لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49924
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49924 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالقرود، وكان يريد أن يأخذ البيعة غصباً من الحُسينعليه‌السلام .

وليتهم تركوه، إذن لما قاتلهم والظروف لا تسمح، لكنّهم أرادوا أن يذلّوه ببيعة يزيد، فما كان إلاّ أن قالعليه‌السلام : «هيهات منّا الذلة».

حاول أن يقنع الجيش، غير أنّهم منعوه من الماء وأبوا إلاّ قتله، فدخل إلى الخيمة التي كانت بها أخته زينبعليه‌السلام ؛ حيث كان عليّ بن الحُسين مريضاً، وهو يقول:

يـا دهـرُ اُفٍّ لك من خليلِ

كمْ لكَ في الاشراقِ والأصيلِ

مـن طـالبٍ وصاحبٍ قتيلِ

والـدَّهـرُ لا يـقنعُ بالبديلِ

وإنَّـمـا الأمـرُ إلى الجليلِ

وكـلُّ حـيٍّ سـالكٌ سبيلي

وفي يوم الغد، حاول مع القوم أن يخلّوا سبيله للرجوع أو ملاقاة يزيد، أو يفتحوا له الطريق إلى إحدى ثغور الاُمّة؛ ليقاتل كباقي المجاهدين، فأبوا إلاّ قتله. فرجع إلى قومه يكلّمهم: «إنّ القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم، فانصرفوا فأنتم في حلّ». فقالوا: لا والله يابن رسول الله حتّى تكون أنفسنا قبل نفسك.

ثمّ يذكر اليعقوبي: أنّ زهير بن القين خرج على فرس له فنادى: يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله! نذار عباد الله! ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ولد سميّة، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم. أيّها النّاس! إنّه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبّي إلاّ الحُسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلاّ نغّصه الله الدُنياً، وعذّبه أشدّ عذاب الآخرة.

وانطلق الرّعاع يحرقون خيام الإمام الحُسينعليه‌السلام ، وقتلوا كلّ مَن كان معه، وتشرّد حريم الحُسين، وتفرّق الصبية هاربين من الهجمة البربرية. لقد عرفوا أنّهم يقتلون ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلقد عرّفهم بمنزلته من

٣٠١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبفضله وبالآخرة، إلاّ أنّ الدُّنيا كانت قد حجبت عنهم كلّ حقيقة، قال لهمعليه‌السلام كلمة يسترجعهم فيها إلى الاستقامة: «أيّها النّاس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمّي؟ أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدقتموني بما أقوله، وهو الحقّ، والله، ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرب من اختلقه، وإن كذبتموني، فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد السّاعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم عن سفك دمي».

فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول. فقال ابن مظاهر: والله، إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

قال الحسينعليه‌السلام : «فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جرامة؟!». ثم نادىعليه‌السلام : «يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثّمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟».

فقالوا: لم نفعل.

٣٠٢

قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». فقال: «أيّها النّاس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض؟». فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؛ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحسينعليه‌السلام : «أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد».

كان الإمام الحُسينعليه‌السلام يحرص على كرامة الاُمّة ومصلحتها، ويحول دون يزيد وإذلالها: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

لقد خُذل الحُسينعليه‌السلام وهو في أمسّ الحاجة إلى من ينصره، فما كان إلاّ أن يتوكّل على الله، ودعا على القوم: «اللّهمّ، احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّره؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير». كانت لكلمة الإمام الحُسينعليه‌السلام صدى أدركت معناها قلوب القوم، غير أنّها لم تستجب؛ فدنيا يزيد أنفس لديهم من ظلم الحُسينعليه‌السلام ، فهي الفرصة التي لا يضيّعها لئيم، غير أنّ الكلمة كان لها وقع ثقيل ولطيف على رجل من كبار الفرسان، وهو الذي دفع بالإمام الحُسينعليه‌السلام إلى كربلاء ومنعه عن دخول الكوفة، سمع الكلمة فوعاها، وكان هنالك خلّف لكلّ إغراءات يزيد، رقّة إيمان تسكن قلب الحرّ، فأقبل إلى عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرّؤس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟

٣٠٣

فقال: لو كان الأمر إليّ لقبلت، ولكنّ أميرك أبى ذلك. فتركه وقال لقرّة بن قيس: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذاك أنّه يريد الاعتزال، فأخذ الحرّ يدنو من الحُسين، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت، فارتاب المهاجر من هذا الحال، وقال له: لو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، ووالله، لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت.

ثمّ اتجه نحو الحُسينعليه‌السلام منكسراً معتذراً يلتمس الغفران، فقال للإمامعليه‌السلام : اللّهمّ، إليك أنيب فتب عليّ، أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك، يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟ قال له أبو عبد الله: «نعم يتوب الله عليك».

فأستأذن الحُسين في أن يخاطب القوم، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر، أدعوتم هذا العبد الصالح، حتّى إذا جاءكم أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه، وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب، فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة؛ حتّى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري، الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السّواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم مُحمّداً في ذرّيّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ!

انطلق الحرّ معرباً عن ورعه وإخلاصه لقضية الحُسين، وهو يقول:

إنِّـي أنا الحرُّ ومأوى الضيفِ

أضـربُ فـي أعناقكُمْ بالسيفِ

عن خيرِ مَن حلَّ بأرضِ الخيفِ

أضـربكُمْ ولا أرى مـن حَيفِ

ثمّ راح يقاتل ببسالة يقلّ لها نظير حتّى قُتل، وكانت تلك شهادة على توبته

٣٠٤

وفيئه إلى الحقّ، ثمّ جاء إليه الحُسينعليه‌السلام ، وهو ممدّد، فقال:

لـنعمَ الحرُّ حر بني رياحِ

صبورٌ عند مشتَبكِ الرماحِ

ونعمَ الحرُّ إذ نادى حُسيناً

وجاد بنفسهِ عند الصباحِ

وقال: «والله، ما أخطأت اُمّك لما سمّتك حرّاً، فأنت الحرّ في الدُّنيا والآخرة».

كان شعار الإمام الحُسينعليه‌السلام بكربلاء الحرّية، ولذلك معنى عميق يدرك باستيعاب الحدث وفلسفته. انطلق الإمامعليه‌السلام وهو ينادي القوم: «إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تخافون الميعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عرباً كما تزعمون».

وقضية الحُسينعليه‌السلام هي - بالإضافة إلى كونها قضية إسلام وجاهلية - تبقى قضيته حرّية؛ إذ أنّ الذين طلبوه ثمّ خذلوه، كانوا يفتقدون للحس التحريري. التحرّر من كلّ ما يفقد الضمير يقظته، ويعكّر المعاني والقيم في النّفوس. لقد فقدوا حرّيتهم أمام دُنيا يزيد واستعبدهم بطشه، فافتقدوا الإرادة وافتقدوا معها الحرّية، ولم تكن هذه المعركة تعبّر حتّى عن الذهنية العربيّة، فمعارك العرب أسمى من أن تجمع بين جيش جرّار وفئة قليلة من النّاس، وهي أسمى من أن تجمع بين لقطاء وبين عصبة تنتمي لبيت الشّرف.

وقد كان الحسّ القبلي طاغياً على الحسّ الغنيمي عند العرب، والفضيلة غالبة على كلّ الاعتبارات الاُخرى، فهذا القدر من الحرّية افتقده جيش يزيد، وبالتالي كانوا يحتاجون إلى أكثر من قفزة للوصول إلى مستوى الخطّاب الإسلامي؛ فهم في حاجة إلى حرّية ولو في صبغتها العربيّة. كان الحرّ بن يزيد هو ذلك النموذج الذي أثّرت عليه كلمات الحُسينعليه‌السلام ، والإحساس بالتحرّر كان لا يزال حيّاً في أعماقه. وكلّ مَن كان هُناك كان يعرف إنّه مسلوب الحرّية باختيار منه ليس إلاّ. فالحرّ بن يزيد أدرك أنّه أكثر تحرّراً من أن يمنعه القوم المجرمون عن نصرة الحُسينعليه‌السلام ، ومهما بطش يزيد وتجبّر، فإنّه لا يملك أن يسلب الحرّية ممّن وطّن نفسه على الكفاح واستقبل الموت بصدر وسيع.

كان يزيد أقلّ قدراً وأخسّ من أن يجبر مسلماً على الخضوع لو أنّ المسلمين استجابوا للجهاد، فما ترك قوم الجهاد إلاّ ذلّوا، وكان نموذج أهل الكوفة نموذج القوم الذين افتقدوا حسّ التحرّر، وتلك هي أهمّ القضايا التي واجهها الحُسينعليه‌السلام .

٣٠٥

والقوم الذين ضاع حسّهم التحرّري في منعرجات النّزوع الدّنيوي، لم يكونوا في حاجة إلى ضمير ثوري، يزعجهم ويضعهم أمام المسؤولية وفي مواجهة الخيار الصّعب، فكان ضرورياّ أن يهاجموا معسكر الأحرار، ويدكّوا بفرسانهم جسد الحُسينعليه‌السلام ؛ انتقاماً من صلابته التي تعتبّر انتصاراً على مستوياتهم النّفسية.

لقد ظهرت لهم نفوسهم أخسّ وأخسّ مئات المرّات من جون، ذلك العبد الذي تنّفس حرّيته، ووجد في معسكر الحُسين ميداناً واسعاً للتعبير عن تحرّره المكبوت خلال سنين مديده. إنّهم يرون في تحرّر الحُسين وشيعته قبح وجوههم وذمامتها وخسّة نفوسهم وانحطاطها، فلذلك ازداد انتقامهم وتضاعف، فراحوا يتنافسون على تدمير معسكر الإمام الحُسينعليه‌السلام .

اشتدّ القتال وشيعة الحُسينعليه‌السلام يتساقطون كأوراق الخريف الواحد تلو الآخر، وكلّهم يقدّم أروع أدوار البطولة والفداء، حتّى لم يبق إلاّ الحُسين وأهل بيته ليس معهم إلاّ الله. كان عليّ بن الحُسينعليه‌السلام مريضاً، وقد شاءت الأقدار أن يكون كذلك للدور التاريخي المنوط به بعد الحُسينعليه‌السلام ، غير أنّ عليّاً الأكبر - وهو أخوه - كان في تمام الاستعداد لالتماس الشّهادة؛ ليكتب بها وثيقة عار في تاريخ الجريمة التي شهدها آل البيت المُحمّدي، انطلق يطلب القوم نصرة أبيه وللحقّ الذي جاء من أجله، ونشد في القوم:

أنـا عليُّ بنُ الحُسينِ بنِ علي

نـحنُ وربِّ البيتِ أولى بالنَّبي

تاللهِ لا يـحكُمُ فـينا ابنُ الدَّعي

أضربُ بالسيفِ اُحامي عنْ أبي

ضربَ غُلامٍ هاشميٍ قَرشي

كان المشهد يدور بعين الحُسينعليه‌السلام يرى ببصيرة المعصوم انحطاط النّفوس وتشّوه القلوب، يرى كيف صار الأمر في اُمّة طالما ربّى فيها جدّه وأبوه النّفوس التعبى.

٣٠٦

ثمّ أطلقها صرخة، والدّموع تنساب من عينيه، وقد أحسّ بالاستضعاف: «ما لكَ؟! - يقصد عمر بن سعد - قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلّط عليك مَن يذبحك على فراشك». ثمّ رفع يديه الكريمتين نحو السّماء، وتمثّل قائلاً: «اللّهمّ، اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك مُحمّدٍ خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ، فامنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلونا».

قاتل عليّ الأكبر القوم وأبوه يرى بلاءه فيهم، واشتدّ العطش عليه، فعاد إلى أبيه يستسقيه؛ ليستجمع قواه ويكرّ من جديد على جيش الأعداء، غير أنّ الحُسينعليه‌السلام أدرك أنّه ليس بينه وبين مفارقة الحياة إلاّ فترة قصيرة، ففضّل أن يبقى على عطشه حتّى يلقى الله تعالى، فأعطى بذلك لابنه روحاً جديدة، فقال له: «ما أسرع الملتقى بجدّك، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً». ثمّ راح يقاتل الأعداء، فحملوا عليه وطعنوه بالرّماح وضربوه بالسّيف على رأسه، وقطّعوه بالسّيوف قطعاً، وفارقت نفسه الحياة، وجاء أبوه يودّعه فما وجده إلاّ جثّة هامدة مضرّجة بدماء العزّة والإيمان، فقال: «على الدُّنيا بعدك العفا، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول! يعزّ على جدّك وأبيك أن تدعوهم فلا يُجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك». إنّهم يدركون أنّ نسل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مهدّد بالانقراض، وهم يمعنون في ذلك، فبنو اُميّة أنفع لهم من بني هاشم التي أخذتهم بالعزائم ونغّصت عليهم حياتهم بالورع والفضيلة.

كان معسكر الحُسينعليه‌السلام مكتضّاً بالأطفال والنّساء، اشتدّ عليهم العطش، ولا يزال الحُسينعليه‌السلام وآل بيته يستسقون القوم فلم يجيبوهم، كان العبّاس حاضراً ذلك المشهد، وضاق صدره وطلب من الحُسينعليه‌السلام أن يخرج إلى القوم الظّالمين، فنادى في القوم:

٣٠٧

يا عمر بن سعد، هذا الحُسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظمأ قلوبهم. فصاح الشّمر: يابن أبي تراب - يقصد الإمام عليّعليه‌السلام -، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا، لا سقيناكم منه قطرة، إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد.

لقد جعلوها شرطاً لحياتهم وحياة عيالهم، والحُسينعليه‌السلام ليس مجنون حرب حتّى يضحّي بأهله وعياله في سبيل موت هو عنه في خيار، إلاّ أنّ المسألة تخضع لمعايير الإسلام، والإسلام مهدّد فيما لو بايع الحُسينعليه‌السلام .

رجع العبّاس والأطفال يبكون من شدّة الظّمأ، فرقّ قلب العبّاس واستنفر عزيمته وانطلق في القوم يقاوم يميناً وشمالاً، حتّى أتى الفرات واغترف منه ماء، ورجع يقاوم جيش النّفاق، فنصبوا له كميناً، وضربه بعضهم فقطع يمينه، واستمرّ في مسيره قاصداً الحُسين يريد إيصال قربة الماء؛ لسقي عطاشى آل البيت وهو يقول:

واللهِ إنْ قـطعتُمُ يـميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعـن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النَّبيِّ الطاهرِ الأمينِ

وانطلق بعيداً حتّى باغته حكيم بن الطفيل من وراء نخلة فضربه على شماله، وقطع يده الاُخرى، وانهالت عليه السّهام من كلّ جانب وأصابت صدره، وضُرب رأسه فانفلق، وسقط صريعاً وهو يقول: عليك منّي السّلام أبا عبد الله.

رآه الإمام الحُسينعليه‌السلام فأيّ عبره تعكس حقيقة المأساة؟ وأيّ كلمة تعكس حقيقة الحزن الذي اعترى سيّد الشّهداء؟ لقد رؤي وهو يكفكف الدّمع ويقول: «أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النّار فيذّب عنّا؟».

واعتلّ الصياح في الخيام واشتدّ النّواح، واختلطت أصوات النّساء بأصوات الأطفال في مشهد تراجيدي تخرس عن وصفه ألسن الشّعراء.

٣٠٨

لقد استنفذ معسكر الحُسينعليه‌السلام كلّ عناصره، ولم يبق إلى جانب الحُسين سوى عياله، وكان ذلك الطفل الرّضيع - ولده - فتح عينيه في معترك المأساة، فرفعه أمام القوم يريد استعطافهم ليسمحوا بإعطاءه ماء، غير أنّ الرّوح الدّموية التي ما رآها التاريخ ولا شهدتها ملاحم البشر، كانت توجد في هذا المعسكر المشؤوم، فرفع حرملة بن كاهل الأسدي سهمه ورمى به الطّفل، فسال دم البراءة على كفّ الحُسين، وأخذ يرمي به نحو السّماء وهو يقولعليه‌السلام : «اللّهمّ، تقبّل منّا قربان آل محمّد». وقالعليه‌السلام : «هوّن ما نزل بي إنّه بعين الله تعالى. اللّهمّ، لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح. إلهي إن كنت حبست عنّا النّصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظّالمين، واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل. اللّهمّ، أنت الشّاهد على قوم قتلوا أشبه النّاس برسولك». ثمّ نزل عليه السّلام عن فرسه ودفن طفله الرّضيع وصلّى عليه.

فكان الإمام هو آخر من يتقدّم للميدان، انطلق إلى القوم مصلتاً سيفه، فقاتلهم قتالاً شديداً وهو يقول:

الموتُ أولى من ركوبِ العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النَّارِ

هنالك صاح عمر بن سعد: هذا ابن الأنزع البطين - يقصدون الإمام عليّعليه‌السلام - هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كلّ جانب. فصاح فيهم الحُسينعليه‌السلام يردّهم بكلامه النّافذ في أعماق الضّمير، غير أنّ القوم لا ضير لهم، فقال شمر بن ذي الجوشن: ما تقول يابن فاطمة؟ قال: «أنا الذي اُقاتلكم، والنّساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التّعرض لحرمي ما دمت حيّاً».

واستمرّ القتال بين جيش عمر بن سعد والإمام الحُسينعليه‌السلام ، وقد بدأت الدماء تغطّي جسده وهو يقول: «هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا مخضّب بدمي وأقول: يا جدّي قتلني فلان وفلان». لقد أصابته السّهام في جسده ورأسه فسقط، ولم يبقى قادراً على الحرّاك.

٣٠٩

يقول صاحب اُسد الغابة: أمر عمر بن سعد نفراً فركبوا خيولهم وأوطؤوها الحُسين.

لا تزال الحياة تدبّ في جسده الشّريف، ولا يزال به رمق، فلا بدّ أن يتقدّم إليه القوم ليحتزّوا رأسه، فبادر زرعة بن شريك بضرب كتفه الأيسر، ثمّ رماه الحصين في حلقه، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته ورماه بسهم في نحره، وطعنه آخرون على عاتقه وجنبه، وارتفعت الأصوات، ونادت اُمّ كلثوم واُخته زينب: وا مُحمّداه! وا أبتاه! وا عليّاه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا الحُسين بالعراء صريع بكربلاء! ثمّ نادت زينب: ليت السّماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السّهل.

ولا يزال الصياح يهزّ الميدان والنّوح تولول على الحُسينعليه‌السلام والدُّنيا قد اظلمت، فالحُسين صريع، ويقف عمر بن سعد: انزلوا إليه وأريحوه. فانطلق شمر فضربه برجله وأمسكه من لحيته وما زال يضربه بالسّيف، ثمّ احتزّ رأسه.

يقول اليعقوبي: وانتهبوا مضاربه، وابتزّوا حرمه، وحملوهنّ إلى الكوفة.

لقد أطمعهم في الحُسينعليه‌السلام سيفه وملابسه، فراح كلّ واحد يلتمس له قطعة من لباسه ينهبها، فأخذ الأسود بن حنظلة سيفه، والأسود بن خالد نعليه، وإسحاق بن حوية قميصه، وقطعوا إصبعه الذي به الخاتم لمّا رأوا الدم قد تجمّد والتصق به.

يقول صاحب اُسد الغابة: إنّ سنان بن أنس لمّا قتله، قال له النّاس: قتلت الحُسين بن عليّ وهو ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم العرب خطراً، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فلو أعطوك بيوت أموالهم لكان قليلاً. فأقبل على فرسه - وكان شجاعاً به لوثة - فوقف على باب فسطاط عمر بن سعد، وأنشده الأبيات:

٣١٠

أوقرْ ركابي فضَّةً أو ذهبا

فـقد قتلتُ السَّيدَ المـُحجَّبا

قتلتُ خيرَ النَّاسِ اُمّاً وأبا

وخيرَهُمْ إذ يُنسبون نسبا

قال اليعقوبي: واُخرج عيال الحُسين وولده إلى الشّام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرّم سنة 61 للهجرة.

ثمّ جاؤوا بالرّأس ووضعوه بين يدي يزيد لعنه الله، فأخذ ينكثه بقضيب وهو ينشد:

لـيتَ أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

لأهـلّـو واسـتهلوا فـرحاً

ثـم قالوا يا يزيد لا تُشلْ(1)

____________________

(1) القصّة مذكورة بصيغ مختلفة في كتب التاريخ الشّهيرة: تاريخ الطبري، ابن الأثير، مروج الذهب، الإمامة والسّياسة، مقاتل الطالبيين، اُسد الغابة، البداية والنّهاية، الأغاني، اُنظر عقيلة بني هاشم لبنت الشّاطئ، عليّ وبنوه لطه حسين، وغيرهم.

٣١١

٣١٢

لقد شيَّعني الحُسينُعليه‌السلام

هذه مجرّد عموميات مختصرة حول المشهد الدراماتيكي لملحمة كربلاء كما اتّفقت عليها تواريخ المسلمين. ولعمري، إنّه المشهد الذي لا يزال صداه يتحرّك في أقدس قداساتي، يمنيني بالأحزان في كلّ حركة أتحرّكها.

ما إن خلصت من قراءة مذبحة كربلاء بتفاصيلها المأساوية حتّى قامت كربلاء في نفسي وفكري، ومن هُنا بدأت نقطة الثّورة، الثّورة على كلّ مفاهيمي ومسلّماتي الموروثة، ثورة الحُسين داخل روحي وعقلي. أجل، ليس من وظيفة هذا الكتاب التعرّض لتلك التفاصيل، وإنّما نريد أن نعطي مجرّد إشعاعات متفرّقة عن تلك المذبحة؛ لفضح التاريخ الرّسمي الملفّق. الأوراق كلّ الأوراق مع هذا التاريخ الجريح، القابع خلف اللاشعور التاريخي المكتوب بريشة أهل الزلفى المقرّبين.

لقد جاء أهل الشّام والكوفة بالسّيف وجاء الحُسين بالدم، وانتصر الدم على السّيف، بل وانتصر على التاريخ البلاطوي، فكان الحُسين نوراً لم تغطّه ظلم التحريف. ونحن ننعى هذه المأساة، ونعلم أنّ الإمام الحُسينعليه‌السلام قد مضى على الحقّ، وأنّ قطرة من نعيمه قد أنستهم كلّ معاناته، إلاّ أننا نبكي اُولئك المغفّلين الذين

٣١٣

اتّخذوا من قاتلي الحُسين وأنصارهم وخاذليه، قدوّة لهم وأسوة ونماذج من الورع يقتدى بها.

وما أكثر الطبول التي قرعت والمزامير التي عزفت؛ مدحاً لشخصيات تاريخية، كانت من بين اُولئك الذين اشتركوا في احتزاز رأس الحُسين ونهب متاعه بخسّة، الذين قتلوا الحُسينعليه‌السلام وهم يعلمون أنّه خير من أميرهم وسيّد العرب والمسلمين، وما قتلوه إلاّ طمعاً في الحطام الذي أمناهم به يزيد، أليسوا قادرين على تحريف الإسلام واختلاق الأحاديث بحثاً عن نفس الحطام؟

لقد شيعني الحُسينعليه‌السلام من خلال المأساة التي شاهدها هو وأهل البيتعليهم‌السلام ، شيعني بدمائه العبيطة وهي تنساب على الرمل الأصفر بأرض الطفوف، وبصراخ الأطفال ونواح النّساء، يومها ناديت وقد انسكبت من عيني دمعة حزينة، حزينة ورقيقة، قلت والقلب تتمزّقه الأحزان:

ويُـرثي ربابك دنيا الشجونِ

ودمـعُ الـنواح وفيضُ الدِّما

فرمسٌ عداك كجحرِ الصقورِ

وسـرُّ هُـداك مخور الدُّجى

عـظمتَ فأنت عظيمُ المقامِ

عـظـيمٌ فأبشرْ بنصرِ السَّما

ويُرسي الزَّمانُ حراكَ النّسورِ

وسيرَ الذئاب بخبء السّرى

فـدمعكَ سالٍ بتلك الطفوفِ

وسـالٍ وسـالَ بكلِّ الثَّرى

فـصار رواءً بـكُلِّ الدهورِ

ورطـبـاً جـنيّاً لكُلِّ الدّنى

فيا أرضُ لا تقنطي بالقروحِ

ويا قومُ لا تُبطئوا في الخُطى

فـحتماً يـعود لهدمِ الشرورِ

ويُـرسي المراحُ بردمِ القذى

فذاك الـزكيُّ بكُلِّ فخارٍ

ونـجلٌ قـضمٌّ وليثُ الوغى

رجوتُ الصلاحَ بأرضِ العدا

بـسبطِ الأمين وطابَ الثرى

وأيّ شيء صنع الأعداء بموته سوى أن حفروا قبورهم، ودقّوا نعوشهم بالمسامير؛ ليدخلوا مقبرة التاريخ صاغرين، وما زلت أراه - أبا عبد الله - كبيراً في

٣١٤

عين التأريخ، لقد نوّر الحياة بدمه الزّكي العطر:

سطعتَ بريقاً كومضِ الشُّموسِ

وشـاعَ سـنـاكَ كبرقِ السَّما

رُفـعـتَ فكُنتَ تعالي النُّجومَ

وعمَّ جـبـينُكَ لمعَ السَّنا

سموتَ عزيزاً تجوبُ السنينَ

تـدكُّ جـبـالَ العُلى والرُّبى

فـدمـعُكَ كـان كقطرِ النَّدى

كـطـلِّ الصباحِ يرشُّ الـمُنى

عـلوتَ فصرتَ باُفقِ الجلالِ

عظُمتَ فخافتْ جسورُ الوغى

هُـديـتَ فكُنتَ كنجمِ السَّماءِ

أنـبـع الصفاءِ ورؤيا الكرى

وما أن أقرأ عن تفاصيل كربلاء حتّى تأخذني الجذبة بعيداً، ثمّ تعود أنفاسي إلى أنفاسي، والحُسين ألفاه لديها قد تربّع بدمائه الطاهرة، فيا ليتني كنت معه فأفوز فوزاً عظيماً.

وفي تلك الجذبة هناك مَن يفهمني، وقد لا يفهمني مَن لا يرى للجريمة التاريخيّة وقعاً في نفسه وفي مجريات الأحداث التي تلحقها. فكربلاء مدخلي إلى التاريخ، إلى الحقيقة، إلى الإسلام، فكيف لا أجذب إليها جدبة صوفي رقيق القلب، أو جدبة أديب مرهف الشّعور، وتلك هي المحطّة التي أردت أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيتعليهم‌السلام ، وظروف الجريمة التاريخيّة ضدّ نسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والسّؤال الذي يفرض نفسه هُنا، هو مَن قتل الحسين؟ أو بتعبير أدق، مَن قتل مَن؟

نحن لا نشكّ في أنّ مقتل الحُسين هو نتيجة وضع يمتدّ بجذوره إلى السّقيفة، إلى أخطر قرار صدر بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ضحيته الأوّلى آل البيتعليهم‌السلام ، ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي، إنّ محاولة تهميش آل البيت وقمع رموزهم بدأ منذ السّقيفة. ورأيي لو جازف الإمام عليّعليه‌السلام وفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، لكان فعلاً أحرقوا عليهم الدار، ولكان شيء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحُسين. وأنّ بداية النّشوء أو بالأحرى إعادة النّشوء لحزب بني اُميّة، كان منذ الخلافة الأولى؛ ذلك أنّ معاوية وأخاه يزيد كانا عاملين على

٣١٥

الشّام، وتقوّى نفوذهما منذ ذلك العهد، وكلّ المسلمين في ذلك العصر كانوا يدركون مدى القوّة التي يمكن أن تمنحها الإمارة لرجال مثل معاوية ويزيد.

المعادلة المقلوبة، وميزان القوى اللامتكافئ بين الحزب الاُموي وبني هاشم بدأ منذ وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ضُرب ولا قُمع واستضعف بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل أو عشيرة مثل ما ظُلم آل البيتعليهم‌السلام . لقد دخل بنو اُميّة الإسلام وهم صاغرون، وكان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أراد قتلهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، غير أنّه عفا عنهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطُلقاء». وطُلقاء لا تعني الإسلام، ثمّ ما برحصلى‌الله‌عليه‌وآله يحذّر من خطرهم الذي كان يدركه من خلال طبيعة الصراع الذي دار بين الإسلام وبني اُميّة؛ ويدرك بمنظار النّبوة مخترقاً بذلك حجب المستقبل، ليحدّثنا عن مصير الاُمّة على يد بني اُميّة.

روى الإمام أحمد عن عفان وعبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن عليّ بن يزيد(1) : حدّثني مَن سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «لينعقن - وفي رواية ليزعقن - جبّار من جبابرة بني اُميّة على منبري هذا». زاد عبد الصمد: «حتّى يسيل رعافه». ثمّ قال: فحدّثني مَن رأى عمرو بن سعيد بن العاص: يرعف على منبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى سال رعافه.

وذكر ابن كثير قال: قال يعقوب بن سفيان: ثنا أحمد بن محمّد أبو محمّد الزرقي، ثنا الزنجي - يعني مسلم بن خالد -، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «رؤي في المنام بني الحكم - أو بني أبي العاص - ينزون على منبري كما تنزو القردة». قال: فما رآني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مستجمعاً ضاحكاً حتّى توفّي. ثمّ قال ابن كثير: وقال الثّوري عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، قال: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بني اُميّة على منبره، فساءه ذلك، فأوحى إليه: «إنّما هي دُنيا اُعطوها». فقرّت به عينه.

صاحب اُسد الغابة

____________________

(1) ماذا في التاريخ.

٣١٦

عن عمر بن محمّد بن المعمر البغدادي، وغيره (...) إلى نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنّا مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمرّ الحكم بن أبي العاص، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويل لاُمّتي مما في صلب هذا!». وهو طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفاه من المدينة إلى الطائف.

وقال الحسن البصري: أربع خصال في معاوية، لو لم يكن فيه إلاّ واحدة منها لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسّيف حتّى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده سكّيراً وخمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. هؤلاء الذين لم يحص لهم التاريخ فضيلة - اللّهمّ إلاّ في مصنّفات البلاطيون - فهم الذين وطؤوا بأقدامهم آل البيت المُحمّدي، هؤلاء بهذه الصفة قتلوا أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وهُم في غنى عن التعريف.

لقد قتل يزيد الحُسينَعليه‌السلام ، وهذا الأخير لم يحصِ له التاريخ سوى الفضائل العظام، ولقد علم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ابنه هذا سوف يُقتل مظلوماً، وحديث التربة تواتر في التواريخ الإسلاميّة.

ذكر ابن الأثير في اُسد الغابة: أخبرنا إبراهيم بن محمّد الفقيه وغير واحد، قالوا بإسنادهم إلى الترمذي، قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدّثنا رزين، حدّثني سلمى، قال: دخلت على اُمّ سلمة وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلتُ: ما لك يا رسول الله؟! قال: «شهدتُ قتل الحُسين آنفاً».

وذُكر أيضاً عن حماد بن سلمة، عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس، قال: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يرى النّائم نصف النّهار، وهو قائم أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، فقلتُ:

٣١٧

بأبي أنتَ واُمّي يا رسول الله! ما هذا الدم؟ قال: «هذا دم الحُسين، لم أزل التقطه منذ اليوم». فوجد قد قُتل في ذلك اليوم.

وفي البداية والنّهاية لابن كثير، قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصمد بن حسان، حدّثنا عمارة عن ثابت عن أنس، قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأذن له، فقال لاُمّ سلمة: «احفظي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد». فجاء الحُسين بن عليّعليهما‌السلام فوثب حتّى دخل، فجعل يصعد على منكب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له الملك: أتحبّه؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم». قال: فإنّ اُمّتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يُقتل فيه. قال: فضرب بيده فأراه تراباً أحمر، فأخذت اُمّ سلمة ذلك التراب فصرّته في طرف ثوبها. قال: فكنّا نسمع يقتل بكربلاء.

وذكر البيهقي عن الحاكم... إلى أن قال: عن عبد الله بن وهب بن زمعة، أخبرتني اُمّ سلمة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اضطجع ذات يوم، فاستيقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرقد، ثمّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في المرّة الأولى، ثمّ اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء وهو يقلّبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ فقال: «أخبرني جبريل أنّ هذا مقتل بأرض العراق للحسين. قُلت له: يا جبريل، أرني تربة الأرض التي يُقتل بها، فهذه تربتها». وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسن والحُسين ريحانتي».

وغيرهما ممّا أحصته الكتب الصحاح عن مناقبهم وفضائلهم بما لا يترك ريباً، ثمّ يأتي التاريخ فيوقف الفضيلة كلّها أمام الرّذيلة كلّها، بل ويجعلون الرّذيلة تسطو وتبطش بالفضيلة، مع كلّ ذلك يأتي المؤرّخة فيرون في كلّ ذلك اجتهاداً، وفي نظر بن خلدون يكون عليّعليه‌السلام مثل معاوية، والحُسين كيزيد، كلّهم عدول مؤمنون ومرضيّون.

وإنّني لم أجد ما أعبّر به عن ابن خلدون، إلاّ ما قاله عنه (هاملتون جيب)، بأنّه: لا يعدو أن يكون فقيهاً مالكياً

٣١٨

يرمي إلى تبرير واقع الخلافة، كما فعل قبله الماوردي والباقلاني والغزالي.

أنا هُنا لا اُريد أن أحطّ من قدر هؤلاء، ولست أقول إنّهم ساذجون وأغبياء، بل أقول إنّ السّياسة والبلاط قد أفقدهم الرّؤية السّليمة، والجو النّفسي العام كان أقوى من إراداتهم. كأنّ ميزان العدل الإلهي اختلّ - سبحانه وعلا - حتّى يكون أغيلمة بني اُميّة على طرف المساواة مع أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأذكر مرّة كنت أتحدّث لدى العلاّمة السّيد هادي المدرّسي، فقلت له: من الطريف أنّ بعض العلماء من العامّة يروون حديثاً هو رؤيا للإمام الحسنعليه‌السلام ، مثل الغزالي في الإحياء وكذلك زاد المعاد: إنّه رأى وكأنّ عليّاً ومعاوية اُوتي بهما، ثمّ اُدخلا في بيت، فما كان أسرع من عليّ إذ خرج يقول: قضي لي وربّ الكعبة، ثمّ ما برح أن تبعه معاوية يقول: غُفر لي وربّ الكعبة.

قال السّيد المدرّسي: هذه الرّواية متناقضة من الأساس؛ إذ كيف يكون من العدل أن يُقضى لعليّ ويُغفر في نفس الوقت لمعاوية، فمن أيّ جهة قضى لعليّعليه‌السلام إذاً؟! إذا كان يزيد والاُمويّون جميعاً قتلوا الحُسين وآل البيتعليهم‌السلام ، وشربوا الخمور وحكموا بالباطل وهُم مؤمنون، فلماذا تقوم قائمة المسلمين اليوم، فيكفّرون المجتمعات وينتقدون السّلطات؟! ولست أقلّ ثورية من اُولئك المتشدّدة عندما أقول: إنّ يزيد بن معاوية وأباه وبني اُميّة جميعاً أنكى وأمرّ طغياناً من أيّ سلطة معاصرة، إنّ القمع والديكتاتورية في عالمنا العربي والإسلامي لها أرضيتها في تاريخنا.

لماذا نحدث القطيعة فنبرئ طغاة الماضي والرّجوع إلى نموذج السّلف؟ هي دعوة متعسّفة على هذا الافتراض. وإذا كان الأمر كذلك، يلزم أن نتّهم كلّ من تعامل معهم ومكّن لهم، فبنو اُميّة لم تكن لتعود إليهم القوّة لولا ما قدّمه الخلفاء لهم من إمارات.

كنت أظنّ أنّ الإسلام قد أعطانا روحاً قويّة لطلب العدالة، ولم أكن أظنّ أنّ بعضنا سوف لا تدفعه مذبحة كربلاء إلى معرفة القضية من أساسها، ومحاكمة

٣١٩

أشخاصها على مستوى الفكر الذي لا يزال يؤسّس وعينا بالماضي والحاضر، غير أنّني رأيتهم مكبّلين بألف قيد مثلما كنت مقيّداً، وإن كنت قد استطعت كسر الأغلال عنّي، فإنّ غيري ضعف عن ذلك وبقي أسير الظلام. ثمّ أدركت أنّ الإسلام أعظم من أن يكبّل اُناساً لطلب العدالة في التاريخ وفي كلّ المستويات. أدركت أنّ شيئاً جديداً على روح الإسلام لوّث صفاءه الروحي.

أدركت أنّه المذهب، وفي ذلك الوقت عرفت أنّني لا يمكنني أن أتعامل بتحرّر وموضوعيّة مباشرة مع القرآن والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان ضرورياً أن أرفع القيود عنّي وأبدأ مسيرة جديدة في البحث عن الحقيقة، جئت مرّات ومرّات عند أهل الخبرة من أهل السّنّة والجماعة، وكلّما حدّثتهم عن ذلك، امتعضوا وارتسم في وجوههم غضب، يسمّونه الغضب لله، كانت وجهات نظرهم تنقسم إلى قسمين:

1 - بعضهم ردّ عليّ: ليس الحُسين هو أوّل أو آخر من مات شهيداً مقتولاً، فأنبياء الله قُتلوا وصُلبوا، فلماذا هذا التّركيز والمبالغة في قتل الحُسين؟

2 - بعضهم قال: إنّنا إذا دخلنا في هذا الصراع سوف ندخل في الفتنة، ونحن أمامنا مسؤوليّات يجب أن نؤدّيها في واقعنا المعاصر، فلماذا أنتّ ترجع بنا إلى العهود القديمة؟

وكنت أرى في كلا التبريرين روحاً سطحية، وتخلّفاً حقيقياً في التعامل مع الإسلام والتاريخ؛ أمّا بالنّسبة للأوّلين، فكنت أردّهم ردّاً عزيزاً، ذلك أنّ مقتل الحُسينعليه‌السلام له خصوصياته التي لا ينكرها أحد، وهي مأساة لم يشهد لها تاريخ الأنبياء مثيلاً؛ لأنّ الذين قتلوا الحُسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وقطعوا رأسه وسبوا نساءه، كانوا ممّن يدّعي تمثيل الاُمّة ويمثّل الجماعة.

ثمّ إنّنا عندما نتحدّث عن مقتل هؤلاء الأنبياء، نجزم أتوماتيكياً بأنّ الذين قتلوهم ظالمون ظالمون، كفّار ملعونون، بينما عندما نتحدّث عن الإمام الحُسينعليه‌السلام لا نرى بينه وقاتليه فرقاً يُذكر، فنقول: إنّه اجتهد. وقبّح الله اجتهاداً يوجّه لسفك دماء أبناء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

٣٢٠