تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93341
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93341 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والعربية ويدرس العلوم الدينيّة؛ ليُستخدم عند الانجليز على مزارع القرية هناك براتب (عشرين روبية) شهريّاً.

وفي سنة 1880 م أعلن في كتابه (برهان أحمدي) أنّه المهديّ الموعود، ثمّ أعلن في سائر كتبه بنزول الوحي عليه، ومن جملة ما أُوحي إليه: نسخ حكم الجهاد من شريعة الإسلام ووجوب طاعة الانجليز في البلاد! فأعانته السلطة على دعوته وأعلنت برسمية مذهبه، وفي سنة 1889 م ادّعى النبوّة رسميّاً، وزعم أنه المسيح، وأسقط من اسمه لفظة (غلام).

وممّا زعم أنّه أُوحي إليه - كما جاء في كتابه (حمامة البُشرى) -: فألهمني ربي مبشراً بفضل ما عنده وقال: إنّك من المنصورين. وقال: يا أحمد بارك الله فيك، ما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى، لتنذر قوماً ما اُنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين... وقال: أنت على بيّنة من ربك رحمة من عنده وما أنت بفضله من المجانين، ويخوّفونك من دونه إنّك بأعيننا سمّيتك المتوكّل... ويمكرون ويمكر الله.. فأدخل الله في لفظ اليهود معشر علماء الإسلام الذين تشابه الأمر عليهم كاليهود، وتشابهت القلوب والعادات، والجذبات والكلمات من نوع المكائد والبهتانات والافتراءات، وأنّ تلك العلماء قد أثبتوا هذا التشابه على النظارة بأقوالهم وأعمالهم، وانصرافهم واعتسافهم، وفرارهم من ديانة الإسلام... وكونهم من المسرفينَ العادينَ، وكنت أظنّ بعد هذه التسمية أنّ المسيح الموعود خارج، وما كنت أظنّ أنّه أنا، حتّى ظهر السرّ المخفي، وسمّاني ربّي عيسى في إلهام من عنده، إنّا جعلناك عيسى بن مريم، وأنت منّي بمنزلة لا يعلمها الخلق، وأنت اليوم منّي بمنزلة توحيدي وتفريدي... إلى آخر ما لفّقه من ترّهات (1) .

* * *

____________________

(1) راجع المعجزة الخالدة: ص117 - 119.

١٦١

مصطنعاتٌ وتلفيقاتٌ هزيلة

هناك مزاعم اصطنعتها أصحاب شبهة التحريف، فحسبتها قرآناً وعلى شاكلته فيما زعموا، ونسبوها إلى الوحي سفهاً وحمقاً، وليست سوى تلفيقات هزيلة نسجتها عقول ضعيفة، لا نظم لها ولا تأليف معروف، فضلاً عن ضحالة المعنى وضآلة المحتوى إلى مستوى سحيق.

نعم، تصانع الأخباريون مع إخوانهم الحشويين على اختلاق روايات وحكايات أساطيريّة عن سورٍ وآياتٍ زعموهنّ مُسقَطات من الذكر الحكيم، وبذلك حاول الفريقان قصارى جهدهم على هدم أساس الإسلام والإطاحة بصرحه الرفيع وحصنه المنيع... يا لها من عقليةٍ هزيلة وفكرةٍ هابطة، ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (1) ، ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (2) . ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3) وها نحن نعرض نماذج من سخائف تلكمُ المخاريق؛ لتكون هي بذاتها شاهدةُ صدقٍ على ذلك البَون الشاسع بين رفيع كلامه تعالى والوضيع من تلك السقطات.

____________________

(1) النساء: 76.

(2) المجادلة: 21.

(3) الصف: 8.

١٦٢

من ذلك ما اختلقته عقلية برهمية حاقدة على الإسلام والمسلمين هو صاحب (دبستان المذاهب) فحسب فيما حسب في أوهام خياله سورة قرآنية ساقطة من القرآن، ناسباً ذلك إلى بعض فئات الشيعة نسبةً عمياء؛ إذ لا أثر لها في أقلّ رسالة أو أدنى كتاب منسوب إليهم إطلاقاً، وإنّما هدرت منه من غير هوادة، ولم يُعلم مستنده ولا الذي قصّ عليه هذه القصّة الخيالية.

نعم، كان الرجل ذا شذوذ عقليّ مفرط يتقبّل كلّ ما يلقيه عليه المشعوذون ممّن أحسّوا منه هذا الشذوذ، فضلاً عمّا كانت تحمله ضلُوُعه من الحقد على أبناء الإسلام، وكان يُحاول مبلغ جهده الحثيث - ولكن في ستار خبيث - على تشويه سمعة الإسلام ليدسّ التحريف في عقائد الفِرَق والملل أيّاً كانوا وأيّ مذهب سلكوا؛ رغبةّ في ترويج مذهب أبيه (آذركيوان) وكان قد دعا إليه منذ عهد أكبر شاه التيموري (963 - 1014هـ).

أمّا صاحب الدبستان - وإن اختلفت الآراء في معرفة اسمه ونسبه، لكن المحقّق - هو (المُؤَبّد كيخسرو اسفنديار) حفيد (آذركيوان المتوفّى سنة 1027هـ) مؤسّس المذهب الكيواني، وكانت ولادة المؤلّف قبل موت جده ببضع سنين في مدينة (بتنه) من أعمال الهند، وعاش حتّى ما بعد سنة السبعين بعد الألف، على ما يظهر من تواريخ جاءت قيد الحوادث في كتابه الآنف.

وأَوّل من أشاد بشأن كتابه هذا هو (فرنسيس غلادوين) الانجليزي ترجمه إلى الانجليزية عام 1789م، وفي عام 1809 (في ذي القعدة 1224هـ ق) طُبع الكتاب بنصّه لأَوّل مرّة في (كلكتّا) بدستور من المندوب البريطاني في الهند (ويليام بيلي) (1) .

أمّا لماذا اهتّم العجوز المستعمر بهذا الكتاب ونشره وطبعه؟! لأمر ما جدع

____________________

(1) راجع ما حقّقه الأُستاذ رحيم في المجلّد الثاني من الكتاب المطبوع سنة 1362، وقد ذكرنا بعض الكلام عنه عند البحث عن شبهة التحريف في كتابنا (صيانة القرآن من التحريف) فراجع.

١٦٣

قصيراً أنفه!

والسورة المزعومة هذه غير منسجمة اللفظ ولا ملتئمة المعنى إلى حدّ بعيد، بما لا يُقاس بكلام العرب فضلاً عن كلام الله المعجز، وإليك مقتطفاً من نصها:

(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهماه يتلوانِ (1) عليكم آياتي ويُحذّرانكم عذاب يوم عظيم، نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم، إنّ الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات (2) لهم جنات النعيم، والذين كفروا من بعدما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يُقذفون في الجحيم، ظلموا أنفسهم (3) وعصوا لوصيّ الرسول، أُولئك يُسقون من حميم، إنّ الله الذي نوّر السماوات والأرض بما يشاء، واصطفى من الملائكة والرسل، وجعل من المؤمنين (4) ، أُولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء (5) ، لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم... قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون (6) ... ولقد أرسلنا موسى وهارون، فبغوا هارون (7) فصبرٌ جميل.. فاصبر فسوف يبصرون... وجعلنا لك منهم وصيّاً لعلّهم يرجعون (8) ... إنّ عليّاً قانتاً بالليل ساجداً، يحذر الآخرة (9) ويرجو ثواب ربّه، قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون (10) سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون، إنّا بشّرناك بذرّيته الصالحين... فعليهم منّي صلوات رحمةٌ أحياءً وأمواتاً يوم يبعثون (11) ، وعلى الذين يبغون عليهم

____________________

(1) كيف النور النازل يتلو الآيات؟!.

(2) كيف الوفاء بعهد الله ورسوله في آيات؟!.

(3) ما محل إعراب هذه الجملة الفعلية، أهي خبر عن مبتدأ محذوف؟!.

(4) ما معنى (وجعل من المؤمنين)؟!.

(5) ما معنى (أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء)؟!.

(6) لماذا ارتفع خبر كان؟!.

(7) كيف يكون هارون مبغياً؟!.

(8) ما معنى (وجلنا لك منهم وصيّاً لعلّهم يرجعون)؟!

(9) كيف انتصب خبر (إنّ) مرّتين؟!.

(10) بماذا يستوي الذين ظلموا... وكيف يعلمون بعذابه؟!

(11) لماذا كانوا أمواتاً يوم يبعثون؟!.

١٦٤

من بعدك غضبي أنّهم قوم سوءٍ خاسرين (1) (2) .

والعجيب أنّ المحدّث النوري - مع معرفته بالعربية - استندها حجّة قاطعة على زعمه التحريف فيما رواه أهل الخلاف (3) ... وليته تدبّرها ولم يتسرّع إلى قبول ما ترفضه العقول!

* * *

وحُكي عن أبي موسى الأشعري - عندما كبر وخرف في أُخريات حياته السوداء - أنّه كان يقول في مجتمع قرّاء البصرة: إنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب - وزاد بعضهم: - ويتوب الله على مَن تاب.

قال: كنّا نقرأ سورة أُخرى نُشبّهها بإحدى المسبّحات، فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتُكتب شهادة في أعناقكم. - وزاد السيوطي: - فتسألون عنها يوم القيامة.

لا تدري كيف توافق المحدّث النوري (4) مع هذا العجوز الخَرِف في أوهامه وخرافاته، وقد قال تعالى: ( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ) (5) وقد كان قد اُشربّ في قلبه السفه والحمق من أُوليات حياته وإلاّ فكيف يخفى على ذي حِجى الفرق الواضح بين كلامه تعالى وهذا المختلق من ألفاظ وكلمات لا محتوى لها ولا ائتلاف؟ وليته نسي هاتين كما نسيَ غيرهما من بقية السورتين الموهومتين!!

* * *

وأغرب من ذلك ما وهمه بشأن دُعاءَي القنوت المرويّينِ عن طرق العامّة،

____________________

(1) لماذا نُصب نعت موصوف مرفوع؟!

(2) راجع دبستان المذاهب تحقيق رحيم رضا زاده ملك: ج1 ص246 - 247.

(3) فصل الخطاب: ص179 رقم (سح - 68) من الدليل الثامن.

(4) فصل الخطاب: ص171 رقم (ب - 2).

(5) يس: 68.

١٦٥

فحسبهما سورتين تُحاكيان سور القرآن... والبون شاسع والفسحة واسعة بينهما وبين نظم القرآن وتراكيب ألفاظه...

وهما: (اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونُثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك)... (اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نُصلّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ، إنّ عذابك بالكفّار ملحق...).

ونقل المحدّث النوري عن الإتقان: أنّ عمر بن الخطّاب قنت بهما بعد الركوع (1) ، ومع ذلك فقد زعمهما سورتين قرآنيّتين أُسقِطتا من المصحف الشريف، يا له من ضحالة الفكر!! يا للعجب ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) (2) ؟!

وأيضاً زعم من قول سَلمة بن مخلد الأنصاري: آيتان لم تُكتبا في المصحف، وهما: (إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، أَلا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم، القوم الذين غضب الله عليهم، أُولئك لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين، جزاء بما كانوا يعملون)... دليلاً على اختيار... (3) .

لا ندري ما هي المناسبة بين مفاتح الآيتين المزعومتين وخواتيمهما؟! وكيف خفيَ ذلك على مثل النوري العائش في أوساط عربيّة بسامراء يومذاك؟!

إلى أمثالها من سفاسف القول هي أشبه بمهازل الكلام، وقد ذكرنا تفاصيلها في مسألة (شبهة القول بالتحريف) (4) وأبدينا أوجه التخلّص منها، وأنّها لا تعدو مزاعم زعمها أهل الحشو من أهل الحديث، وساندهم إخوانهم من الفئات الأخباريّة أصحاب العقول الساذجة! والله هو العاصم.

* * *

____________________

(1) فصل الخطاب: ص172 برقم (و - 6).

(2) هود: 78.

(3) فصل الخطاب: ص173 برقم (يج - 13).

(4) راجع كتابنا (صيانة القرآن من التحريف).

١٦٦

مقارنةٌ عابرة

وأنّ مقارنةً عابرةً بين كلامه تعالى النازل قرآناً وبين كلام أفصح العرب المعاصر للنزول لتجعل الفرق بيّناً بينهما، وأن لا مضاهاة هناك ولا تماثل، كما لا تناسب بين الثُريّا والثرى، ذاك نجم لامع وهذه أرض هامدة، لا يشبه أحدهما الآخر في شيء؛ ومِن ثَمّ أذعنت العرب بأنّه ليس من كلام البشر الذي تعارفوه وكان في متناولهم يُمارسونه، نعم، هو كلام الله الوحي النازل على رسوله، هذا شيء كانوا قد لمسوه.

وقد مرّت عليك نماذج من خُطب العرب وأشعارهم وكانت من النمط الأرقى المعروفة يومذاك، فإذا ما قارَنْتَها مع آي القرآن الحكيم وأُسلوبه البديع تجد هذا الفرق بوضوح.

مثلاً، هذا قسّ بن ساعدة الأيادي (1) ما تزال العرب تفتخر بجلائل خُطبه القديمة حتّى اليوم، في حين أنّها لا تعدو سرد ألفاظ لا فائدة في ذِكرها سوى تلفيق سجع أو رعاية وزن، لا غير، وإليك من خطبه: أيّها الناس، اجتمعوا فاسمعوا

____________________

(1) كان أخطب العرب، وكان يُضرب به المثل (أخطب من قسّ بن ساعدة)، يقال شهده النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو يخطب في سوق عكاظ، وقد اعترفت العرب بفضله وببيانه. (راجع البيان والتبيين للجاحظ: ج 1 ص247).

١٦٧

وعوا، مَن عاش مات، ومَن مات فات، وكل ما هو آت آت، في هذه آياتٍ محكمات، مَطرٌ ونبات، وآباءٌ وأُمّهات، وذاهبٌ وآت، نجومٌ تَمُور، وبحورٌ لا تغور، وسقفٌ مرفوع، ومِهادٌ موضوع، وليلٌ داج، وسماءٌ ذات أبراج، مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون؟! أَرضوا فأقاموا؟ أم حُبسوا هناك فناموا؟ يا معشر أياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين المعروف الذي لم يُشكر، والظلم الذي لم يُنكر، أَقسَم قسٌّ بالله، إنّ لله دِيناً هو أرضى من دينكم هذا....

* * *

هذا وقد أَعجب صاحب كتاب (الإعجاز في دراسات السابقين) هذا الكلامُ العربيّ القديم فقال في وصفه: إنّه ثمرة من ثِمار البلاغة العربية الطيّبة الناضجة.! وضربه مثلاً لِما كان للعرب من خُطبٍ مفحمة وحكم رائعةٍ معجبة، يترقرق عليها ماء الحُسن والملاحة، فيها روعة آسرة وجمال أخّاذ... إلى آخر ما يقول في تقريض بيان أسلافه أعراب البادية الأقحاح! (1) .

ولكن يا ترى، أيّة ميزة لهذا الكلام الذي يشبه كلام الكَهَنة في أسجاع مُتكلّف بها، وأرداف مُتمحّل فيها، ليس فيها تلك الروعة والجمال البارع الذي نجده في قوله تعالى من سورة الفجر: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الّذِينَ طغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (2)

إنّه تعالى ذكر الظالمين وأردف ذِكرهم بما يهول من عظيم قدرتهم وخطير فسادهم في الأرض، وأخيراً كان مآلهم إلى سياط الجحيم، ( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (3) ، ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ

____________________

(1) الخطيب في الإعجاز: ص503.

(2) الفجر: 6 - 14.

(3) الانشقاق: 6.

١٦٨

مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .

هذا هو أُسلوب القرآن في وعظه الحكيم، يهدّ الإنسان هدّاً، ويهزّ من مشاعره هزّاً، ثمّ يُهيمن عليه بسطوة بيانه وقوة كلامه في كلا تبشيره وإنذاره!

* * *

وهذا امرؤ القيس - أَلمع شعراء الجاهلية - نراه في أجود قصائده قد ضاق به الكلام حتّى لجأ إلى غرائب الألفاظ الوحشية غير المأنوسة ولا مألوفة الاستعمال، كالعقنقل والسجنجل والكهنبل والمستشزرات وأمثالها ممّا تركها سائر العرب، حتّى عافتها كتب تراجم اللغة! الأمر الذي عِيب على امرؤ القيس.

كما عِيب استعماله كلمات لا موضع لها ولا مناسبة مع مقصود شعره، قال - في مطلع قصيدته المعلّقة -:

قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومَنزلِ

بسِقط اللِوى بين الدَخول فحَومَلِ

فَتوضِح فالمِقراةِ لم يعفُ رسمُها

لِما نسجَتها من جنوبٍ وشَمأَلِ

لم يقتنع في وصف المَنزل بقوله (بسِقط اللوى) حتّى أكمل بيان حدوده الأربعة، جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، كأنّما يُريد بيع منزله، فيخشى إن أخلّ بحدٍّ منه أن يفسد بيعه أو يبطل شرطه، وما هذا إلاّ تطويل بلا طائل، وهو من أكبر معايب الكلام.

وأيضاً فإنّه حاول إبكاء غيره ليرافقه في البكاء على فراق حبيبه، وهذا من السخف في الرأي، أن يدعو الأغيار إلى التغازل مع عشيقته فلا يغار، وهل يرضى صاحب حميّة أن يتواجد صديق له على مَن يهواه؟!

وأخيراًَ فما وجه تأنيث الضمير في (لم يعفُ رسمُها) العائد إلى المنزل، مؤوّلا إلى الديار، كما زعم! وهكذا في (نسجتها) بتأويل الريح، وكان الأَولى هو التذكير؛ لأنّ الحمل على المعنى في غير المبهمات - كالموصولات - ضعيف في اللغة.

____________________

(1) الزلزلة: 7 و 8.

١٦٩

وأضعف منه زيادة (من) في الإثبات، فإنّه شاذّ في اللغة.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام بـ (هل) وزاد الفارسي: بعد أداة الشرط أيضاً، نعم، أهمله الكوفيّون جرياً على طريقتهم في اتّباع الشواذّ، ولا يُقاس عليه في الفصيح، قال ابن مالك:

وَزِيدَ في نفيٍ وشبهِهِ فجرّ

نكرة كما لباغٍ مِن مَفرّ

واشتراط كون المدخول نكرة، قال ابن هشام: لغرض إفادتها توكيد العموم في مثل (أحد) و(ديّار) وهما صيغتا عموم إذا وقعتا بعد النفي وشبهه، وهكذا جاء في القرآن الكريم، نحو ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ) (1) ، ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) (2) ، ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (3) .

أمّا لفظتا (جنوب) و(شمأل) فهما اسما خاصّ لا يفيدان العموم ولا سيّما في الإثبات.

كما أنّ من شأن الرياح أن تعفو الآثار وتمحوها محواً، لا أن تستحكمها وتنسجها نسجاً كما نسبحه امرؤ القيس في عقليّته الغائرة!

قال الباقلاّني: وضرورة الشعر دلّته على هذا التعسّف (4) !

* * *

ذكر السيد صدر الدين ابن معصوم المدني بشأن حُسن الابتداء، أنّ من شرائطه التأنّق في الكلام، فيأتي بأَعذب الألفاظ، وأجزلها وأرقّها، وأسلسها سبكاً، وأتقنها مبنىً، وأوضحها معنىً، خالياً من الحشو والركاكة والتعقيد.

قال: وقد أطبق علماء البيان على أنّ القرآن في مفتتحات سوره ومطالع مقاطع آيه أتى بأحسن وجوه الكلام وأبلغها، وأجودها سلاسةً، وأسبكها نظماً،

____________________

(1) الأنعام: 59.

(2) الملك: 3.

(3) الملك: 3.

(4) إعجاز القرآن بهامش الإتقان: ج 2 ص 13 - 15.

١٧٠

وأوفاها بغرض البيان، وبذلك قد فاق الأقران.

يدلّك على ذلك مقارنته مع مطالع سائر الكلام من خُطب وقصائد فصحاء العرب يومذاك.

هذا امرؤ القيس تراه مجيداً في الشطر الأَوّل من مطلع معلّقته، حيث وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل، وهو من كثير المعنى في قليل اللفظ، لكنّه هبط كلامه في الشطر الأخير، حيث أتى بألفاظ لا طائل في ذِكرها، سوى الإبعاد عن مقصود الكلام، فلا تناسب بين الشطرين من بيت واحد هو مطلع قصيدة قد جدّ فيها جدّه، فيما زعم! (1) .

ومما عيب على امرؤ القيس أيضاً قوله:

كأنّي لم أركب جواداً للذّةٍ

ولم أَتبطّن كاعباً ذاتَ خِلخالِ

ولم أَسبأ الزِقَّ الرويَّ ولم أقُل

لخيليَ كُري كرّةً بعد إجفالِ (2)

فإنّه قابل لفظتين بلفظتين مع عدم التناسب فكان فيه تكلّف.. قاله ابن رشيق.

قال: ومنهم من يُقابل لفظتين بلفظتين، ويقع في الكلام حينئذٍ تفرقة وقلّة تكلّف، فمن المتناسب قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) في بعض كلامه: (أين مَن سعى واجتهد، وجمع وعدّد، وزخرف ونجّد، وبنى وشيّد)، فأتبع كلّ لفظة ما يشاكلها، وقرنها بما يشبهها (وهذا من لطيف الكلام).

قال: ومن الفرق المنفصل قول امرؤ القيس، وذكر البيتينِ.

قال: وكان قد ورد على سيف الدولة رجل بغداديّ يُعرف بالمنتخب، لا يكاد يسلم منه أحد من القدماء والمحدّثين، ولا يُذكر شعر بحضرته إلاّ عابه، وظهر على صاحبه بالحجّة الواضحة، فأنشد يوماً هذين البيتين، فقال: قد خالف فيهما وأفسد،

____________________

(1) راجع أنوار الربيع: ج 1 ص 35.

(2) سبأ الخمر: شراها ليشربها، والزِقّ: الخمر، والرويّ من الشرب: التام المشبع، وإجفال الخيل: نفوره وشروده.

١٧١

لو قال:

كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل

لخيليَ كرّي كرّةً بعد إجفالِ

ولم أسبأ الزِّق الرويّ للذّةٍ

ولم أَتبطّن كاعباً ذات خِلخالِ

لكان قد جمع بين الشيء وشكله، فذكر الجواد والكَرّ في بيت، وذَكر النساء والخمر في بيت! فالتبس الأمر بين يدي سيف الدولة، وسلّموا له ما قال!

فقال رجل ممّن حضر: ولا كرامة لهذا الرأي، الله أصدق منك حيث يقول:

( إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ) (1) ، فأتى بالجوع مع العُري ولم يأتِ به مع الظمأ. فسُرّ سيف الدولة، وأجازه بصلة حسنة.

هذا، وقد حاول صاحب الكتاب تبرير موقف امرؤ القيس في تفرقته هذه غير المتناسبة، وأتى بتكلّف وتأويل ظاهرَينِ.

وأمّا الآية الكريمة فقد فنّد مزعومةَ القائل بأنّها نظيرة البيتينِ، وقال: وأمّا احتجاج الآخر بقول الله عزّ وجلّ فليس من هذا في شيء؛ لأنّه تعالى أجرى الخطاب على مستعمل العادة، وفيه مع ذلك تناسب، لأنّ العادة أن يقال: جائع عريان، ولم يُستعمل في هذا الموضع عطشان ولا ظمآن، وقوله تعالى: (تَظمأ) و (تضحى) متناسب؛ لأنّ الضاحي هو الذي لا يستره شيء عن الشمس، والظمأ مِن شأن مَن كانت هذه حاله (2) .

وأيضاً قوله:

وهرٌّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ

وافلتَ منها ابنُ عمرو حُجُر

قال ابن رشيق: وقد يأتي القدماء من الاستعارات بأشياء يجتنبها المحدّثون ويستهجنونها، ويعافون أمثالها ظرفاً ولطافة، وإن لم تكن فاسدةً ولا مستحيلةً، فمنها قول امرؤ القيس - وذكر البيت - قال: فكان لفظة (هرّ) واستعارة الصيد معها

____________________

(1) طه: 118 و 119.

(2) العمدة لابن رشيق: ج 1 ص 258 - 259.

١٧٢

مضحكة هجينة، ولو أنّ أباه حُجراً من فارات بيته ما أَسِف على إفلاته منها هذا الأسف.

قال: وأين هذا من استعارة زهير حين قال يمدح:

ليثٌ بعثّر يصطادُ الرجالَ إذا

ما كذّبَ الليثُ عن أقرانِهِ صَدَقا

لا على أنّ امرؤ القيس أتى بالخطأ على جهته ولكن للكلام قرائن تُحسّنه، وقرائن تُقبّحه كذِكر الصيد في هذين البيتين (1) .

قال: ومثل قول امرؤ القيس في القبح قول مسلم بن الوليد:

وليلةٍ خُلِست للعينِ مِن سِنَةٍ

هَتكتُ فيها الصِبا عن بَيضَةِ الحَجَلِ

فاستعار للحجر - يعني الكلل - بيضة، كما استعارها امرؤ القيس للخدر في قوله:

وبَيضةِ خِدرٍ لا يُرامُ خباؤُها

تَمتّعتُ مِن لهوٍ بها غير مُعجَلِ

وكلاهما يعني المرأة، فاتّفق لمسلم سوء الاشتراك في اللفظ؛ لأنّ بيضة الحجل من الطير تشاركها، وهي لعمري حسنة المنظر كما عرفت (2) .

ثمّ ذهب في بيان الاستعارة وأنّها من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها فنزلت موضعها، وهي كثيرة في القرآن (3) .

وكذا قوله في التشبيه لغرض المبالغة في التهويل:

أَيقتُلُني والمَشرفيُّ مُضاجعي

ومَسنونةٌ زُرقٌ كأنيابِ أَغوالِ

وقد جاء نظيره في القرآن لغرض المبالغة في التقبيح: ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) (4) .

غير أنّ المشبّه به وقع في القرآن معرّفاً وفي البيت منكراً، وهذا من عيب الكلام؛ إذ لا تهويل بشيء مجهول غير معروف. أمّا الآية فقد جاء التشبيه فيها بما

____________________

(1) العمدة: ج 1 ص 271.

(2) المصدر: ص 272.

(3) المصدر: ص 268 - 275.

(4) الصافّات: 65.

١٧٣

لا يشكّ أنّه منكر قبيح (1) .

وكذلك في كثير من أشعاره نقد كثير، ذكره أهل الصناعة عرضاً وفي طيّ كلامهم عن نكات ودقائق شعرية أو أدبية، وربّما أتوا بشعر امرؤ القيس وأضرابه مثلاً، ولو أرادوه غرضاً لأصابوا منه الكثير في الكثير.

هذه حالة ألمع شعراء الجاهلية وعظيم العرب فصاحةً وبياناً، ضربناه لك مثلاً، وعليه فقس من سواه.

أمّا القرآن الكريم فقد مضت عليه قرون متطاولة، وحاولت خصومه الكثير النيل منه بشتّى الوسائل والحِيل، فهل ساعدهم التوفيق أم باؤوا بالخيبة والفشل صاغرين، وأصبحوا أُلعوبة إخوانهم الشياطين وأُضحوكة الإنس والجنّ أجمعين.

* * *

هذا، وقد تحمّس صاحب الدراسات (2) لهكذا أشعار ساقطة وتافهة في نفس الوقت، وقد أخذته الحمية الجاهلية الأُولى، فقام مُدافعاً عن موقف شاعر مستهتر خليع قضى حياته الكَدرة في البذخ والترف والابتذال الشنيء!

إنّه صوّر من امرؤ القيس شخصيّة تاريخيّة لامعة، قد حشّد في معلّقته الحياة العربيّة كلّها، ما تراه العين، وما ينبض به القلب، وما تقلّه الأرض، وما تسوقه السماء، وفي معلّقته مشاهد للحياة، كأنّك في مركب من مراكب الفضاء تطوف في الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها في لحظات!

قال: وأقف بك عند مشهد صغير من تلك المشاهد التي تحفل بها هذه المعلّقة، في هذا المشهد يُحدّث امرؤ القيس عن نفسه، حين وقف على أطلال الديار التي كانت يوماً مّا تضمّ محبوبته فهاج ذلك ذكريات كثيرة عنده، كان أشدّها يوم ارتحلت مع قومها وهم يرتحلون، فوقف كما يقف المرء على ميّت عزيز له، يقول:

____________________

(1) العمدة: ج 1 ص 288.

(2) عبد الكريم الخطيب في كتابه (الإعجاز في دراسات السابقين): ص 130 فما بعد.

١٧٤

كأنّي غداةَ البَينِ يوم تَحمّلوا

لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حَنظَلِ (1) .

قال: إنّك تجد من كلّ كلمة من هذا البيت مطلعاً من مطالع الروعة، ومدخلاً يدلف بك إلى مشهد من مشاهد الإنسان في صراعه مع عواطفه، فلا تملك من نفسك إلاّ أن تعطف على تلك النفوس التي ذهب بها الوجد وأحرقها الأسى.

قلت: ولعلّ صحبنا هذا هو ناقِفُ حنظل هواجسه، فجعل يهذي عن أبيات لا عذوبة فيها ولا روعة ولا جمال، وإنّما هي بيداء قاحلة لا غضاضة فيها ولا طراوة، والمعنى الذي أراده مفهوم عامّ يتصوّره كلّ عاميّ مسترسل.

* * *

وذكر ابن رشيق بشأن المبالغة: أنّ الناس مختلفون فيها، فمنهم مَن يُؤثرها ويقول بتفضيلها ويراها الغاية القصوى في الجودة، كما قيل: أشعر الناس من استُجيد كَذبه (2) ومنهم مَن يعيبها ويُنكرها ويراها عيباً وهُجنةً في الكلام.

قال بعض الحذّاق بنقد الشعر: المبالغة ربّما أحالت المعنى ولبّسته على السامع، فليست لذلك من أحسن كلام ولا أفخره؛ لأنّها لا تقع موقع القبول كما لا يقع الاقتصاد وما قاربه، لأنّه ينبغي أن يكون من أهمّ أغراض الشاعر والمتكلّم أيضاً الإبانة والإفصاح وتقريب المعنى على السامع، فإنّ العرب إنّما فضّلت بالبيان والفصاحة وحلا منطقها في الصدور وقَبِلَته النفوس لأساليب حسنة وإشارات لطيفة، تكسبه بياناً وتصوّره في القلوب تصويراً.

فمَن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذّاق: التقصّي، وهو بلوغ الشاعر أو المتكلّم ما يمكن مِن وصف الشيء، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي:

ونُكرمُ جارَنا ما دامَ فينا

ونُتبِعه الكرامةَ حيث كانا

ومن أغربها أيضا ترادف الصفات، وفي ذلك تهويلٌ مع صحّة لفظ لا تحيل

____________________

(1) البين: الفراق. والسّمرة: شجر صخم له شوك، وناقف الحنظل: هو الذي يشق الحنظل ليخرج ثمره المرّ.

(2) نسبه ابن رشيق إلى نابغة بني ذبيان.

١٧٥

معنىً، كقول الله تعالى:

( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) (1) .

فأمّا الغلوّ فهو الذي يُنكره مَن يُنكر المبالغة، ويقع فيه الاختلاف، من ذلك قول امرؤ القيس:

كأنَّ المُدامَ وصوبَ الغُمام

وريحَ الخُزامى ونشرَ القُطُر

يِعلُّ به بَردُ أَنيابِها

إذا غرّدَ الطائرُ المُستَحِر

فوصف فاها بهذه الصفة سَحَراً عند تغيّر الأفواه بعد النوم، فكيف تظنّها في أوّل الليل؟! فقد بالغ وأتى بالمستحيل، فكان كذباً صريحاً وهُجنةً في الكلام.

ومثل ذلك قوله يصف ناراً:

نظرتُ إليها والنجومُ كأنّها

مصابيحُ رُهبانٍ تشبُّ لقُفّال

وفيه من الإغراق ما يلحقه بالمستحيل، يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشبّ لقفّال، والنجوم كأنّها مصابيح رهبان، وقد قال:

تنوّرتُها من أَذرُعاتٍ وأَهلُها

بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالِ

وبين المكانينِ بُعد أيام، وإنما يرجع القُفّال من الغزو والغارات وجه الصباح، فإذا رأوها من مسافة أيّام وجه الصباح وقد خمد سناها وكلّ موقدها فكيف كانت أوّل الليل؟!! وشبّه النجوم بمصابيح الرهبان؛ لأنّها في السَحر يَضعف نورها كما يَضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع، لا سيّما مصابيح الرهبان، لأنّهم يكلّون من سهر الليل، فربّما نعسوا ذلك الوقت (2) .

ومن أبيات الغلوّ قول مهلهل:

فلولا الريحُ أُسمِعُ من بِحُجرٍ

صليلَ البيضِ تُقرعُ بالذُكورِ

____________________

(1) النور: 40.

(2) العمدة لابن رشيق: ج 2 ص 55 - 56.

١٧٦

وقد قيل: إنّه أَكذبُ بيت قالته العرب، وبين حجر - وهي قصبة اليمامة - وبين مكان الوقعة عشرة أيّام، وهذا أشدّ غلوّاً من قول امرؤ القيس في النار؛ لأنّ حاسّة البصر أقوى من حاسّة السمع وأشدّ إدراكاً.

ومنها قول النابغة في صفة السيوف:

تَقُدَّ السلوقيَّ المُضاعفَ نسُجُه

ويَوقِدنَ بالصُفّاحِ نارَ الحُباحِبِ (1)

وقد عيب على امرؤ القيس - في شعره الآنف - مضافاً إلى غلوّه في المبالغة، تعبيره عن أسنان حبيبته بالأنياب؛ لأنّها أوّلاً اسم للسنّ خلف الرباعيّة، وليست مطلق الأسنان، وثانياً أكثر استعمال الأنياب في الحيوانات الضارية المهولة، كما شبّه هو السهام المسنونة بأنياب الأَغوال في قوله:

أَيقتُلُني والمَشرفيُّ مُضاجعي

ومسنونةٌ زُرقٌ كأنيابِ أَغوالِ

واستعار بعضهم الأنياب للشرّ، أنشد ثعلب:

أَفرُّ حذار الشرِّ والشرُّ تاركي

وأَطعنُ في أَنيابه وهو كالحُ (2)

وهكذا قبّح تشبيه امرؤ القيس بنان حبيبته بالديدان الحمر الدقاق تعيش في الرمال، في قوله:

وتَعطو برَخصٍ غير شَثنٍ كأنّه

أساريعُ ظبيٍ أو مساويك إسحِلِ (3)

شبّه بنانتها بالأسروعة (دودة في الرمل) ليناً، وبياضاً، وطولاً، واستواءً، ودقّةً، وحمرة رأس، قال ابن رشيق: كأنّه ظِفر قد أصابه الحنّاء، وربّما كان رأسها أسود.

قال: إلاّ أنّ نفس الحضرمي إذا سمع قول أبي نؤاس:

تُعاطيكَها كفٌّ كأنّ بَنانَها

إذا اعتَرضَتها العينُ صفُّ مَداري

____________________

(1) العمدة: ج 2 ص 62.

(2) كلح وجهه: عبس وتكشّر.

(3) تعطو: تتناول، برَخص: أراد بناناً رخصاً ليّناً، غير شثن: ليس بخشن، والأساريع: جمع الأسروعة وهي دودة صغيرة تعيش في الرمال، ظبي: اسم موضع فيه رمل، أسحِل: شجر المخيطا تُتّخذ من عروقه مساويك كالأراك.

١٧٧

أو قول الرومي:

أشارَ بقُضبان مِن الدُرّ قُمِّعت

يواقيتُ حمراً فاستباحَ عَفافي (1)

أو قول ابن المعتز:

أَشرنَ على خوفٍ بأغصانِ فضّةٍ

مُقـوّمةٍ أَثمـارُهُنّ عقيقُ

كان ذلك أنهش في نفسه وأحبّ إليها من تشبيه البَنان بالدود في قول امرؤ القيس...! نعم، إذا كان ذلك في الهجو كان قريباً، كقول حسّان:

وأمُّكَ سوداءُ نوبيّة

كأنَّ أناملَها الحُنظُب

والحُنظُب - كقنفذ - بحاء مهملة: دابّة من خَشاش الأرض مثل الخنفساء (2) ، قيل: هو ضرب من الخنافس طويل (3) .

وهل هذا التشبيه البشع في شعر امرؤ القيس في وصف أنامل محبوبته وأسنانها يشبه شيئاً من توصيفات جاءت في القرآن الكريم للحور العين؟!!

انظر إلى هذا الوصف الجميل:

( وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) (4) .

( مُتّكِئِينَ عَلَى‏ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ *... فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانّ *... كَأَنّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) (5) .

( وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ *... مُدْهَامّتَانِ *... فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ *... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ *... فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ *... حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ *... لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانّ *... مُتّكِئِينَ عَلَى‏ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ

____________________

(1) قمّعت المرأة بنانها بالحنّاء: خضّبتها.

(2) الخشاش - مثلّثة - حشرات الأرض، واحدتها خشاشة.

(3) العمدة: ج 1 ص 299 - 300.

(4) الواقعة: 21 و 22.

(5) الرحمن: 54 - 58.

١٧٨

حِسَانٍ ) (1) .

فقد جاء وصفُ جمالهنّ مقروناً بوصف عفافهنّ، ممّا هو أقرب إلى النفس وأرغب في غريزة حبّ الاختصاص التي جُبلت عليها طبيعة الإنسان!

وقول أبي تمّام الطائي، يرثي خالد بن زياد الشيباني في قصيدة يمدح أباه فيها:

ويَصعد حتّى يظنُّ الجَهولُ

بأنّ له حاجةً في السماءِ

يريد من الصعود والرفعة في القدرة والمنزلة، لكنّه بنى على تناسي التشبيه، فزعم أنّه يُحاول الصعود إلى السماء على حقيقته! وهذا التشبيه والتناسي خاليان من أيّ لطف وظرافة.

وقايس بينه وبين قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) انظر إلى جرس لفظه ولطف تعبيره.

وقوله تعالى: ( رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى‏ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ ) (3) .

كلام خال من التشبيه، لكن ملؤه الأبّهة والجلال والكبرياء، في حسن النظم وجودة التعبير.

قال ابن رشيق: واستبشع قوم قول الآخر يصف روضاً:

كأنّ شقائقَ النعمانِ فيه

ثيابٌ قد رُوينَ مِن الدماءِ

فهذا وإن كان تشبيهاً مصيباً، فإنّ فيه بشاعة ذِكر الدماء، ولو قال من العُصفُر (4) مثلاً أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس.

وكذلك صفتهم الخمر في حبابها بسلخ الشجاع (5) وما جرى هذا المجرى من

____________________

(1) الرحمن: 62 - 76.

(2) فاطر: 10.

(3) غافر: 15.

(4) العُصفُر - كقنفذ - صبغ أصفر اللون.

(5) الشجاع - مثّلث الشين -: ضَرب من الحيّات، وسلخها: كشط جلدها.

١٧٩

التشبيه فإنّه وإن كان مصيباً لعين الشبه فإنّه غير طيّب في النفس، ولا مستقرّ على القلب، ومن ذلك قول أبي عون الكاتب:

تُلاعبُها كفُّ المزاجِ محبّةً

لها وليجري ذات بينهما الأُنسُ

فتَزبد مِن تيه عليها كأنّها

غريرةُ خدرٍ قد تَخبّطها المَسُّ (1)

فلو أنّ في هذا كلّ بديع لكان مقيتاً بشعاً، ومَن ذا يطيب له أن يشرب شيئاً يشبّه بزَبد المصروع وقد تخبّطه الشيطان من المس؟!.

قال: وكأنّي أرى بعض مَن لا يُحسن إلاّ الاعتراض بلا حجّة، قد نعى عليَّ هذا المذهب، وقال: ردّ على امرؤ القيس، ولم أفعل، ولكنّي بيّنت أنّ طريق العرب القدماء في كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله (2) .

وقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة:

نَظَرتْ إليك بحاجةٍ لم تَقضِها

نظرَ السقيمِ إلى وجوهِ العُوَّدِ (3)

على أنّه تشبيه يلحق ولا يشقّ غبار صاحبه، ولم يجد فيه المطعن إلاّ بذكر السقيم، فإنّه رغب عن تشبيه المحبوبة به، وفضّل عليه قول عديّ بن الرقاع العاملي:

وكأنّها وَسَطَ النساءِ أَعارَها

عينَيهِ أَحوَرُ مِن جآذِرِ جاسمِ (4)

وسَنانُ أَقصدَه النعاسُ فرَنَّقتْ

في عَينِه سِنَةٌ وليس بنائِمِ (5)

وأجرى الناس هذا المجرى قول صريع الغواني (6) على أنّه لم يقع لأحد مثله

____________________

(1) الغرير والغريرة: الشابّ والشابة في مطلع شبابهما لا تجربة لهما في الحياة.

(2) العمدة: ج 1 ص 301.

(3) العُوّد: جمع العائدة التي تعود المريض المُترقّب لها.

(4) الجآذر: جمع الجوذر، ولد البقرة الوحشيّة.

(5) وسنان: من غلبه النعاس، أقصده: طعنه فلم يُخطئه، رنّق بالمكان: أقام فيه واحتبس به.

(6) صريع الغواني: مجنونهنّ، كناية عن امرؤ القيس.

١٨٠