافة الاُمّة.

١٩٦

فهي الفئة الحضاريّة الوحيدة التي تميّزت منطلقاتها في الرّفض، وهي الفئة المعارضة في زمن الخليفتين أيضاً، وتتشكّل من آل البيتعليهم‌السلام بقيادة الإمام عليّعليه‌السلام ، وقوم لهم سابقة في الإسلام وممّن أخلص الصحبة، منطلقهم هو الاصلاح عبر تحقيق الإمامة، ويشهد التاريخ بأنّهم ظلّوا مخلصين لهذا التوجّه، ومات كثير منهم في هذا الخطر. وكان عمّار بن ياسر منذ البداية مع الإمام عليّعليه‌السلام ، ومن الذين رفضوا بيعة أبي بكر، واستمرّ رافضاً بيعة عمر إلاّ قهراً، ورفض بيعة عثمان، وما زال ضدّه حتّى قُتل، واستمرّ كذلك حتّى استشهد في صفّين، حيث يقاتل في جيش الإمام عليّعليه‌السلام (1) .

هؤلاء كانوا هُم روّاد الاصلاح في المجتمع الإسلامي، فكانوا ينطلقون من هذه الخلفيّة، بيد أنّ ذلك لا يمنعهم من توظيف الحالة الاجتماعيّة في خطّ التحريض على الانقلاب. وكان هؤلاء يتحرّكون على صعيدين، الأوّل: توفير عوامل الهدم من خلال زرع قناعات سلبيّة تجاه حكومة عثمان. الثاني: توفير عوامل البناء من خلال الطرح الإيجابي، وهو الدعوة إلى خطّ آل البيتعليهم‌السلام .

ذكر ابن أبي الحديد: أنّه تكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة أثناء مشاورات السّتّة بعد مقتل عمر، وقام عمّار فقال: أيّها النّاس، إنّ الله أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟! فقال رجال من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. وذكر: أنّ المقداد قال في نفس المقام: تالله، ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، واعجباً لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحد أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه! أما والله، لو أجد أعواناً. فقال عبد الرّحمن: اتّقِ الله يا مقداد؛ فإنّي خائف عليك الفتنة.

____________________

(1) ونحن نتسأل، ما السّر وراء هذا الالتزام بخطّ عليّعليه‌السلام من قبل صحابي كبير، وابن أوّل شهيدين في الإسلام؟ فهل هناك قرابة تشدّهما أو مصالح دنيئة تجمع بينهما؟

١٩٧

لقد كان هؤلاء وأمثالهم يمارسون نمطاً من التحرّك، يجمع بين نقد الواقع وتحريض النّاس، وبين الدعوة إلى خطّ آل البيتعليهم‌السلام . فآخذت هذه الفئة عثمان على قضايا كثيرة تتجاوز في أهمّيتها واقع التّفاوت الطبقي والعشائري؛ لتحاكمه على قضايا دينية وعقيدية محضة، ومن جملة ما أحصته عليه:

(1) عدم إقامته الحدّ على قاتل الهرمزان وأبي لؤلؤة وامرأته وطفلة صغيرة، ولم يستجب للقضاء الشّرعي الذي صدر يومها عن الإمام عليّعليه‌السلام ، وهو الحكم الوحّيد الذي ينسجم مع الشّريعة الإسلاميّة.

(2) استرجاع الحَكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نفاه ورفض عليه البقاء فيها، كما أثبت المؤرّخون. وقد ذكر الواقدي: أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: «لا تساكنّي في بلد أبداً». فجاء عثمان فكلّمه فأبىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ كان من أبي بكر مثل ذلك، ثمّ كان من عمر مثل ذلك.

(3) ضربه عمّار بن ياسر، وكذلك بن مسعود حتّى كسر ضلعه بعد أن عزله وقطع عليه العطاء.

(4) نفيه أبا ذر الغفاري إلى الرّبذة.

(5) مصادرته فدك من بني فاطمة الزهراءعليها‌السلام وإقطاعها مروان.

(6) جعله الإمارة دولة بين أقربائه، وعزله الصحابة الكبار عنها.

(7) حرقه للمصاحف(1) .

____________________

(1) الغريب في الأمر، أنّ البعض أوّلها تجنباً للفتن وتعدّد القراءات وما أشبه؛ بيد أنّ التاريخ يؤكّد أنّ عثمان ركّز مثلاً على مصحف ابن مسعود، وهذا صحابي من حفّاظ القرآن وقرأته، فكيف يكون مصفحه فتنة؟ اللّهمّ إلاّ أنّ عثمان يخشى أن يكون في مصحف بن مسعود تأويلات من جنس ما لا يتّفق مع مصلحته.

١٩٨

(8) تأميره الطلقاء على المسلمين واستشارتهم، وإهمال مشورة الصحابة الكبار.

كانت هذه باختصار هي الفئات الرّئيسة للتمرّد. والدّليل على ذلك أنّها تفرّقت وجهاتها بعد مقتل عثمان، فمنهم من أكمل الدّرب على نهج الاصلاح منضوياً تحت راية الإمام عليّعليه‌السلام ، ومنهم من راح يلتمس له أسباب الغنى، وآخرون اكتفوا بمقتل عثمان كانتقام للحالة العشائريّة، وكان الصنف الذي يبحث عن المال، قد رجع وانخرط في جيش معاوية فيما بعد فنال بذلك ثمن الرّدة والنّفاق من عطاء أهل الشّام.

كانت خلافة عثمان منذ البداية مهندسة على هذا الشّكل، وهو أن يستفيد القدر الممكن من الخلافة، ثمّ يسلّمها على غرار سابقيه إلى صهره عبد الرّحمن بن عوف لتبقى دولة بين عصابة من زهرة وابن أبي معيط وبني اُميّة، والإمام عليّعليه‌السلام سرعان ما أدرك اللعبة وهو يقول - بعد أن انزاحت الخلافة عنه -: «ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبرٌ جميلٌ واللهُ المستعان على ما تصفون. والله، ما ولّيتَ عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك»(1) .

بقي عثمان حريصاً على مخطّطه، كيف لا وعبد الرّحمن بن عوف هو الذي سلّمها إيّاه، ولم يكن ليسلّمها له لولا أنّه عرف نفسه غير مرغوب فيه. ويبدو أن عثمان أراد أن يستجيب للوعد ولكنّه خاف على نفسه، ولم يستطع الوفاء بوعده لعبد الرّحمن، فربما تغيرت وجهة نظره، فرأى أن يسلّمها لواحد من أقربائه.

كتب له حمران - مولاه - فأنكر عليه شيئاً، فنفاه إلى البصرة، فلم يزل بها حتّى قُتل عثمان. ويذكر مسكويه في تجاربه، سبب سقوط هذا الكاتب من عين عثمان وسبب نفيه إيّاه، فقال: إنّ عثمان اشتكى شكاة، فقال له: أكتب العهد بعدي لعبد الرّحمن بن عوف. فانطلق حمران إلى عبد الرّحمن بن عوف، فقال له: البشرى.

____________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 71.

١٩٩

فقال: لك البشرى، فماذا؟ فأخبره الخبر، فصار عبد الرّحمن إلى عثمان، فأخبره بما قال حمران، فقلق عثمان وخاف أن يشيع، فنفاه لذلك. ربما غيّر وعده ولذلك لا بدّ لعبد الرّحمن بن عوف أن ينتقم، ولكن تحت غطاء آخر.

يذكر التاريخ: أنّ عبد الرّحمن انقلب بعد ذلك على عثمان، لمّا رآه أخلف الوعد وانحاز إلى عشيرته. وليس هذا الوعد بسيرة الشّيخين، فعبد الرّحمن منذ البداية يعرف أنّ تقريب عثمان لعشيرته أمر وارد وحقيقي، وعمر بن الخطّاب نفسه قال ذلك أمامهم، يروى عن ابن عباس أنّه قال: فقلت: عثمان بن عفان؟ قال - يعني عمر -: إن ولي، حمل ابن أبي معيط وبني اُميّة على رقاب النّاس وأعطاهم مال الله، ولن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتّى تقتله في بيته. ثمّ سكت(1) .

وحتّى نستطيع فهم طبيعة الخلاف بين عثمان وعبد الرّحمن بن عوف، لا بدّ أن نفرض سؤالاً: كيف تتحوّل المودّة بين عشيّة وضحاها إلى عداوة قاتمة؟ لعلّ السّبب هو هذا العهد، لقد روي أنّ عثمان اعتلّ علّة اشتدّت به، فدعا حمران بن أبان وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثمّ كتب بيده: عبد الرّحمن بن عوف. وربطه، وبعث به إلى اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق، فأتى عبد الرّحمن فأخبره، فقال عبد الرّحمن وغضب غضباً شديداً: استعمله علانية ويستعملني سرّاً. ونما الخبر وانتشر بذلك في المدينة، وغضب بنو اُميّة، فدعا عثمان بحمران - مولاه - فضربه مئة سوط وسيّره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرّحمن بن عوف(2) .

نعم، لقد استعمله علانية، وبذلك استطاع أن يثبته في الخلافة، غير أنّ عثمان

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 158.

(2) اليعقوبي 2 / 169، دار صادر.

٢٠٠