لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49884
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49884 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لم يكن وعي التاريخي يختلف عن وعي أهل السّنّة والجماعة، فمنذ البداية كانوا قد زرقوني بهذا التاريخ وبمزاج خاص حول التاريخ الإسلامي، وهذا الوعي الذي تلقّيته مثل ما أتلقّى القرآن عند الكتاب، لم يكن يختلف هو الآخر عن وعي جدّتي بالتاريخ، إنّه دزينة ضمن الحكايات المفبركة على نمط القصّاصيّن بـ (جامع الفنا)(1) ، إنّه تاريخ (كان يا ما كان) و (كان في قديم الزمان). وتحوّل التاريخ عندنا فجأة إلى ملجأ لكلّ من ضاقت به الحياة ليتفسّح في فجاجه لاهياً.

لقد تلقّينا دروساً ديماغوجية خاصّة لفهم التاريخ الإسلامي، وأنْ (نترضّى) بعد ذكر كلّ اسم ينتمي إلى جوقة القديم، وإذا رأينا الدّم والفسق والكفر، ليس لنا الحقّ سوى أن نغمض الأعين ونكفّ الألسن؛ خوفاً من الغيبة التاريخيّة، ثمّ نقول:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (2) . عملية لجم مبرمجة وقيود توضع على عقل الإنسان قبل أن يدخل إلى محراب التاريخ المقدّس.

لقد علّمونا أن نرفض عقولنا؛ لنكون كائنات (روبوت) توجهنا كمبيوترات مجهولة.

____________________

(1) ساحة كبيرة بمدينة مراكش المغرب يكثر فيها السّياح، وحيث يكثر القصّاصون الذين يسردون حكايات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة وبعض الرجال القدماء.

(2) سورة البقرة / 134.

٤١

وغلبت السّياسة على التاريخ، وحوّلته إلى بؤس حقيقي.

وخفنا من عقولنا ومن التاريخ ومن الموروث والفولكلور، بل وعاش كلّ واحد منّا هارباً من عقله... ومن التاريخ إلى الأوهام، فكان تصوّري في تلك الأثناء تصوّراً سطحي.

٤٢

الخلافة الراشدة:

من الدروس الديماغوجية التي حقنوا بها وعينا، هو أنّ ما كان في التاريخ الإسلامي هو الصواب المطلق، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان... وإنّ الإيمان كلّ الإيمان هو التصديق بما وقع، والخلافة الرّشيدة حبكة جميلة جدّاً، بل وإنّها تكاد تطفح إبداعاً.

وما زلت أضحك على نفسي لتقبّلها بسذاجة الأمويين، لقد تلقّيت منهم واقع الخلافة الراشدة دون مناقشة، وإذا راودتني نفسي بتساؤلات قمعتها؛ لتستقيم على التزام التجاهل. وأذكر أن الشّك بهذه الحبكة طرأ عليّ وأنا ابن خمسة عشر عام، غير أنّني طويت الصفحة عن ذلك الشّك وتعمّدت نسيانه.

لقد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو راض عن أصحابه من الشّرق إلى الغرب، وأنّه خلّف وراءه (تركيبة) ثوريّة حضاريّة، قياديّة رباعيّة، اسمها: أبو بكر، عمر، عثمان، عليّ. وكنت أحياناً أتسأل حول ما إذا كان التسلسل التلقائي للخلافة الراشدة كان أمراً متوقّعاً منذ البداية. فلقد قرأت الكثير من الروايات، كلّها تتحدّث عن فضائل الأربعة بهذا الترتيب الرّباعي. فكيف مات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف خلّفه هؤلاء الأربعة بالتوالي؟

أهل السّنّة والجماعة علّمونا، أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مات وهو راضٍ عن الجميع، وأنّه قال لأبي

٤٣

بكر: «صلِّ بالنّاس». ومن هذا استنبط عمر بعقله المستنير، أنّ أبا بكر هو الجدير بالخلافة، فبايعه، ثمّ لمّا كان عمر هو فاروق هذه الاُمّة، استطاع أنْ يصرف النّاس إلى مبايعة أبي بكر، فبايعوه رغبة ولم يتخلّف عنه أحداً أبداً.

وبأنّ الشّورى التي جرت في السّقيفة، كانت عمليّة إسلاميّة متأصّلة في الشّريعة، وحتى عليّعليه‌السلام لم يتمرّد عن المبايعة، وذلك بنصّ ما أخرجه أحمد والبيهقي، بسند حسن عن عليّعليه‌السلام ، أنّه قال لمّا ظهر يوم الجمل: أيّها النّاس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيء، حتّى رأينا من الرّأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتّى مضى لسبيله، ثمّ إنّ أبا بكر رأى من الرّأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام، ثمّ ضرب الدين بجرانه، ثمّ إنّ أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها.

وإنّه لم يحدث أن تمرّد واحد من المسلمين الصحابة على أبي بكر؛ لأنّه كان غاية في الجدارة، وأقرب النّاس في وعي الصحابة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الإمام عليّعليه‌السلام كان مطيعاً له معترفاً به، وفي ذلك تحدّثنا الرّواية عن الدار قطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم: إنّ عليّاً أقام بالبصرة حين بايعه النّاس، فقام إليه رجلان فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه لتستولي على الأمر وعلى الاُمّة، تضرب بعضها ببعض، أعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليك؟ فحدّثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت. فقال: إمّا أن يكون عندي عهد من رسول الله في ذلك، فلا والله؛ لأنّي كنت أوّل من صدّق به فلا أكون أوّل مَن كذّب عليه، ولو كان عندي منه عهد في ذلك، ما تركت أخا بني تيم بن مرّة وعمر بن الخطّاب يثبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي ولو لم أجد إلاّ بردي هذه، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُقتل قتل ولم يمت فجأة، ومكث في مرضه أيّاماً وليالي يأتيه المؤذّن فيؤذّنه للصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلّي بالنّاس وهو يرى مكاني... الخ.

وهكذا استمر الحكم الرّاشدي بتآخي مطلق وانسجام دقيق، والتحق سيدنا أبو بكر بالرّفيق الأعلى وخلفه عمر بن الخطّاب، وكان ذلك اجتهاداً منه

٤٤

يقتضي الطاعة من باقي المسلمين؛ لأنّ في رأيه السّداد المُطلق، ولأنّه توخّى مصلحة الإسلام من وراء اختياره هذه، ولأنّ أمره سنّة تقتضي الطاعة الشّرعيّة طبقا للحديث: عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي.

وجاء عمر وبقي خليفة عادلاً ضرب أروع مثال عن الزهد والشّهامة والعدل، ثمّ استشهد من قبل (أبو لؤلؤة) المجوسي وترك الأمر في ستة أشخاص، منهم عثمان وعليّ بن أبي طالب. وكان أن سُلّمت الخلافة لعثمان بن عفان بعد أن رفض عليّعليه‌السلام الأخذ بسنّة الشّيخين، أي سنّة أبي بكر وعمر واقتصر على القول: «بسنّة الله ورسوله».

وبقي عثمان ذو النّورين سائراً على طريق الإيمان والعدالة، وفي عهده كثرت الخيرات، وما قيل عنه واُثير من دعايات مغرضة، كان مصدره دسّ المنافقين، والغاية منه الإساءة إلى صحابي جليل كانت تستحي منه الملائكة، وإنّ ما فعله من تقريب (طريد الرّسول صلى الله عليه وآله) (الحكم ابن العاص) ونفيه لأبي ذر الغفاري (رض) كان اجتهاداً.

نعم يجب الثورة على الطغاة الذين لا يعدلون، أمّا عثمان، فإنّه صحابي يحرم التعرّض لسياسته بالنّقد. وفي النّهاية مُني هذا الأخير بأعداء من الخوارج، اقتحموا عليه الدار وقتلوه، وبعد ذلك بويع عليّ بن أبي طالب، ومن ثمّ بدأت الفتنة. وكلّ ما وقع بعد ذلك كان له مبرّرات يحرم علينا التفصيل فيها والإمعان في الاستفسار عنها، وخير النّاس عندها - يومئذ - من التزم الصمت، أو قال: تلك فتنة طهّرنا الله منها، فلنطهّر منها ألسنتنا(1) .

تمرّ هذه الفتنة التي كُشف فيها الغطاء عن أشياء ساءت المسلمين؛ لأنّ فيها

____________________

(1) إنّ إخواننا المُسلمين لا يتورّعون عن الحديث في سلوك السّياسيين السّوفيات قبل سقوط المعسكر الاشتراكي، وينعون على الاشتراكيين أنْ يعرضوا عن سيرة زعمائهم في معرض طرح أفكارهم. ما هذا التناقض؟

٤٥

تظهر حقيقة معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعائشة بنت أبي بكر، وطلحة والزبير... وكلّ هؤلاء قاموا بأشياء تناقض الصورة التي نُقلت لنا عنهم، ونحن نقرأ في تراجمهم: وتسير السّفينة حتّى كربلاء. حيث يجب أن تغلق المنافذ أو تكتم الأنفاس وتعمي الأبصار، لتجاوز هذا النّفق المظلم؛ لأنّ الذي قتل الحسين بن عليعليهما‌السلام وسبى نساءه، هو (أمير المؤمنين) يزيد بن معاوية، وفي زمن لا يزال فيه آثار متبقية للصحابة.

نغمض أعيننا ونفتحها على تاريخ إيديولوجي جاهز كتبته أقلام التزلّف على دف القيان ورقصات جواري البلاط، حيث تغدوا عندنا الدولة الأمويّة دولة الإسلام المقبولة، بغض النّظر عن الدماء التي سُفكت والأعراض التي هُتكت والمفاهيم التي نُسخت؛ فمعاوية بن أبي سفيان (أمير المؤمنين) يروى له التاريخ عندنا أروع المناقب وأسمى الفضائل(1) .

لقد وقع ما وقع بين عليّعليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان، وكلّ ذلك كان اجتهادا، وكانت فتنة سقط فيها عليّعليه‌السلام ومعاوية معاً، وكلاهما مسؤول عن الذي وقع، وإنّ الصراع كان على الخلافة والسّلطة، وإنّ الفئة الصائبة يومها هي تلك التي اعتزلت الفتنة وغلقت عليها أبواب المساجد ولبثت في البيوت، وليعطي لها ألقاب نظير (حمامة المسجد)؛ لأنّها انزوت فيه في وقت كانت مصلحة الدين تقتضي تقديم التضحية والدخول في الجهاد.

جاءني يوماً أحد أصدقائي الطلبة يسألني عن معاوية وقتاله لعليّعليه‌السلام في صفّين، وقبل أن اُباشر في الجواب، نطق أحد الحاضرين قائلاً: اللعنة عليه. فخزرت فيه، ثمّ قلت: أعوذ بالله، لماذا تلعنه؟ قال: لأنّه قاتل عليّاً. قلت له: ومع ذلك، فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «لا تسبّوا أصحابي».

____________________

(1) أقول: ولعل الدليل الواقعي الملموس على أنّ أهل السّنّة والجماعة نزعوا منذ البداية منزعاً ضد آل البيتعليهم‌السلام ومع خط الأمويين. إنّ واقع الثقافة السنّيّة يؤكد ذلك. فالسّنّي على امتداد العالم الإسلامي، لا يعرف عن أئمة آل البيتعليهم‌السلام أكثر مما يعرف عن مناقب أعدائهم. لنكن إذاً صرحاء.

٤٦

وبهذه الكلمة البائسة الغبيّة المصحوبة بتماوج (كاريكاتوري) يختزل وقاراً مصطنع، استطعت أنْ أسكّت صديقناً. فمعاوية رجل مؤمن كان شديد البكاء في دين الله وكريماً يعطي بلا حساب.

يقول محمد بن عبد الوهاب(1) : وبالجملة، فلم يكن ملك من ملوك الإسلام خير من معاوية، ولا كان النّاس في زمن ملك من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيّامه إلى أيّام بعده. بل وإنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن يتحرّك بدافع الشرع في حربه مع معاوية، ولم يكن واجب قتال أهل الشّام، وأنّه لم يكن يعرف أنّه سيقع في هذا المأزق، ولودّ لو يتجنبه بكلّ ثمن.

وفي ذلك يقول محمد عبد الوهاب: قال العلماء رحمة الله عليهم(2) : إنّ قتال أهل الشّام ليس بواجب قد أوجبه الله ورسوله، ولو كان واجباً، لم يمدح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن بتركه(3) ، فدلّ الحديث على أنّ ما فعله الحسن بن عليّ مما يحبّه الله ورسوله، وتواترت الأخبار عن عليّ (رض) بكراهة هذا القتال في آخر الأمر، لمّا رأى اختلاف النّاس واختلاف شيعته عليه وتفرّقهم، وكثرة الشّر الذي أوجب إنّه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل. والإمام عليّ كان لا يرى في معاوية رجلاً فاسق، بل إنّه رآه خير الرجال الذين يمكنهم ردّ الفتنة.

يقول ابن عبد الوهاب(4) : من ذلك ما أخرجه غير واحد من أهل العلم(5) :

____________________

(1) عقائد الإسلام - محمد عبد الوهاب / 220.

(2) نفس المصدر. أقول: هذه العبارة: قال العلماء. مَن هم هؤلاء العلماء. هل هم علماء السّنّة، أم علماء الحنابلة أم الوهابيِّين؟ أفصح عنها وحررها من ظلاميتها يا عبد الوهاب.

(3) ولو كان عبد الوهاب يحمل شيئاً ما من الذكاء، لتذكّر إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مدح شيعة عليّعليه‌السلام لنصرتهم إيّاه.

(4) نفس المصدر السّابق.

(5) ما زلت أناقش عبد الوهاب في هذا التلبيس، من هم هؤلاء الذين ذكروا هذا الحديث، ولماذا يخفي أسماءهم؟ وما أدرانا لعلهم عنده أهل علم وعندنا ليسوا كذلك.

٤٧

إنّ عليّاً (رض) قال: لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنّكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تنذر على كواهلها(1) . بل إنّ معاوية كان يُشهد بعلمه وفقهه، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عبّاس (رض) أنّ رجلاً قال له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنّه أوتر بركعة؟ فقال: أصاب إنّه فقيه. فهذه شهادة ابن عبّاس وهو من أكابر علماء الإسلام(2) .

أمّا الحسن فلم يكن فتّانا مثل الآخرين، إنّه رجل مؤمن كباقي المسلمين، ليست له ميزة دونهم إلاّ أنّه بن فاطمة بنت رسول الله، بل فيه عيب، إنّه كان مزواجاً مطلاق، ولكنّه حسناً صنع لمّا تخلّى عن الخلافة لصالح معاوية؛ ابتغاء حقن الدماء، وهو بذلك يكون أفضل من أبيه.

قول بن عبد الوهاب: ومن ذلك انسلاخ الحسن (رض) عن الخلافة لمعاوية، قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الحسن بن عليّ (رض): كان رحمه الله حليماً ورع، دعاه ورعه - الذي لم يوجد ربما في أبيه - وفضله إلى أن ترك الملك والدنيا؛ رغبة فيما عند الله. وقال: والله ما أحبّ منذ عرفت ما ينفعني وما يضرّني أن آتي أمر اُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يهراق في ذلك محجة دم. وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان (رض) والذابّين عنه، ولمّا قُتل أبوه عليّ (رض)، بايعه أكثر من أربعين ألفاً كلّهم قد بايعوا أباه عليّاً قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحبّ فيه منهم في أبيه(3) ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة في العراق وما وراءها من خراسان، ثمّ سار إلى معاوية وسار معاوية إليه. ولعلّ بذلك كان هذا العام هو عام الجماعة؛ حيث سكت الضمير وبقي

____________________

(1) أقول، ولذلك ما ترك عليّعليه‌السلام جهداً إلاّ واستخدمه في قتال معاوية.

(2) ولما كان معاوية كثير العلم والفقه والفضل، سئل الإمام النسائي عن سبب عزوفه عن تخريج كتاب حول معاوية نظير (الخصائص) فقال: ماذا أقول فيه؟ «لا أشبع الله بطنك» إنّه الشّيء الوحيد الذي حصل عليه من فضل من قبل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(3) إنّها النزعة النّاصبية التي لم تفارق الوهابيّة منذ نشوئها وإلى اليوم.

٤٨

حكم الاُمّة بين أصابع أحفاد بني عبد الدّار.

أمّا الذين ناصروا معاوية وأجّجوا الفتنة، مثل عمرو بن العاص وأبي هريرة وأشباههم، فقد كانوا مؤمنين بالنّص(1) . قال آدم: عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمر، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة (رض)، قال: قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام. وأمّا معاوية، فقد ورد عنه أنّه من أهل الجنة. ولم يكن الحجّاج سوى تلك الشّخصيّة المؤمنة في التاريخ الإسلامي، الذي تنتقل عنه الحكم والعبر والمواعظ.

وذات مرّة قلت لأحد المشايخ الكبار: عجباً! لست أدري كيف يقبل المسلمون بأمثال الحجّاج بن يوسف الثقفي؟! ذلك السّفاح، ما وقرّ عالماً ولا عاميّاً! فقال شيخنا الموقّر: أعوذ بالله، نحن أهل السنّة والجماعة نعتقد في إيمانه وإسلامه، وقد قال فيه العلماء خيراً، رغم كلّ ذلك فهو من الصالحين؛ لأنّه شكّل القرآن(2) .

كذلك سارت الاُمور وسقط ملك بني اُميّة، وجاء بنو العباس، وكان الرشيد، وكان المأمون... (وكان يا ما كان)، وكان الإيمان بعد الإيمان، وكان ربّك غفوراً رحيماً.

والخلافة كما عرفتها لم تكن ذات مفهوم خاص، ولكنّني تجوّزاً اعتبرتها (شورى)، ودليلي على ذلك السّقيفة، لا كما هي في التاريخ، بل كما تخيلتها

____________________

(1) أقول: من الغريب المضحك أنْ يكون الإيمان - وهو حالة مع الله تكتسب بالجهد والرياضة والتربية - تثبت بالنّصّ للواحد دون الآخر، فتلك روائع العدل الإلهي عند الوهابيِّين.

(2) إنّ الحجّاج هذا قتل العلماء والمسلمين عامّة وسفك دمائهم، ويعزّ على أهل السنّة تكفيره، أمّا ورعهم عن تكفير الشّيعة، فزهيد؛ لأنّهم يسبّون الصحابة. وهذا هو الجهل المبين.

٤٩

ورسمتها في ذهني بالشّكل الذي تتناغم فيه مع الشّخصيات التي أقدّسها في ذهني جهلاً. وما فعله أبو بكر تجاه عمر بن الخطّاب، هو مجرّد استثناء؛ لأنّه ما وجد البديل الكفء.

والخلافة - كما تعلّمتها من السّنّة - ليست منصباً إلهي، وإنّما هي شأن من شؤون الدنيا تتمّ بالاتفاق. وأنّ الاتفاق الذي جرى في السّقيفة صحيح وتام. وأن يفرض عمر بن الخطّاب رأيه أمر طبيعي؛ لأنّ الحقّ نزل على لسان عمر كما في الروايات، وأنّ الرّسول قد أخطأ وأصاب عمر أكثر من مرّة، وأنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: كلّما تأخّر عنّي الوحي، كلّما ظننت أنّه نزل عليك يا عمر.

فليس عيباً أن يفرض عمر بن الخطّاب رأيه في السّقيفة؛ لأنّه أكثر شدّة في دين الله ومهاب الجناب، يفرّ منه الشّيطان. أمّا عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنّهم مجاهيل لا نعرفهم، وإذا اتفق أن سمعنا بواحد منهم، فليس له خاصّية تميّزه عن الآخرين.

لا أقول إنّ الإمام عليّ وفاطمة الزهراء والحسن والحُسينعليهم‌السلام كانوا صغاراً في أعيننا... كلاّ؛ والسّبب في ذلك، إنّ هؤلاء كانوا عظماء في نفوسنا منذ البداية، لقد ورثنا حبّهم وتفضيلهم(1) ، وما زالوا كذلك حتّى ورد علينا التّيّار السّلفي وسمومه النّجدية التي لم تفلح في اقتحام مجتمع أصيل في حبّه للبيت النّبوي.

ولا أقول عنّي شخصيّاً أنّني يوماً ما كنت أفضّل أحداً على آل البيتعليهم‌السلام ، لقد أدركت منذ البداية أنّ العقيدة الوهابيّة (أخشن) من أن (تحتضن) روحي وقلبي، ولعلّي تصوّفت يوماً ما، وما كان لي أبداً أن أنفتح على عالم الحضرة، أو أجد شمّة الأنفاس الرحمانيّة في عقيدة بدويّة جافة، لا يتجاوز فيها القلب

____________________

(1) أقصد الإسلام في بلاد المغرب لم يكن يتّفق مع التراث النّاصبي، لقد تأصّل حبّ البيت النّبوي في عقيدة المغاربة منذ تأسيس الدولة الإسلاميّة في المغرب.

٥٠

والروح حدود اللحية، أو عود الأراك أو المسك. ولم أكن أجد عمر في التصرّف إلاّ تجمّلاً من بعض المتصوّفة العليلين(1) .

ومن هذه النّافذة، استطعت اكتشاف التراث الرّوحي لآل البيت النّبويعليهم‌السلام ، الذي لم يستطع(2) - رغم شفافيته الخارقة - احتضانهم. وحالات الأئمّة من آل البيتعليهم‌السلام مع الله، ممّا لا يبلغه أهل المقامات العُليا في العرفان الإلهي... ولقد خرّ المتصوّفة أمام الإمام زين العابدين - علي بن الحسينعليه‌السلام - عاجزين، وأعلنوا إنّه من أهل الأسرار.

لقد جاء التيّار السّلفي ليوقف عليّاً ومعاوية على قدم المساواة، ويكون اُولئك الرّموز من العترة الطاهرة، مجرّد أفراد من المسلمين ليس إلاّ، أمّا باقي الأئمّة من آل البيتعليهم‌السلام ، فليسوا شيئاً، ولم نعرف عنهم ما يميّزهم.

وإنّنا لنعرف سفيان الثوري، والعسيب، والزهري، وسعيد بن جبير، وأبا يزيد البسطامي و.. و..، ولا نعرف شيئاً عن الإمام الصادق، والباقر أو الهادي... وقليل منّا مَن يعرف أسماءهم، ولا أحد يعرف عن تفاصيل سيرتهم. ليس ذلك لخلو آثارهم؛ وإنّما بسبب التعتيم المفروض على فضائلهم منذ بداية الأئمّة، وإلاّ فإنّها راسخة في عمق التاريخ. وكانت الفضائل المزيّفة لرجالات العامّة بلغت من المبالغة جهداً، تحجب فيه بضبابها الكثيف عظمة آل البيتعليهم‌السلام ؛ فعمر بن الخطّاب كان في كلّ فضائله على قدر من الكمال، لا يسمح لشخصيّة مثل الإمام عليّعليه‌السلام بالظهور في ثقافة السّنّة والجماعة، فهو الذي يحقّ يوم يخطئ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الذي لو تدخل الاُمّة جميعهاً إلى النّار لنجى منه، وإنّ الله نصر الإسلام به(3) ، وإنّه هو الذي

____________________

(1) أو أحياناً يجدون في سيرة عمر ما يدعمون به آراءه الشّاذة، واعتماداً على مرويّات غير صحيحة، وفي كلّ الأحوال لم تكن شفافيّة التصوّف تنسجم مع ما وصلنا من سيرة عمر.

(2) يعني: التصوّف.

(3) إنّ الجهل والعمى هو الذي يجعل الإنسان يصدّق هذه الحكايات الجوفاء، وأتحدّى من الشّرق إلى الغرب كلّ العالم السّنّي، أن يثبت لي دور عمر بن الخطّاب في معركتين مصيريتن للاُمّة، هما: (بدر) و (اُحد)، هذا دون أن أضيف (الخندق) والباقي الكثير.

٥١

نفرت منه الشّياطين، وهو في عبقرية العقّاد، أعظم من الواقع بكثير، بحيث من عبقرياته التي أحصاها عليه العقّاد، أنّه كان يحلّق شعره عند أحد الحلاقين، فحنحن عمر، وإذا بالحلاق يسقط مغميّاً عليه من الفزع، وتتحوّل (الدرّة) العمرية إلى إحدى مكونات عبقريته عند العقّاد، وهلمّ جر.

أمّا أبو بكر من قبله، فهو كلّ شيء، فلقد وضع إيمان الاُمّة في كفّة ووضع إيمان أبي بكر في كفّة، فرجحت كفّة أبي بكر، وأنّه الصدّيق الأكبر، وإنّ الله بعث جبريل إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليبلّغه السّلام، ويبلّغ أبا بكر من ربّه السّلام، ويقول له: إنّ الله راض عنك فهل أنت راض عنه. ويكفي هذا، يكفي أن يكون ربّ السّماوات والأرض يلتمس من أبي بكر الرضى.

وأمّا عثمان، فهو ذو النّورين الذي تستحيي منه الملائكة ولا تستحي من الآخرين، وأنّه الرجل الذي صرف كلّ أمواله في نصرة الإسلام، وأنّه من المهاجرين السّابقين للإيمان؛ وأمّا عائشة بنت أبي بكر، فهي كلّ شيء، وكأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك النّبوة لديها؛ فهي اُمّ المؤمنين الوحيدة دون غيرها التي يجب أخذ نصف الدين عنها. وهكذا ظلّت صورتهم في ذهني، وسأتطرق إلى ما ورد فيهم من فضائل، حملتها روايات أهل الحديث؛ لنعالج بعد ذلك مدى صدقها ونقف عند أهدافها.

وكنت بين الفينة والاُخرى أسمع أنّ الشّيعة غنوص وسبئيّون، ولم أكنْ أعرف القصّة بالضبط، لكنّ بعد ذلك قرأت في كتب السنّة: إنّ بعض الغُلاة قد ألّهوا عليّاً وهم السّبئيّون، وهم الذين شكّلوا مصدراً فكرياً للشيعة بعده.

والسّبئيّون نسبة إلى عبد الله بن سبأ، أحد اليهود المندسين، يقول محمد رشيد رضا(1) : وكان مبتدع اُصوله اليهودية اسمه: عبد الله بن سبأ. أظهر الإسلام خداعاً ودعا إلى الغلو في عليّ (كرم الله وجهه)؛ لأجل تحريف هذه الاُمّة وإفساد

____________________

(1) السّنّة والشّيعة / 4 - 6.

٥٢

دينها ودنياها عليها.

وحتّى ذلك الوقت، لم أكن أعرف كيف استطاع (عبد الله بن سبأ) أن يمرّر هذا التراث الشّيعي الهائل إلى أصحاب عليّعليه‌السلام ، ولست أعرف من هو هذا الشّخص الذي أنعم الله عليه بهذه المقدرة على الإبداع، وهذه الخبرة في قلب المعادلات التاريخيّة من دون أن تضبطه عدسة المؤرّخين، وأن يتمكّن من خلط الأوراق، وكأنّه قفز أكثر من ألف سنة إلى الأمام؛ ليتلقّى فنون التسلل والدعاية في مراكز (المخابرات الأمريكية والسّوفياتية).

مَن هو ابن سبأ؟ مَن هُم الغنوص؟

هذا ما بقيت أتساءل عن معرفته، ولم أجد له جواباً عند علماء السّنّة سوى تكرار لتلك الروايات المغرضة، وفجأة رأيت نفسي أتمثّل كوجيطو - ديكارتي جديد - منهجاً شكياً؛ ابتغاء الحقّ، فكانت الأزمة يومه أزمة يقين، وما أثقلها من أزمة على طلاب الحقيقة، ولكن كيف يتسنّى لي الخروج من هذا المأزق الاعتقادي؟

٥٣

٥٤

الفصل الثاني:

مرحلة التحوّل والانتقال:

٥٥

٥٦

دوّت المدافع في آفاق الخليج، وحمي الوطيس، واهتزّت الأوضاع الأرضية والسّياسية في المنطقة، انتشر الغضب الشّيعي في كلّ مكان من الدنيا، وفي كلّ الأصقاع سجلت عمليات كفاحية، تبعث بأريج الدم الحسيني، خلّدت وراءها الدمار والكوارث السّياسية والاجتماعية.

التاريخ الآن يضحك بقوّة ويرفع صوته عالياً؛ ليهوى به على الهامات الذليلة، فيدع عليها الأخاديد الحمراء عاراً ظلّ يرفس في رحاب الجبروت؛ ليعلن حقّه في عصر الكفاح. اختلف النّاس مشارب عديدة إزاء ما جرى في هذه المنطقة، البعض ضاقت في عينيه الرؤية فأوّلها بمحدودية ذهنية، والبعض الآخر رأى فيها ناراً على علم الرّذيلة قد اشتعل، وكشفاً مباغتاً عن وضع بات منوماً حيناً من الدهر لم يكن فيه للحقّ سلطاناً.

أعادت النّهضة الشّيعية شرف قضيتها، وأبرزت على العالم كلّ العالم، سؤالاً كنّا نظنّ أنّه انتهى واُقبر مع الغابرين، وأنّ العصر لا يتسع لمثل هذا من التساؤلات (الظلاميّة) المسبوكة بخيوط العنكبوت العتيقة. قالوا: إنّه صراع قديم. قلنا: وهل حسمتموه حتّى ننهيه؟! قالوا: تلك فتنة طهّرنا الله منها، وليس لنا مصلحة في استحضارها والخوض فيها.

٥٧

قلنا: حسناً، وهلاّ أنصفتم التاريخ؟ وهلاّ تبرّأتم من الظالمين؟ وهلاّ اخترتم طريقاً غير طريق الأقدمين الفتّانين حتّى لا تروا في أنفسكم الحاجة إلى الرجوع؟

ثمّ كيف طهّرنا الله منها وهي ما زالت حاضرة فينا بعيوبها ومسوخاتها، وتسأل النّاس وتساءلنا معهم، وانتصر السّؤال الحقيقي مع انتصار النّهضة الشّيعيّة الكبرى، مع بروز عاشوراء بكلّ مراسيمها الدّامية، تطرح قضيتنا من جديد وبلغة البكاء، على عالم يدّعي أنّه أستدرك أخطاء الماضين وشرّع القانون، عادت القضيّة يوم عادت (الدّمعة الشّيعيّة الرقيقة)، يوم تداخل السياسي بالاعتقادي في محراب النّضال المقدّس، وقالت السّماء يومها كلمتها، وتحقّقت النّبوءات الرسوليّة: «لو كان الإسلام في الثري، لناله رجال من فارس».

في هذه الأجواء المتوتّرة وعلى بساط الأحداث السياسيّة وحفيف الفتن العاصفة، طرحت سؤال على نفسي: لماذا هؤلاء شيعة ونحن سنّة؟ تحوّل هذا السؤال في ذهني إلى شبح يطاردني في كلّ مكان، يسلبني في كلّ اللحظات مصداقيته، نعم، فلا حقّ لي أن أزوّد فكري بالجديد؛ حتّى أحسم مسلّماتي الموروثة واُسسي الاعتقادية الجاهزة. وما قيمة أفكار تتراكم على ذهني من دون أن يكون لها أساس اعتقادي متين.

تجاهلت الأمر - في البداية - وتناسيته حتّى اُخفّف عن نفسي مضاضة البحث، بيد أنّ ثقل البحث كان أخفّ عليّ من ثقل (السّؤال)، وأقلّ ضغطاً من ضمة الحيرة والشّك المريب.

وقع بين يدي كتابان يتحدّثان عن فاجعة كربلاء وسيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، الأمر هنا أشدّ مرارة من ذي قبل؛ إنّني ولأوّل مرّة أجد كتاباً يحمل لهجة من نوع خاص، مناقضة تماماً لتلك الكتب التي عكفت على قراءتها، لم أكن أعرف أنّ صاحب الكتاب رجل شيعيّاً؛ لأنّني ما كنت أتصوّر أنّ الشّيعة مُسلمون، فكانت تختلط عندي المسألة الشّيعيّة بالمسألة البوذيّة أو السيخيّة، والوضع (السّنّي) لا يجد حرجاً في أن يملي علينا ذلك، ولا يستحي من الله ولا

٥٨

من التاريخ ليغذّي نزعة التجهيل والتمويه، إنّه كان يكرّس هذه النّظرة لدى الأفراد ولا يصحّح مغالطاتهم، وفجأة وجدت نفسي مخدوع، لماذا هؤلاء لا يكشفون الحقائق للناس كما هي في الواقع؟ لماذا يتعمّدون إبقاءنا على وعينا السّخيف تجاه أكبر وأخطر مسألة وجدت في تاريخ المسلمين؟ ثمّ لماذا لا يتأثّرون بفاجعة الطّفّ العظمى، تلك التي ماجت في دمي الحار بالأنصاف والتوق إلى العدالة؟ فتدفقت بالحسرة والرّفض والمطالبة بالحقّ الضائع في منعطفات التاريخ الإسلامي.

وطبعي الذي لا أنكره ولن أنكره، إنّني لا أحبّ الخادعين والجاهلين، ثمّ وإنّي لناقم على هؤلاء وأرافعهم إلى الله والتاريخ. كنت في تلك الفترة صاحب بساطة عقائدية كباقي النّاس، وببساطتي هذه كنت أبدو أوعاهم عقيدة، وكنت ذا ثقافة أحادية، هي ثقافة أهل السّنّة والجماعة. فالجو الذي أحاط بي، هو جو الصحوة البتراء النّائمة التي انحرفت بوعيي إلى مواقع تافهة، وفجأة وجدتني ملتزماً بخطّ لا أعرف له أساساً تاريخياً.

وصرت واحداً من (الإخوان) المناضلين الذين ضاقوا بظلم الواقع، وأرادوا أن يعيدوا سيناريو العذاب الذي جرت وقائعها في السّجن الحربي (وليمان طرة) في مصر. كانت خيالاتي قليلة الخصوبة لا تتجاوز (المذابح) و(لماذا أعدموني)، كنت أهوى التمثيل والمسرح، لذلك انطلقت كالسّهم إلى مغامرات سخيفة.

في تلك اللحظة، غمرتني أدبيات الحركة الإسلاميّة، وأخذت منّي مأخذها وتملكني فكر (المحنة) لدى سيّد قطب، بكلماته المشعّة أدباً، والتي حملت في أحشائها تلك الظلال الوارفة بياناً وبديعاً، فأبيت إلاّ أن أغزو الظلم قبل أن يغزوني، ولعلّي تعثّرت كثيراً بسبب الأدبيات التي عبثت بوعيي الصغير يومئذ. ولا أنكر أنّني كنت من أنصار (الهجرة والتكفير)، وإنّني ما أزال أحفظ عن ظهر قلب تراتيل الفريضة الغائبة.

وفي لحظة من عمري ذهبية، طرحت على نفسي سؤالاً: ترى، ما هو هذا الظلم الذي ما زلت كلّ حياتي أشكتي منه، وأفرض من

٥٩

خلاله كلّ الأوهام على نفسي؟

لم أجد جواباً شافياً في ذهني، سوى ما ركز في نفسي من أدبيات حركية استلهمتها من كتابات معيّنة، وكلمات جميلة لم أجد لها في ثقافتي الجمهورية(1) بديلاً. سارت هذه الكلمات الفضفاضة الفارغة من مضامينها العلميّة والواقعيّة، تدق الطبول في ذهني حتّى صرت كالمهووس لا قرار لي.

فاجعة الطّفّ:

هذه وحدها الحدث الذي أعاد رسم الخريطة الفكريّة والنّقيّة في ذهني.

إنّ هذا الظلم الذي أشكو منه اليوم، ليس جديداً على الاُمّة، فلقد سبقه ظلم أكبر، وعلى أساس هذا الظلم القديم، قالت لي أفكاري: إنّ هؤلاء الظالمين اليوم يسلكون طريقاً أسّسه رجالات كانوا يشكّلون حجر عثرة أمام مسيرة الأئمّة من آل البيتعليهم‌السلام ، حتّى إذا ورد جيل المحنة حالياً، فأراد أن ينظّم مشروعاً لمعارضة الظلم السياسي في الاُمّة، على قاعدة الظلم نفسه الذي كان سبباً في التمكين لهؤلاء الظلمة.

سؤال غريب، لكنه واقعي(2) . ترى تناقضاً رهيباً بين تنزيه ظلمة الماضي وتثوير المجتمع على ظلمة الحاضر، فما الفرق بين الماضي والحاضر؟ ثمّ قالوا: إنّ هذا ليس دورنا الآني، فيكفي أن نحارب الاستعمار والاستكبار الخارجي وما فات مات.

قلت: هذا جميل، ولكن اعترفوا بي إذاً وصحّحوا رؤيتكم تجاهي، ثمّ نتوحّد في الثورة والكفاح.

____________________

(1) نسبة إلى الجمهور.

(2) كنت أتسأل: لماذا أحارب هذا الظلم وفي فقه الجماعة ما يدعمه، وقد قال سعيد حوى في إجاباته: لا نمضي بعيداً عن احتجاجات العصرة، من لم يدخل في بيعة الإمام الظالم، فالأمر في حقّه واسع - أي: يجوز الخروج وعكسه أيضاً - لكن الأفضل له الدخول والطاعة.

٦٠