تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93320
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93320 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قرعاتٌ وقمعات

لم تكن قرعات كلامه تعالى القامعة بأقلّ تأثيراً في نفوس كافرة مضطربة من جذبات جذواته لنفوس مؤمنة مطمئنّة، وإن كانت قريش لتمجّ من سماع القرآن وتتنفّر منه نفرةَ الوَحش عند اصطياده! ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) (1) .

( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ) (2) .

( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ) (3) .

( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) (4) .

____________________

(1) المدثّر: 50 و51.

(2) الإسراء:41.

(3) الإسراء: 46.

(4) الجاثية: 6 - 11.

١٢١

انظر إلى وقعات هذا الكلام الدامغة، إنّها شديدة، تدهش وتذهل وتذيب:

.. وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ!

.. فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ !

.. أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ!

.. مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً !

.. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ!

.. لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ !

ستّ قرعات متتالية على رأس مستكبر أَصرّ على استكباره كأن لم يسمعها!

لم تكن العرب - الواهنة القُوى، المتجزئة الأشلاء يومذاك - لَتطيق تحمّل هكذا قرعات عنيفة متتابعة شديدة، ومِن ثَمّ كان اللجوء إلى تولول وصراخ وصياح!

استمع إلى الآيات التالية، ثم قايس بين وقعاتها ونفوس منهارة كانت تحاول كفاح القرآن!

( يَوْمَ تَكُونُ السّماءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصّرُونَهُمْ يَوَدّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْويه * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمّ يُنجِيهِ ) (1) .

( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي

____________________

(1) المعارج: 8 - 14.

١٢٢

مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ) (1) .

( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً ) (2) .

إلى غيرهنّ من آيات ذوات الجرس الرنّان، وفي تقطيعات متقاربة ومتوازنة، تشبه قرعات الحدّادين المتواصلة، ولا سيّما في نفوسٍ آثمةٍ ارتكبت مآسي وإجراماً.

أُمّ جميل حمّالة الحطب:

هذه أُمّ جميل العوراء امرأة أبي لهب، تسمع ما نزل فيها وفي زوجها، فتخرج مولولةً صارخةً كالمجنونة، تعوي في طُرقات مكّة، وتقول: إنّ محمّداً هجاني، وتستنجد بالشعراء أن يهجو محمّداً كما هجاها، فيخفّ إليها بعضهم، ويُلقّنها هذا الشعر:

مُذمّما عصينا، وأمره أبينا، ودينه قلينا (3) .

فقصدت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو في المسجد ومعه بعض أصحابه، وفي يدها فِهر من حجارة، فلمّا وقفت عليه أخذ الله ببصرها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلا ترى إلاّ أبا بكر فقالت: أين صاحبك، فوالله لو وجدته لضربت فاه بهذا الفِهر، ثُمّ أنشدت الشعر محابيةً، وانصرفت (4) .

____________________

(1) الحاقّة: 15 - 29.

(2) المزّملّ: 10 - 13.

(3) الإعجاز في دراسات السابقين: ص75.

و(مذمّم) كناية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان المشركون يُسمّونه بذلك كراهية تسميته باسمه الشريف (محمّد)، قال (صلّى الله عليه وآله): (أَلا ترون إلى ما يدفع اللهُ عنّي من أذى قريش، يشتمون يهجون مذمّماً، وأنا محمّد؟!). (الروض الأنف: ج2 ص114 - 115).

(4) سيرة ابن هشام: ج1 ص381 - 382، وفي نسخة الروض: (لشدخت رأسه بهذا الفِهر)، والفِهر حجارة ملء الكفّ مؤنثة، وتصغيرها فهيرة، ووقع هنا مذكّراً.

١٢٣

أُميّة بن خلف:

وكان أُميّة بن خلف (من أثرياء قريش) كلّما رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هَمَزه ولَمَزه (1) فنزلت:

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ) (2) (3) .

العاص بن وائل:

وكان العاص بن وائل السهمي ممّا أُعجب بنفسه مستهزئاً بمواقف أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أناتهم وصبرهم على الأذى، ولا سيّما المنقطعين عن أهليهم لا عشيرة لهم في مكّة ولا ثروة، فقد كان الخبّاب بن الأرت قَيناً (4) بمكّة يعمل السيوف وكان من الأصحاب المؤمنين، وكان له مال على العاص بن وائل قيمة سيوف باعها منه، فجاء يتقاضاه.

فقال له العاص: يا خبّاب، أليس يَزعم صاحبكم أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب وفضّة وثياب وخدم! فأنظرني إلى يوم القيامة، حتّى ارجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقّك فو الله، لا تكون أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عند الله منّي، ولا أعظم حظّاً في ذلك، فنزلت:

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاّ سَيَكْفُرُونَ

____________________

(1) الهمز: الغمز، واللمز: التعييب.

(2) الهُمَزة: 1 - 9.

(3) سيرة ابن هشام: ج1 ص382.

(4) القين: الحدّاد.

١٢٤

بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ) (1) .

إنّها قرعاتٌ عنيفة وصواعق مُرعدة، تدمّر من بقايا أشلاء مبعثرة، خلّفتها أجساد كافرة، لا تطيق تحمّلها، ولا تستطيع المقاومة تجاه هجمتها، إلاّ الاندمار والاندثار ( فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ) (2) .

إنّها لم تخصّ العاص بن وائل - إن صحّ الحديث - ولا غيره من عتاة قريش فحسب، وإنّما هدفت وهبّت لتذرّ كلّ دعائم الكفر والإلحاد على مرّ الزمان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد.

النضر بن الحارث:

وتقدّم بعض الحديث عن مواقف النضر بن الحارث (3) ، كان من عتاة قريش ومن شياطينهم، كان قد تعلّم بعض أحاديث ملوك فارس (أساطير رستم واسفنديار) وكان يقصّها على جهلاء العرب؛ ليستحوذ عليهم ويلهيهم عن حديث الإسلام وذكريات القرآن.

كان إذا جلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مجلساً يدعو فيه إلى الله ويتلو في القرآن، ويحذّر قريشاً ممّا أصاب الأُمم الخالية.. خلفه النضر في مجلسه إذا قام عنه، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس، ثمّ يقول: والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي، وما أحاديثه إلاّ أساطير الأوّلين اَكتَتبها كما اكتتبتها. قيل: وبذلك جاءت الإشارة في الآية الكريمة ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ

____________________

(1) مريم: 77 - 84.

(2) طه: 105.

(3) راجع صفحة 92 و107، وسيأتي في صفحة 129 في مخاصمة مع النبيّ (ص).

١٢٥

بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (1) .

قيل: ونزلت فيه: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ * إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) (2)

إنّ لوقع هذه الآيات الشديد لتأثيراً بالغاً في نفوس مضطربة لا تؤمن بالله العظيم! وكذلك آيات مرّت بهذا الشأن، قيل: نزلت تفريعاً عنيفاً بمَن يُحادد الله ورسوله:

( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (3) (4) .

قيل: ونزلت فيه قوله تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) (5) .

وقع أسيراً يوم بدر فقتله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صبراً نقمة على المشركين (6) .

جُبَير بن مطعم:

كان من أشراف قريش ومن علمائهم بالأنساب، وطالما بغى على الإسلام والمسلمين ونال من الوقيعة بهم، وهو الذي دعا غلامه الحبشي الذي كان يُدعى (وحشيّاً) وكان قذّافاً بحربّةٍ له قَذْفَ الحبشة قلّما يُخطئ بها، فقال له: اخرج مع

____________________

(1) الفرقان: 5.

(2) القلم: 7 - 20.

(3) الجاثية: 7 و8.

(4) سيرة ابن هشام: ج1 ص384.

(5) الأنفال: 31.

(6) الدرّ المنثور: ج3 ص180.

١٢٦

الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ النبيّ بعميّ (طعيمة بن عديّ) فأنت عتيق (1) .

فخرج وحشيّ مع قريش حتّى كان يوم اُحد، يقول: فلمّا التقى الناس خرجت أنظر حمزة واتبصّره حتّى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأروق يهدّ الناس بسيفه هَدّاً، ما يقوم له شيء، وإنّي لأتهيّأ له، أُريده وأستتر منه بشجر أو حجرٍ ليدنو منّي، حتّى إذا دنا، وهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت في ثُنَّته حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغُلب، وتركته حتّى إذا مات، ثُمّ أتيته فأخذت حربتي... فلمّا قدمت مكّة أعتقني جبير على صنيعي (2) .

وبعد الفتح هرب وحشي إلى الطائف، ثمّ قَدِم المدينة وتظاهر بالإسلام، ولمّا علم به النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له: أوحشيّ؟ قال: نعم، قال: ويحك، غيّب عنّي وجهك، فلا أرينّك، فتغيّب عنه في البلاد.

قال ابن هشام: لم يزل وحشيّ يحدّ في الخمر حتّى خُلع اسمه من الديوان، فكان عمر بن الخطّاب يقول: قد علمت أنّ الله لم يكن ليدع قاتل حمزة (3) .

وبذلك تعرف موضع الرجل (جبير) من إيجاع قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والنكاية بالإسلام.

وهذا الرجل - على جفائه وقساوة قلبه وغيظه على الإسلام - لمّا سمع النبي (صلّى الله عليه وآله) يقرأ في صلاته بالطور لانَ قلبُه وشفّت مساربه لدخول الإسلام.

وذلك عندما أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) في فداء أُسارى بدر، فلم يجب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) طلبه، وقال له: لو كان أبوك حيّاً وكلّمني فيهم لوهبتهم له (4) .

____________________

(1) سيرة ابن هشام: ج3 ص65.

(2) سيرة ابن هشام: ج3 ص76.

(3) سيرة ابن هشام: ج3 ص77.

(4) الإصابة: ج1 ص226، وفي أُسد الغابة: ج1 ص271: (لو كان الشيخ أبوك حيّاً فأتانا فيهم لشفعنا)، قال: وكان له عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يد، وهي أنّه كان أجار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا قَدِم من الطائف حين دعا ثقيفاً إلى الإسلام. وكان أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي =

١٢٧

يروي البخاري عنه، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقرأ في المغرب بالطور، فلمّا بلغ هذه الآية ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ) (1) ، قال: كاد قلبي أن يطير (2) قال: فكان ذلك أوّل ما دخل الإيمان قلبي (3) .

وفي رواية: وذلك أوّل ما وقَر الإسلام في قلبي (4) .

ولكنّه عاد إلى شقائه الأوّل حتّى كان عام الفتح (5) ، وحضر يوم حنين (6) .

ونقل البيهقي عن أبي سليمان الخطّابي، قال: إنّما كان انزعاج جُبير بن مُطعم عند سماع الآيات لحسن تلقّيه معانيها ومعرفته بما تضمّنه من بليغ الحجّة، فاستدركها بلطيف طبعه، واستشفّ معانيها بذكيّ فهمه (7) .

* * *

____________________

= كتبتها قريش على بني هاشم وإيّاه عنى أبو طالب بقوله:

أَمطعم أنّ القومَ ساموك خطّةً

وإني متى اُوكل فلست بآكل

(1) الطور: 35 - 37.

(2) جامع البخاري: ج6 ص175.

(3) الإصابة: ج1 ص226.

(4) الشفاء للقاضي عياض: ص231، وشرحه: ج1 ص329، و(وَقَر) أي أثر.

(5) أُسد الغابة: ج1 ص271.

(6) سيرة ابن هشام: ج4 ص91.

(7) راجع الأسماء والصفات للبيهقي: ص390، والدرّ المنثور: ج6 ص120، والإتقان: ج4 ص 17.

١٢٨

محاججاتٌ ومخاصمات

هناك للمشركين مخاصماتٌ مع النبي (صلّى الله عليه وآله) دحرتها حجج القرآن الداحضة، وقد أفحمتهم قوّة برهانه وبهرتهم روعة بيانه، فكانت النهاية هي الرضوخ والاستسلام:

مع النضر بن الحارث:

قال ابن إسحاق: جلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتّى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فعرض له النضر، فكلّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى أفحمه، ثمّ تلا عليهم ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ) (1) (2) .

____________________

(1) الأنبياء: 98 - 100.

(2) سيرة ابن هشام: ج1 ص384. والحَصَب هو الحطب: كلّ ما أوقدت به النار.

١٢٩

مع عبد الله بن الزبعري:

ثمّ قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي (1) ، وكان زعيماً من زعماء قريش، حتّى جلس معهم، فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام ابن الحارث لابن عبد المطّلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمّد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حَصَب جهنّم!

قال ذلك في حالة تأثّر شديد!

فقال ابن الزبعري: أما والله، لو وجدته لخصمته! فسلوا محمّداً: أَكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنّم مع مَن عَبَده؟! فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح!

فعجب الوليد ومَن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري! ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم! فذُكر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قول ابن الزبعري، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّ كلّ من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع مَن عَبَده، إنّهم إنّما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته! (2) .

قيل: فنزلت بهذا الشأن: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *

____________________

(1) كان من شعراء العرب وخطباءهم العبقريّين، وشعره في قصّة أصحاب الفيل معروف، (راجع سيرة ابن هشام: ج1 ص59).

(2) أي: إنّ الملائكة ومَن ذكرهم لم يدعوهم إلى عبادتهم، وإنّما عبدوهم بإغواء الشياطين وتسويلاتهم الخبيثة.

١٣٠

وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) (1) .

مع أُبيّ بن خلف:

قال ابن إسحاق:

ومشى أُبي بن خلف بن وهب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعَظم بالٍ قد ارفتّ (2) فقال: يا محمّد، أنت تزعم أنّ الله يبعث هذا بعد ما ارمَّ (3) ؟ ثمّ فتّه في يده، ثمّ نفخه في الريح نحو رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإيّاك بعد ما تكونان هكذا، ثمّ يُدخلك الله النار! (4) .

قيل: فانزل الله تعالى فيه:

( أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (5) .

مع الأسود بن المطّلب:

واعترض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - وهو يطوف بالكعبة - الأسود بن المطّلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، وأُميّة بن خلف، والعاص بن وائل، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمّد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتَعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في

____________________

(1) الأنبياء: 24 - 29.

(2) أي تحطّم وتكسّر.

(3) أي: بلي وفسد.

(4) سيرة ابن هشام: ج1 ص387.

(5) يس: 77 - 83.

١٣١

الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً ممّا نعبد كنّا قد أخذنا بحظّنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً ممّا تعبد كنت قد أخذت بحظّك منه. قيل: فأنزل الله تعالى فيهم:

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (1) .

قال ابن إسحاق: أي إن كنتم لا تعبدون الله إلاّ أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم ولي ديني (2) .

مع أي جهل بن هشام:

قال ابن إسحاق: لمّا ذكر الله عزّ وجلّ (شجرة الزقّوم) تخويفاً لمشركي قريش، في قوله: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ) (3) .

فقد أهاجت هذه الآيات القارعة من غلواء المشركين وجعلتهم حيارى مندهشينَ، يخافون سوء العاقبة القريبة! فعمد أبو جهل - على عادته - يحاول تهدئة هِياجهم المبرّح، قائلاً: يا معشر قريش، أو تدرون ما هي شجرة الزقّوم، التي يخوّفكم بها محمّد؟! إنّها عجوة يثرب بالزبد (4) .

____________________

(1) الكافرون: 1 - 6.

(2) الروض الأَنف: ج2 ص108.

(3) الصافّات: 62 - 73.

(4) العجوة ضرب من تمر الحجاز، فيها لذّة.

١٣٢

فوالله لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقّماً (1) قالها مستهزئاً لهِياجهم الثائر! قيل: فانزل الله: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَّوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ) (2) .

قال ابن هشام: المهل كلّ شيء أذبته من نحاس أو رصاص وما أشبه (3) .

إنّ هذا ليس بكلام، وإنّما هي صواعق مرعدة وقوارع دامغة، تترى على أشلاء هامدة وبقايا أجساد متفتّتة، لا تطيق تحمّلها حتّى وإن جهدت في المقاومة والعناد، ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ) (4) .

وبذلك تتجسّد معجزة هذا الكلام وسحره في أُسلوبه هذا الباهر وسلطانه هذا القاهر.

* * *

____________________

(1) التزقّم: الابتلاع.

(2) الدخان: 40 - 50.

(3) سيرة ابن هشام: ج1 ص388.

(4) الحاقّة: 7 و8.

١٣٣

مُفاخراتٌ ومساجلات

كانت سنَةُ التسع سنَةَ الوفود، وذلك بعد أن فرغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة تبوك فجَعلت وفود العرب تترى عليه مستسلمة منخرطة مع الكفّة العليا التي أخضعت قريش ومحالفيها وأحزاب العرب جميعاً.

فمن هؤلاء عطارد بن حاجب التميمي، وكان خطيب القوم، قَدِم على النبي (صلّى الله عليه وآله) في أشراف بني تميم، منهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر - وهو شاعر القوم - وعمرو بن الأهتمّ، والحتات بن يزيد، وعيينة بن حفص، وغيرهم، وكان الأقرع وعيينة أسلما من قبل، وشهدا فتح مكّة وحنيناً والطائف، لكنّهما صَحِبا الوفد.

فلمّا قَدِم الوفد ودخلوا المسجد نادوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من وراء حجراته: أو اخرج إلينا يا محمّد! فآذى ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من صياحهم (1) ، فخرج إليهم.

فقالوا: يا محمّد، جئناك نفاخرك، فأَذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: (قد أذنت لخطيبكم فليقل)، فقام عطارد بن حاجب، فقال:

الحمد لله الذي له علينا الفضل والمنّ وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا

____________________

(1) قيل: فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) الحجرات: 4.

١٣٤

أموالاً عظاماً، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عدّة، فمَن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأُولي فضلهم؟ فمَن فاخرنا فليعدّد مثل ما عدّدنا! وإنّا لو نشأ لأكثرنا الكلام، ولكنّا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنّا نُعرف بذلك! لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمرٍ أفضل من أمرنا!... ثمّ جلس.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لثابت بن قيس: (قم، فأجب الرجل في خطبته)، فقام ثابت وقال:

الحمد لله الذي السماواتُ والأرض خَلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسِع كرسيّه علمه، ولم يك شيء قطّ إلاّ من فضله، ثمّ كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمه نسباً، وأصدقه حديثاً، وأفضله حسباً، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرةَ الله من العالمينَ، ثمّ دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله) المهاجرون من قومه وذوو رحمه، أكرم الناس حسباً، وأحسن وجوهاً، وخير الناس فعالاً، ثمّ كان أوّل الخلق إجابةً واستجاب لله حين دعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا بالله، فمَن آمن بالله ورسوله منع منّا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. فقام الزبرقان بن بدر، وأنشد:

نحنُ الكرامُ فلا حيٌّ يُعادلنا

منّا الملوك وفينا تقسم الرُبَع (1)

وجعل يعدّد من هذا القبيل من مفاخرات لا تعدّ وشعارات فارغة إلى أن يقول:

إنّا أَبينا ولا يأبى لنا أحد

إنّا كذلك عند الفخر نرتفع

____________________

(1) تقسم الرُبع: كناية عن كونهم رؤساء، حيث كان الرئيس العربي يأخذ ربع الغنائم في الجاهلية.

١٣٥

... الخ (1) .

فلمّا فرغ الزبرقان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لحسّان بن ثابت: قم يا حسّان، فأجب الرجل، وكان حسّان يعرض قوله ويقول على منواله، فقام وقال:

إنّ الذوائبَ (2) من فهرٍ وإخوتهم

قد بيّنوا سنّةً للناس تُتّبعُ

يرضى بهم كلّ مَن كانت سريرته

تقوى الإله وكلُّ الخيرٍ يصطنعُ

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوَّهم

أو حاولوا النَفع في أشياعهم نَفعوا

سجيّةٌ تلك منهم غير مُحدثة

إنّ الخلائقَ فاعلم شرّها البِدعُ

إن كان في الناس سبّاقونَ بعدهُمُ

فكلّ سبق لأدنى سبقهم تَبعُ

إلى أن يقول:

إذا نصبنا لحيّ لم نَدبّ لهم

كما يدبّ إلى الوحشيّة الذرع (3)

نسموُ إذا الحرب نالتنا مخالبُها

إذا الزعانفُ (4) من أظفارنا خشعوا

لا يفـخرون إذا نالوا عدوَّهم

وإن أُصيبوا فلا خورٌ ولا هُلعُ (5)

كأنّهم في الوغى والموت مكتنع

أُسد بِحلية في أرساغها فدعُ (6)

خذ منهم ما أتى عفواً إذا غضبوا

ولا يكن همّك الأمر الذي منعوا (7)

فإنّ في حربِهم فاترك عداوتَهم

شرّاً يُخاض عليه السمّ والسلعُ (8)

أَكرم بقوم رسول الله شيعتهم

إذا تفـاوتت الأهواءُ والشيعُ

____________________

(1) سيرة ابن هشام: ج4 ص208.

(2) الذوائب: السادة؛ لأنّ ذوائب المرأة تعلو رأسها.

(3) نصبنا: أظهرنا العداوة، والذرع: ولد البقرة الوحشية.

(4) الزعانف: أطراف الناس وأتباعهم.

(5) الخور: الضعفاء. والهلع الجازعون، واحده هلوع.

(6) مكتنع: دان، وحلية: مأسدة في اليمن، والأرساغ: جمع رسغ، موضع القيد من الرجل. وفدع: اعوجاجٍ إلى ناحية.

(7) عفواً: من غير مشقة.

(8) السلع: نبات مسموم.

١٣٦

أَهدي لهم مِدحتي قلبٌ يُؤازرُهُ

فيما أَحبّ لسانٌ حائك صَنَع (1)

فإنّهم أفضـلُ الأحياء كلّهم

إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا (2)

ثمّ إنّ للزبرقان بن بدر شعراً آخر، قام فقال:

أتيناك كيما يعلم الناسُ فضلنَا

إذا احتفلوا عند احتضار المواسمِ

إلى أن يقول:

وأنّ لنا المرباع (3) في كلّ غارة

نغير بنجد أو بأرضِ الأعاجمِ

فقام حسّان بن ثابت فقال:

هل المجد إلاّ السؤددُ العَود والندى

وَجاهُ الملوكِ واحتمالِ العظائمِ

نصرنا وآوينا النبيّ محمداً

على أنفِ راضٍ مِن مَعَدّ وراغم

بحيّ حريدٍ أَصله وثراؤه

بجابيةِ الجولان وَسَط الأَعاجمِ

نصرناه لمّا حلّ وسطَ ديارِنا

بأسيافنا من كلّ باغٍ وظالمِ

جعـلنا بَنينا دونه وبَناتنا

وطبنا له نفساً بفيء المَغنمِ

ونحن ضَربنا الناس حتّى تتابعوا

على دينهِ بالمُرهفات الصوارمِ

ونحن وَلدنا من قريش عظيمَها

ولدنا نبيِّ الخيرِ من آلِ هاشمِ

إلى أن يقول:

فإن كنتُم جِئتم لحقنِ دمائِكم

وأموالِكم أن تُقسموا في المَقاسمِ

فلا تجعلوا للهِ ندّاً وأَسلموا

ولا تلبسوا زيّاً كزيّ الأَعاجمِ

قال ابن إسحاق:

فلمّا فرغ حسّان من قوله قال الأقرع بن حابس: وأبي إنّ هذا الرجل لمؤتى له، لَخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا...

فلمّا فرغ القوم، أسلموا، وجوّزهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأحسن جوائزهم (4) .

____________________

(1) صنع: الذي يجيد القول ويحسنه.

(2) شمعوا: هزلوا، وأصله من الطرب واللهو.

(3) المرباع: أخذ الربع من الغنيمة.

(4) سيرة ابن هشام: ج4 ص206 - 212.

١٣٧

سخافاتٌ وخرافات

على أنّ التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنّهم عارضوا القرآن، أو رأوا أنّ باستطاعتهم أن يعارضوه: ( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَا إِنْ هذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الأَوّلِينَ ) (1) فمنهم مَن ادّعى النبوّة وجعل ما يُلقيه من سفاسفه ما زعمه مضاهياً للقرآن كي لا تكون صنعته بلا أداة ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وَمَن قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ ) (2) .

ومنهم مَن تعاطى معارضته صناعةً وظنّ أنّه قادر عليها، لكنّه سرعان ما تراجع إلى الوراء إمّا صاغراً أو مستغفراً ربّه من سوء ما نواه.

والغريب أنّ ما يؤثر عن أُناس في التاريخ حاولوا معارضة القرآن أنّهم أتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضربٍ من السخف والتفاهة، بادٍ عواره، باقٍ عاره وشناره، فمنهم عاقل استحيى أن يتمّ تجربته فحطّم قلمه ومزّق صحيفته، ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تُروّج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها عن أعين الناظرين إلى حين، ولكن متى ذلك الحين؟ إنّه إلى أبد الآبدين! أمّا الذين أتوا بسخائفهم فقد أبدوا بعوراتهم سفهاً

____________________

(1) الأنفال: 31.

(2) الأنعام: 93.

١٣٨

وحمقاً، وإليكم نماذج من كلام النمطين، دليلاً على صدق التحدّي إعجازاً مع الخلود ( وَلَنْ تَفْعَلُوا... ) (1) .

1 - مُسيلَمة الكذّاب:

فمِن أُولئك مسيلمة بن حبيب، تنبّأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بعد أن وَفد عليه وأسلم في ظاهر أمره، كان يُصانع كلّ إنسان ويتألّفه، ولا يبالي أن يطّلع أحد منه على قبيح، إذا كان اتّخذ النبوّة مدعاةً إلى الملك، حتّى عرض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يُشركه في الأمر... كان وَفد بني حنيفة - في سنة تسع من الهجرة - قَدِم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفيهم مُسيلمة، وقد ستروه بالثياب، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس بين أصحابه معه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلمّا انتهى إلى رسول (صلّى الله عليه وآله) وهم يسترونه بالثياب كلّمه وَسَأله، فقال له الرسول (صلّى الله عليه وآله): (لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتُكه)، وكان قد سأله تشريكه في أمر الرسالة.

ثمّ انصرفوا، فلمّا انتهوا إلى اليمامة ارتدّ عدوّ الله، وتنبّأ وتكذّب لهم، وقال: إنّي أُشركت في الأمر مع محمّد، ثمّ جعل يسجع لهم الأساجيع، ويقول لهم فيما يقول مضاهاةً للقرآن:

(لقد أَنعَم اللهُ على الحُبلى، أَخرجَ منها نَسمةً تسعى، مِن بين صفاقٍ (2) وَحَشى).

ثمّ أحلّ لهم الخمر، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأنّه نبي، لكنه شريكه، فأصفقت مع بنو حنيفة على ذلك (3) .

وكتب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أُخريات سنة عشر: من مُسيلمة رسول الله إلى

____________________

(1) البقرة: 24.

(2) الصفاق: الجلد الأسفل دون الجلد الأعلى الذي يُسلخ.

(3) سيرة ابن هشام: ج4، ص223.

١٣٩

محمّد رسول الله، سلام عليك، أمّا بعد، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون.

وأرسله مع رجلينِ من قومه، فقَدِما إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقدّما إليه الكتاب، فلمّا قرأه قال لهما: (فما تقولان أنتما)؟ قالا: نقول كما قال: فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (أَما واللّه لولا أنّ الرُسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما)، ثمّ كتب إلى مسيلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى مُسيلمة الكذّاب، السلام على مَن اتّبع الهدى، أمّا بعد، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين) (1) .

وكان قد اتّخذ باليمامة حرماً، وكانت قُرى لبني أُسيد صارت في الحرم، ومِن ثَمّ كانوا يَغيرون على ثِمار أهل اليمامة واتّخذوا الحرم دغلاً، فقيل لمسيلمة في ذلك، فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء ثمّ أتاه فقال:

والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أُسيد مِن مُحرم.

ثمّ عادوا للغارة وللعدوى واستعدى عليهم، فقال مسيلمة: أنتظر الذي يأتني، فقال:

واللّيل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أُسيد من رطب ولا يابس.

فقالوا له: أمّا النخيل مُرطبة فقد جدّوها، وأمّا الجدران يابسة فقد هدموها، فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم.

وكان فيم يقرأ لهم: إنّ بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كلّ إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن.

وكان يقول: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنّه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون.

وكان يقول: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم

____________________

(1) سيرة ابن هشام: ج4 ص247.

١٤٠