لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49895
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49895 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على رأيك»(1) .

ودخلت عليه زوجه نائلة بعد ذلك، تحذّره من مروان وتحثّه على طاعة الإمام عليّعليه‌السلام ، وكانت قد أمرته بأن يرسل إلى عليّعليه‌السلام ؛ ليستصلحه لما له من قرابة وسمعة، فأرسل عثمان إلى عليّعليه‌السلام ، فلم يأته وقالعليه‌السلام : «قد أعلمته إنّي غير عائد». فلمّا سمع مروان ما قالته نائلة، قال لها: يابنة الفرافصة. فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فاسود وجهك؛ فهي والله أنصح لي. فكفّ مروان(2) .

لم يرجع الإمام عليّعليه‌السلام إلى عثمان ولم يشأ أن يقف إلى جانب رجل، إنّما ثار عليه النّاس طلباً للعدالة والإصلاح، فأبى عليهم ذلك والتوى عليهم، وما بقي للإمام عليّعليه‌السلام إلاّ أن يقوم بدوره الإنساني، وهو أن يبعث بابنيه لحراسة الباب حتّى لا يهجم عليه النّاس فيقطّعونه بالشّكل الذي لا ينطبق مع حكم الشّريعة وينافي حقوق الإنسان، كما يدركها المعصوم تماماً، كما لم يشأ أن يمثّل بقتيله - هو عبد الله بن ملجم - وأوصى بالإحسان إليه ما لم يمت، فإن مات فيقم عليه الحدّ الشّرعي بلا زيادة ولا نقصان.

هذا الانضباط الشّرعي وإنسانيّة الإمام عليّعليه‌السلام ، هي التي جعلته يرسل ابنيه إلى باب عثمان من دون أن يدخلوا في صراع مع ثوّار الغضب، الذين أصرّوا على إسقاط عثمان أو تصفيته؟ وحيث إنّ عثمان نقض الوثيقة وخان العهد مع الوفود، ولم يرد أيضاً أن ينزل عن السّلطة لصالح مَن هو أولى بها، قرّر الثّوار أن يقتحموا عليه الدّار، ولمّا كان الحسنعليه‌السلام عند الباب، وحتّى لا يصيبه أذى من الجماهير، رأى الثّوار بقيادة محمّد بن أبي بكر أن يتسلّقوا عليه الدار؛ لينفّذوا فيه الحدّ الثّوري. فاقتحموا الدار من دار عمرو بن حزم، وسرعان ما تدفّق عليه النّاس، واكتضّت الدار بالثّوار، وانتدبوا مَن يقتله، وجرت محاورات بين الثّوار وعثمان قبل قتله، كلّهم يطلبه لترك الخلافة وهو يأبى ذلك.

وأيّ شجاعة هذه التي يملكها عثمان في الإصرار على الخلافة، هلاّ كان إصراره أيضاً في العدل بين أقربائه والمسلمين!

____________________

(1) ابن الأثير في التاريخ.

(2) نفس المصدر.

٢٢١

وكان محمّد بن أبي بكر قد دخل على عثمان وأخذ بلحيته، وقال: قد أخزاك الله يا نعثل. فقال: لست بنعثل، ولكنّي عثمان وأمير المؤمنين. وقال له: ما أغني عنك معاوية وفلان وفلان؟ وقال له عثمان: يابن أخي، فما كان أبوك ليقبض عليها. قال محمّد: والذي اُريد بك أشدّ من قبضتي عليها. فطعنه في جبينه بمشقص كان في يده، فضربه الغافقي بحديدة، ثمّ جاء سودان ليضربه، فأكبّت عليه زوجته تتقي السّيف بيدها، فنفح أصابعها، فأطنّ أصابع يدها وولّت، ووثب عليه كنانة بن بشر التجيبي فقتله.

وهكذا شارك الثّوار في قتله ومثّلوا به، ومنعوا دفنه في قبور المسلمين، وبقي ثلاثة أيّام في مزبلة، وانطلق به جماعة من النّاس خفية، معهم عائشة بنت عثمان ومعها مصباح، حتّى وصلوا به حشد كوكب، فحفروا له حفرة، فلمّا رأته ابنته صاحت، فقال ابن الزُّبير: والله، لئن لم تسكتي لأضربنّ الذي فيه عيناك. فدفنوه ولم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراب حثواً(1) .

لم يكن الثّوار من الفئة الواحدة، فمنهم المؤمنون حقّاً، ومنهم من تضرّر بالفقر والظلم العثماني، ومنهم من جمع بين الإيمان والضرر الاجتماعي، فكانت ثورة.

ويذكر ابن الأثير: إنّ من بين القوم من ثار فأخذ ما وجد، وتنادوا: أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه. وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج النّاس، وكان هؤلاء هُم المتضرّرون اقتصاديّاً من سياسة عثمان الماليّة. وقد وثب عليه عمرو بن الحمق، وكان ولا يزال به رمق، فطعنه تسع طعنات. قال: فأمّا ثلاث منها فإنّي طعنتهن إيّاه لله تعالى، وأمّا ستّ فلما كان في صدري عليه. وأقبل عليه عمير بن صامي، ووثب عليه وكسر ضلعاً من أضلاعه، وقال: سجنت أبي حتّى مات في السّجن(2) . وكان قتله في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 هـ‍ في يوم الجمعة،

____________________

(1) ابن قتيبة، تاريخ الخلفاء.

(2) ابن الأثير.

٢٢٢

وكان عمره يومئذ ستّاً وثمانين سنة.

وكتبت نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية تصوّر له المشهد الذي تمّ خلاله قتل عثمان، وأرسلت له قميص عثمان مضرّجاً بالدّم وممزّقاً، وبالخصلة التي نتفها محمّد بن أبي بكر من لحيته، فعقدت الشّعر في زرّ القميص، وبعثته إلى معاوية مع النّعمان بن بشير الأنصاري(1) . وكان الذين قاموا باقتحام داره وقتله: محمّد بن أبي بكر، محمّد بن أبي حُذيفة، ابن حزم، كنانة بن بشر التجيبي، عمرو بن الحمق الخزاعي، عبد الرّحمن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران(2) .

لقد كانت حقّاً ثورة من أجل تثبيت العدالة الاجتماعيّة من جديد، ثورة شاركت فيها كلّ فصائل المعارضة في المجتمع، بكلّ همومها وأهدافها، فكلّ النّاس قتل عثمان، وما من صغير وكبير إلاّ ونقم عليه، وفرضت عليه عزلة اجتماعيّة، ووقف منه النّاس موقف الاعتراض والمداهنة والخوف، وفي كلّ الأحوال، كانوا يتربّصون الفرصة التي سنحت لهم؛ ليزيحوه عن الخلافة، ليزيحوا معه طغمته الطليقة. لكن هل استطاعوا ارجاع الاُمور إلى نصابها؟ هل قضوا فعلاً على النّفوذ الاُموي؟

إنّهم لم يفعلوا سوى أن صنعوا المنعطف الآخر؛ ليدخل التاريخ الإسلامي إلى حقبة الاضطرابات الكبرى، فنفوذ بني اُميّة أوسع وأعمق وأقوى من أن تزيحه ثورة فقراء، وسنين من الخلافة مضت، كان فيها بنو اُميّة على يقظة في بناء قدراتهم. إنّ قتل عثمان قوّاهم بدلاً من أن يضعفهم. وما أن قُتل عثمان حتّى اكفهرّ التاريخ عن وجوه ذميمة طالما بيّتت النّفاق. مقتل عثمان كان مدخلاً لفهم حقيقة التاريخ الإسلامي.

____________________

(1) ابن قتيبة.

(2) اليعقوبي.

٢٢٣

٢٢٤

بيعة الإمام عليّعليه‌السلام :

لقد اصطدمت المؤامرة ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام مع التاريخ، ولم يبقى أمام النّاس سوى الرّجوع إليه، وكان لا بدّ أن يكون للمؤامرة سقف تقف عنده، هذا السّقف هو يقظة الجماهير المسلمة على أثر مقتل عثمان.

لقد ثار هذا القطّاع الواسع من الفقراء والمنبوذين والمؤمنين، على كلّ أشكال القهر السّياسي والاقتصادي والاجتماعي الاُموي في عهد عثمان، آن لهم أن يوقفوا زحف المؤامرة، فهم يتطلّعون إلى من يسلك فيهم عدل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويسوّي بينهم في التوزيع، ويرشف قلوبهم عقيدة وتقوى. ليس أمامهم إلاّ عليّ، عليّ فقط، ولكن حاول بعض الخنافيس من البدو المقملين والطلقاء، أن يطرحوا بديلاً آخر للخلافة غير عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، لقد لجأ البعض جهلاً أو عمداً إلى أمثال ابن عمر وغيره.

أفابن عمر هو أيضاً ممّن منح التقدّم على رمز الاُمّة الإسلاميّة، أيّها المجرمون، ما لكم كيف تحكمون؟! ها هو ذا التاريخ يضع الاُمّة أمام الاختيار الصعب، أمام العدل كلّ العدل، وأمام الجور كلّ الجور. فكانت يومها بيعت عليّ بن أبي طالب، أتته تحبوا بعد أن عذرها التاريخ، وأتته؛ رثّة خلقة عليلة؛ ليتحمّل الإمام عليّعليه‌السلام مسؤوليّة سنوات من التخلّف مضت، وليعيد هندسة الاجتماع الإسلامي وفق المبدأ، وبمقتضى الإسلام كانت مسؤوليته يومئذ، مسؤولية تاريخية، كيف يعيد إلى الخطّ المستقيم امبراطورية واسعة الأطراف

٢٢٥

تضمّ أكثر من (40) دولة، كلّها لم ترَ ولم تعلم من الإسلام سوى رتوش قشرية، ليقولعليه‌السلام : «ولبس الإسلام لبسَ الفرو مقلوباً». وكيف يُقنع الأمصار بأنّ الإسلام قد جاء اليوم بعد أن اُغتيل مع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ هاهو قد جاء ليتمثّل في مَن خوّله الشّرع والتاريخ مسؤولية الجهاد في سبيل التأويل، مثلما خوّل مُحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مسؤولية الجهاد من أجل التنزيل. اتّجه التاريخ بالاُمّة صوب عليّعليه‌السلام لتركع أمام الحقّ معترفة بخطيئتها؛ ليتحمّل الكلّ مسؤوليته، فلا غموض بعد اليوم، فإمّا حقّ بيّن وإمّا باطل مبلج.

كان اليوم جُمُعة لخمس بقين من ذي الحجّة يوم بويع الإمام عليّعليه‌السلام من قبل المهاجرين والأنصار، وكان فيهم طلحة والزُّبير، ورفض الإمام عليّعليه‌السلام البيعة، وقال لهم: «التمسوا غيري»؛ إمعاناً منه في تسجيل الموقف المسبق، فلقد أدرك أنّ القوم سيحاربونه لا محالة، وبأنّ الكثير ممّن بايعه سينقلبون، وبأنّ المسؤولية جسيمة، ورأي عليّعليه‌السلام فيها حاسم.

ومتى قبلت الاُمّة الحسم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّه يسجّل عليهم موقفاً تاريخياً، وإنّ الإمام عليّعليه‌السلام قد قال للزبير: «إن شئتَ بايعني وإن شئتَ اُبايعك». فبايع الزُّبير، وقد علم الزُّبير أنّ عليّاًعليه‌السلام يروم اختباره من خلال هذا العرض، واعترف بذلك. لقد قالها الزُّبير وطلحة: إنّما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنّه لا يبايعنا، وهرب إلى مكّة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر(1) .

كان طلحة يومها أوّل من بايع؛ ذلك أنّ الأشتر أتاه فقال له: بايع. فقال: أمهلني أنظر. فجرّد الأشتر سيفه وقال: لتبايعنّ أو لأضعنّه بين عينيك. فقال طلحة: وأين المذهب عن أبي الحسن؟ ثمّ صعد المنبر فبايعه، فقال رجل من بني أسد:

____________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 191.

٢٢٦

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أوّل يد بايعت أمير المؤمنين يد شلاّء، لا يتمّ هذا الأمر أبداً(1) . وبايع الزُّبير أيضاً.

كان الإمام عليّعليه‌السلام يدرك أنّ الاُمور آلت إلى واقع مريض، ولا يقوم به إلاّ رجل يطاع، وهو يعلم أنّ النّاس ليسوا على قلب واحد، فقالعليه‌السلام : «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول»(2) . وكان لا بدّ أيضاً للزبير وطلحة أن يبايعا، وقالوا: إن دخل طلحة والزُّبير فقد استقامت. لذلك بعث المصريّون ببصري إلى الزُّبير في نفر، وكان ذلك حكيم بن جبلة، وكذا بعثوا إلى طلحة كوفيّاً مع نفر، وقالوا لكلّ واحد منهما: احذر لا تحابه. فراحوا إليهما يحدونهما بالسّيف؛ والسبب هو أنّ الزُّبير وطلحة طمعا في الخلافة، وقد كان هوى البصريين على الزُّبير وهوى الكوفيين على طلحة - كما ذكر المؤرّخون -، فيما كان هوى المصريين على عليّعليه‌السلام ، واُولئك هُم مجموع الوفود التي جاءت للثورة على عثمان.

ويذكر ابن الأثير: أنّ الأنصار بايعت إلاّ نفراً يسيراً منهم؛ حسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري، ومحمّد بن مسلمة والنّعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة، وكانوا عثمانيّة. كان سبب عدم بيعتهم هو الخوف من عدالة الإمام عليّعليه‌السلام ؛ فهم الذين عاشوا كالفيروس الاجتماعي، ينخر ثروة الاُمّة ويعيش على سبيل النّهب.

كان حسان بن ثابت - كما ذكر ابن الأثير - شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن ثابت فولاّه عثمان الديوان وبيت المال، فلمّا حضر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصاراً لله مرّتين. فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلاّ لأنّه أكثر لك من العبدان. فماذا بالله تنتظر من هكذا رجل؟! خصوصاً وأنّ الإمام

____________________

(1) مسكويه في تجاربه، ابن الأثير واليعقوبي في تاريخيهما.

(2) مسكويه في تجارب الاُمم.

٢٢٧

عليّعليه‌السلام قد باشر في خلع عمّال عثمان المتملّقين.

وأمّا كعب بن مالك، فاستعمله على صدقة مزينة وترك له ما أخذ منها(1) ، وكذلك فعل عبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة، فهذا الأخير ما فتيء يلعب على الحبال.

تسلّم الإمام عليّعليه‌السلام مقاليد الخلافة وألقى خطبته الشّهيرة، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا، الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ وَأَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالإِخلاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إلاّ بِالْحَقِّ، وَلا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إلاّ بِمَا يَجِبُ، بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ، اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْؤولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ، أَطِيعُوا اللَّهَ وَلا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض».

كانت تلك صرخة روحية في مجتمع أنشدّ إلى طينة الأرض ونتانتها، كلمة رساليّة مسؤولة في قوم غدا أكثرهم متداعي العزيمة، وييأس عليّعليه‌السلام صدمة نفسية لمجتمع لانت عقيدته من فرط الاستغناء الفاحش بعد الفاقة المدقعة، وبعد سنوات من النّهب والأرستقراطية يأتي الإمام عليّعليه‌السلام ليقول: «أيّها النّاس، إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم، وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم ومنفّذ فيكم ما اُمرت به. ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال؛ فإنّ الحقّ لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك الإماء وفرّق في البلدان لرددته؛ فإنّ في

____________________

(1) ابن الأثير.

٢٢٨

العدل سعة، ومَن ضاق عليه الحقّ فالجور عليه أضيق.

أيّها النّاس، ألا لا يقولون رجال منكم غداً قد غمرتهم الدُّنيا فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيل واتخذوا الوصائف المرقّقة، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا. ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله، يرى أنّ الفضل له على سواه بصحبته؛ فإنّ الفضل غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله. ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله، فصدّق ملّتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسّم بينكم بالسّوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء».

هذا هو عليّعليه‌السلام وتلك هي البيئة التي وجد فيها، بيئة الثراء والاستغلال والامتيازات الطبقية. أيّ النّاس مستعدّ يومها لتسليم ما تراكم لديه خلال سنين الغفلة والنّهب وصراع الامتيازات؟ أيّ إيمان تركه الجشع الاُموي في المجتمع، والتفقير المقابل في صفوف الطبقات الصغرى؟ وأيّ حرّية تبقى بعد كلّ هذا القمع الذي أجراه الخلفاء على المجتمع؟

فعليّعليه‌السلام جاء ليرفع صخوراً ثقال إلى سماء الرّوح؛ وليعطي للجميع حقّه، إنّه شطب بالأحمر على إيديولوجية الجبر التي تقول:( أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ) (1) . جاء ليعلّمهم إنّ الفقير يعيش أعلى مستوى من الحاجة في مجتمع الإسلام، وإنّ كثيراً من الفقراء إنّما وجدوا بسبب سوء التوزيع، كيف وهو القائل: «ما رأيت نعمة موفورة إلاّ وبجانبها حقّ مضيّع». هذه الرّوح السّامية وهذه الاجتماعيّة الإسلاميّة، هي منهج الإمام عليّعليه‌السلام في مجتمع إقطاعي، إنّها النّقلة البعيدة والطفرة العليا والمبادرة النّقيضة، ولذلك لم يرضوا عنه، يقول سيّد قطب: ولقد كان من الطبيعي ألاّ يرضى المستنفعون عن

____________________

(1) سورة يس / 47.

٢٢٩

عليّ، وأن يقنع بشرعة المساواة مَن اعتاد التفضيل، ومَن مردوا على الاستئثار، فانحاز هؤلاء في النّهاية إلى المعسكر الآخر، معسكر اُميّة؛ حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم على حساب العدل والحقّ، الذين يصرّ عليهما عليّ رضي الله عنه هذا الإصرار(1) ؛ ولذلك دخل الإمام عليّعليه‌السلام في معركة تاريخية مع فئتين: إحداهما إقطاعية والاُخرى فقيرة انتهازية، وهو صراع بين الحقّ والباطل، بين الإسلام والجاهليّة.

كان هناك ثلاثة نفر من قريش لم يبايعوا بعد، وهم: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، [والوليد بن عقبة](2) ، فقال أحدهم: يا هذا، إنّك قد وترتنا جميعاً؛ أمّا أنّا فقتلت أبي صبراً يوم بدر؛ وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش؛ وأمّا مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمّه إليه(3) . ثمّ اشترطوا عليه في البيعة أن يضع عنهم ما أصابوا ويعفي لهم عمّا في أيديهم، ثمّ يقتل قتلة عثمان.

وردّ الإمامعليه‌السلام - عند ذلك - غاضباً: «أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم، فالحقّ وتركم؛ وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حقّ الله تعالى؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم، فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أنْ أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمَن ضاق عليه الحقّ، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم». فقال مروان: بل نبايعك ونقيم معك، فترى ونرى. وكان القوم يدبّرون عملية الهرب إلى الشّام ونقض البيعة.

كانت كلمة الأشتر على مقتضى التصوّر الشّيعي لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ حيث قال: أيّها النّاس، هذا وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء الحسن

____________________

(1) العدالة الاجتماعيّة في الإسلام / 163.

(2) كما ورد في تاريخ اليعقوبي 2 / 178، وغيره.(موقع معهد الإمامين الحسنَين).

(3) اليعقوبي.

٢٣٠

الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ورسوله بجنّة الرّضوان، مَن كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل(1) .

ثمّ قام الإمام بعدها بعزل عمّال عثمان عن البلدان؛ لقطع دابر الاستغلال. فهو لم يأت في سياق خلفائي رسمي ليبقي على أزلام العهد البائد، إنّها ثورة وتغيير للوضع من الجذور...؛ ولهذا سيلجأ إلى عزل الجميع سوى موسى الأشعري؛ لما أشار الأشتر على عليّعليه‌السلام بالإبقاء عليه، واستبدلهم جميعاً برموز الثّورة؛ فولّى قثم بن العبّاس مكّة، وعبد الله بن العبّاس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف الأنصاري البصرة.

وتزلّف كلّ من طلحة والزُّبير وطلبا من الإمام عليّعليه‌السلام إشراكهما في الأمر، فهما رجلان يلهثان وراء الدُّنيا، غير أنّ الإمام عليّعليه‌السلام لم يأت إلى الخلافة ليعبث، أراد أن يعطيهما نموذجاً للحقّ والالتزام؛ ليتركها صورة للأجيال حول سلوك الإمام ومدى اختلافها عن سلوك المغتصبين، وماذا يا ترى سيجدون من جواب عند الإمام عليّعليه‌السلام ، الذي اختلطت زينة الحياة عنده وتدنّت حتّى لم يعد يفرز بين نعمة واُخرى، ويقول عن الذّهب والفضّة كلاهما عندي حجر، كان جواب الإمام عليّعليه‌السلام : «أنتما شريكاي في القوّة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود»(2) .

وما كان لطلحة ولا الزُّبير وقد فاضت عليهما الدُّنيا في زمن عثمان، ما كان لهما أن يشركا عليّاًعليه‌السلام في الزهد والتّقشّف، وأن ليندى الجبين؛ لأنّهما قد تمرّغا في رغدهما، وهو يكسر الكسر اليابسة بركبته ويقول للحسن ابنهعليهما‌السلام : «أمشوي الكراكر عند عليّ بن أبي طالب!... لا والله». ولمَن يتركون الذّهب في مخازنهم يكسر بالفؤوس، فأعلنا عند ذلك الرفض، بيد أنّهما مشدودان إلى الواقع

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

٢٣١

الذي فرضته الوفود، فالتمسا من عليّعليه‌السلام أن يأذن لهما في الذهاب إلى الحجِّ، وهو يعلم أنّهما لا يريدانه؛ وإنّما يريدان اللحاق بعائشة. لقد انفتح الإمام عليّعليه‌السلام عليهما، وتعامل معهما على أساس المسؤولية والإيمان، ولكن أين أبو الحسن من واقع الرّجلين، إنّه ولّى طلحة اليمن والزُّبير اليمامة والبحرين، فلمّا دفع إليهما عهديهما، قالا له: وصلتك رحم.

وهذه هي الفلتة النّفسية التي أظهرها الواقع وعلى ألسنتهما، فالمسألة أصبحت تتحرّك ضمن قوالب الأرحام، لم تعد القوانين والشّرائع تجري وفق موازين العدل والانضباط، إنّهما تعلّما من الحقبة العثمانية: إنّ المسؤولية صلة رحم يشكر عليها. فهي عطاء وليست إدارة مسؤولية.

ولم يكن الإمام عليّعليه‌السلام ليضعف أمام نعرة، إنّما ابتلى بها الله ضعاف العقول وضيّقي الآفاق، أعطاهما درساً تاريخياً تنتصر فيه العقيدة على القرابة، وتنتصر فيه المسؤولية على الرّحم، وتتكسّر وشائج الدّم والعرق على صخرة القانون، قالعليه‌السلام : «وإنّما وصلتكما بولاية اُمور المسلمين». واستردّ العهد منهم، فعتبا من ذلك وقالا: آثرت علينا؟ فقال لهما: «لولا ما ظهر من حرصكما، لقد كان لي فيكما رأي»(1) .

كان من المفروض وفق النّظرية السياسيّة الدّاعية للتمسّك بالممكن، وأنصاف الحلول (والماكس - مين) و... وأن يسكت عنهم الإمام عليّعليه‌السلام ، أن يترك للزبير اليمامة والبحرين، ثمّ لطلحة اليمن ولمعاوية الشّام، فالقوم أصحاب دُنيا فليشغلهم بها، لقد كان هذا هو الصواب، هو السّياسة. غير أنّ الواقع يختلف والموضوع يتناقض مع مفهوم الممكن وأنصاف الحلول، فهذه غلطة وقع ضحيتها الكثير، والسّبب في ذلك؛ إنّهم لم يعيشوا شخصية الإمام عليّعليه‌السلام بفضائها الأوسع، وإنّما اقتصروا على البُعد الضيّق منها، وكذلك حال العباقرة والعظماء، وحتّى استطاع الرّعاع فهم العبقرية في كمالها.

____________________

(1) نفس المصدر.

٢٣٢

إنّ الإمام عليّعليه‌السلام لم يكن إماماً لزمانه، لجيله، لأرضه... للمستوى الذي يهيمن على ذلك الجيل وتلك الأرض؛ إنّ الإمام عليّعليه‌السلام إمام للإنسان، ويخاطب النّضج البشري في مختلف مراحله، يخاطب من وراء جيل من الرّعاع، وزمن غابر بسيط، أجيالاً متمدّنة، وأزماناً معقّدة، لذلك لم يفهموه كما يفهمه الشّيعي الذي عرف عليّاً من خلال النصّ ومن خلال العقل.

هنا اتّفق بكلّ قوّة مع الجابري في: أنّ منطق القبيلة والغنيمة والعقيدة، كان هو المحدّد الرئيسي للعقل السّياسي العربي، ولكنّني لا اتّفق معه في كثير من القضايا التي ترتبط بتلك المحدّدات؛ فالإمام عليّعليه‌السلام بقي مرفوضاً؛ لأنّه حكم منطق العقيدة، ولكنّه لم يراع المتطلّب القبلي والغنيمي؛ لذلك رفض من قبل قطّاع كبير من النّاس - كما تقدّم - اُولئك الذين تربّوا في ترف الحقبة العثمانية.

إلاّ أنّ الشيء الذي غاب عن الكثير ممّن استحمرتهم وأبهرت وعيهم لعبة الشّعرة، التي أرسى قواعدها معاوية بن أبي سفيان؛ ليصبح بذلك الرّجل القويّ في المعارك السياسيّة ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام ، الذي بدا في عين الآخرين كأنّه عديم الخبرة؛ هو أنّهم لم يفهموا الواقع الذي جاءت فيه الخلافة لعليّعليه‌السلام ، وشخصيّة عليّعليه‌السلام كذلك. فالخلافة جاءت لعليّعليه‌السلام والاُمّة كلّها تحت الهيمنة الاُمويّة، ولأن كان عثمان قد قُتل، فإنّ معاوية ومَن حوله من الاُمويّين لا يزال مهيمناً على الشّام، ثابت الأركان، ذا نفوذ لا يُطال، وأهل الشّام لا يعرفون عن عليّعليه‌السلام ولا غيره شيئاً.

وجاءت الخلافة لعليّعليه‌السلام والنّاس أشبه ما يكونون بالرّجل المريض، لا يسمعون ولا يُطيعون، وضاقوا من شدّة عليّعليه‌السلام وتنمّره، فراحوا إلى السّكون، والتمسوا السّلام على كلّ المفاسد التي لا تزال تهدّد صرح الاُمّة الإسلاميّة، إنّه في قوم قال عنهم: «لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان». وهو الذي ودّ لو يُبدّل أصحابه يومها ويصرف العدد الكبير منهم بواحد من أصحاب معاوية(1) .

____________________

(1): «لوددتُ لو أصرفكم بأصحاب معاوية صرف الدينار بالدرهم».

٢٣٣

اُولئك الذين كانوا يطيعون معاوية طاعة عمياء.

هذا العامل الأوّل الذي أربك كفتي الصراع بين عليّ ومعاوية، ولهذا لم يكن دهاء معاوية بالذي يجتاز على الإمام عليّعليه‌السلام ، دهاء يصدر عن نفس دنيئة خربة، مقابل بصيرة تصدر عن ذات تنظر بعين الله، وهمزات شيطانية لزنيم لفظته رمال الصّحراء، مقابل شفافية ولّي نظرته السّماء لهذه المهمّة الإنسانيّة الكبرى، شتّان، شتّان؛ ولذلك يعلنها الإمام عليّعليه‌السلام درساً للأجيال يقرع به منافذ الألباب: «والله، ما معاوية بأدهى منّي، وأنّه يغدر ويفجر؛ ولولا كراهية الغدر لكنتُ أدهى النّاس». فالمسألة في جوهرها ليست مسألة سياسيّة تقتضي التواء وتحايلاً؛ للقبض على أسباب النّفوذ، إنّها مسألة اُمّة كتب لها أن تقوم على الحقّ وبالحقّ ليس إلاّ.

والإمام عليّعليه‌السلام كان رجل عقيدة، يريد أن يؤدلج المجتمع بعقيدة الإسلام؛ لذلك لم يهتمّ بالفتوحات التي كانت مصدراً للغنيمة، ولا بالتقرّب إلى القبائل والأقرباء، بتنصيب رموزها في الإمارات على هشاشتهم؛ تزلّفاً ومرونة... وفي ذلك مكسب سياسي مصدره عامل القبيلة، وهو يدرك نتائج هذه الإجراءات تجاوز المكسب السّياسي من أجل الانجاز الحضاري الكبير. كيف؟ الإمام عليّعليه‌السلام كان رجل أيديولوجيا عقيدة وليس سياسيّاً مخادعاً، له رسالة حضارية يؤدّيها، ويمارس دوره بوعي خاص ونظرة معيّنة، له معاييره في الحقيقة وليس في اللعبة السياسيّة، أي إنّه تجاوز السّياسي من أجل الأيديولوجي من أجل التوجّه الحضاري.

خسران دولة بالنّسبة للإمام عليّعليه‌السلام ، شأنّه كباقي العقائديين لا يعني شيئاً؛ لأنّ دولة سياسيّة غير قادرة وغير قابلة لممارسة المهمّة العقائدية، تساوي اللاشيء؛ لذلك أراد أن يوقف المسيرة، يوقف التاريخ التآمري معها لتنضبط الاُمور أو لا تنضبط؛ لكي يسير التاريخ في الوجهة المفضوحة الفصيحة، لا في خطّ التضليل والتلبيس. الإمام عليّعليه‌السلام بهذا المعنى كان استرايجياً ولم يكن سياسيّاً تكتيكيّاً.

٢٣٤

إنّنا عندما نريد العودة إلى الذّات، نبحث في تجربة الإمام عليّعليه‌السلام ؛ لأنّها تجسّد مظاهر ثقافتنا وحضارتنا، وعندما يريد ضعافنا الحداثيون البحث عن النّفاق السّياسي للتعامل مع الأطراف الدولية، يبحثون في تجربة النّفاق الاُموي لمعاوية. يبحث الثّائر النّاهض الغاضب في تراث عليّعليه‌السلام ، ويبحث البورجوازي النّفعي التبعي في تراث معاوية، وفي تراث الإمام عليّعليه‌السلام السّياسي، تجربة يجب التفتيش عنها في فضائه الوسيع... ومع كلّ ذلك، فإنّ عليّاً شيء ومعاوية شيء آخر، ونحن ننعى الدهر كما نعاه الإمام نفسه لمّا قال: «أنزلني الدّهر حتّى قيل عليّ ومعاوية».

أجل، لقد جاء من يفهم الحكم والسّياسة على هذا الأساس، وكان المغيرة بن شعبة ومَن نصح عليّاًعليه‌السلام بهذا الأمر، غير أنّ الإمام عليّعليه‌السلام أبى إلاّ أن يمارس منهجه وموقفه الاستراتيجي، طلب منه ابن عباس أن يهادن معاوية ويعطيه إمارة الشّام، فطلب الإمام من ابن عباس، أن يطيعه فقط وأن ليس لمعاوية إلاّ السّيف. خرج الزُّبير وطلحة إلى العمرة، لكن عليّاًعليه‌السلام أدرك أمرهما، وما همّه ذلك؛ لأنّه يسلك مخطّطاً أبعد ممّا يتصوّران، وقال لبعض أصحابه: «والله ما أرادا العمرة، ولكنّهما أرادا الغدرة»(1) . لحقا بعائشة في مكّة وحرّضاها على الخروج.

وعائشة مَن؟ ولماذا؟!

كانت عائشة من النّاقمين الأول على عثمان، ومراراً صاحت:اقتلوا نعثلاً فقد كفر . وهي أوّل من أطلق عليه ذلك الاسم(2) . ولم تجب طلب مروان لها لنصرة عثمان والتوسط له مع القوم يوم الحصار وهي تتأهب للعمرة، وسارت تؤلّب عليه النّاس جميعاً، واعتبرت من أشدّ النّاس عليه في ذلك الوقت، وعندما وقف عثمان مرّة فخطب، دلت عائشة قميص رسول الله ونادت:

____________________

(1) اليعقوبي وغيره.

(2) ابن الأثير في التاريخ وابن أبي الحديد في الشّرح.

٢٣٥

يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لن يبل وقد أبلى عثمان سنّته. فقال عثمان: ربّ اصرف عنّي كيدهن، إنّ كيدهنّ عظيم(1) . وعندما سمعت بخبر مقتله، قالت: بُعداً لنعثل وسحقاً(2) .

ومن الجانب الآخر كان طلحة والزُّبير يتحينان الفرصة لمغادرة المدينة، فهما يهدفان إلى أكثر من إسقاط عثمان، يريدان الخلافة أو أقلّ أن يفضّلهما عليّعليه‌السلام على باقي المسلمين في العطايا، غير أنّهما لم يفلحا في استدراج عليّعليه‌السلام للمساومة، فقال طلحة - معرباً عن حالة الفشل هذه -: ما لنا من هذا الأمر إلاّ كلحسة الكلب أنفه(3) . وخرج بعد ذلك كلّ من طلحة والزُّبير يبغيان الإفلات من يد عليّعليه‌السلام ليلتحقا بعائشة، وما أن التحقا بها حتّى أقنعاها بالخروج معهما لقتال عليّعليه‌السلام ، والتحق بهم كلّ من الاُمويّين وولاة عثمان الذين عزلهم الإمام عليّعليه‌السلام .

لم تكن عائشة تظنّ أن الأمر بعد عثمان سيؤول إلى عليّعليه‌السلام ، كانت تتصوّر أنّ جذوة الهاشميين قد انطفأت منذ أن أخذ منهم حقّهم أبوها وفاروقه، ورغم ما قامت به من تحريض على عثمان، فهي ترى أنّ الأمر سيؤول لا محالة لابن عمّها طلحة. وعندما لم يتوفّق في ذلك، غيّرت عائشة وجهة نظرها، وتبنّت خطّاً نقيضاً، وهو المطالبة بدم عثمان، فعندما بلغها خبر المقتل وكانت بمكّة، قالت: أبعده الله، ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلام للعبيد. وكانت تقول: أبعده الله، قتله ذنبه وأقاده الله بعمله. يا معشر قريش، لا يسومنّكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر ذو الإصبع - تقصد طلحة -.

ثمّ أقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشكّ في أنّ طلحة هو صاحب الأمر، وكانت تقول: بُعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم، لله أبوك! أما إنّهم وجدوا طلحة لها كفؤاً، لكأنّي أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثوا الإبل

____________________

(1) اليعقوبي في التاريخ.

(2) ابن أبي الحديد في الشّرح.

(3) الطبري في التاريخ.

٢٣٦

ودعدعوها. ولمّا انتهت إلى (سرف) قرب مكّة في الطّريق إلى المدينة، لقيها عبيد بن اُمّ كلاب(1) ، فأخبرها بمقتل عثمان وبإجماع على بيعة عليّعليه‌السلام ، فقالت - بعد ذلك، وهي تولول -: ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، ويحك انظر ما تقول؟! ثمّ قال لها: ما شأنك يا اُمّ المؤمنين! والله لا أعرف بين لابتيها أحد أولى بها منه ولا أحقّ، ولا أرى له نظيراً في جميع حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؟

فراحت تقول: ردّوني، ردّوني. فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قُتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه. فقال لها ابن اُمّ كلاب: فوالله، إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ؛ فلقد كنتِ تقولين:اقتلوا نعثلاً فقد كفر . قالت: إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلتُ وقالوا، وقولي الأخير خيرٌ من قولي الأوّل. فقال لها ابن اُمّ كلاب:

فـمنكِ الـبداءُ ومنك الغِيَرْ

ومـنكِ الرِّياحُ ومنكِ المطرْ

وأنـتِ أمـرتِ بقتلِ الإمامِ

وقـلـتِ لـنـا إنّه قدْ كفرْ

فـهـبْـنـا أطعناكِ في قتلهِ

وقـاتـلُـهُ عـندنا مَن أمرْ

ولـمْ يسقطِ السقفُ من فوقنا

ولـمْ تنكسفْ شمسُنا والقمرْ

وقـد بـايـعَ النّاسُ ذا تُدْرَإٍ

يُـزيـل الشَّبا ويقيمُ الصّعرْ

ويـلـبسُ لـلحرب أثوابَها

وما مَن وفى مثلُ مَن قد غدرْ

ويذكر البلاذري في أنسابه: أنّها راحت إلى مكّة ونزلت على باب المسجد، فقصدت الحجر فتستّرت واجتمع النّاس إليها، فقالت: يا أيّها النّاس، إنّ عثمان قُتل مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه. وكانت تقول: يا معشر قُريش، إنّ عثمان قد قُتل، قتله عليّ بن أبي طالب، والله، لأنملة - أو قالت - لليلة من

____________________

(1) انظر الطبري وابن سعد.

٢٣٧

عثمان خير من عليّ الدهر كلّه.

لحق طلحة والزُّبير - بعد أن خسرا امتيازاتهما مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام - فانتهيا إلى مكّة حيث عائشة تقوم بالشّغب، فكانت فرصة لها؛ ليجتمعا على مخطّط يواجهون به عليّعليه‌السلام ، والغريب، إنّهما لم يكونا يفعلان هذا مع أبي بكر وعمر؛ إنّهم يعلمان أنّ عليّاًعليه‌السلام رجل له أعداء في كلّ مكان، وأنّ بلاءه في الإسلام لم يترك له حليفاً، وهو القائل: «ما ترك لي الحقّ من صديق». استغلا الفرصة للتأليب على أمير المؤمنينعليه‌السلام وزرع الفتنة في الاُمّة، وكان إلى جانب ذلك من العمّال المعزولين مَن ليس له مصلحة في خلافة عليّعليه‌السلام ، مثل؛ ابن عامر ويعلي بن اُميّة وما أشبه، وكانا لا يزالان يملكان الثّروة الفاحشة، فاستثمرا قسطاً كبيراً منها في المعركة ضدّ عليّعليه‌السلام .

ويذكر الطبري: أنّ يعلى بن اُميّة - وكان عليّعليه‌السلام قد عزله عن اليمن - ساهم بأربعمئة ألف أعطاها الزُّبير، وحمل عائشة على جمل عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، كما ساهم ابن عامر بمال وفير وأربعمئة بعير. واجتمعوا في بيت عائشة؛ يخطّطون للخروج، فكانت النتيجة أن يتّجهوا بادئ ذي بدء إلى الكوفة؛ حيث للزبير شيعة وأتباع، وإلى البصرة؛ حيث يوجد شيعة لطلحة، وساروا إلى المدينة بجيش يتألّف من أهل المدينة والكوفة، يتّسع لثلاثة آلاف رجل. ولمّا قدموا على البصرة، منعهم عامل الإمام عليّعليه‌السلام عليها - عثمان بن حنيف -، فغدروا به ووثبوا عليه وهمّوا بقتله لولا أن خافوا غضب الأنصار، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، وضربوه وحبسوه(1) ، وبقي كذلك رهينة بين أيديهم ينتظرون قدوم الإمام عليّعليه‌السلام .

ولمّا علم حكيم بن جبلة بما صنعوا بعثمان بن حنيف، جاءهم في جماعة من عبد القيس وسار نحو دار الرّزق، وقال: لست أخاف الله إن لم أنصره. وحدث بينه

____________________

(1) ابن الأثير 3 / 316.

٢٣٨

والقوم قتالاً شديداً، وقُتل هو وابنه شرّ قتلة، فهمّوا بقتل عثمان بن حنيف، فقال لهم: أما إنّ سهلاً بالمدينة، فإن قتلتموني انتصر. فخلّوا سبيله، فقصد عليّاً(1) .

وكان عليّعليه‌السلام في تلك الأثناء قد تجهّز إلى الشّام، فلمّا سمع الخبر، دعا القوم إلى الجهاد، فتثاقل البعض وتحمّس جماعة من الأنصار، ومن بينهم أبو قتادة الأنصاري، حيث قال لعليّعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله قلّدني هذا السّيف، وقد أغمدته زماناً، وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين، الذين لا يألون الاُمّة غشّاً، وقد أحببت أن تقدّمني فقدّمني. وقالت اُمّ سلمة زوجة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أمير المؤمنين، لولا أن أعصي الله وأنّك لا تقبله منّي، لخرجت معك، وهذا ابن عمّي، وهو والله أعزّ عليّ من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك. فخرج معه وهو لم يزل معه(2) .

كان ضمن معسكر الإمام عليّعليه‌السلام اثنان من أقرب من عائشة، وهُما اُمّ سلمة زوج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي التزمت شرع الله وناصرت عليّاًعليه‌السلام ، وأخو عائشة محمّد بن أبي بكر، الذي قاتل معسكر أخته ولم تأخذه في نصرة عليّعليه‌السلام قرابته لأخته.

وجاء في الخبر أيضاً: أنّ حفصة بنت عمر قد تهيّأت للحاق بهم - أي بعائشة - لولا أنْ نهاها أخوها في الطريق عبد الله بن عمر. فخرج الإمام عليّعليه‌السلام في جيشه حتّى انتهى إلى الرّبذة، وكان الإمام عليّعليه‌السلام يريد الاصلاح ويتجنّب القتال، حتّى أرغموه عليه، وعندما سمع بخبر القوم، بعث إلى الكوفة محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر، وكتب إليهم: «إنّي اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً، وانهضوا إلينا؛ فالإصلاح نريد لتعود هذه الاُمّة إخواناً».

وعند وصوله إلى ذي قار، أتاه عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة، فقال: يا أمير المؤمنين، بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد. فقال: «أصبتَ أجراً وخيراً».

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

٢٣٩

ورجع كلّ من محمّد بن أبي بكر وابن جعفر بعد أن لم يوفّقا في إقناع القوم، فبعث لهم الإمام عليّعليه‌السلام أشخاصاً كثيرين؛ كالأشتر وأبي موسى، ثمّ الحسنعليه‌السلام وعمّار، وبعد ما وقع من مشادّات كلامية، كان لا بدّ للمعركة أن تشتعل.

وكان الإمام عليّعليه‌السلام قد ذكّر الزُّبير بالله، فحاول الرّجوع لولا أن اعترضه ابنه، وخرج طلحة وخرج إليهما عليّ حتّى اختلفت أعناق دوابهم، فقال عليّ: «لعمري، لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، ألم أكُن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما، فهل من حدث أحلّ لكما دمي؟». قال طلحة: الّبت على عثمان. قال عليّ: «يومئذ يوفيكم الله دينهم الحقّ. يا طلحة، تطلب بدم عثمان، فلعن الله قتلة عثمان. يا طلحة، أجئت بعرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت؟! أما بايعتني؟». قال: بايعتك والسّيف على عنقي.

فقال عليّعليه‌السلام للزبير: «يا زبير ما أخرجك؟». قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منّا(1) . ثمّ قالعليه‌السلام له: «تذكر يوم مررت مع الرّسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بني غنم، فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه، فقلت له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه. فقال لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس به زهو، لتقاتلنّه وأنت له ظالم». قال: اللّهمّ نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا اُقاتلك أبداً. وكان ابنه عبد الله قد اعترضه وقال له: لكنّك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنّها تحملها فتية أنجاد، وأنّ تحتها الموت الأحمر فجبنت. وقال: إنّي حلفت أن لا اُقاتله. قال: كفّر عن يمينك وقاتله. فأعتق غلامه مكحولاً، وقيل سرجس.

وذكروا أنّ الزُّبير عاد عن القتال لمّا سمع أنّ عمّار بن ياسر في جيش عليّعليه‌السلام ، فخاف أن يُقتل عمّار. وكانا قد تشابكا ولم يقتتلا، فاعتزل الزُّبير القتال إلى عسكر الأحنف بن قيس، فلحقه عمرو بن جرموز وقتله.

أمّا طلحة، فقد قتله واحد من الاُمويّين الذين جاؤوا في جيش عائشة، وهو

____________________

(1) ابن الأثير.

٢٤٠