لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 49897
تحميل: 4742

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49897 / تحميل: 4742
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّني أكتب هذا الكلام بعد أن حاولت جهدي أن أهمّش التاريخ للتوّحد في المسؤولية، لقد أفسدوا عليّ غير مرّة أمري، حتّى ذلك الأمر الذي لم نكن نريد به سوى مقاومة ظلم الواقع.

كنت كلّما طرحت سؤالاً على نفسي، رأيت شيطاناً يعتريني ويقول لي: دع عنك هذا السؤال، فهل أنت أعظم من ملايين المسلمين الذين وجدوا قبلك؟ وهل أنت أعلم من هؤلاء الموجودين حتّى تحسم في هذه المسألة؟

كنت أعلم أنّ هؤلاء الملايين لم يطرحوا هذا السؤال على أنفسهم بهذه القوّة والإلحاح، وكنت أعتقد رغم ذلك، أنّ المسألة لا تحتاج إلى شهادة أزهرية حتّى نحسم فيها، إنّها مسألة ظلم بواح عرفه القاصي والداني من العالم، وهل معرفة الظلم تحتاج إلى عقليّة أفلاطونيّة رفيعة؟

ثمّ لماذا تقولون: ملايين المسلمين؟ أنا اُريد أن تقولوا: ملايين (من) المسلمين هم أصحاب مذهب السّنّة والجماعة؛ لأنّ الخطّاب الأوّل إذا قيل بهذا اللفظ، فهو ينطوي إذاً على مزاجية خاصّة، هي مزاجية الإلغاء لملايين المسلمين غير أهل السّنّة والجماعة، وهُم من الشّيعة الإماميّة والزيديّة... في هذا العالم.

قالوا: لا، مع ذلك فأنت صغير ولا يجوز على أيّ حال شقّ الصف ومخالفة الجماعة؛ لأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «يدُ الله مع الجماعة، وإنّ اُمّتي لا تجتمع على ضلالة».

وعلى كلّ حال، فلم تكن هذه الاعتراضات الوسواسية بالتي تردّني عن اندفاعي إلى كشف الحجاب عن الحقيقة المخبوءة، لكن شيئاً حزّ في نفسي، وهو هذه الكثرة الغالبة، لقد كبرت في عيني وصعب عليّ مخالفتها لولا أن هداني الله، بيد أنّ شيئاً واحداً جعلني أنتصر عليها ولا أبالي، وهي عندما وجدتها جاهلة واستحضرت (جدّيّتي) التي ورثتها من فكر (الهجرة والتكفير)، فهذا الأخير على علاته علّمني كيف أخالف المجتمع الجاهلي، فهذا احتياط جليل مكّنني من الصمود أمام الأمواج البشريّة المتدفّقة، والتي ليس لها منطق في عالم الحقائق سوى كثرتها.

٦١

كنت أطرح دائماً على أصدقائي قضية الحسين المظلوم وآل البيتعليهم‌السلام ، لم أكن أطرح شيئاً آخر. فأنا ضمآن إلى تفسير شاف لهذه المآسي؛ لأنّني - وبالفطرة التي أكسبنيها كلام الله جلّ وعلا - لم أكن أتصوّر وأنا مسلم القرن العشرين، كيف يستطيع هؤلاء السّلف (الصالح) أن يقتلوا آل البيتعليهم‌السلام تقتيلاً.

لكنّ أصحابي ضاقوا منّي وعزّ عليهم أن يروا فكري يسير حيث لا تشتهي سفينة الجماعة، وعزّ عليهم أن يتّهموني في نواياي، وهم قد أدركوني منذ سنين البراءة وفي تدرّجي في سبيل الدعوة إلى الله، قالوا بعد ذلك كلاماً جاهلياً؛ لشدّ ما هي قاسية قلوبهم تجاه آل البيتعليهم‌السلام (1) .

ومن هُنا بدأت القصّة، وجدت نفسي أمام موجة عارمة من التساؤلات التي جعلتني حتماً أقف على قاعدة اعتقادية صلبة، إنّني لست من اُولئك الذين يحبّون أن يخدعوا أو ينوّموا. لا أبداً، لا أرتاح حتّى أجدّد منطلقاتي وأعالج مسلّماتي، فلتقف حركتي في المواقف ما دامت حركتي في الفكر صائبة.

هنا لا أتكلّم عن الأوضاع الاُخرى التي ضيّقت عليّ السبيل، وإعلان البعض - غفر الله لهم - عن مواقفهم الشّاذة تجاه قضية كهذه لا تحتاج إلى أكثر من الحوار. إنّ هذه الفكرة التي انقدحت في ذهني باللطف الإلهي، جعلتني أدفع أكبر ثمن في حياتي، وكلّفتني الفقر والهجرة والأذى، وما زادني في ذلك إلاّ إيماناً وإصراراً. وتذكّرت قولة شهيرة للإمام عليّعليه‌السلام لمّا قال له أحد شيعته: إنّي أحبّك يا أمير المؤمنين. فأجابه: «إذاً فأعد للفقر جلباباً».

إنّ هذا الطريق طريقٌ وعرة، فيه تتجلّى أقوى معاني التضحية، وفيه يكون الاستقرار والهناء بدعاً؛ فأئمّة هذا الطريق ما ارتاح لهم بال ولا قرّ لهم جنان، لقد يُتّموا وذُبّحوا، وحُوربوا عبر الأجيال.

____________________

(1) وإنّ الواحد منهم يكفّر كلّ حكومات مصر، لمّا يُذكر مقتل حسن البنا وسيّد قطب، وهم يعلمون أنّ الذين قتلوا الحسينعليه‌السلام وآل البيتعليهم‌السلام هُم أشدّ كفراً ونفاقاً، لكنّهم يتأدّبون معهم.

٦٢

إنّ قصّتي مع الواقع الأمني والاجتماعي لا موقع لها في هذا الكتاب، ولكنّ التركيز هنا، سيكون على المسألة الشّيعيّة وما دار حولها من مطارحات وسجالات. لم تكن عندي يومها المراجع الكافية لاستقصاء المذهب الشّيعي، لكنّني أسندت ذلك القليل الذي أملكه من كتب الشّيعة، بدراساتي النّقدية والمعمّقة، لكتب أهل السّنّة والجماعة.

قال لي أحد المقرّبين يوماً: مَن الذي شيّعك؟ وأيّ الكتب اعتمدته؟ قلت له: أمّا بالنّسبة لمَن شيّعني، فإنّه جدّي الحسينعليه‌السلام ومأساته الأليمة؛ أمّا عن الكتب، فقد شيّعني صحيح البخاري والصحاح الاُخرى. قال: كيف ذلك؟ قلت له: اقرأها ولا تدع تناقضاً إلاّ أحصيته، ولا (رطانة) إلاّ وقفت عندها ملّياً... إذ ذاك ستجد بغيتك.

كان لدي أخ أصغر منّي يسألني باستمرار عن التشيّع، وكنت أقول له: أنت تعرف تقرأ، فعليك بالبحث الشّخصي، وإذا أوقفك شيء ساعدتك. فأنا أضجر من أن أورث للآخرين أفكاراً جاهزة، ولعلّه اليوم وصل. ويعلم الله أنّني رسّخت قناعاتي الشّيعيّة من خلال مستندات أهل السّنّة والجماعة أنفسهم، ومن خلال ما رزحت به من متناقضات، وكان الكتاب أحياناً يتعرّض بالشّتم والسّباب للشيعة، وإذا بي ازداد بصيرة ببراءتهم. كما لا أخفي واقع روحي التي تمزّقت، وهي تلهث خلف المخرج من هذه التناقضات. ويشهد الخالق وهو حسبي، أنني كنت أسهر الليالي وأنا أقرأ وأدعو الله أن يجد لي مخرج، وكان دعائي الذي يلازمني: اللّهمّ، أرني الحقّ حقّاً وارزقني اتّباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه.

في يوم من الأيّام لم يبق لي سوى أن أخلع جبّة أهل السّنّة والجماعة، فلم يبق أمامي دليل واحد يسند مصداقية مذهبهم، غير أنّ العادة - قبّحها الله - حالت دوني وبين التغيّر، وما أصعب المرء وهو يتحوّل من مذهب لآخر، وما أشدّ برزخ

٦٣

الانتقال الاعتقادي. لا بدّ لي إذاً من محفّز روحي يشجّعني على هذا الانتقال. لا بدّ من شمّة رحمانيّة؛ تكشف لي الغطاء عن الاختيار الرّشيد.

كانت ليلة غنية بطلب الرّحمان والإلحاح عليه؛ لكشف هذه الغمّة عنيّ. فلقد أوصلني عقلي إلى هذه النقطة، ولم يبق لي إلاّ التوسّل بالخالق الجليل. في تلك الليلة، رأيت رؤية أودعت في قلبي طمأنينة رائعة، رأيت أنّي قصدت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت عائشة هي مَن فتح عليّ الباب، وسألتها عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشارت إلى أنّه هناك في الغرفة، دخلت عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ملقى على فراشه يتأمّل السّماء، اقتربت منه، وإذا به ينتبه إليّ، فأخذ مكانه جالساً وسلّمت عليه وعيني من الرّهب دامعة، وكان الطعام الذي وضعه إليّصلى‌الله‌عليه‌وآله من جنس طعام العرب، لكنّه خال من اللحم، كنت منشغلاً بطرح السّؤال؛ فأخشى أن تفوتني هذه الفرصة، فسألته عن الشّيعة(1) ومآسيهم وأنّ هذا حتماً يؤلمه، فطأطأ رأسه وقال لي: «نعم يا بُني، نعم». ثمّ دعاني إلى الطعام... فأكلت والدموع لمّا تجفّ من عيني.

إنّ الاُمّة التي قتلت الحسينعليه‌السلام وسبت أهله الطاهرين لا يمكنني الثقة بها مطلقاً، ولا يمكنني أن أأوّل هذه الأحداث لصالح الفكر الفاسد، مثلما لا أستطيع تأويل الدم الطاهر بالماء الطبيعي، إنّ هذه الدماء التي سالت ليست مياه نهريّة، إنّما هي دماء أشرف من أوصى بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الاُمّة، أفقدتني الاُمّة الثقة في نفسها، ومهما قالوا فإنّهم لن يقنعوني بأنّ دم الحسينعليه‌السلام لم يرق بيد مسلمين حكموا الاُمّة الإسلاميّة، وكان تعامل أئمة السّنّة والجماعة معهم تعاملاً حسناً.

الاُمّة التي لم ترع أبناء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، لا يمكن أن ترع سنّة بعده، قل ما شئت، قل: إنّ المسلمين في العهد الأوّل اجتهدوا في قتل آل البيتعليهم‌السلام .

____________________

(1) كانت يومها الحرب العراقية الإيرانية على أشدّها، وقد بدأ العالم جميعه يلتفت إلى إيران على أساس إنّها العدو الأوّل، وسألته يومئذ عن الإمام الخميني (قدّس سرّه) وعندها أقرني، مطأطأ رأسه.

٦٤

وقل: إنّ هذه الأفكار التي وردت في كتب الشّيعة دخيلة ولا حقيقة لها في التاريخ الإسلامي، لكن هل يستطيع واحد من المسلمين من المحيط إلى المحيط أن يدّعي أنّ الحسينعليه‌السلام لم يمت شهيداً مظلوماً بأمر من أمير المؤمنين (يزيد بن معاوية)، وبفتوى رسمية من (شريح القاضي) وسيوف الجيش الاُموي الحاقد.

في بيئة ترعرع فيها فكر العامّة وعلى أثر حدث فريد من نوعه في تاريخ الإسلام، هو حدث تحويل الخلافة إلى ملك عضوض(1) ، حيث يُنصّب (يزيد بن معاوية) غصباً على المسلمين، وإنّ العام الذي اضطرّ الحسنعليه‌السلام أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية حقناً للدماء، سُمّي عام الجماعة. كلاّ وألف كلاّ، فلا أحد يستطيع ذلك؛ لأنّ التاريخ أبى إلاّ أن يبقى أميناً لقضايا المستضعفين ولو كره المفسدون.

كنت وقتذاك أبحث عن شيء واحد، هو أن أتأكّد من حقيقة العلاقة والتلازم بين الفكر الشّيعي والأئمّة من آل البيتعليهم‌السلام ، وهل هُم فعلاً مصدر هذه الأفكار؟ أو أنّ الفكر جديد كلّ الجدّة، ولم يكونوا قد تداولوه في عصر الأئمّة؟

إنّني أدركت بعد ذلك، أنّ الأئمّة كانوا أكبر من أن يتبعوا غيرهم، وما ثبت في التاريخ الإسلامي أن تعلّم إمام من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على يد عامية، بل هُم في الأغلب كانوا أساتذة لأئمّة أهل السّنّة والجماعة، الذين ما لبثوا أن مالوا واستكانوا لرغبة الاُمراء والخلفاء، وسكتوا عن أشياء وضمّموا اُخرى، وأخضعوا فكر الاُمّة لغريزة (البلاط).

والسؤال: هل ما عليه الشّيعة اليوم من عقيدة وعبادات، كان جارياً في عصر الأئمّةعليهم‌السلام ؟ بينما أنا أتصفّح تفسير (ابن كثير)، إذا بي أعثر على تفسير الآية الكريمة:( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) . حيث أورد وجهات النّظر الفقهية المختلفة بين القائلين بالغسل والقائلين بالمسح، استحضر خطاباً للحجاج بن يوسف الثقفي

____________________

(1) أي من خلافة مغتصبة إلى ملك عضوض أنكى وأمر.

(2) سورة المائدة / 6.

٦٥

يقول فيه بالغسل، وكان هو الخطّاب الحاسم في تفسير ابن كثير للآية الكريمة.

وأورد قصّة عن أصحاب زيد بن عليّ (رض)، قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبي حدّثنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا شريك عن يحيى بن الحرث التيمي - يعني الخابر - قال: نظرت في قتلى أصحاب زيد، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم، وهده عقوبة عوقب بها الشّيعة بعد قتلهم؛ تنكيلاً بهم في مخالفتهم الحقّ وإصرارهم عليه(1) ، وهكذا قتلوا في المعركة ومسخت جثتهم، حيث انقلبت أكعابهم إلى ظهر الرجل.

الله أكبر! وشهد شاهد من أهلها، إنّ هذه الممارسة الفقهيّة والعباديّة لم تأت من الأهواء اللاحقة، بل كانت متداولة في عصر الأئمّة، وتحت سمع واحد من قيادات بني هاشم والمقرّبين إلى الأئمّة، وهو زيد بن عليّ بن الحسين (رض). فإذا كان زيد بن عليّ (رض) وأصحابه مُسخوا في تفسير ابن كثير، فيا تاريخ سجّل أنّني أوّل الممسوخين.

إنّ هذا ليس هو أوّل لغم في تراث أهل الجماعة يفجّر غضبي، ففي مقدّمة ابن خلدون حقيقة اُخرى يجب الوقوف على وقاحته، إذ قال: وش أهل البيت في مذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به؟ إنّ هذا يعني، أنّ المتهم الأوّل هُم آل البيتعليهم‌السلام الذين قال فيهم الرّبّ سبحانه:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) . هذان المثالان طمأناني على مدى تمازج (الشّيعة) بآل البيتعليهم‌السلام ، وكأنّ أهل البيتعليهم‌السلام أيضاً موضع اتهام مع أشياعهم.

خرجت إلى السّاحة بقوّة، بعد أن تشبّعت بكلّ المقوّمات السّجاليّة الكلاميّة، وبعد أن وقفت على آخر تذرّعات (العامّة)، وحصلت لي سجالات كثيرة وحوارات طوال مع مختلف طباقاتهم. ويعلم الله أنّهم كانوا في كلّ

____________________

(1) سورة المائدة، آية / 28، ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين، وإنّه لا بدّ منه، (تفسير القرآن العظيم الجزء الثاني لابن كثير) دار بيروت لبنان.

(2) سورة الأحزاب / 33.

٦٦

الأحوال ضعيفي الحجّة سقيميها، هزيلي المنطق عليليها، لا يصمدون أمام أبسط مقولة عقلية في الحوار.

كيف يراد لي أن أسلك مذهباً يقوم على الصنميّة التاريخيّة! إنّني أدركت منذ البداية، إنّني لست على (الإسلام) كما كانوا يدّعون، وإنّما على مذهب من الإسلام اسمه (مذهب أهل السّنّة والجماعة)، كيف يعقل أن تُلغى المذاهب الاُخرى ويبقى مذهب واحد مستبدّ بعقول النّاس، ولم تكن له قدرة على الاستمرارية؛ إلاّ لأنّه بقي مذهباً رسميّ لكلّ الدول التي تعاقبت الخلافة في ما بعد.

٦٧

٦٨

الفصل الثالث:

وسقطت ورقة التوت:

٦٩

٧٠

كلمة البدء:

سنحاول ضبط النّفس في معركة (إعادة تحليل التاريخ) لنخبة القراءات ذات البُعد الاستعراضي وذات التطلّع الايديولوجي، نريد أن نحلّل فقط ونركّب في عمق الحدث لا خارجه، أي لا نركّب من أجل نتيجة خارجة عن إطار الحدث؛ لنجعل صورتها الحقيقية واضحة للعيان. أنا هُنا أتناول المسألة (الشّيعيّة) من وجهة نظر تاريخيّة وليس من وجهة نظر مذهبيّة، أي: ما هي المسألة وما خلفيات نشوئها من خلال الحدث وصورتها الحقيقية. والتحليل والتركيب، وهما عمليتان مزدوجتان، ليستا سوى إجراء منهجي للكشف عن الحدث، مجرّداً عن الأوهام التي تعلّقت به.

إذاً، نحن لا نقوم بعملية تركيبيّة على التاريخ الإسلامي، وهي العمليّة التي تطغى على أغلب مؤرّخي هذا التاريخ، وإنّما نريد أن نحلّل. والعملية التحليلية، ليس سوى تفكيك للمركّب التاريخي الموضوعي؛ من أجل الوصول إلى أجزائه البسيطة التي ساهمت في تكوينه؛ ولهذا سنبدأ بشبهة الأطروحة (السّبئيّة) المفتراة على (الشّيعة) وعلى تهمة الأصل الغنوصي والثنوي الفارسي للتشيّع، كما ذهب غفير من المؤرّخين القدماء، ونقل عنهم بعض المعاصرين من ذوي النّظر الموروث.

هل أصل الشّيعة سبئية وغنوص وزرادشتية إيرانية؟

أظنّ أنّ الذين قالوا بذلك، كانوا (بهلوانيين) أكثر مما هُم مؤرّخون؛ ففي عصر استخدام العقل والمعايير العلميّة، الطرحات الغنوصيّة والسبئيّة، تدّل على

٧١

ركاكة عقل وفجاجة فكر، وربما جهل أغلبهم (التاريخ) مستقلاً عن (المذهبية) أو مستقلاً عن المدرسة الأموية، ولعلّه جهل الغنوص والزرادشتية معاً.

يحاول الكثير من المؤرّخين إبراز (السّبئيّة) كمفتاح لفهم الظاهرة (الشّيعيّة)، وذلك؛ لأنّها أقرب المفاهيم إلى المؤرّخ (البهلواني)، حيث لا تكلّفه عناء البحث، فيكتفي بالقشور ويستنكف عن الغوص في الأعماق.

وقصّة السّبئيّة: إنّ رجلاً يهودياً من صنعاء باليمن، اُمّه حبشية؛ لذلك سمّي بابن السّوداء، كان قد أظهر إسلامه في عهد عثمان، وخاض عملية نشر الأفكار الهدّامة مستعيناً بمفاهيم يهوديّة، وكان أحد مصادر القلاقل والفرقة في زمن عثمان، وعلى هذا المنوال، حبك مؤرّخون كثر أساطيرهم.

يقول الجابري(1) : وإنّ جميع من له إلمام بأحداث القرن الهجري الأوّل، يعرف كيف أنّ مصادرنا التاريخيّة أو بعضها على الأقلّ المصادر السّنيّة عموماً، تجعل (الفتنة) زمن عثمان من تدبير شخص اسمه (عبد الله بن سبأ). ثمّ قال أيضا: وقد أطلقت مصادرنا التاريخيّة على حركة المعارضة لمعاوية اسم (السّبئيّة)؛ نسبة إلى عبد الله بن سبأ.

هذا(2) ويبدو أنّ الجابري الذي دخل التراث من (خشمه)، لم يستطع التحرّر من التقليد الموروث، فهو لم يجتهد من وراء تلك الموروثات التاريخيّة الجاهزة، مع أنّه في مقدّمة العقل السّياسي العربي حاول جهده ليقنع القارئ، بأنّه سيعتمد أرقى ما أنتجت العلوم الإنسانية من مناهج في سبر المعرفة، بل وأين هي علمويته واركيولوجيته التي اعتمدهما لقراءة التراث، وهل (ميشل فوكو) على (اورباويته)، وماركس على (ماديته)، وباشلار على (قطائعه)، يستطيع أن يقرأ التاريخ من زاوية (السّنّة) فقط.

كذلك تلّتقي النّظرة التقليديّة بالنّظرة

____________________

(1) العقل السّياسي العربي / 207.

(2) نفس المصدر / 207. أقول: وعلى هذا يكون عليّعليه‌السلام وأبو ذر (رض) السّبئيّة الأوّل.

٧٢

(الحداثويّة) في الموقف ضد الشّيعة في التاريخ.

والجابري يعبّر عن هذا التقليد الموروث بـ (مصادرنا المصادر السّنيّة عموماً). والإلمام الذي عرضه كمقدّمة لطرحته (البهلوانية)، هو الإلمام المبتور عن جميع مَن له إلمام بأحداث القرن الهجري الأوّل، فهذا الإلمام الذي يتحدّث عنه (الجابري)، هو لالمام واحدي يناقض مفهوم (الإلمام) الموضوعي.

نقول للجابري: إنّك تدعونا إلى الإلمام ولن يحصل هذا إلاّ ضمن المصادر السّنيّة، أي: المصادر المعادية للشيعة. وهذا انحراف موضوعي يكشف عن النزوة المذهبيّة الجامحة؛ ولذلك لا يستحي أن يتقدم بتساؤل تحليلي: كيف نفسّر الطابع الغنوصي الهرمسي الذي طغى على (التشيّع مند وقت مبكّر)(1) ؟

فهو يفسّر حقائق جاهزة ويبحث لها عن المسوّغات العلمويّة الايديولوجيّة، من دون التفكير في طرح السؤال خلف هذه الحقائق ومناقشتها في ذاتها وإلى أيّ حدّ هي موضوعيّة. فالبناء منذ البداية مذهبي خلافاً لما ادّعاه من حياد، وهذا هو البؤس التاريخي كما يحترفه (حداثيو) السّنّة(2) . ولم أكن أعلم أنّ الجابري إلى هذا المستوى من البساطة في تقبّل الحقائق التاريخيّة، هل هو فعلاً مخلص في طرحته؟ أم أنّه يستغلّ الفراغ المعرفي في بيئة يحدّد المذهب وعيها التاريخي؟

يقول: بأنّ السّبئيّة هُم أوّل من أطلق على علي بن أبي طالب لقب (الوصي). سوف نبيّن للجابري، أنّه يرمي الكلام على عواهنه، وبأنّه لا يحسن قراءة التاريخ، فهو لم يأت بجديد بقدر ما ارتبط بمصادر أهل السّنّة والجماعة، مع أنّه تفلسف في أكثر من قضية في التاريخ الإسلامي. فهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ

____________________

(1) نفس المصدر / 213.

(2) مشكلة التراث وأزمة المنهج، د. الجابري، نموذجاً: هاني إدريس (البصائر، العدد / 8) صيف (1413 هـ، - 1992 م).

٧٣

على العجز والكسل في التماس الحقيقة التاريخيّة عن طريق الجهد والجهاد (العلمي). والذين استلهم منهم الجابري وغيره من المعاصرين (قذيفة) السّبئيّة هُم مؤرّخو السّنّة فقط.

ذكر ابن كثير في البداية والنّهاية: (وذكر سيف بن عمر: أنّ سبب تألّب الأحزاب على عثمان، إنّ رجلاً يُقال له عبد الله بن سبأ، كان يهودياً فأظهر الإسلام وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من النّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه)(1) .

إنّني لا أزال أتتبّع حقيقة السبئية حتّى وجدتها أبأس (تلفيقة) في تاريخ الإسلام، بحيث سرعان ما تلاشى تماسكها وتداعى صرحها التلفيقي، لينتهي إلى مصدر مجهول كمجهوليّة ابن سبأ نفسه. والذين ربطوا بين التشيّع والسّبئيّة ليسوا إلاّ مستهلكين لبضاعة اُمويّة عتيقة.

يقول د. إبراهيم بيضون: والسّبئيّة أسطورة كانت أم حقيقة، فهي على هامش التشيّع ومتناقضة في الصميم مع الفكر الشّيعي بخلفيته السّياسيّة البحتة(2) .

لقد أجاد المؤرّخون السّنّة تقنية التصوير التاريخي التركيبي حينما جعلوا من (عبد الله بن سبأ) صورة تبلغ حدّ الأسطورة، بحيث جعلوا منه شخصية قادرة على النّفوذ في اللاشعور الإسلامي؛ لإعادة تشكيله، وجعلوا منه مرجعاً لأفكار كانت هي المرتكز الأساسي للمعارضة التي تزعّمها كبار الصحابة ضد عثمان، ولمّا كانت معارضة عثمان ذات مسلك جماهيري تقدمه رجال من كبار الصحابة، حاول المؤرّخون السّنّة التلفيق على عادتهم والتهجّم على أحد أكابر الصحابة، وهو أبو ذرّ الغفاري، واعتبروا عبد الله بن سبأ هو ملهم أفكار أبي ذرّ (رض)، وهو الذي حرّضه على معاوية بالشّام وبالتالي على خلافة عثمان.

____________________

(1) البداية والنّهاية ابن كثير 7 / 167.

(2) الدولة الاُمويّة والمعارضة / الطبعة الثانية / 1405 هـ، 1985 م، بيروت الحمراء / 45.

٧٤

وهم يردون بذلك القول، بأنّ أبا ذر (رض) لم يكن على بيّنه من دينه، وكان يحتاج إلى رجل يهودي حديث الإسلام؛ ليعلّمه أحكام الدين وليلقّنه شعارات قرآنية، كقوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .

وأبو ذر (رض) المعروف بتشدّده في الدين إلى درجة الرفض المُطلق لآراء الخلفاء، لم يكن كما صوّره اُولئك الذين كانوا يريدون تبرير كلّ الأحداث التي وقعت في عصر عثمان، واختزالها بنوع من التعسّف في حركة موسادية لعبد الله بن سبأ.

يقول د. طه حسين: ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا، أنّه هو الذي لقّن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول: من أنّ المال هو مال الله. وعلّمه أنّ الصواب أن يقول: إنّه مال المسلمين. ومن هذا التلقين إلى أن يقال أنّه الذي لقّن أبا ذر مذهبه كلّه في نقد الاُمراء والأغنياء، وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاو من نار. وما أعرف إسراف يشبه هذا الإسراف(2) .

ثمّ يستطرد قائلاً: فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلّمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقاً، وأنّ الله يبشّر الذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم، لم يكن أبو ذرّ بحاجة إلى هذا الطارئ؛ ليعلّمه هذه الحقائق الأوّلية من حقائق الإسلام، وأبو ذرّ سبق الأنصار جميعاً وسبق كثيراً جدّاً من المهاجرين إلى الإسلام، وهو قد صحب النّبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السّنّة فأتقن روايتها، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النّبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه(3) .

ولكي يتبيّن لنا ما إذا كان أبو ذرّ الغفاري (رض) في حاجة إلى من يعلّمه

____________________

(1) سورة التوبة / 34.

(2) إسلاميات طه حسين / 761، الطبعة الأولى / شباط (فبراير) 1967 م، منشورات دار الأدب بيروت.

(3) نفس المصدر / 791.

٧٥

الدين من أهل الكتاب المندسيّن.

ما جاء في الرواية: إنّ أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشّام إلى المدينة: لا ينبغي لمن أدّى الزكاة أن يكتفي بذلك حتّى يعطي السّائل، ويُطعم الجائع، وينفق من حاله في سبيل الله. وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث، فقال: من أدّى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يابن اليهوديّة، ما أنت وهذا، أتعلّمنا ديننا! ثمّ وجأه بمحجنة(1) .

يقول د. طه حسين معلّقاً على هذه الرواية: فأعجب لرجل من أصحاب النّبي ينكر على كعب أن يجادل في الدين، ثمّ يتلقّى الدين نفسه عن عبد الله بن سبأ(2) . ثمّ قال: وما أكثر ما شنّع خصوم الشّيعة على الشّيعة(3) . وهكذا تقتضي السّياسة أن يتحوّل أبو ذر الغفاري (رض) إلى رجل مراهق مشاغب يتحرّك بالوشاية.

يقول الطبري: إنّ ابن السّوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وإنّ ابن السّوداء هذا أتى أبا الدّرداء وعبادة بن الصامت، فلم يسمعا لقوله، وأخذه عبادة إلى معاوية وقال له: هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر.

وقد ذكرت روايات ابن سبأ في غير مكان من تراث أهل السّنّة والجماعة، فقد ذكره ابن خلدون في مقدمته، وابن الأثير في تأريخه، وأبو الفداء في مختصره.

إنّنا لم نعثر على تفاصيل شافية في هذا الباب تخلو من التناقض أو نقص في الإسناد، إذ أنّ خبر (ابن سبأ) لم يجر في كتب التاريخ الكبرى مجرى المتواترات، بل وإنّ كثيراً من كتب التاريخ المهمّة التي ذكرت أحداث هذه الحقبة لم تشر إليه.

يقول طه حسين(4) .

____________________

(1) راجع مروج الذهب للمسعودي.

(2 - 3) نفس المصدر.

(4) نفس المصدر / 760.

٧٦

ويخيّل إليّ إنّ الذين يكبّرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد، يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافاً شديداً، وأوّل ما نلاحظه، إنّا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر المهمّة التي قصّت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قصّ ما كان من خلافة عثمان وانتقاض النّاس عليه، ولم يذكره البلاذري في (الأنساب)، وهو فيما أرى أهمّ المصادر لهذه القصّة وأكثرها تفصيلاً، وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرّخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر.

إنّ خبر (عبد الله بن سبأ) تقلّص في تسلسله النّهائي ليستقرّ في مصدر واحد، هو (سيف بن عمر)، وبأنّ كلّ مَن قال بهذا الرأي، إنّما رجع إليه من دون استشكال، فابن الأثير وهو واحد من الذين قالوا بفكرة (السّبئيّة)، أخذها من أبي جعفر الطبري، يقول ابن الأثير: فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافّة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها(1) .

أمّا ابن خلدون، فقد أخذها هو أيضاً من أبي جعفر الطبري، حيث قال (في التاريخ): هذا أمر الجمل ملخّصاً في كتاب أبي جعفر الطبري، اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين، وابن كثير يرجع في ذلك الطبري نفسه. هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير (رحمه الله).

وكلّ الرواة الذين أخبروا عن (عبد الله بن سبأ) أخذوها من الطبري أو ابن عساكر أو الذهبي، سواء المتقدمين منهم كابن كثير وأبي الفداء وابن الأثير وابن خلدون، أو المتأخّرين من أمثال رشيد رضا وحسن إبراهيم وأحمد أمين.

وكلّ اُولئك الذين أخبروا عن عبد الله بن سبأ من الطبري(2) وابن عساكر(3)

____________________

(1) تاريخ ابن الأثير / 5، الطبعة المصرية / سنة 1348 ه‍ـ.

(2) الطبري في سنده يرد القصّة في تاريخ الأمم والملوك، قائلاً: (كتب بها غلي السّري يذكر أنّ شعيباً حدّثه سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال: لمّا ورد ابن السّوداء الشّام لقي أبا ذر، فقال: يا أبا ذر، ألا تعجب لمعاوية؟

(3) ابن عساكر يذكر القصّة في تاريخه بهذا السّند: أخبرنا أبو القاسم السّمرقندي، نا أبو الحسين النّقور، نا أبو طاهر المخلص، نا أبو بكر بن سيف، نا السّري بن يحيى، نا شعيب بن إبراهيم، نا سيف بن عمر.

٧٧

والذهبي(1) ، فإنّهم رجعوا في ذلك إلى مصدر آحاد، هو (سيف بن عمر التميمي) الذي توفّي بعد (170 ه‍).

وبعد أن تبيّن للقارئ، أنّ ساداتنا المؤرّخين اجتمعوا كلّهم في نهاية المطاف عند مستقر (سيف بن عمر التميمي)، جاء الوقت لكي نقف وقفة مع ترجمته. فمَن هو (سيف بن عمر)؟ ما قصّته؟ وكيف أنفرد بخبر (عبد الله بن سبأ) دون غيره من المؤرّخين وأهل الأخبار؟

الظاهر هو: أنّ (سيف بن عمر) هذا الذي عرف بالنّوادر القباح في رواياته، ليس رجلاً مقبول الرواية، وقد عرّفه الطبري بأنّه سيف بن عمر التميمي الأسيدي. قيل كان كوفيّاً حسب ما ورد في تهذيب التهذيب، وكانت وفاته بعد السّبعين والمئة ببغداد في أيّام الرشيد، وله مؤلفات كالفتوح الكبير والرّدة، و (الجمل ومسيرة عائشة وعلي).

وترفض منه الرواية من قبل جمهور من المحدثين، ولا أعلم له - فيما أعلم - من وثّق روايته، ومن هؤلاء النّسائي الذي ضعّفه، وقال: متروك الحديث ليس بثقة ولا مأمون. وتركه الحاكم وقال: متروك اُتهم بالزندقة. وكذّبه أبو داود: ليس بشئ كذّاب.

وقال عنه ابن حجر: فيه حديث ورد سيف في سنده ضعفاً أشدّهم سيف. وقال فيه ابن عبد البر: سيف متروك وإنّما ذكرنا حديثه للمعرفة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، اُتهم بالزندقة. وقال: قالوا: كان يضع الحديث(2) .

____________________

(1) أمّا الذهبي، فسنده في القصّة: وقال سيف بن عمر عن عطية عن يزيد الفقعسي، لمّا خرج ابن السّوداء إلى مصر.

(2) راجع: عبد الله بن سبأ وأساطير اُخرى: السّيّد مرتضى العسكري / دار الزهراء للطباعة والنّشر والتوزيع / بيروت لبنان.

٧٨

وممّا اُوخذ على سيف بن عمر، أنّه صاحب الغرائب في الأخبار، وهو صاحب مسلسلة من الروايات الشاذّة عن منطق العقل والشّرع، ومن بين تلك الروايات، ما ذكره عن عمر وتجويزه لزوجه (اُمّ كلثوم) الجلوس أمام الرّجل الأجنبي، وهو صاحب رواية (فتح سوسة) التي فتحها المسلمون بفضل الدجّال (ابن صياد)، وحديث (إلى الجبل ياسرية) عن عمر بن الخطّاب، إذ ذكر أنّه خاطب الجيوش من خلف مسافات طويلة، وما شابه ذلك من الأساطير التي ضعّفها المحدّثون.

وابن سبأ هذا الذي انفرد سيف بن عمر بخبره، كان مجهول الأثر، ولم يُعرف عنه في (الأنساب) أصل. وكلّ ما قيل حوله إنّه يهودي من صنعاء، بينما أسمه مبهم، إذ هناك عشرات من عبد الله ينتسبون إلى (سبأ)، يمكن أن نطلق عليهم هذا الاسم، ولا نعلم هل اُريد به (عبد الله السبائي) الذي كان في عهد الإمام عليعليه‌السلام ، وهذا لم يكن شيعياً، بل كان رأس الخوارج الذين قاتلوا عليّاًعليه‌السلام وحاربوه. بل معاً ورد أيضاً، إنّ السبئية لم تكن تعني في ألقاب القدماء سوى (القبلية) المنسوبة إلى سبأ بن يشجب، ولم تتحوّل إلى عنوان مذهبي سوى في العهود المتأخّرة، وبالأقلام التحريفيّة.

وهكذا يتحوّل في الكتابة التاريخيّة عبد الله السبائي الخارجي إلى عبد الله بن سبأ الأسطوري، الذي غالباً ما كان يطلق على أحد الصحابة الأجلاء كما سنرى.

والغريب في الأمر إنّهم نسبوا فكرة (الوصيّة) و(العصمة) إلى عبد الله بن سبأ، وقالوا بأنّه أوّل من قال بها، وأنّه استلهمها من الفكر اليهودي. ولست أدري متى كان اليهود يعترفون بالعصمة لأنبيائهم، وبالأحرى لأوصيائهم، واليهود أكثر الملل تقتيلاً لأنبيائها، وليس في الكتاب (المقدّس) لهم سوى التهوين والتقليل من قداسة الأنبياء، وفي سفر التكوين (الإصحاح 19)، نرى كيف إنّ النّبي لوط لمّا صعد من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه، وأنّه بات ليلتين في جماع مع ابنته بعد أن سقي خمراً، وإنّ البنت البكر ولدت منه ابناً اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، وولدت الصغرى من أبيها ولداً، وسمّته (ابن عمّي)، وهو أبو بني عمون إلى اليوم، وهذه وقصص اُخرى مثل قصّة ثامار مع

٧٩

حميها يهوذا التي وردت في سفر التكوين إصحاح 38، التي تبيّن إنّ كلّ من موسى وهارون ينحدران من الحرام، (وثمار) هذه التي انوجدت في شجرة يسوع واعتبرت من اُصوله التي انحدر منها، وهي (زانية) خدّاعة، كما في جينيالوجيا اليسوع لدى (متى) وغيره(1) .

فهذه هي العصمة المعروفة عند اليهود بخصوص أنبيائهم وأوصيائهم وامتدت إلى المسيحية نفسها. ولست أعلم أيّ غباء وجهل يجعل البعض يصدّق أنّ عصمة الأوصياء هي من وحي العقيدة اليهوديّة المزعومة لعبد الله بن سبأ.

إنّني ما زلت أبحث عن هذا الشّخص الأسطوري الهارب بين فجاج التاريخ (المفبرك)، وأضرب الرّأي هنا بالرّأي هناك؛ عسى أن أحصل على صواب يشفي غليلي من الجهل ونهمي إلى اليقين من هذه الاُمّيّة التاريخيّة، ويجعلني أعبد الله على يقين من أمري.

مَن هو عبد الله بن سبأ الأسطورة؟ مَن هو الشّخص الذي تحوّل بفعل التحريف والتصحيف إلى ابن سبأ الغامض؟

أقول وللصراحة: إنّ أسطوريّة ابن سبأ لم تشف غليلي أيضاً، ولا بدّ من البحث في ملفّها بآليات حفر دقيقة؛ لأنّها لم تأت من فراغ، إنّها مادة إعلاميّة تشهيريّة ووراءها أجهزة تاريخيّة إيديولوجيّة، فمَن وراءها؟ ولماذا تثبّت الروايات؟

إنّ عبد الله بن سبأ كان معروفاً لدى السّلطة في عهد عثمان وبالضبط لدى معاوية، بشهادة الرّواية التي تؤكّد على وجوده ومعرفة معاوية به كما تقدّم، فقد أورد الطبري: إنّ ابن السّوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وأنّ ابن السّوداء هذا أتى أبا الدرداء وعبادة بن الصامت، فلم يسمعا لقوله، وأخذه عبادة إلى معاوية وقال له: هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر.

وعلى الرّغم من اكتشافهم له، لم ينالوا منه، ولا ذكر التاريخ إنّه تعرّض

____________________

(1) أي: جعل ثمار ضمن (الشّجرة) المنسوبة لعيسى، دون أن يلتفت إلى أنّ عيسى ليس له أب حتّى يحصل له نسب، وهذه أيضاً من تأثير العقيدة اليهوديّة على النّصرانية.

٨٠