لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49904
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49904 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فعل ذلك سراً، وعلم عبد الرّحمن إنّ العهد سرّاً بالخلافة لا يمكنه من ركوبها، إنّه يريد منه علانية على غرار عمر وأبي بكر، فلمّا أحسّ بذلك، علم أنّ عهده قد نكث، فعاداه هذه العداوة التي ستنتهي إلى التفكير في الانتقام، كيف لا، وعبد الرّحمن بن عوف قد زهد في كلّ شيء وغامر بكلّ مكتسباته ليثّبت عثمان؟! لقد أفسد علاقته مع عليّعليه‌السلام وشيعته، وسقط من أعين الصحابة الكبار؛ لذلك سيحاول عبد الرّحمن استدراك الخطيئة ليتقرّب إلى عليّعليه‌السلام من جهة، ويسقط عثمان من جهة اُخرى، وقد تحيّن الفرص كلّها من أجل إسقاط عثمان، حتّى إذا كان وفاة أبي ذر في الرّبذة، استغلّها كورقة سياسيّة ودينيّة في نعي عثمان.

يروي الواقدي: لمّا توفّي أبو ذر بالرّبذة، تذاكر عليّ وعبد الرّحمن فعل عثمان، فقال عليّعليه‌السلام له: «هذا عملك». فقال عبد الرّحمن: فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إن خالف ما أعطاني. وهذه: أعطاني. تدلّ على أنّ عبد الرّحمن صادق وذكيّ لمّا قالها في صيغة المجهول، فأعطاني، أي: وعد الخلافة.

أمام هذا الواقع المتموّج بالرّفض والتمرّد، كان لا بدّ لعثمان أن يسلك نهجاً سياسياً يقيه من ضربات المعارضة ويجنّبه خطر السّقوط، فما هي الإجراءات التكتيكية التي اتّخذها عثمان لتطويق حالة الرفض الاجتماعي؟ لسنا طبعاً مثل طه حسين لمّا حرص على إيجاد المبرّرات التاريخيّة للفتنة الكبرى، قال: إنّهم معذورون؛ لأنّهم لم يعرفوا حتّى ذلك الزمان معنى الدستور.

أقول: إنّ السّيطرة على الظلم في مجتمع بسيط، هو أسهل بكثير منه في مجتمع مدني معقّد، وممارسة العدالة كانت منذ غابر العصور فضيلة تذكر في الاُمم، بل إنّ العدل كان يمارس كفضيلة أخلاقيّة إلى جانب كونه قيمة حقوقية. ومن جهة اُخرى، فإنّ السّياسة حتّى في زمن عثمان، لم تكن تمارس بسليقة اجتماعية - كما يتصوّر البعض -، إنّما كانت تمارس بتخطيط مُحكم، والمستشارون الذين اعتمدهم عثمان، كانوا من دهاة العرب، والسّترجة العثمانية في تحجيم دائرة الرفض وتوفير التهدئة الضروريّة، كانت تتجسّد في ثلاثة مسالك:

٢٠١

المسلك الأوّل:

تحقيق نوع من الإفراط والتّضخيم في النّشاط البرّاني للمجتمع الإسلامي؛ إذ أنّ سياسة تصدير الأزمات، وبالتالي الاهتمامات إلى الخارج، ليس وليد السّياسة المعاصرة؛ بل هي قديمة قدم الاجتماع البشري، ومنذ نشوء السّلطة في المجتمع الإنساني، وهي السّياسة التي تفوّت الاهتمام بالداخل إلى قضايا الخارج، وتوجيه الهمّ المجتمعي إلى أزمات الخارج، ومن ذلك الحروب التي تخلقها بعض الدول لتصرف أنظار المجتمع إلى الجبهات، وبالتّالي تتجنّب الاضطرابات في الداخل.

وكان عثمان بن عفان حريصاً على خلق واقع من النّشاطات البرّانية؛ ليبعد الأنظار عن سياسته ومفاسده الداخلية، فشجّع الفتوحات وألهى بها المسلمين. والتاريخ يثبت أنّ الفتوحات التي كانت تجري في هذا العصر وما بعده، لم تكن ذات هدف ديني خالص، بقدر ما كان العامل التجاري والاقتصادي حاضراً فيها، فكانت الفتوحات تفيض عليهم بالغنائم النّفيسة، ولم تكن الأمصار محطّ اهتمام ديني بقدر ما كانت مستوطنات لبني اُميّة، يشيّدون فيها قصورهم، ويكرّسون فيها مظاهر الفساد. إنّ عمليّة إلهاء الجماهير الإسلاميّة وإشغالها بالحروب، يلغي الخلفيّة الإسلاميّة السّلميّة لحركة الفتح.

لقد اشتدّت حدّة التمرّد وعمّ الاضطراب في الداخل والخارج، وتداول المسلمون قضايا المفاسد وتناقلوها فيما بينهم، وبدأت سلطة عثمان تدخل شيئاً فشيئاً نفق الانهيار، في تلك الأثناء، جمع هيئته الاستشارية من الطلقاء وضعاف الإيمان؛ ليتباحث معهم شؤون الدولة وأوضاع المجتمع، والكيفيّة التي يتخلّص بها من المعارضة، جمعت الهيئة كلاّ من: معاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وغيرهم.

فقال عثمان: إنّ لكلّ امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع النّاس ما رأيتم، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا لي رأيكم ثمّ أشيروا عليّ.

٢٠٢

فقال عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين: أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم، إلاّ نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته(1) .

وعليه فإنّ حركة الفتوح لم تعد هدفاً رساليّاً مقدّساً كما كانت على عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل تحوّلت إلى أسهم في بورصة الجهاد؛ إذ لمّا كان عثمان قد ولّى عبد الله بن عامر البصرة، وولّى سعيد بن العاص الكوفة، كتب إليهما: أيّكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، فأتى دهقان من دهاقنة خراسان إلى عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن حازم السّلمي على مقدّمته... الخ(2) .

وقد كثرت الفتوح التي قادها ضعاف الإيمان، فُتحت هراة ومرو الرّوذ، ثمّ الطالقان والغارياب وطخارستان، وأرمينية وجرزان... وكان عثمان قد بعث بجيش وجعل معاوية أميراً لهم على الصائفة في سنة (32 هـ)، فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية وفتحوا فتوحاً كثيرة(3) .

لم تكن حكومة عثمان تهيّء برنامجاً تثقيفيّاً للبلدان المفتوحة، بل كانت جيوشه تكتفي بإخضاع البلدان إلى الاستسلام، ثمّ نهب ثرواتها ثمّ الافساد فيها. والتواريخ تطفح بالأخبار عن عمّال عثمان ولهوهم وعبثهم في الإمارات(4) ،

____________________

(1) تجارب الاُمم، مسكويه 8 / 273.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 116 - 167.

(3) نفس المصدر.

(4) حتّى يذكر أنّ الوليد أصبح وهو سكران وصلّى بالنّاس الفجر أربع ركعات.

٢٠٣

غير أنّ الخطّة التي دبّرها عثمان لتحجيم المعارضة لم تنجح؛ لأنّ فئات التمرّد لم تكن واحدة، بل هي مختلفة تماماً، ولكلّ واحدة خلفياتها في التحرّك، فهناك إلى جانب تلك الفئات، فئة تتحرّك في ضوء هدف ثابت، هو إسقاط عثمان والخلافة، وإعادة الأمر إلى أهله من آل البيتعليهم‌السلام ، وهؤلاء لم تلههم الفتوحات؛ لأنّهم لم ينشغلوا بغنائمها، وعليه فإنّ عثمان كان هو نفسه مضطراً إلى سلوك أكثر من خطّة في القمع السّياسي، فكان حتماً أن يسلك مسلكاً آخر.

المسلك الثاني:

اُسلوب القمع والتصفية المنهجية للمعارضة. وكان هذا ثاني اُسلوب لجأ إليه عثمان بعد أن أفلس اُسلوبه الأول، ولم يحقق إلاّ نتائج وقتية، وهذا المسلك يقضي بتتبع آثار المعارضة والقبض على رموزها، واتخاذ الإجراءات العنيفة ضدّهم، وبكسر شوكة قيادات التمرّد تنكسر عصا التمرّد كلّه، وكانت هذه الخطّة في بداية المشاورات من وحي سعيد بن العاص، إذ لمّا جمعهم عثمان والتمس آراءهم حول مسألة التمرّد قال له سعيد: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل واعمل برأيي. قال: وما هو؟ قال: إنّ لكلّ قوم قادة، متى تهلك، تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر. قال عثمان: إنّ هذا الرّأي لولا ما فيه(1) .

كانت هذه الخطّة أقرب إلى الحسم من الخطّة الأولى، غير أنّها مكلفة؛ لأنّ فيها مواجهة مباشرة بين عثمان وعصابة بني اُميّة وكبار الصحابة المتمرّدين. وأدرك عثمان أنّه من الصعب أن يتّخذ إجراءات حاسمة ومباشرة ضدّ هؤلاء المهاجرين، إلاّ أنّه يفقد أحياناً توازنه فيسلك فيهم مسلكاً قمعياً، فتزيد شقّة التمرّد اتّساعاً.

____________________

(1) تجارب الاُمم لمسكويه 1 / 272.

٢٠٤

وكان من مصلحة عثمان أن يلجأ إلى قتل عليّ وطلحة والزبير فيما لو أطاع معاوية(1) ، لكنّه رأى أنّ ذلك سيؤجّج الوضع أكثر ممّا يخمده، فكان عثمان يبعث بالمعارضين وينفيهم إلى الشّام؛ حيث معاوية يذلّهم ويربّيهم على الالتزام والصمت(2) .

كانت المعارضة تشتمل - كما سبق أن ذكرنا - مجموعة فئات، والفئة المركزية كانت تتألّف من عليّعليه‌السلام وكبار الصحابة، وحيث إنّ عثمان لم يستطع تطبيق عقوباته على اُولئك الكبار بمركزيّتهم الدينيّة والعشائريّة في المجتمع، فإنّه لجأ إلى تفريغ جام غضبه على فقرائهم وضعافهم.

لقد عجز عثمان عن معاقبة الإمام عليّعليه‌السلام ؛ لأنّه يدرك إنّ ذلك قد يثير عليه المشاكل ويدخله في المآزق؛ لأنّ الإمام عليّعليه‌السلام لم يسكت يومها لضعف فيه أو لعجز اعتراه، وإنّما حفاظاً على تماسك المجتمع، أما وإنّهم ليعلمون أنّه أسد في عرينه، لذلك اكتفى عثمان بشكايته إلى عمّه العبّاس - حسب البلاذري بإسناده عن ابن عباس -: إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العبّاس، فقال له: يا خال، إنّ عليّاً قطع رحمي وألّب النّاس ابنك. ومثل ذلك كان موقفه من محمّد بن أبي بكر لمكانته من أبيه واُخته، وكذلك محمّد بن أبي حُذيفة لمكانته من قريش، رغم ما أثاروه عليه في مصر ومضايقتهم عامله فيها عبد الله بن سعد.

إلاّ أنّ عثمان لم يسلك نفس الطريق مع ضعاف المعارضة الذين ليست لهم قرابة تأويهم ولا عشيرة قويّة تظلّلهم، وبعد أن ضاق بمعارضتهم المستمرّة بدأ عثمان ينهج اُسلوبه القمعي، فالظروف لم تعد تسمح له بتوقير الصحابة، فبدأ إجراءاته بابن مسعود.

كان هذا الأخير والياً على الكوفة منذ عمر(3) ،

____________________

(1) راجع ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء.

(2) كما فعلوا بمن تمرّد من أهل السّواد على سعيد بن العاص، الذي [ أراد ] أن يسلبهم أرضهم.

(3) وكان في البداية وليّه على الشّام، ثمّ نقله إلى الكوفة وأوصى النّاس أن يتبعوه.

٢٠٥

وتولّى في عهد عثمان بيت المال في الكوفة في إمارة سعد بن أبي وقّاص، وبدأت الأزمة مع عثمان لمّا ولي الوليد بن عقبة، حيث استقرض من بيت المال، فلمّا جاء الأجل، رجع إليه ابن مسعود، فراح يتهرّب من الأداء، فأصرّ عليه ابن مسعود، فشكاه الوليد إلى عثمان، وكتب عثمان إلى ابن مسعود: إنّما أنت خازن لنا، فلا تعرض الوليد فيما أخذ من بيت المال. فغضب ابن مسعود واعتزل، وكانت تلك بداية الخلاف بين الرجلين.

وحيث إنّ ابن مسعود اعتزل إلى التعليم والتدريس وكان له مصحفه الخاص، فإنّ عثمان كان قد طلب منه مصحفه ليحرقه، وقد رفض ابن مسعود بدعة عثمان في حرق المصاحف ككل واعتماد مصحفه الوحيد، وابن مسعود كان يرى نفسه أحفظ لكتاب الله وأعلم به من عثمان وعصابته، والسّيرة تشهد له بذلك، فأبى أن يسلّم مصحفه، ونعى ذلك على عثمان. ولمّا كتب الوليد إلى عثمان بخصوص ابن مسعود وطعنه فيه، طلب منه إحضاره إلى المدينة، فلمّا رآه عثمان وكان يخطب من على المنبر، قال: ألا إنّه قد قدمت عليكم دويبة سوء، مَن يمشي على طعامه يقئ ويسلح.

فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكنّي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ أمر عثمان به، فاُخرج من المسجد عنيفاً، وضرب به الأرض فدّقت ضلعه، فلامه عليّعليه‌السلام على ذلك، وقال له: «تفعل هذا بصاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قول الوليد؟!». فقال عثمان: ما من قول الوليد فعلت هذا، ولكنّي أرسلت زبير بن كثير فسمعه يحلّ دمي. قال عليّعليه‌السلام : «زبير غير ثقة».

بقي ابن مسعود غاضباً على عثمان حتّى مات، وأمر أن لا يصلّي عليه، فدفن سرّاً، وقام بجنازته عمّار بن ياسر - كما سبق أن ذكرنا -.

وكان عثمان قد قطع العطاء عن ابن مسعود، حتّى لمّا مرّ بابن مسعود أحسّ عثمان بالذنب، أتاه يطلبه، قال: ما تشتهي؟ قال له ابن مسعود: رحمة ربّي. قال عثمان: هل أحضر لك طبيباً؟ قال ابن مسعود: الطبيب أمرضني. فقال له عثمان: أردّ عليك عطاءك؟ فقال: حبسته عنّي حين احتجت إليه، وتردّه إليّ حين لا حاجة لي به؟! فقال عثمان: يكون لأهلك. فقال ابن مسعود: رزقهم على الله. قال

٢٠٦

عثمان: فاستغفر لي يا أبا عبد الرّحمن. قال ابن مسعود: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقّي.

ولم يكن ابن مسعود هو أوّل وآخر من سلك فيهم عثمان سياسة القمع، فهناك عمّار بن ياسر الذي طالما تمرّد وتمرّد على عثمان وزمرته. وكان عمّار رغم ضعف عشيرته ذا مركز اجتماعي كبير، منحته إيّاه سابقيته وبلاؤه مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان - كما سبق القول - ميزاناً للحقّ والباطل(1) . وكذلك حرص عثمان أن لا يمارس عليه القمع مثل ما فعل بالآخرين، غير أنّ التصعيد الثوري فرض عليه خيار القمع المضاد للتمرّد.

ويذكر البلاذري في أنساب الأشراف: أنّ عثمان أخذ جواهر من بيت المال، فحلّى به بعضاً من أهله، فغضب النّاس، فخطب فقال: لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفئ، وآن رغمت أنوف أقوام. فقال له عليعليه‌السلام : «إذن، تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه». وقال عمّار: أشهد الله أن أنفي أوّل راغم من ذلك. فقال عثمان: أعليّ يابن المتكاء تجترئ؟! خذوه. فاُخذ، ودخل عثمان فدعا به فضربه حتّى غشي عليه. وما زال عمّار في مناوئته لعثمان ومعارضته لسياسته حتّى قُتل.

كما استمر عثمان في ملاحقة المعارضة ورموزها، وفي تلك الأثناء كان بالشّام أحد كبار الصحابة وطلائع الرسالة، وهو أبو ذر الغفاري (رض)، وقد كان رجلاً ثوريّاً لم تثنه لومة ولا ثناء عن نصرة الرّسالة، وقد قال عنه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء رجلاً أصدق ذي لهجة من أبي ذر»(2) . ولذلك لمّا رأى عثمان بالمدينة يقرّب أبناء عشيرته ويكثر لهم في العطاء من بيت مال المسلمين، رفع صوته عالياً:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (3) . فضاق عمّال عثمان وأقرباؤه بهذا الشّعار، فشكاه مروان بن الحكم إلى عثمان، فأرسل إليه عثمان، فردّ عليهم أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب مَن ترك أمر الله؟! لأن اُرضي الله بسخط عثمان، أحبّ إليّ من أن أرضي عثمان بسخط الله.

____________________

(1) ورد في الحديث ابن سمية، تقتله الفئة الباغية.

(2) وفي حديث: يبعث أبو ذر اُمّة وحده.

(3) سورة التوبة / 34.

٢٠٧

وعندما احتد الصراع بين أبي ذر وعثمان وحدّت لهجته أمام كعب، أمره عثمان بالالتحاق بالشّام، وتلك كانت جزءاً من الخطّة التي اعتمدها عثمان في نفي الصحابة إلى الشّام؛ ليذّلهم بمعاوية بعيداً عن الأنظار.

غير أنّ أبا ذر أصدق لهجة من أن تحتويه (ديماغوجية) معاوية بن أبي سفيان؛ لذلك أفشل مخطّط عثمان، فكاد يفجّر الأوضاع على معاوية في الشّام؛ حيث استمر على ذات الشّعار، وانتقد معاوية انتقاداً جذرياً، إذ قال له - بعد استنكاره بناء الخضراء -: إنّه إن كنت بنيتها بمال المسلمين، فقد خنتهم، وإن كان ذلك من مالك، فهو إسراف. وفي كلتا الحالتين يكون سلوك معاوية منحرفاً عن خطّ السّياسة الإسلاميّة، فكان يجتمع حوله النّاس ويصغون، وعزّ على معاوية أن يفقد مكتسبات سنوات من التربية الاُمويّة للشام، فكتب إلى عثمان يستنجده من أبي ذر، فطلب منه عثمان أن يشخصه إليه في أغلظ مركب وأوعره، فلمّا حضر المدينة، لم ينته عن أن يصدع بالحقّ في وجوه الفئات الأرستقراطيّة الاُمويّة، واستمر في مهمّة التحريض، وكان من مصلحة عثمان والاُمويّين أن لا يبقى أبو ذر في المدينة ولا في الشّام، ولا في أيّ أرض يكثر فيها النّاس، فنفاه إلى الرّبذة، حيث لبث فيها إلى أن مات. وتذكر التواريخ: أنّه لم يجد إلاّ عابري سبيل دفنوه، بعد أن عجزت زوجته عن ذلك.

هذا هو النّهج القمعي الذي مارسه عثمان مع أقرب رجالات الصحابة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرع فيهم شهادة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا مودّته لهم، بل جنّ جنوناً لم يعد يعترف إلاّ بمصلحته وأقربائه.

وفي نفس الوقت الذي فعل ذلك بالصحابة الكبار الذين تمسّكوا بخطّ الرّسول وآل بيته، كان يغدق في العطاء للطلقاء من أقربائه، فلقد طرد أبا ذر إلى الرّبذة - أحد حواري الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - وأعاد من المنفى خصم رسول الله الحكم بن العاص، وقطع العطاء على ابن مسعود ووسع في الإمارة لمعاوية بن أبي سفيان، واغتصب فدكاً من ولد فاطمة الزهراءعليها‌السلام وأقطعها مروان، ورفض قضاء عليّعليه‌السلام بخصوص عبيد الله بن عمر وقبل قضاء عمرو بن العاص فيه.

وكان عمّار بن ياسر قد حزن لمّا سمع بموت أبي ذر، وأفصح عن عواطفه تجاهه، فلمّا رأى منه عثمان ذلك، ظن أنّه يوجّه إليه

٢٠٨

اللوم، فغضب عليه عثمان وأمره بالذهاب إلى الرّبذة، فغضب بني مخزوم وكذا الإمام عليّعليه‌السلام ولاموا عثمان، فقال هذا الأخير لعليّعليه‌السلام : ما أنت بأفضل من عمّار، وما أنت أقلّ استحقاقاً للنفي منه. غير أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن إلى هذا المستوى من الضعف، ولعلّ عثمان اغترّ بنفوذ حكمه العشائري، غير أنّ عليّاًعليه‌السلام ردّ عليه: «رم ذلك إن شئت». وتوسّط المهاجرون إلى عثمان ولاموه جميعاً، فلم يتّخذ إجراءاته في حقّ عمّار ولا عليّعليه‌السلام .

وهذا النّهج الذي سلكه عثمان في كبت الرّأي، واستضعاف الكلمة الرّساليّة، وإسقاط مركزيّة الصحابة، ورفع وتوسيع نفوذ بني اُميّة، لم يكن ليقضي على شعلة الإسلام في نفوس الفئة الاصلاحيّة، ولم يكن القمع يخيف قوماً قام على أكتافهم الإسلام، وخاضوا أشرس الحروب وأضراها، وقدّموا مهجهم في سبيل نصرة الرّسالة، لم تكن هذه الأساليب الطاغوتيّة، لترد فئة بايعت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة الرّضوان على أن لا تفرّ الزّحف، وعلى بذل الغالي والنّفيس في رفع راية الإسلام، ولذلك ازداد التمرّد وازداد النّاس بصيرة في عثمان وأهله، وكان عثمان يقاتلهم قتال من يحرص على ملكه، لا مَن يهدف خلافة الرّسول في مسؤولية الاُمّة. لكن عثمان رغم ذلك، لم ييأس في محاولاته لمحاصرة المدّ الثوري، فراح يطبّق خططه الاُخرى مع خططه الأولى، ومن ذلك:

المسلك الثالث

كان هذا المسلك هو التخفيض من الاتجاه الأيديولوجي الإسلامي للمجتمع، بحيث لا تبقى روح الإسلام تغزو كلّ قلب، ممّا يجعل النّاس يشعرون بالمسؤولية تجاه مفاسد السّلطة؛ لأنّ تعاظم الأيديولوجية الإسلاميّة في نفوس المجتمع، هي التي تخلق حالة من اليقظة والرقابة فيه.

وحاول أن يسلك طريق التمييع للمجتمع عبر وسيلتي التفقير والإغناء، التفقير للعناصر المتمرّدة عشائرياً، والإغناء للفئات المتمرّدة دينياً واقتصادياً، الأولى بمقتضى: جوّع كلبك يتبعك. والثانية بمقتضى: اشتر صمت عدوّك بالمال؛

٢٠٩

لذلك لجأ إلى إغراق المجتمع في الحاجة والتطلّب المادي.

كان رأي عثمان أن يشرك الفئة المتمرّدة من كبار الصحابة في العطايا. كما استوحى فكرة الانحراف بالمال، على الفئة المتمرّدة اقتصادياً، من عميله عبد الله بن سعد، حيث لمّا استشاره من بين مستشاريه، قال: يا أمير المؤمنين، النّاس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم(1) .

ويذكر مسكويه في تجاربه: إنّه تمّ فعلاً تطبيق هذه الخطّة بأشملها، فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير النّاس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجّوا إليه، وردّ سعيد بن العاص أميراً على الكوفة(2) .

وكان أوّل ما منع عثمان عطاء ابن مسعود - كما تقدّم - ومكّن للزبير وطلحة وعبد الرّحمن بن عوف...، فكانوا من أثرياء العرب يومها، وحاول ذلك مع اُناس كثير فرفضوا إغراءه. وكان محمّد بن أبي حُذيفة ممّن ألّب عليه بمصر، وأرسل عثمان على أثر ذلك بمال وكسوة، فرفض الفتى ذلك في المسجد، وقال: انظروا يا معشر المسلمين إلى عثمان، يريد أن يخدعني عن ديني بالرّشوة. وقد سبق لعثمان أن عزل عبد الله بن الأرقم، أو بالأحرى هو استقال لمّا ادّعى عثمان إنّه خازن لبيت أهله، وأعطى المفاتيح بعده لزيد بن ثابت.

ويروي الواقدي: أنّ عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمئة ألف درهم، فلمّا أدخل بها عليه، قال له: يا أبا محمّد، إنّ الأمير عثمان أرسل إليك يقول: إنّا قد شغلناك عن التجارة، ولك رحم أهل حاجة، ففرّق هذا المال فيهم، واستعن به على عيالك.

فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه حاجة، وما عملت لأن يثيبني عثمان، والله،

____________________

(1) مسكويه في التجارب 1 / 272.

(2) نفس المصدر، وكذلك ذكره الطبري.

٢١٠

إن كان هذا المال من بيت مال المسلمين، ما قدر عملي أن اُعطى ثلاثمئة ألف، ولئن كان من مال عثمان، ما أحبّ أن أرزأه من ماله شيئاً. وما في هذه الاُمور أوضح من أن يشار إليه وينبّه عليه. هذه باختصار هي السّياسة الماليّة غير المتوازية التي كان يسلكها عثمان، ففئة يرى تفقيرها بمنع العطاء عنها، وفئة اُخرى يرى إغراءها بالأموال، أمّا أقرباؤه، فقد أثبت ملكهم بأن وسّع عليهم توسيعاًَ.

كانت هذه السّياسة في مجملها كالسّحر إذ ينقلب على السّاحر، وكان على بني اُميّة أن ينقضّوا على الحكم كلّه، فعثمان رجل مهما كان فهو أضعف في رأي الاُمويّين من معاوية، وسياسة معاوية تقضي بتقتيل المعارضة، وهذا ما رفضه عثمان لأسباب معيّنة.

كان موقف معاوية أن يقتل المعارضين، فأبى عثمان ذلك؛ خوفاً من استفحال الأزمة، وطلب منه معاوية أن يصطحبه إلى الشّام، حيث يدافع عنه برجاله، فأبى عثمان. قال معاوية لعثمان غداة ودّعه: يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشّام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشّام على الأمر لم يزولوا. فرفض عثمان، فطلب منه أن يبعث إليه جنداً منهم يقيمون بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت. فرفض عثمان، قال له معاوية: والله يا أمير المؤمنين، لتقاتلنّ ولتغزين. فقال معاوية: يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور؟ ثمّ خرج(1) .

عرف معاوية أنّ الأمر يسير هذه الوجهة، فعليه أن يقوّي جيشه ليستعدّ

____________________

(1) تجارب الاُمم وكذا الطبري، وفي لفظ هذا الأخير: لتغتالنّ ولتغزينّ.

٢١١

للمستقبل القريب.

لقد عزّ عليه أن يرى ابن قرابته تتوزّعه سيوف القوم، غير أنّ الملك عقيم وهو أغلى، وحيث إنّ الأمر لا محالة كذلك، فإنّ معاوية سيجمع بين الأمرين إن يترك الأمر إلى ما بعد قتل عثمان؛ ليضرب العصفورين بحجر؛ ليركب الانتقام لعثمان من أجل الاستيلاء على الحكم.

٢١٢

مقتل عثمان... الأسباب والملابسات

ما يحاول أن يكرّسه مؤرّخة البلاط، هو أنّ عثمان قُتل من قبل خوارج الاُمّة، وأنّ عصابة من السّبائيّة كاتبت أهل الأمصار للمجئ إلى المدينة حتّى ينظروا في ما يريدون. فماذا عسانا أنْ نقول؟ أبعد كلّ ما جرى يكون عثمان مظلوماً؟ وهل إذا لم يكن التوزيع الطبقي والعشائري لمال المسلمين، حمل بني اُميّة على رقاب المسلمين ظلماً؟ فكيف ترى يكون الظلم؟ كيف؟! كيف؟!

الواقع إنّ عثمان قُتل في ثورة شعبيّة عارمة؛ سببها الفساد الذي بدأ يتهدّد المجتمع ووصل في فترة عثمان إلى قمّة هرمه، والذين شاركوا في قتل عثمان ليسوا على كلّ حالة زنادقة، ولم يكونوا مجهولين حتّى يُقال عنهم مجوسيّون أو خارجيّون، بل كانوا كثيرين إلى درجة يستحيل فيها تجاهلهم. ومن بين اُولئك الذين أقاموا الحدّ الثّوري على عثمان ابن أبي بكر، الذي تحوّل فيما بعد إلى أقرب النّاس للإمام عليّعليه‌السلام ، وفيهم طلحة والزبير، وفيهم محمّد بن أبي حُذيفة، وغيرهم من الصحابة.

إنّه ليس في وسع الباحث إلاّ أن يعترف بهذه الحقيقة من دون التواء، وقد اعترف بها جميعهم، يقول سيّد قطب: وأخيراً ثارت الثائرة على عثمان، واختلط فيها الحقّ بالباطل والخير

٢١٣

بالشّر، ولكن لا بدّ لمن ينظر إلى الاُمور بعين الإسلام، ويستشعر الاُمور بروح الإسلام، أن يقرّر أنّ تلك الثورة في عمومها كانت فورة من روح الإسلام، وذلك دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ عليه لعنة الله(1) .

الله الله يا سيّد! ما عهدنا عليه هذه السّذاجة؛ إنّه مع اعترافه بحقيقة الأوضاع، لا يزال متشبّثاً بأيديولوجية عبد الله بن سبأ، وكيف لا يتشبّث بها وهو يأخذ كلّ مسلّمات التاريخ الإسلامي المصطنع. إنّه يعترف أنّ الثورة كانت فورة من روح الإسلام، إنّه اعترف أيضاً رحمه الله: مضى عثمان إلى رحمة ربّه، وقد خلّف الدّولة الاُمويّة قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض، وبخاصّة في الشّام، وبفضل ما مكّن للمبادئ الاُمويّة المجافية لروح الإسلام، من إقامة المُلك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع، ممّا أحدث خلخة في الرّوح الإسلامي العام. لا بدّ إذاً من استحضار مجريات الثّورة وملابسات المقتل، ومن قتل؟ وكيف؟ ولماذا؟

إنّ استحضار المشهد بكلّيّته حريّ بأن يعطينا فكرة واضحة عن حقيقة الحدث، ذلك الحدث الذي ظلّ يعرض علينا مجرّداً من ملابساته، وتحت غمام كثيف من التلفيق والبكاء الأيديولوجي المصحوب بتزييفات ومبرّرات مشؤومة. ولكي نكون شجعاناً في قراءة التاريخ والإخلاص للحقّ والمعرفة، لا بدّ أن ندخل الحدث من باب التاريخ لا من باب الترجمات الأسطوريّة.

كان أصل الثّورة وجوهرها تغييريّاً إصلاحياً، بيد أنّ ركوب الفئات المشبوهة موجة الغضب الجماهيري في الانتقام لمشاريعها الخاصّة، كان موجوداً وسنبدأ بهذه الفئات المشبوهة. كان عمرو بن العاص رائد الاتجاه الانتهازي الذي يتحدّد ولاءه بالمصلحة. عمرو بن العاص ليس من الذين أسلموا طوعاً، وقد كان حريصاً

____________________

(1) سيّد قطب، العدالة الاجتماعيّة في الإسلام / 161، دار الشّروق، الطبعة الثامنة.

٢١٤

على محو أثر الإسلام، غير أنّه لم يوفّق، وهو واحد من الذين ساروا إلى النّجاشي بالحبشة؛ لتأليبه على المهاجرين بقيادة جعفر بن أبي طالب (رض).

ظلّ عمرو حليفاً لبني اُميّة، بينهما مصالح قوّضوا في سبيلها روح الإسلام، وفي زمن عثمان كان عمرو يمارس دهاءه بشكل دقيق، كان في نهاية الأمر يدرك أنّ عثمان مهزوز السّلطان وأن الثّورة ستنشب لا محالة، فكان في كلّ مرّة يظهر للناس مواقفه الخادعة ليموّه عليهم، ثمّ يبرّر ذلك لعثمان ليحافظ على مكانته عنده. قال مرّة لعثمان: اتّق الله يا عثمان؛ فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك. فناداه عثمان: وإنّك هناك يابن النّابغة! قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل. فنودي من ناحية اُخرى: أظهر التوبة يا عثمان يكفّ النّاس عنك. ونودي من ناحية اُخرى بمثل ذلك(1) .

غير أنّ عمرو بن العاص كان حريصاً على علاقته بعثمان، ولمّا تفرّق القوم، قال له: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ عليّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ النّاس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيراً وأدفع عنك شرّاً(2) . وبهذه الازدواجية بقي حتّى مقتل عثمان حين جاء يتوسّط لعثمان مع الثّوار، فنهروه واتّهموه فوّل خائباً.

وعندما قُتل عثمان، ولم تعد المصلحة لعمرو بن العاص في أن يتمسّك بشرعيّة عثمان، خرج إلى منزله بفلسطين، وكان يقول: والله، إنّي كنت لألقى الرّاعي فأحرّضه على عثمان... ولمّا مرّ به راكب من المدينة - وهو مع ابنيه محمّد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي - فسأله عمرو عن

____________________

(1) مسكويه، تجارب الأمم 8 / 384.

(2) نفس المصدر.

٢١٥

عثمان. فقال: هو محصور. قال عمرو: أنا أبو عبد الله، قد يضرط العير والمكواة في النّار(1) .

كذلك كان عمرو بن العاص تحرّكه المصلحة وتملي عليه في الاختيارات الانتهازية، تحرّك ضدّ عثمان لمّا عزله، ولم يوسع عليه في الإمارة مثل ما فعل بمعاوية. وهو لا يهمّه أن تتقوّى عشيرة بني عبد مناف، فهو أصلاً لم يحص له التاريخ نسباً يفتخر به، وقد عرف بابن النّابغة؛ لأنّه وليد نمط معيّن من الزنا كان معروفاً لدى الجاهليين(2) ، فهو ليس ابن الفراش؛ لذا فإنّ ظروفه النّفسيّة والاجتماعيّة مهيّأة لسلوك هذا النّوع من الاختيارات المزدوجة، فكان الدافع الاقتصادي والعشائري، إحدى محفّزاته ضدّ عثمان.

وكان بإمكان معاوية أن يذود عن عثمان ويمنع عنه الثّوار ولو بالقمع، وكانت أمامه مندوحة للتعجيل بالقدوم؛ لنصرة عثمان بجيش الشّام، غير أنّ معاوية أبى إلاّ أن يمارس دهاءه البطيء والهادئ، إنّه لا يريد لعثمان أن يُقتل ولكنّه في سبيل المُلك قد يفعل. وكان قد كتب إليه عثمان أن يعجّل في المجئ إليه، فتوجّه إليه في اثني عشر ألفاً، ثمّ قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشّام حتّى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحّة أمره. فأتى عثمان، فسأله عن المدّة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنّك أردت أن اُقتل فتقول: أنا وليّ الثأر. ارجع فجئني بالنّاس. فرجع، فلم يعد إليه حتّى قُتل(3) .

كانت هناك شريحة في داخل جهاز السّلطة العثماني، تريد أن تركب موجة التغيير؛ لتغيّر مجراها إلى قضيتها، ورموز هذا التّيّار هُما: معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص؛ ذلك إنّ معاوية وبحكم النّفوذ الواسع الذي اكتسبه في بلاد الشّام، حيث أصبح واسع الإمارة لمّا انضافت إليه إمارة فلسطين

____________________

(1) التاريخ الكامل لابن الأثير 3 / 163.

(2) هو أن يدخل مجموعة من الرجال على امرأة يطؤونها، فإذا حملت تختار واحداً منهم وتشير إليه، فيلحق به الولد.

(3) تاريخ اليعقوبي 3 / 175.

٢١٦

وحمّص. أجل، كان معاوية يطمع في المُلك بعد عثمان وحريصاً على هذا الأمر.

يذكر ابن الأثير في الكامل: أنّه لمّا نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقلّ على الطريق، رجز به الحادي فقال:

قد علمتْ ضوامرُ المطيْ

وضـمرات عُوجِ القسيْ

أنّ الأمـيرَ بـعده عليْ

وفي الزُّبيرِ خلفٌ رضيْ

وطلحة الحامي لها وليْ

وكان كعب على عادته في الّنبوءات السياسيّة يكذّبه ويقول: كذبت، بل يلي بعده صاحب البغلة الشّهباء، يعني معاوية، فطمع فيها من يومئذ.

والحقيقة إنّ معاوية يطمع فيها منذ ولاّها الخليفتان، وهو رمز الاُمويّين بعد أبيه أبي سفيان، وهو مخطّط قديم يمدّ جذوره إلى البعثة - كما تقدّم -، فالقوم لا ناقة لهم ولا جمل في قضية الإسلام الرّساليّة، بقدر ما لهم مصلحة في ملك العالم الإسلامي، إنّهم قد يملكون العرب لو أظهروا نعرتهم القوميّة، ولكن كيف يتسنّى لهم حكم الأمصار، وما كان لأبناء اُميّة أن يحكموا عالماً بهذه السّعة لولا شوكة الإسلام؟! فالمخطّط أدقّ ممّا تصوّر القشريّون.

استطاع الصحابة أن يتّصلوا بأهل الأمصار ليخبروهم بما يجري من مفاسد الداخل، واستفحل أمر عثمان وذاعت أخبارهم في البلدان، وفي مصر كان محمّد بن أبي بكر وكذا محمّد بن أبي حُذيفة، يقومان بتحريض النّاس على عثمان.

ويذكر ابن الأثير: إنّ عثمان بعث إلى الأمصار برجال من عنده؛ ليهدئوا الأوضاع، فبعث إلى الكوفة محمّد بن مسلمة، وإلى البصرة اُسامة بن زيد، وابن عمر إلى الشّام، وعماراً إلى مصر. فرجع الجميع إلاّ عمّار، فظنّوا أنّه قد قُتل حتّى وصل كتاب عبد الله بن أبي سرح، يخبرهم إنّ عمّاراً قد استماله قوم وانقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السّوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنافة بن بشر.

والواقع أنّ محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن أبي حُذيفة هما اللذان أجّجا الأوضاع، وانضمّ إليهما عمّار بن ياسر، الذي كان من قبل أحد المتمرّدين على خطّ الرّأي، ثمّ اجتمعت كلمة المسلمين في الداخل والخارج، واجتمع رأي الأمصار على إرسال

٢١٧

الوفود تحت غطاء الحج، وكانت الوفود تتألّف من ثلاث أمصار:

1 - الوفد المصري، يتألّف من خمسمئة إلى ألف(1) ، يتزعمهم محمّد بن أبي بكر (رض)، وفيهم عبد الرّحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السّكوني، وقتيرة بن فلان السّكوني. وكان محمّد بن أبي بكر قد خرج وبقي محمّد بن أبي حُذيفة في مصر، وغلب عليها لمّا ذهب عنها عبد الله بن سعد.

2 - الوفد الكوفي، يتألّف من عدد أهل مصر على رأسهم مالك الأشتر (رض)، وفيهم: زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النّخعي، وزياد بن النّضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم العامري.

3 - الوفد البصري، ويتألّف من نفس عدد أهل مصر، عليهم: حكيم بن جبله العبدي، وذريع بن عباد، وبشر بن شريح القيسي، وابن المحترش. ويذكر ابن الأثير، أنّ أميرهم كان هو حوقوص بن زهير السّعدي. وكان خروجهم بشوّال جميعاً.

ورفع الوفد المصري مذكّرته لعثمان، حيث جاء فيها: أمّا بعد، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فالله الله! ثم الله الله! فإنّك على دنيا فاستقم معها آخرة، ولا تنسَ نصيبك من الآخرة، فلا تسوّغ لك الدنيا، واعلم إنّا لله ولله نغضب، وفي الله نرضى، وإنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتّى تأتينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة مجلحة مبلجة، فهذه مقالتنا لك، وقضيّتنا إليك، والله عذيرنا منك، والسّلام(2) .

وكان عمرو بن العاص أراد أن يكلّم القوم - لمّا دعاه إلى ذلك عثمان - فصاح القوم في

____________________

(1) ابن الأثير، التاريخ الكامل 3 / 158.

(2) تاريخ الطبري 5 / 111 - 112.

٢١٨

وجهه: ارجع يا عدو الله، ارجع يابن النّابغة، لست عندنا بأمين ولا مأمون.

ولمّا رأى عثمان أنّه محاصر ومطلوب لا محالة، عاهدهم على تنفيذ كتاب الله وسنّة نبيّه، وأن يعدل بين المسلمين، ويغيّر عمّاله ويعزلهم، وبأن يردّ المنفي ولا يجمر في البعوث، وأنّ عليّ بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمُسلمين، وحيث إنّ جماعة من المهاجرين والأنصار تبلغ ثلاثين رجلاً تحت قيادة عليّعليه‌السلام ، راحوا إلى المصريين يتوسّطون ويطلبون من المصريين الرّجوع.

ويذكر ابن الأثير: إنّ عثمان جاء قبل ذلك إلى عليّ يطلبه النّصرة، وبأن يردّ القوم عنه، فقال له الإمام عليّعليه‌السلام : «على أيّ شيء أردّهم عنك؟». قال: على أن يصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي. فقال عليّ: «إنّي قد كلّمتك مرّة بعد اُخرى، فكلّ ذلك نخرج ونقول، ثمّ ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر، ومعاوية وعبد الله بن سعد؛ فإنّك أطعتهم وعصيتني». قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. وفعلاً تمّ ردّ المصريين؛ استجابة لطلب الإمام عليّعليه‌السلام فرجعوا.

إنّ الإمامة أو الخلافة قانون يحكم مجتمع الإسلام، ومهما ضعف عثمان عن تحمّل هذا العبء، فإنّه لن يُعذر أمام القانون؛ لأنّه كم قد يفسد المجتمع لو أنّنا أعذرنا من يضعف أو يجهل القانون. وما كان عثمان سوى واجهة ومطيّة للزمرة المشبوهة من بني اُميّة يركبونها وهو مرتاح لذلك، ويعزّ عليه أن يرضي الاُمّة بالعدل على إغضاب أقربائه على الباطل.

كان ممّا اتّفق عليه بين عثمان والمصريين هو عزل والي مصر، وجعل محمّد بن أبي بكر، فأقرّهم على ذلك، فرجعوا، وما أن ساروا قليلاً، إذا براكب جمل أرابهم أمره، ففتّشوه فإذا به يحمل صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد: إذا قدم عليك النّفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم... وبأن يقتل محمّد بن أبي

٢١٩

بكر. فرجع الوفد إلى المدينة مجدّداً(1) .

وما أن رجع أهل مصر إلى عثمان وحاصروه، حتّى تمخّض القوم مرّة اُخرى على عثمان، واستنكف الجميع عن التوسّط له عند الثّوار لمّا رأوا ما رأوا، إلاّ أقرباؤه وحاشيته.

وذهب مروان إلى عائشة، فقال: يا اُمّ المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرّجل وبين النّاس. قالت: قد فرغت من جهازي وأنا اُريد الحج. قال: فيدفع إليك بكلّ درهم أنفقته درهمين. قالت: لعلّك ترى أنّي في شكّ من صاحبك؟ أما والله لو وددت أنّه مقطّع بغرارة من غرائري، وأنّي أطيق حمله فأطرحه في البحر(2) . والمعروف عن عائشة إنّها كانت أكثر تحريضاً على عثمان، وهي صاحبة كلمة: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

وثقل على الإمام عليّعليه‌السلام أن يستمرّ في التوسّط إليه مع القوم؛ ذلك لأنّ الإمام عليّعليه‌السلام يدرك أنّ عثمان هو المسؤول عن مقتله؛ بسبب عصيانه مشورة كبار الصحابة واقتصاره على الطلقاء. كانعليه‌السلام يدرك أنّ الجماهير المسلمة غاضبة في الله، وتطلب تحكيم شرعه في قضية الحكم.

وأقبل عليّعليه‌السلام على عبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يغوث، فقال: «أحَضرتَ خطبة عثمان؟». قال: نعم. [ قالعليه‌السلام ]: «أفحضرتَ مقالة مروان للناس؟». قال: نعم. فقال عليّعليه‌السلام : «أي عباد الله! يا للمسلمين! إنّي إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقّي، وإنّي إن تكلّمت، فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيفه له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السّنّ وصحبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وقام مغضباً حتّى دخل على عثمان، فقال له: «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به؟! والله، ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه. واسم الله، إنّي لأراه يوردك ولا يصدرك، وما أنا عائد بعد

____________________

(1) اليعقوبي وابن الأثير في تاريخهما.

(2) نفس المصدر.

٢٢٠