تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93332
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93332 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولأجل هذا التحرّج جاء السؤال التالي: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى ) (1) .

فكان الجواب: ( قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَو شَاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ ) . أي هذا واجب فرض، وكل أحد يمكنه المواظبة على ترك الحرام، وأخيراً فلو تعنّتم لأخذناكم بتكليف أشقّ وأعنت.

إذاً فاسترسلوا في أمركم وشاركوهم في أموالهم كما تشاركون سائر إخوانكم، مع المواظبة على غبطة مصلحة الشريك، فهذا هو خير يعود عليكم نفعُه أيضاً.

وأمّا إذا كانت اليتامى نسوة فطريق المخلص بشأن مخالطة أموالهم أسهل، ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى‏ النّسَاءِ اللاّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ ) (2) .

ففي الآية السابقة ترخيص لنكاحهنّ ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ - أي يتامى النساء اللاّتي تحت كفالتكم - مَثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) (3) والآية بعد ذلك تستطرد في شؤون شتّى، كما هو دأب القرآن.

وعلى أية حال، فالتزويج بهنّ هي إحدى طرق التخلّص من مأزق التحرّج في مال اليتيم؛ إذ المرأة تغضّ طرفها عن المُداقّة في مالها المختلط مع مال زوجها المرافق لها الكافل لشؤونها.

وهذا خامس الوجوه التي ذكرها الطبرسي في توجيه مناسبة الآية (4) وهو أحسن الوجوه، وأكثر انسجاماً مع سياق الآية، والله العالم.

* * *

* وقوله تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (5) .

____________________

(1) البقرة: 220.

(2) النساء: 127.

(3) النساء: 3.

(4) مجمع البيان: ج3 ص6.

(5) الأنفال: 24.

٢٨١

قيل: ما هي المناسبة بين الأمر باستجابة الرسول فيما إذا دعاهم إلى الحياة والتهديد بالحيلولة بين المرء وقلبه؟

وقد أخذت الأشاعرة - وفي مقدّمتهم شيخ المتشكّكين الإمام الرازي (1) - من هذه الآية - نظراً إلى الذيل - دليلاً على القول بالجبر بأنّ الله هو الذي يجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وذهب عنهم أنّ الدعوة في صدر الآية دليل على الاختيار، وحاشا القرآن أن يتناقض كلامُه في آية واحدة.

وحاول العلماء تفسير الآية بوجوه أدقّ وأوفى، منها: أنّ في القلب نقطة تحوّلات مفاجئة، قد يتحوّل الإنسان من حالة إلى أُخرى في مصادفة مباغتة، فينقلب الشقيُّ سعيداً أو السعيدُ شقيّاً؛ لمواجهة غير مترقّبة عارضت مسيرته التي كان عليها، زاعماً عكوفه عليها مرّة حياته، ولكن رغم مزعومه أخذ في التراجع والانعطاف إلى خلاف مسيره.

وهذا، لخلق الخوف والرجاء، وطرد اليأس والغرور.

وهذا من أعظم التربية للنفوس البشرية، فلا يأخذها القنوط واليأس إن هي أسرفت في التمرّد والعصيان، ولا يسطو عليها العجب والاغترار إن هي بلغت مدارج الكمال.

ومنها: أنّ الإسلام دعوة إلى الحياة العُليا والسعادة القصوى، كما أنّ في رفضها والتمرّد عن تعاليمها إماتة للقلوب، وبذلك تموت معالم الإنسانية في النفوس وتذهب كرامتها أدراج الرياح، وإذا بهذا الإنسان دابّة، فبدلاً من أن يمشي على أربع، يمشي على رجلين لا أكثر من ذلك، وفي ذلك هبوط من قمّة الشموخ إلى حضيض الهمجية والابتذال.

____________________

(1) التفسير الكبير: ج15 ص147 - 148 و181 - 182.

(2) النحل: 93، فاطر: 8.

٢٨٢

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ ) (1) .

( وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (2) .

ووجوهٌ أُخر ذكرناها في فصل المتشابهات من الآيات (3) .

قال سيّد قطب: من ألوان التناسق الفنّي هو ذلك التسلسل المعنوي بين الأغراض في سياق الآيات، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض، وبعضهم يتمحّل لهذا التناسق تمحّلاً لا ضرورة له، حتى ليصل إلى حدّ التكلّف ليس القرآن بحاجة إلى شيء منه (4) .

وقال الأُستاذ درّاز: إنّ هذه النقطة غفل عنها جميع المستشرقين، فضلاً عن بعض علماء المسلمين، فعند ما لاحظ بعضهم بنظرته السطحية عدم توافر التجانس والربط الطبيعي بين المواد التي تتناولها السور لم يرَ القرآن إلاّ أشتاتاً من الأفكار المتنوّعة، عُولجت بطريقة غير منظّمة، بينما رأى الآخر أنّ علّة هذا التشتيت المزعوم ترجع إلى الحاجة لتخفيف الملل الناتج من رتابة الأُسلوب.

وهناك فريق آخر لم يرَ في الوحدة الأدبية لكل سورة - وما لا يستحيل نقله في أيّة ترجمة - إلاّ نوعاً من التعويض لهذا النقص الجوهري في وحدة المعنى، وفريق آخر يضمّ غالبية المستشرقين، رأى أنّ هذا العيب يرجع إلى الصحابة الذين جمعوا القرآن، وقاموا بهذا الخلط عندما جمعوا أجزاءه ورتّبوها على شكل سور.

قال: إنّ هذه التفسيرات لا تبدو صالحة للأخذ بها؛ إذ من المتّفق عليه أنّ السور كانت بالشكل الذي نقرأها به اليوم، وبتركيبها الحالي، منذ حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

قال: ولقد اتّضح أنّ هناك تخطيطاً واضحاً ومحدّداً للسورة، يتكوّن من ديباجة وموضوع وخاتمة، ولا جدال في أنّ طريقة القرآن هذه ليس لها مثيل على

____________________

(1) الأعراف: 176.

(2) الحشر: 19.

(3) راجع التمهيد في علوم القرآن: ج3 ص239 - 252 تحت رقم 80 الطبعة الثانية.

(4) التصوير الفنّي في القرآن لسيد قطب: ص69.

٢٨٣

الإطلاق في أيّ كتاب في الأدب أو في أيّ مجال آخر، يمكن أن يكون قد تمّ تأليفه على هذا النحو، وإذا كانت السور القرآنية من نتاج ظروف النزول تكون وحدتها المنطقية والأدبية معجزة المعجزات (1) .

التناسب القائم في كل سورة بالذات

الوحدة الموضوعية:

وممّا يسترعي الانتباه ما تشتمل عليه كل سورة من أهداف خاصة تستهدفها لغرض الإيفاء بها وأداء ما فيها من رسالة بالذات، الأمر الذي يوجه مصير انتخابها في كيفية لحن الأداء وفي كمّية عدد الآيات، يُنبئك بذلك اختلاف السور في عدد الآي، قليلها وكثيرها، فما لم تستوفِ الهدف لم تكتمل السورة، قصرت أم طالت، وهكذا اختلاف لهجاتها من شديدة فمعتدلة وإلى ليّنة خفيفة، فلابدّ من حكمة مقتضية لهذا التنويع في العدد واللحن؛ لأنّه من صُنْع عليم حكيم.

هذا مضافاً إلى ما لكل سورة من حسن مطلع ولطف ختام، فلابدّ أن تحتضن مقاصد هي متلائمة مع هذا البدء والختام، وبذلك يتمّ حسن الائتلاف والانسجام.

ومِن ثَمّ فمن الضرورة - بمقتضى الحكمة - أن تشتمل كل سورة على نظام خاصّ يستوعب تمام السورة من مفتتحها حتى نهاية المطاف، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه من الوحدة الموضوعية التي تحتضنها كل سورة بذاتها.

ولسيّد قطب محاولة موفّقة - إلى حدّ ما - في سبيل الإحاطة بما تشتمل عليه كلّ سورة من أهداف، يُقدّم فكرة عامة عن السورة بين يدي تفسيرها، وبياناً إجمالياً عن مقاصد السورة قبل الورود في التفصيل، ممّا يدلّ على تسلسل طبيعي في كلّ سورة تنتقل خلاله من غرض إلى غرض حتى تنتهي إلى تمام المقصود،

____________________

(1) المدخل إلى القرآن الكريم (أهداف كل سورة، عبد الله محمود شحاته: 5 - 6).

٢٨٤

تناسقاً معنوياً رتيباً، تنبّه له المتأخرون في كلّ سورة بالذات، ولم يزل العمل مستمراً في البلوغ إلى هذا الهدف البلاغي البديع في جميع السور، لكن يجب التريّث دون التسرّع، ونحن في بداية المرحلة، فلا يكون هناك تكلّف أو تمحّل لا ضرورة إليه.

وقال الأُستاذ المدني: إنّ في كلّ سورة من سور القرآن الكريم روحاً تسري في آياتها، وتسيطر على مبادئها وأحكامها وتوجيهاتها وأُسلوبها، قال: ومن الواضح أنّ سور القرآن مع كون كلّ واحد منها ذات طابع خاص، وروح تسري في نواحيها - لا يمكن أن تُعدّ فصولاً أو أبواباً مُقسّمة منسّقة على نمط التآليف التي يُؤلّفها الناس، ومَن أراد أن يفهمها على ذلك أو أن يُفسّرها على ذلك فإنّه يكون متكلّفاً مشتطاً، محاولاً أن يُخرج بالقرآن عن أُسلوبه الخاص، الذي هو التنقّل والمراوحة والتجوّل، وبثّ العظة في تضاعيف القول، والوقوف عند العبر لتجليتها، والتوجّه إلى مغزاها، وانتهاز الفرصة أينما واتت، لدعم العقيدة السليمة والمبادئ القويمة.

إنّ هناك فرقاً بين مَن يحاول أن يفعل ذلك، ومَن يُحاول أن يجعل القارئ يَلمح الروح الساري والبيئة المعنوية الخاصّة التي تجول فيها السورة دون أن يُخرج التنزيل الحكيم عن سنته وأُسلوبه الذي انفرد به، وكان من أهمّ نواحي الإعجاز فيه....

وهذه الطريقة في الدراسة القرآنية أجدى على الناس مِن تتبّع الآيات آية بعد آية، فإنّ ذلك لا يعطي المنظر العام، ولا يُساعد على تصوّر عظمة الصورة مجتمعة الملامح، منضمّة التقاسيم، كاملة الوضع (1) .

وبعد، فإليك نماذج من محاولات بُذلت للحصول على تلك الوحدات

____________________

(1) المجتمع الإسلامي كما تنظّمه سورة النساء لمحمّد محمّد المدني: ص5 - 7 (الأهداف: ص7).

٢٨٥

الموضوعية التي تشتمل عليها كلّ سورة لذاتها بحيث كادت تقرب من نظم التأليف من ديباجة ومقاصد وخاتمة في تبويب رتيب، حصولاً على قدر الجهد المبذول، والله من وراء القصد.

سورة الفاتحة: ما يشتمل عليه هذه السورة القصيرة من نظم وترتيب طبيعي، هو من أبدع النُظم التي تُصوّر موقف العبد تجاه ربّه الكريم، في ضراعة وخشوع، مسترحماً مبتهلاً إيّاه تعالى أن يهديه سواء السبيل ويُنعم عليه بأفضل نعمه وآلائه، في أُسلوب جميل وسبك طريف.

إنّ هذه السورة المباركة انتظمت من ثلاثة مقاطع، كلّ مقطع مرحلة هي مقدّمة للمرحلة التالية في تدرّج رتيب، ويتمثّل خلالها أدب العبد الماثل بين يدي مولاه، تلك مراحل يجتازها في أناقة يريد مسألته، يمجّده أوّلاً، ثُمّ ينقطع إليه كما الانقطاع، وأخيراً يعرض حاجته في أُسلوب لطيف، ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، وكأنّه كان في حجاب عن وجه سيّده المتفضّل عليه بالإنعام، ثمّ مَثَل بين يديه وحظي بالحضور.

قالوا (1) : إنّ العبد إذا افتتح حَمَد مولاه الحقيق بالحمد - عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لِما هو فيه بقوله: ( الحمدُ للهِ ) الدالّ على اختصاصه بالحمد، وأنّه حقيق به - وَجَد من نفسه لا محالة محرّكاً للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: ( ربّ العالمين ) - الدالّ على أنّه مالك للعالمين، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته - قَوى ذلك المحرّك، ثمّ انتقل إلى قوله ( الرحمن الرحيم ) الدالّ على أنّه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها، تضاعفت قوّة ذلك المحرّك، ثمّ إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام، وهي قوله: ( مالكِ يومِ الدِّين ) الدالّ على أنّه مالك للأمر كلّه يوم الجزاء، تناهت قوّته، وأوجب الإقبال عليه، وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات: ( إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين ) .

____________________

(1) الزمخشري في الكشّاف: ج1 ص14.

٢٨٦

وهذا كمال الانقطاع يُبديه العبد لدى مولاه، يُمهّد بها أسباب الشفاعة، فيردفها مع عرض حاجته، بُغية قضائها ونجاحها، والتوفيق يرافقه لا محالة.

وسورة البقرة - وهي أول سورة نزلت بالمدينة، واكتملت لعدة سنوات، ونزلت خلالها سور وآيات - تراها على طولها، منتظمة على أُسلوب رتيب: مقدّمة لابدّ منها، ثمّ دعوة، وأخيراً تشريع (1) .

أمّا المقدّمة ففي بيان طوائف الناس ومواقفهم تجاه الدعوة، إمّا متعهد يخضع للحقّ الصريح، أو معاند يجحد بآيات الله، أو منافق يراوغ مراوغة الكلاب، أمّا الشكّ فلا مجال له بعد وضوح الحقّ ووفور دلائله، وقد نفاه القرآن الكريم ( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ ) .

وقد أعلن الدعوة بتوجيه نداء عامّ إلى كافة الناس ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) (2) ودعمها بدلائل وبراهين نيّرة، مستشهداً بسابق حياة الإنسان منذ بدء الخلقة، وتصرّفاته الغاشمة في الحياة، ولا سيّما حياة إسرائيل السوداء المليئة بالمخازي والآثام، وهي الأُمّة الوحيدة التي تعرفها العرب ولهم معها نسب قريب.

ثمّ يأتي دور التشريع (3) ويتقدّمه الحديث عن الكعبة وتشريفها، وبيان النسخ والإنساء في الشرائع، فيبتدئ بتحويل القبلة (4) وتشريع الحجّ والجهاد والقتال في سبيل الله، والصوم والزكاة والاعتكاف، والنكاح والطلاق والعدد، والمحيض والرضاع والأَيمان، والوصية والدَين والربا، والتجارة الحاضرة وبذلك تنتهي السورة.

هذه هي الصبغة العامّة للسورة، وفي ضمنها الاستطراق إلى عدة مواضيع

____________________

(1) المقدمة في (20) آية، والدعوة في قريب من (124) آية، والتشريع (142).

(2) البقرة: 21.

(3) من الآية رقم 125.

(4) الآية رقم 144.

٢٨٧

بالمناسبة، كما هي طريقة القرآن في جمعه لشتات الأُمور.

وفي ختام السورة (1) جاء الحديث عن مَلكوت السماوات والأرض، وعِلمه تعالى بما في الصدور فيحاسب العباد عليه، وعن إيمان الرسول بما اُنزل إليه، والمؤمنون على أثره، وأن لا تكليف بغير المستطاع، ولابدّ من الاستغفار على الخطايا وطلب فضله تعالى ورحمته في نهاية المطاف.

والمناسبة ظاهرة بعد ذلك التفصيل عن دلائل الدعوة ومعالم التشريع، وقد جهد الإمام الرازي في بيان النظم القائم بين هذه الآيات الثلاث بالذات وما سبقتها من دلائل التوحيد وتشريع الأحكام، وذكر في ذلك وجوهاً لا بأس بها نسبياً، وعقبها بقوله:

ومَن تأمّل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته، ولعلّ الذين قالوا: إنّه معجز بحسب أُسلوبه أرادوا ذلك، إلاّ أنّي رأيت جمهور المفسّرين معرضينَ عن هذه اللطائف، غير منتبهين لهذه الأُمور، ثمّ تمثّل بقول الشاعر:

والنجمُ تَستصغرُ الأبصارُ رؤيتَهُ

والذنبُ للطرفِ لا للنَجمِ في الصِغَرِ (2)

* * *

والآيتان الأخيرتان منها قوله تعالى: ( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا

____________________

(1) الآيات رقم 284 و285 و286.

(2) التفسير الكبير ج7 ص127.

٢٨٨

إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (1) .

انظر كيف تناسق البدء والختام، وكيف تجمّعت مواضيع السورة وأهدافها، ملخّصة في آخر بيان، ليتأكد أوّلها بآخرها بهذا الشكل البديع.

* * *

ولعلّنا في مجال آتٍ نعرض سوراً أُخرى تكشّف لنا وجهُ التناسب القائم فيها في عدد آيها الخاصّ ولحنها الخاصّ إن شاء الله تعالى، ولا تزال المحاولات دائبة في هذا التكشّف بوجه عامّ، نسأل الله التوفيق والتسديد.

تناسب فواصل الآي

قال الأُستاذ أبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني (توفّي سنة 386 هـ): الفواصل حروف متشاكلة في مقاطع الآيات، تُوجب حسن إفهام المعاني، والفواصل في القرآن جمال وبلاغة؛ لأنّها تتّبع المعاني وتزيدها حكمةً وبهاءً كما تكسوها رونقاً ورُواءً، على خلاف أسجاع الكهّان، إنّها عيب وعيّ وفضول في الكلام؛ لأنّ المعاني في الأسجاع هي التي تكون تابعةً وليست بالمقصودة، ومِن ثَمّ فهو من قلب الحكمة في باب الدلالات - حسبما يأتي - (2) .

أمّا فواصل القرآن فكلّها بلاغة وحكمة وأناقة؛ لأنّها طريق إلى إفهام المعاني والإجادة في المباني، وقد بلغ القرآن فيها حدّ الإعجاز فوق الإعجاب.

قال الإمام بدر الدين الزركشي: مِن المواضع التي يتأكّد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام، وهي كلمات وحروف متشاكلة في اللفظ، فلابدّ أن تكون متناسبةً مع

____________________

(1) البقرة: 285 و286.

(2) سننقل كلامه في ص 307. راجع النكت في الإعجاز: ص97.

٢٨٩

المعنى تمام المناسبة، وإلاّ لتفكّك الكلام وخرج بعضه عن بعض، وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك، لكنّ منه ما يظهر، ومنه ما يُستخرج بالتأمّل للبيب (1) .

والفواصل في القرآن - على ما حقّقه الأُستاذ أبو محمّد عبد العظيم بن عبد الواحد المعروف بابن أبي الإصبع (توفّى سنة 654 هـ) - على أربعة وجوه:

1 - التمكين ، وهو أن يمهّد قبلها تمهيداً تأتي به الفاصلة ممكّنة في موضعها.

2 - والتصدير ، وهو أن يتقدّم من لفظها في صدر الكلام، ويُسمّى ردّ العجز على الصدر.

3 - والتوشيح، وهو أن يكون سَوق الكلام بحيث يستدعي الانتهاء إلى تلك الخاتمة.

4 - والإيغال ، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة زائدة على أصل المعنى (2) .

وإليك شرح هذه الوجوه مع بيان أمثلتها:

1 - التمكين: هو أن يمهّد قبل نهاية الآية تمهيداً تأتي الفاصلة معها متمكّنة في موضعها، مستقرّة في قرارها، مطمئنة في محلّها، غير نافرة ولا قلقة، متعلّقاً معناها بمعنى الكلام كلّه تعلّقاً تامّاً، بحيث لو طُرحت لاختلّ المعنى واضطرب المقصود من الكلام، وتشوّش على الفهم، وبحيث لو سكت الناطق عنها لكمّله السامع بطبعه السليم (3) .

قال الإمام بدر الدين الزركشي: وهذا الباب يُطلعك على سرٍّ عظيم من أسرار القرآن الكريم، فاشدُد يديك به (4) .

* ومن أمثلته قوله تعالى: ( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى

____________________

(1) البرهان: ج1 ص78.

(2) معترك الأقران: ج1 ص39.

(3) حُكي أنّ أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: ( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غفورٌ رحيم ) - ولم يكن قرأ القرآن - فقال: إنّ هذا ليس بكلام الله؛ لأنّ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنّه إغراء عليه (معترك الأقران: ج1 ص40) وصحيح الآية ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة: 209.

(4) البرهان: ج1 ص79.

٢٩٠

اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (1) .

ولا يخفى وجه المناسبة التامّة.

* وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) (2) .

لمّا كانت الآية الأُولى تَذكرة وعِبرة بما أصاب القرون الأُولى، ولا عِبرة بأحوال الماضين لولا الاستماع إلى قَصَصهم، فخُتمت بما يناسبه (يسمعون)، أمّا الآية الثانية فكان الاعتبار فيها بأمر مشهود منظور، فناسبه الختم بالأبصار.

* وقوله تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (3) .

الشيء إذا بلغ في اللطافة غايتها قصُرت الأبصار عن دركه، فناسب قوله: ( وهو اللطيفُ ) قوله: ( لا تُدرِكه الأبصارُ ) . والعالم بالشيء إذا بلغ كنهه وأحاط به علماً كان خبيراً به، فناسب قوله: ( الخبير ) قوله: ( وهو يُدرك الأبصارَ ) ، جمعاً محلّى باللام، وهو يفيد العموم الدالّ على إحاطته تعالى.

ومناسبة أشد: أنّ قوله: ( وهو اللطيفُ الخبيرُ ) برهانٌ على عدم إمكان إدراكه بالأبصار وأنّه هو الذي يُحيط بالأبصار، فكان كدعوى مقرونة بشاهد دليل.

* وقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السّماءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ ) (4) .

ختم الآية الأُولى بقوله: ( لطيفٌ خبير ) ؛ لأنّ (لطف) هنا من (اللّطف) بمعنى

____________________

(1) الأحزاب: 25.

(2) السجدة: 26 و27.

(3) الأنعام: 103.

(4) الحج: 63 - 65.

٢٩١

الرفق والرأفة، بخلافه هناك، كان من (اللطافة) بمعنى الدقّة ضدّ الضخامة والكثافة، فلمّا كان الكلام في إنزال الماء من السماء وإنبات الأرض... وهو السبب الأوّل لإمكان المعيشة على الأرض، فناسبه الإشارة بجانب لطفه تعالى بعباده، إلى جنب علمه المحيط بمواضع فقرهم وحوائجهم في الحياة.

وختم الثانية بقوله: ( لهو الغنيّ الحميدُ ) ؛ تنبيهاً على أنّه تعالى في غنىً عن ملك السماوات والأرض وأنّه يجلّ شأنه ويعزّ جانبه من أن يعتزّ بملك، ولو كان المملوك عوالم الملكوت فهو أعزّ شأناً وأرفع جانباً من الاعتزاز بهكذا أُمور، هي صغيرة في جنب عظمة ذاته تعالى وفخامة جانبه المرتفع إليه كلّ ثناء ومحمدة في عالم الوجود.

وختم الثالثة بقوله: ( لرؤوفٌ رحيمٌ ) ؛ لأنّه ذكر جعل الأرض وما فيها، والبحر وما عليها في خدمة الإنسان، وأمسك بقذائف السماء أن تَهدم الحياة على الأرض... فهذا كلّه ناشئ عن رأفته تعالى بعباده ورحمته عليهم.

* وقوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللّيْلَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ) (1) .

خُتمت الآية الأُولى بقوله: ( أفلا تَسمعون ) ؛ لأنّه المناسب لذكر الليل السرمد، وهي الظلمة المطبقة لا موضع فيها لحسّ البصر، سوى حسّ السمع يسمع حسيسها.

وأمّا الآية الثانية، فكان الكلام فيها عن النهار السرمد، فناسبه الإبصار.

قال الزركشي: وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.

* وقوله تعالى: ( إِنّ فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ

____________________

(1) القصص: 71 و72.

٢٩٢

وَمَا يَبُثّ مِن دَابّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لِقٌوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1) .

ختم الآية الأُولى بقوله: ( للمؤمنينَ ) ، والثانية ( لقومٍ يوقنونَ ) . والثالثة ( لقومٍ يعقلونَ ) ؛ لأنّ العوالم كلّها هي دليل الصنع الباعث على الإيمان، أمّا التدبّر في تفاصيل الخلق الدالّة على التدبير فهو دليل النظم الموجب للإيقان، وأخيراً فإنّ الذي يدعو للإيمان واليقين بسبب التدبّر في آياته تعالى والتفكّر في خلقه هو شرف العقل، الموجود المفضّل في كيان الإنسان.

* وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

فسياق الآية بهذا النظم البديع، وتسلسل الخلقة بهذا النمط الرتيب، لَيقضي بختمها بهكذا تحميد وتحسين عجيب، فقد رُوي أنّ بعض الصحابة - يقال: إنّه معاذ ابن جبل - حين نزلت الآية بادرَ إلى تحسينها والإعجاب بها، فنطق بهذه الخاتمة قبل نزولها، فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال لمعاذ: (بها خُتِمت) (3) .

2 - التصدير: هو أن تكون الفاصلة مذكورةً بمادّتها في صدر الآية، ويُسمّى أيضاً: ردّ العجز على الصدر، وهو من حسن البديع، إذ يرتبط صدر الكلام مع ذيله بوشائج من التلاحم والوئام، قال ابن رشيق: وهذا يكسب الكلام أُبّهة، ويكسوه رونقاً وديباجة، ويزيده مائيّة وطلاوة (4) .

من ذلك قوله تعالى: ( وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) (5) . وقوله:

____________________

(1) الجاثية: 3 - 5.

(2) المؤمنون: 12 - 14.

(3) معترك الأقران: ج1 ص40.

(4) العمدة: ج2 ص3.

(5) آل عمران: 8.

٢٩٣

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) (1) ، ( لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) (2) .

وقد يكون التشاكل لفظياً بحتاً، وهو من لطف البديع، كقوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ) (3) ، أي من الناقمين.

3 - التوشيح: هو أن يكون سَوق الكلام بحيث يستدعي بطبعه الانتهاء إلى تلك الخاتمة، حتى لو سكت المتكلّم عن النطق لترنّم بها المستمعون، وهو قريب من التسهيم في اصطلاحهم (4) : أن يكون الكلام ممّا يرشد إلى عجزه، ولذا قيل: الفاصلة تُعلم قبل ذكرها، قال الزركشي: وسمّاه ابن وكيع (هو القاضي أبو بكر محمّد بن خلف توفّي سنة 306 هـ) (المطمِع)؛ لأنّ صدره مطمع في عجزه (5) ، وهذا من بديع البيان وعجيبه، فمِن ذلك ما تقدّم من قوله تعالى: ( ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (6) .

وقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لّهُمُ الّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ ) (7) .

وقوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (8) .

4 - الإيغال: وهو باب عظيم الشأن من أبواب البديع، هو عبارة عن ختم الكلام بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها، مأخوذ من أوغل في البلاد: إذا ذهب وبالغ وأبعد فيها (9) وهو بمنزلة التأكيد المُبالغ فيه.

____________________

(1) الأنعام: 10.

(2) طه: 61.

(3) الشعراء: 168.

(4) بديع القرآن لابن أبي الإصبع: ص100.

(5) البرهان للزركشي: ج1 ص95.

(6) المؤمنون: 14.

(7) يس: 37.

(8) الزلزلة: 6 - 8.

(9) أنوار الربيع: ج5 ص333.

٢٩٤

* كقوله تعالى: ( أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلاَلَةَ بِالْهُدَى‏ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (1) ، فقد تمّ الكلام عند قوله: ( فما رَبِحت تجارتُهم ) لكنّه أوغل في تفضيع حالتهم، وأفاد زيادة المبالغة في ضلالتهم، حيث كان عدم الاسترباح مستنداً إلى عدم اهتدائهم إلى طرق التجارة، ومِن ثَمّ استُبدلوا بالخير شرّاً وبالصلاح فساداً.

* وقوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ اتّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مّهْتَدُونَ ) (2) ، حيث قد تمّ المعنى بدون ( وهم مهتدون ) ؛ إذ الرسل مهتدون لا محالة، لكنّه إيغال أفاد زيادة الحثّ على الاتّباع والترغيب في الرسل، وأنّ متابعتهم لا تستدعي خسراناً أبداً.

* وقوله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (3) .

* وقوله تعالى: ( وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ ) (4) ، فقد تمّ المقصود بدون ( إذا ولّوا مدبرينَ ) لولا أنّه أفاد المبالغة في عدم إمكان الإسماع؛ لأنّ الأصمّ إذا ولّى مدبراً كان أبلغ في تغافله وإعراضه عن الانصياع للدعوة.

هل في القرآن سجع؟

بعد أن عرفت مواضع الفواصل من آيات الذكر الحكيم، وأقسامها الأربعة على ما فصّلها علماء البيان، نُلفت نظرك إلى ناحية أُخرى هي مسألة السجع، هل في القرآن منه شيء؟ وأوّل مَن تكلّم في ذلك وأنكر وجوده في القرآن، وأنّه يترفّع

____________________

(1) البقرة: 16.

(2) يس: 20 و21.

(3) المائدة: 50.

(4) النمل: 80.

٢٩٥

عن مبتذلات أهل التكلّف في الكلام، هو الأُستاذ أبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني، وتقدّم بعض كلامه (1) ، قال:

الفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أنّ الفواصل تابعة للمعاني، وأمّا الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة؛ إذ كان الغرض من حكمة الوضع إنّما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليه ماسّة، فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهو بلاغة، وأمّا إذا كانت المشاكلة الكلامية هي المقصودة بالذات، والمعاني مغفول عنها إلاّ عرضاً فهو عيب ولَكنَة؛ لأنّه تكلّف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة، ومَثَله مَن رصّع تاجاً ثُمّ ألبسه إنساناً دميماً (2) أو نظّم قلادة درٍّ ويواقيت ثُمّ ألبسها كلباً عقوراً، وقبحُ ذلك وعيبه بيّنٌ لمَن له أدنى فهم.

فمن ذلك ما يُحكى عن بعض الكهّان: والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء.

ومنه ما يُحكى عنه مسيلَمة الكذّاب: يا ضفدع نقّي كم تنقّين، لا الماء تُكدّرين، ولا النهر تفارقين.

فهذا أغثّ كلام يكون وأسخفه، وقد بينا علّته، وهو تكلّف المعاني من أجله، وجعلها تابعة له من غير أن يبالي المتكلّم بها ما كانت!

وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة - على ما سبق بيانه - لأنّها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدلّ بها عليها.

وإنّما اُخذ السجع في الكلام من سجع الحمامة؛ وذلك أنّه ليس فيه إلاّ الأصوات المتشاكلة مع إغفاء المعاني، كما ليس في سجع الحمامة إلاّ الأصوات المتشاكلة - الهدير (3) - وهكذا المعنى في السجع، إذا تكلّف له من غير وجه الحاجة إليها ذاتاً، أو ملاحظة الفائدة فيه، لم يعتد به، ولم تخرج الكلمات بذلك عن

____________________

(1) في ص 300 من هذا الجزء.

(2) قبيح السيرة والصورة.

(3) يقال: هَدَر الحمام إذا قرقر وكرّر صوته في حنجرته.

٢٩٦

كونها غير ذوات مفهوم، فصارت بمنزلة هدير الحمام، ليس فيه سوى ترجيع أصوات متشاكلة (1) .

فواتح السور وخواتيمها

لا شكّ أن أدب الكلام هو بمَطالعه ومقاطعه، والناطق المفوّه مَن أجاد الورود في مقصوده والتخلّص عنه، وهو من أركان شرط البلاغة التي بها تُعرف مقدرة المتكلّم البليغ في حسن التوفية ولطف التعبير.

ذكر ابن الأثير للكتابة شرائط وأركاناً، أمّا الشرائط فكثيرة - أودعها ضمن تأليفه (المَثَل السائر) - وأمّا الأركان التي لابدّ من إبداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة، أحدها - وهو الركن الأول - أن يكون مطلع الكتاب عليه جِدَّة ورشاقة، فإنّ الكاتب من أجاد المطلع والمقطع. أو يكون مبنيّاً على مقصد الكتاب (2) ، قال: ولهذا باب يُسمّى باب (المبادئ والافتتاحات) والركن الآخر - وهو الثالث - أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض، ولا تكون إلاّ متقضبة؛ ولذلك باب يُسمّى باب (التخلّص والاقتضاب) (3) .

____________________

(1) النكت في إعجاز القرآن: ص97 - 98.

(2) ويُسمّى ذلك (براعة الاستهلال)، وذكره ابن الأثير في النوع الثاني والعشرين، في (المبادئ والافتتاحات: ج3 ص96) قال: وحقيقة هذا النوع أن يجعل مطلع الكلام دالاً على ذات المقصود منه والجهة التي يريدها المتكلّم بكلامه.

وذكره ابن معصوم بعنوان: (حُسن الابتداء وبراعة الاستهلال) في (أنوار الربيع: ج1 ص34).

(3) ذكره ابن الأثير في النوع الثالث والعشرين (ج3 ص121) قال: أمّا التخلص فهو أن يأخذ المتكلّم في معنىً من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره، وجعل الأوّل سبباً إليه، فيكون بعضه آخذاً برقاب بعض، من غير أن يقطع كلامه ويستأنف كلاماً آخر، بل يكون =

٢٩٧

قال أهل البيان: من البلاغة حسن الابتداء، ويُسمّى (براعة المطلع)، وهو أن يتأنّق المتكلّم في أول كلامه، ويأتي بأعذب الألفاظ وأجزلها وأرقّها وأسلسها وأحسنها نظماً وسبكاً، وأصحّها مبنىً، وأوضحها معنىً، وأخلاها من الحشو والركّة والتعقيد، والتقديم والتأخير الملبّس والذي لا يناسب.

قالوا: وقد أتت جميع فواتح السور من القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها، كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك (1) .

قال ابن الأثير: وحقيقة هذا الركن البلاغي أن يجعل مطلع الكلام دالاً على المعنى المقصود منه، إن كان فتحاً ففتحاً، وإن كان هناءً فهناء، أو عزاءً فعزاء، وكذلك في سائر المعاني.

قال: وهذا يرجع إلى أدب النفس لا إلى أدب الدرس، ولهذا عيب على كثير من الشعراء والخطباء، زلّتهم في هذا المقام (2) .

قال: وإنّما خصّت الابتداءات بالاختيار لأنّها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقاً بالمعنى الوارد بعده توفّرت الدواعي على استماعه.

قال: ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن الكريم، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور (منها المسبّحات). وكذلك الابتداءات بالنداء في مثل قوله (3) ، فإنّ عموم الخطاب ينمّ عن رعاية وعناية بالغة بشأن المخاطبين جميعاً، ولا سيّما

____________________

= جميع كلامه كأنّما أفرغ إفراغاً، وأمّا الاقتضاب فهو أن يقطع كلامه ويستأنف كلاماً آخر، ولا يكون بينهما علاقة في ظاهر الأمر، وهو مذهب من مذاهب العرب فيه طرافة وظرافة، وسنأتي على كلّ من القسمين في مبحث (حسن الختام) ص 320 إن شاء الله.

(1) قاله ابن معصوم في أنوار الربيع: ج1 ص34.

(2) راجع ما ذكره من معايب الشعراء القدامى والمحدثين في هذا الباب، وكذلك ما أخذه ابن معصوم على مطلع قصيدة امرؤ القيس، وقد ذكرنا شطراً منه فيما سبق في حقل المقارنات، راجع ص 174.

(3) النساء: 1.

٢٩٨

جاء تعقيبه بربّ الجميع الذي أفاض عليهم نعمة الوجود ومنَحهم الحياة وأنشأهم من أصل واحد، لا ميز بينهم في أصل ولا نسب، فما أبرعه من خطاب جلل فخم، يسترعي انتباه عامّة الخلائق في هذا الشمول والعموم.

وكذلك قوله تعالى: ( يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ ) (1) فإنّ هذا الابتداء المقترن بالتنبيه على خطورة أمر الانتهاء ممّا يسترعي الانتباه ويُوقظ السامعين للإصغاء إليه بكل وجودهم.

قال: وكذلك الابتداءات بالحروف المقطّعة في مثل قوله: (طس) و(حم) و(الم) و(ق) و(ن) وغيرهنّ ممّا يبعث على الاستماع إليه؛ لأنّه يقرع السمع شيءٌ غريب، ليس بمثله عادة، فيكون سبباً للتطلّع نحوه والإصغاء إليه.

ثمّ أخذ في بيان ما استقبح من الابتداءات أقوال الشعراء (2) .

المبادئ والافتتاحات

في كلام الله تعالى

ولنبدأ بفاتحة الكتاب، وهي أُمّ الكتاب، وعِدل القرآن، وقد استهلّ المصحف الشريف بها؛ لاحتوائها على أُمّهات مقاصد القرآن الكريم وأُصول برامجه في الدعاء إلى الله والانقطاع إليه؛ ومِن ثَمّ عَدلت بالقرآن العظيم: ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (3) .

إنّها اشتملت على أُصول المعارف الخمسة:

1 - عرفان ذاته المقدّسة وصفاته الجمال والجلال ؛ لأنّه الحقيق بالحمد كله، الكافل لتربية عوالم الغيب والشهود، ذو الرحمة الواسعة، والعناية البالغة بعباده المؤمنين: ( الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ * الرّحمنِ الرّحيمِ ) .

____________________

(1) الحج: 1.

(2) المَثَل السائر: ج3 ص98.

(3) الحجر: 87.

٢٩٩

2 - العقيدة بيوم الحساب ، وأنّه إليه تعالى المنتهى، وبيده أَزِمَة الأُمور، كلٌّ إليه راجعون ( مالكِ يَومِ الدِّينِ ) .

3 - وأن لا معبود سواه ، ولا ملجأ إلاّ إليه، هي روح العبادة وخلوص العبودية: ( إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعينُ ) .

4 - ثمّ الإيمان برسالة الله إلى الخلق أجمعين ، وأنّ الأنبياء (عليهم السلام) هم الطرق إلى الله والوسائل لديه، فعرفان طريقتهم هو عرفان الحقّ والمنتهى إلى الحق: ( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) .

5 - وأخيراً، فإنّ العناية بأحوال الأُمّم عِبرة للمعتبرينَ ، فيُجتَنب طرائقهم الاستغوائية المنتهية إلى الضلال وغضب الرحمن: ( غيرِ المَغضوبِ عليهم ولا الضالّينَ ) .

قال ابن معصوم: فقد نبّه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة، وأنواع البلاغة.

وهكذا أوّل ما اُنزل من القرآن:

قال: وكذلك أول سورة اقرأ (خمس آيات من أوّلها) فإنّها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال؛ لكونها أَوّل ما اُنزل من القرآن، فإنّ فيها الأَمر بالقراءة، والبدء فيها باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلّق بتوحيد الله وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أُصول الدِين، وفيها ما يتعلّق بالإخبار من قوله ( عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ولهذا قيل: إنّها جديرة أن تُسمّى (عنوان القرآن)؛ لأنّ عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوّله (1) .

____________________

(1) أنوار الربيع لابن معصوم: ج1 ص55.

٣٠٠