تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93350
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93350 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَمِنْهُم مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) (1) .

قوله: ( أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) أي علمه.

قوله: ( اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الإضافة ليست تشريفية، كما في قوله: ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدّيَارِ ) (2) مراداً به بخت نصّر العاتي وجنوده العتاة.

قوله: ( فمنهم.... ) الضمير يعود على المصطفين... لأنّ الأُمّة التي ورثت الكتاب هي الأُمّة المفضّلة، كما في قوله: ( وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) (3) .

قوله: ( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، إشارة إلى إيراث الكتاب للمصطفين، فإنّه من فضله تعالى ولطفه بعباده.

قوله: ( جنّات عدن ) بيان للفضل، على طريقة الاستخدام؛ وذلك لأنّ الفضل من الله كان السبب الباعث لإيراث الكتاب والاصطفاء، فكانت نتيجته الحاصلة هي دخول جنات عدن، فكان فضله تعالى أن أورث عباده الكتاب والحكمة، وأدخلهم الجنة بسببه رحمةً ولطفاً، وكان كلا الأمرين فضلاً كبيراً.

* * *

وقوله: ( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ ) (4) .

قوله: ( الأسماء كلّها ) مراداً به حقائق الموجودات كلّها على سبيل العموم.

وقوله: ( ثمّ عَرَضهم... الخ ) مراداً صفوة الخلق من ذوي العقول الراجحة - على طريقة الاستخدام - كما ورد في التفسير.

وقيل: إنّه من باب التغليب كما في قوله: ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ) (5) .

____________________

(1) فاطر: 33 و34.

(2) الإسراء: 5.

(3) المؤمن: 54.

(4) البقرة: 31.

(5) النور: 45.

٤٢١

المذهب الكلامي

هو من ظريف البديع، أن يسترسل الشاعر في تغزّله، والخطيب في تفكّهه، فيستظرف في أُسلوب بيانه، يقترب من مطلوبه شيئاً فشيئاً، ويدنو إليه على طريقة أهل الاستدلال في خُطىً حثيثة متواصلة، بتمهيد مقدّمات منتهية إلى النتيجة المتوخّاة فيأتي بشواهد ودلائل، ويقيس كما يقيس الفقيه المتكلّف، ويبرهن على شاكلة الحكيم المتفلسف، وهكذا يقترب من مقصوده مليّاً... وهو فنّ من أساليب البيان، دقيق مسّه، رقيق رمسه، قلّ مَن يتوفّق لمثله في قدرة الاستحواذ على مشاعر مَن سمع الخطاب، (إنّ من البيانِ لسحراً) .

أنشد ابن المعتزّ لنفسه:

أسرفتُ في الكتمانِ

وذاك منّي دَهاني (1)

كتمتُ حبَّك حتّى

كتـمتُه كتـماني

فلم يكن لي بُدّ

مِن ذِكره بلساني

قال ابن رشيق: وهذه الملاحة نفسها، والظرف بعينه.

وقال أبو نؤاس:

____________________

(1) دهى فلاناً: أصابه بداهية.

٤٢٢

سُخِّنتَ مِن شدّة البرودةِ حـ

تى صرتَ عندي كأنّك النارُ

لا يعجبِ السامعونَ من صفتيّ

كذلك الثلجُ باردٌ حارُّ

قاب ابن رشيق: فهذا مذهب كلامي فلسفي (1) .

* * *

قال ابن معصوم: وهذا النوع أَوّل من ذَكره الجاحظ: وهو عبارة عن أن يأتي البليغ بحجّة على ما يدّعيه على طريق المتكلّمين، وهي أن تكون بعد تسليم المقدّمات مستلزمة للمدّعى (2) .

قال ابن أبي الإصبع: وزعم الجاحظ أنّه لا يوجد منه شيء في القرآن، والكتاب مشحون به (3) ومنه محاججات إبراهيم (عليه السلام) مع قومه من قوله تعالى ( حاجَّه قَومُه - إلى قوله - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) (4) ، وذكروا أنّ من أَوّل سورة الحج إلى قوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (5) خمس نتائج تُستنتج من عشر مقدّمات رتيبة.

وذكر أبو الحسن الرمّاني - في الضرب الخامس من باب المبالغة -: إخراج الكلام مخرج الشكّ للمبالغة في العدل والمظاهرة في الاحتجاج، فمِن ذلك قوله تعالى: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (6) . وقوله: ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (7) وعلى هذا النحو خرج مخرج قوله تعالى: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً ) (8) جاء على التسليم أنّ لهم مستقرّاً خيراً من جهة السلامة من الآلام؛ لأنّهم (أي المشركون) ينكرون إعادة الأرواح إلى الأجساد، فقيل: على هذا أصحاب الجنّة يومئذٍ خيرٌ مستقرّاً، ومنه قوله: ( وَهُوَ

____________________

(1) العمدة: ج2 ص79 و80.

(2) أنوار الربيع: ج4 ص356.

(3) بديع القرآن: ص37.

(4) الأنعام: 80 - 83.

(5) الحج: 1 - 7.

(6) سبأ: 24.

(7) الزخرف: 81.

(8) الفرقان: 25.

٤٢٣

الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1) على التسليم أنّ أحدهما أهون من الآخر فيما يسبق إلى نفوس العقلاء (2) .

* * *

سطوع براهينه:

قلت: دلائل القرآن لامعة، وبراهينه ساطعة، لكن لا على الأساليب المعقّدة التي ينتهجها أرباب الكلام، بل على طريقة العقلاء في متعارفهم، في قوّة منطق وأناقة بيان، فقد أخذ من المسلّمات (القضايا البديهية والمعترف بها) برهاناً على النظريّات، ومن المشاهدات المحسوسة دليلاً على حقائق راهنة لا محيص عنها، كلّ ذلك على طريقة واضحة ومحجّة لائحة. يستذيقها الطبع، ويستلذّها الذوق، وتستسلم لها العقول، ( إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (3) .

* منها قوله تعالى: ( قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوّلُ الْعَابِدِينَ ) (4) .

هذا استدلال على الطريقة العقلانية؛ إذ لو كان لله وَلد - كما يقوله هؤلاء البعداء عن ساحة قدسه تعالى - لكان أَوّل معترف به هم الرسل الذين جاؤوا من عنده، وهم أقرب إليه ممّن سواهم.

* وقوله: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (5) ، وقد أوضحته آية أُخرى: ( مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لّذَهَبَ كُلّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) (6) ، أيضاً طريقة عقلانية يتسلّمها العقلاء عند المقايسة.

____________________

(1) الروم: 27.

(2) النكت في إعجاز القرآن: ص105.

(3) ق: 37.

(4) الزخرف: 81.

(5) الأنبياء: 22.

(6) المؤمنون: 91.

٤٢٤

* وقوله: ( وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1) إذ كان الخصم معترفاً بأنّ الله هو الذي بدأ الخلق، إذاً فالإعادة أهون من البَداءة؛ لأنّها من شيء، وتلك لا من شيء.

* وقوله تعالى: ( إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دوُنِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2) .

كانت العرب تعترف بالمبدي الأعلى وهو الله تعالى، وإنّما يعبدون الأوثان ليقرّبوهم إلى الله زلفى (3) فكانوا يعتبرونهم آلهةً صغاراً، وهم شفعاء ووسطاء بينهم وبين الله الكبير المتعال، تعاليم ورثوها مِن أُمَم مجاورة: الفرس والروم واليونان.

فإذ قد تسلّموا بربوبيته تعالى، وأنّه الحاكم على الخلائق أجمعين، فإنّه يحكم بهؤلاء وما يعبدون أنّهم حصب جهنم، ولا يدخلها الأصاغر حقير، لا يملك شفاعة ولا يستحقّ عبادة.

* وقوله: ( وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى‏ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ ) (4) فقد رتّب دخولهم الجنّة على ولوج الحبل الغليظ في خرم الإبرة، ولمّا كان ذلك أمراً ممتنعاً، كان ذاك أيضاً مثله، فقد أبدى امتناع دخولهم الجنّة بهذا الشكل القياسي كناية بديعة.

* وقوله: ( إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ ) (5) فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها، وهي: أنّ مَن أعطاه الله الكوثر - وهي مجموعة المكرمات - فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب، بالابتهال إلى الله والمثول لديه بكلّ الوجود.

____________________

(1) الروم: 27.

(2) الأنبياء: 98 و99.

(3) إشارة إلى قوله تعالى: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) (الزمر: 3).

(4) الأعراف: 40.

(5) الكوثر: 1 و2.

٤٢٥

* وقوله: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) (1) قياس استثنائي مركب من قضيّة شرطية مضمونها: ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى‏ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً ) (2) . وأُخرى حملية استثنائية مضمونها: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى‏ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) (3) .

وقوله: ( فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبّ الآفِلِينَ ) (4) ، الكبرى مطوية، أي وكلّ آفل غير مستحقّ للعبادة.

* وقوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (5) .. هذا أشبه بقياس السبر والتقسيم؛ لأنّ الأمر يدور بين ثلاثة: إمّا أن يكونوا قد خُلقوا مِن عند أنفسهم ليس لهم خالق، أو يكونوا هم الذين خَلقوا أنفسهم، أو ينتهي خَلقهم إلى خالق خارج مِن أنفسهم، ولا رابع لذلك.

أمّا الأَوّل - ليكونوا قد خُلقوا لا مِن شيء، ولا خالق لهم، وأنّهم وُجدوا لا مِن علّة وسبب - فهذا ممّا يستحيله العقل؛ إذ لا معلول بلا علّة ولا موجود بلا موجد، فلا تترجح كفّة العدم، في دائرة الممكنات، لسوى مرجّح خارجي.

وكذا الثاني ؛ لأنّه دَور مستحيل، وتوقّف وجود الشيء على نفسه ممّا يمتنع في بديهة العقل.

إذاً فالصحيح المعقول هو الفرض الثالث، أنّهم مخلوقون، وأنّ لهم خالقاً، هو واجب الوجود لذاته، ويكون منتهى سلسلة الموجودات في دائرة الإمكان.

* وقوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (6) ، وقوله: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ

____________________

(1) الأعراف: 176.

(2) الإسراء: 19.

(3) طه: 124 - 126.

(4) الأنعام: 76.

(5) الطور: 35.

(6) الأعراف: 29.

٤٢٦

نُعِيدُهُ ) (1) . وقوله: ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ ) (2) .

وهذا مِن مقياس النظير على النظير، فقد قيس أمر الإعادة على أمر البدء، قياساً معقولاً؛ لأنّ الذي فعل شيئاً قادر على أن يفعل مثله؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد....

بل المسألة هنا هي الإعادة، وهي أهون من الإبداع، كما سبق في قوله تعالى: ( وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... ) (3) .

* ومن هذا القبيل قوله تعالى: ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنشَأَهَا أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الّذِي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الّذِي خَلَقَ السّماوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى‏ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى‏ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ ) (4) .

استدلال لطيف على إمكان الإحياء، قياساً على البدء أَوّلاً؛ لأنّ الإعادة أهون من الإنشاء.. ثمّ القياس على المحسوس المشاهد... وأنّ الذي يُنشئ من العُود الرطب ناراً كيف يُعجزه إفاضة الحياة على العظام الرميم؟! وأخيراً فإنّ خلق السماوات والأرض أعظم من خلقهم، وهو القادر والخلاّق العليم بكيفية الخلق والإعادة....

* وكذا جميع ما قيس من إعادة الحياة وحشر الأموات، على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والإنبات.

* وأجمل حجاج جاء إفحاماً للخصم ودحضاً لحجّته قوله تعالى: ( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى‏ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ كَفَروُا أَنّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‏ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (5) .

____________________

(1) الأنبياء: 104.

(2) ق: 15.

(3) الروم: 27.

(4) يس: 78 - 81.

(5) النحل: 38 - 40.

٤٢٧

انظر إلى هذه المحاججة اللطيفة والردّ الجميل، كيف أنّهم أقسموا بالله لإنكار البعث، فردّ عليهم بقوله (بلى)! وأنّ الّذي تقسمون به فإنّه يناقضكم صريحاً!

ثمّ قرّر البعث ببيان سببه الموجب، وأخيراً إمكانه بعظيم قدرته.

ولابن السيّد هنا - في هذه الآية - بيان لطيف أورده السيوطي في الإتقان، قال: وتقريرها، أنّ اختلاف الناس في الحقّ لا يوجب انقلاب الحقّ في نفسه، وإنّما تختلف الطرق الموصلة إليه، والحقّ في نفسه واحد، فلمّا ثبت أنّ هاهنا حقيقة موجودة لا محالة، وكان لا سبيل لنا في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفاً يوجب الائتلاف ويرفع عنّا الاختلاف، إذ كان الاختلاف مركوزاً في فطرنا، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلاّ بارتفاع هذه الجبلّة، ونقلها إلى صورة غيرها، صحّ - ضرورةً - أنّ لنا حياة أُخرى غير هذه الحياة، فيها يرتفع الخلاف والعناد، وهذه هي الحالة التي وعد الله بالمصير إليها، فقال: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) (1) أي حقد، فقد صار الخلاف الموجود - كما ترى - أوضح دليل على كون (أي ثبوت) البعث الذي ينكره المنكرون (2) .

* * *

____________________

(1) الأعراف: 43.

(2) الإتقان: ج4 ص54.

٤٢٨

الاستدلالُ في القُرآن مزيج أُسلوبين: الخطابة والبرهان

إمتاع العقل والنفس معاً

امتاز القرآن في استدلالاته بالجمع بين أُسلوبين يختلفان في شرائطهما، هما: أُسلوب الخطابة وأُسلوب البرهان ذاك إقناع للعامّة بما يتسالمون به من مقبولات مظنونات، وهذا إفهام للخاصّة بما يتصادقون عليه من أَوليات يقينيات.

ومن الممتنع عادةً أن يقوم المتكلّم بإجابة ملتمس كلا الفريقين، ليجمع بين الظنّ واليقين في خطاب واحد... الأمر الذي حقّقه القرآن فعلاً بعجيب بيانه وغريب أُسلوبه.

* * *

والبرهان: ما تركّب من مقدّمات يقينية، سواء أكانت ضروريةً (بديهيةً أو فطريةً) أم كانت نظريةً (منتهية إلى الضروريات)، والقضايا الضرورية ستّة أنواع:

1 - أوّليات وهي قضايا قياساتها معها، يكفي في الجزم بالحكم مجرّد تصوّر الطرفين، كقولنا: (الكلّ أعظم من الجزء). أو مع تصوّر الواسطة وحضورها في الذهن، كقولنا: (الأربعة زوج)؛ لأنّه ينقسم إلى متساويين.

٤٢٩

2 - مشاهدات، هي قضايا محسوسة بالحواس الظاهرة كإضاءة الشمس.

3 - وجدانيات ، منشأها الحسّ الباطني كالإحساس بالخوف والغضب.

4 - متواترات، أخبار جماعة يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب والاختلاق.

5 - مجرّبات ، يحصل الجزم بالنتيجة على أثر تكرر المحسوس.

6 - حدسيات ، هي سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، ويقابلها الفكر، الذي هو حركة الذهن نحو المبادئ ثمّ رجوعه إلى المطالب، فلابدّ فيه من حركتين، على خلاف الحدس؛ إذ لا حركة فيه، لأنّ الحركة تدريجية، والانتقال آني.

* * *

أمّا الخطابة فهي ما تركّب من مقدّمات كانت مقبولةً معتقداً بها لأمر سماوي أو لمزيد عقل ودين.

ونظيرها الجدل، المتركّب من قضايا مشهورات تقبّلتها العامّة وخضعت لها أعرافهم ونسجت عليها طبائعهم، فألفوها وأذعنوا بها إذعاناً.

أو قضايا مسلّمات تسلّم بها المخاطبون كأُصول مفروضة مسلّم بها.

* * *

والقرآن الكريم قد استفاد في دلائله من كلّ هذه الأساليب، وفي الأكثر جمع بينها في خطاب مع العامّة يشترك معهم الخواصّ.

هذا غاية في القدرة على الاستدلال وإقامة البرهان.

ولنضرب لذلك أمثلة:

1 - قال سبحانه وتعالى - بصدد نفي آلهة غير الله -: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) .

هذه الآية - بهذا النمط من الاستدلال - في ظاهرها البدائي احتجاج على

____________________

(1) الأنبياء: 22.

٤٣٠

أساس الخطابة والإقناع، قياساً على العرف المعهود، إنّ التعدّد في مراكز القرار سوف يؤدّي إلى فساد الإدارة.

ونظيرها آية أُخرى: ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1) .

يقول العلاّمة الطباطبائي: وتقرير الحجّة في الآية أنّه لو فُرض للعالَم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتاً، متباينين حقيقةً. وتباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم، فتتفاسد التدابير، وتفسد السماء والأرض (2) .

وهذا النمط من الاستدلال، طريقة عقلانية يتسلّمها العرف العام قياساً على ما ألفوه في أعرافهم.

* * *

ولكن إلى جنب هذا، فهو استدلال برهاني دقيق، قوامه الضرورة واليقين، وليس مجرّد قياس إقناعي صرف.

ذلك أنّ الآية دلّت العقول على أنّ تعدّد الآلهة، المستجمعة لصفات الإلوهية الكاملة، يستدعي إمّا عدم وجود شيء على الإطلاق، وذلك هو فساد الأشياء حال الإيجاد... أو أنّها إذا وُجدت وُجدت متفاوتة الطبائع متنافرة الجنسيات، الأمر الذي يقضي بفسادها، إثر وجودها وعدم إمكان البقاء.

وذلك لأنّه لو توجهت إرادتان مستقلّتان من إلهين مستقلّين - في الخلق والتكوين - إلى شيء واحد يريدان خلقه وتكوينه، فهذا ممّا يجعله ممتنع الوجود؛ لامتناع صدور الواحد إلاّ من الواحد، إذ الأثر الواحد لا يصدر إلاّ ممّا كان واحداً، ولا تتوارد العلّتان على معلول واحد أبداً.

وفرض وجوده عن إرادة أحدهما - مع استوائهما في القدرة والإرادة - فرض ممتنع؛ لأنّه ترجيع من غير مرجّح، بل ترجّح من غير مرجّح، وهو مستحيل.

____________________

(1) المؤمنون: 91.

(2) الميزان: ج17 ص267 ط بيروت.

٤٣١

ولو توجّهت إرادة أحدهما إلى إحداث شيء، وأراد الآخر عدم إحداثه! فلو تحقّقت الإرادتان كان جمعاً بين النقيضين، أو غلبت إحداهما الأُخرى فهذا ينافي الكمال المطلق المفروض في الإلهين، وإلاّ فهو ترجيح من غير مرجّح.

ولو توجّهت إرادة أحدهما إلى إحداث نظام ومخلوق، والآخر إلى نظام ومخلوق غيره... إذاً لذهب كل إله بما خلق... ولكان هناك نظامان وعالَمان مختلفان في الخلق والنظام، وهذا الاختلاف في البنية والنظام يستدعي عدم التآلف والوئام والانسجام، وسوف يؤدّي ذلك إلى تصادم وأن يطغي أحدهما على الآخر ولعلا بعضهم فوق بعض، الأمر الذي يقضي بالتماحق والتفاسد جميعاً.

وكل أُولئك باطل بالمشاهدة؛ إذ نرى العالم قد وُجد غير فاسد، وبقي غير فاسد، ونراه بجميع أجزاءه، وعلى اختلاف عناصره وتفاوت أوضاعه - من علوّ وسفل وخير وشر - يؤدّي وظيفة جسم واحد، تتعاون أعضاؤه مع بعضها البعض، وكل عضو يؤدّي وظيفته بانتظام، يؤدّي إلى غرض واحد وهدف واحد، وهذه الوحدة المتماسكة - غير المتنافرة - في نظام الأفعال دليل قاطع على الفاعل الواحد المنظّم لها بتدبيره الحكيم، وهو الله ربّ العالمين.

وهذا هو البرهان القائم على قضايا يقينية في بديهة العقل.

* * *

3 - وقال تعالى - بصدد نفي المثل -: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (1) .

جاءت الدعوى مشفوعة ببرهان الامتناع، على طريقة الرمز إلى كبرى القياس.

ذلك أنّ (المِثل) المضاف إليه تعالى رمز إلى الكمال المطلق، أي الذي بلغ النهاية في الكمال في جميع أوصافه ونعوته، الذي هو مقتضي الإلوهية والربوبية المطلقة؛ لأنّك إذا حقّقت معنى الإلوهية فقد حقّقت معنى التقدّم على كل شيء

____________________

(1) الشورى: 11.

٤٣٢

والمسيطر على كل شيء، ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1) ، ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) .

إذاً فلو ذهبت تفترض الاثنينية في هذا المجال، وفرضت اثنين يشتركان في هذه الصفات التي هي غايات لجميع الأوصاف والنعوت، فقد نقضت وتناقضت في افتراضك؛ ذلك أنّك فرضت من كل منهما تقدّماً وتأخّراً في نفس الوقت وأنّ كلاً منهما مُنشِئاً ومُنشَأً، ومستعلٍ ومستعلىً عليه؛ إذ النقطة النهائية من الكمال لا تحتمل اثنين، لأنّ النقطة الواحدة لا تنحلّ إلى نقطتين، وإلاّ فقد أَحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيّد في الطرفين، إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً فأنّى يكون كل منهما إلهاً، وللإله المثل الأعلى؟!

ورجع تقرير الاستدلال إلى البيان التالي:

إنّ الإله هو ما استُجمع فيه صفات الكمال وبلغ النهاية في الكمال.

ومثل هذا الوصف (مجمع الكمال) لا يقبل تعدّداً لا خارجاً ولا وهماً.

إذاً فلا تعدّد في الإله، وليس له فردان متماثلان.

وهذا من أروع الاستدلال على نفي المثيل.

وكلمة (المثل) هذه تكون إشارة إلى ما حواه المثيل من صفات وسِمات خاصّة تجعله أهلاً لهذا النعت (إيجابياً أو سلباً) في القضية المحكوم بها.

مثلاً لو قيل - خطاباً لشخصية بارزة -: (أنت لا تبخل) كان ذلك دعوى بلا برهان، أمّا لو قيل له: (مثلك لا يبخل) فقد قرنت الدعوى بحجّتها؛ إذ تلك خصائصه ومميّزاته هي التي لا تدعه أن يبخل، فكأنّك قلت: (إنّك لا تبخل، لأنّك حامل في طيّك صفاتٍ ونعوتاً تمنعك من البخل).

وهكذا جاءت الآية الكريمة: إنّ مَن كان على أوصاف الإلوهية الكاملة فإنّ

____________________

(1) الأنعام: 14 وقد جاءت في خمس سور أُخرى.

(2) الزمر: 63.

٤٣٣

هذا الكمال والاستجماع لصفات الكمال هو الذي يجعل وجود المثيل له ممتنعاً (بالبيان المتقدّم).

وعليه، فليست زائدة، كما زعم البعض؛ لأنّ المثل - على مفروض البيان - إشارة إلى تلك الصفات والسمات التي تحملها الذات المقدّسة، ولم يكن المراد من المثل التشبيه، فهو بمنزلة (هو) محضاً.

فكان المعنى: ليس يشبه مثله تعالى شيء، أي ليس يشبهه في كمال أوصافه ونعوته شيء.

قال الأُستاذ درّار: الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب؛ إذ كان يكفي لذلك أن يقول: (ليس كالله شيء) أو (ليس مثله شيء)، بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلاً على الدعوى والإنعات إلى وجه حجّة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي، أَلا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان فقلت: (فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها، أمّا إذا زدت كلمة المثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنّك دعمت كلامك بحجّة وبرهان؛ إذ مَن كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لأنّ وجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع الاستفسال إلى رذائل الأخلاق، وهذا منهج حكيم وضع عليه أُسلوب كلامه تعالى، وأنّ مثله تعالى ذا الكبرياء والعظمة لا يمكن أن يكون له شبيه، أو أنّ الوجود لا يتّسع لاثنين من جنسه (1) .

فقد جيء بأحد التشبيه ركناً في الدعوى، وبالآخر دعامةً لها وبرهاناً عليها، وهذا من جميل الكلام وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.

* * *

3 - وقال تعالى - بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزّت آلاؤه - ( وَلَوْ أَنّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِذَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ) (2) .

____________________

(1) النبأ العظيم: ص128.

(2) لقمان: 27.

٤٣٤

هذه مقارنة بين المحدود واللامحدود، وأنّ المحدود مهما بلغ عدده وتضخّم حجمه فإنّه لا يقاس بغير المحدود؛ إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي، ولا مناسبة بين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر، وما يمتدّ إلى ما لا نهاية أبداً.

والكلمة - في هذه الآية - يراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى، المتحقّق بقوله: (كن).

قال تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) .

وكلّ موجود - في عالم الخلق، وهو ما سوى الله - فهو كلمته تعالى، كما أطلق على المسيح (عليه السلام) كلمة الله: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) (2) (3) .

والمعنى: أنّه لو جُعلت الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً - ليُكتب بها كلمات الله - لنفدت الأقلام والمداد قبل أن تنفد كلمات الله؛ لأنّها غير متناهية... وذلك لأنّ كلماته تعالى إفاضات، ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً.

* * *

4 - وقال تعالى - ردّاً على احتجاج اليهود -: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا مَعَهُمْ ) (4) .

امتنعت اليهود من اعتناق الإسلام بحجّة أنّهم على طريقة نبيّهم موسى (عليه السلام) وعلى شريعته، ولذلك لا يمكنهم اتّخاذ سيرة أُخرى والإيمان بشريعة سواها.

هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام... وقد فنّد القرآن هذا التذرّع الكاسد والاحتجاج الفاسد؛ إذ لا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين، والكل يهدف مرمىً واحداً ويرمي هدفاً واحداً، وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدرب إلى صراط الله المستقيم، صراطاً واحداً وهدفاً واحداً، لا تنافر ولا تنافي ولا تعدّد ولا اختلاف.

____________________

(1) يس: 82.

(2) النساء: 171.

(3) الميزان: ج16 ص245.

(4) البقرة: 91.

٤٣٥

والدليل على ذلك أنّ هذا القرآن يُصدّق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوا مِن رسالات الله، ولو كان هناك تنافٍ وتنافر لما صحّ هذا التصديق.

وقد جاء هذا التصديق بلفظة ( مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) في ثمانية مواضع من القرآن (1) .

وبلفظة ( مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ) في ثلاثة مواضع (2) .

وبلفظة ( مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ ) في ثلاثة مواضع (3) .

ومِن ثَمّ قال: ( إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ... ) .

( فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ‏ِ وَمَنِ اتّبَعَنِ... ) .

( وَقُل لِلّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (4) .

* * *

وفي الآية وما يتعقّبها نكات وظرف دقيقة:

منها: قوله: (مصدّقاً لما معهم) أو (مصدّقاً لما معكم) - في آية أُخرى - وهذا تنويه بأنّ المتبقّي من التوراة ليس كلّها وإنّما هو بعضها... لكنّه لم يقل: (لما بقى من التوراة عندكم) وعبّر (بما معكم)؛ لئلاّ يتنبّه اليهود إلى ذريعة أُخرى لعلّهم يتذرّعون بها، هو أنّ المنافرة إنّما كانت بين القرآن وما ذهب مِن التوراة، فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة... وهي طريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه....

ولم يقل: (مصدّقاً بالتوراة عندكم)؛ لأنّه حينذاك كان اعترافا ًبأنّ الموجود هو تمامها لا بعضها.

____________________

(1) البقرة: 97، آل عمران: 3، المائدة: 46 مرّتين و48، الأنعام: 92، فاطر: 31، الأحقاف: 30.

(2) البقرة: 89 و90 و101.

(3) البقرة: 41، آل عمران: 81، النساء: 47.

(4) آل عمران: 19 و20.

٤٣٦

فأتى بما لا يمكّنهم المخاصمة جدلاً، ولا كان اعترافاً بصدق ما عندهم أنّه توراة كلّه، وهذا من دقيق التعبير الذي خصّ به القرآن الكريم.

وأيضاً في التعقيب بقوله: ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ) (1) ، نسبة القتل إليهم بالذات؛ لأنّهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم، ولو قال: (فلم قتل آباؤكم...) لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار، وكان أشبه بمحاجّة الذئب: عدا على حَمَل صغير، بحجّة أنّ أباه قد عكّر الماء عليه في قناة كان يشرب منها (2) .

إقناع العقل وإمتاع النفس:

ميزة أُخرى في احتجاجات القرآن، هو حينما يحاول إخضاع العقل ببراهينه المتينة تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة ورقائق بيانه العذبة السائغة، جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى، سهلاً سلساً يستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع، عذباً فراتاً لذّة للشاربين.

إنّ للنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل، وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أُختها، فأمّها إحداهما فإنّها تنقّب عن الحقّ لمعرفته أوّلاً، وللعمل به ثانياً، وأمّا الأُخرى فإنّها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء مِن لذّة وألم، ومتعة وغذاء للنفس.

والبيان التامّ هو الذي يوفّي لك للحاجتين جميعاً، ويطير بنفسك بكلا الجناحين، فيؤتيها حظّها من الفائدة العقلية، إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس.

أمّا الحكماء فإنّما يؤدّون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا يهمّهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك، يقدّمون حقائق المعارف والعلوم، لا يأبهون لِما فيها من جفاف وعري ونبوٍّ عن الطباع.

____________________

(1) البقرة: 91.

(2) النبأ العظيم: ص117.

٤٣٧

وأمّا الشعراء فإنّما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك، وإمتاع سمعك وضميرك، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّاً أو رشداً، وأن يكون حقيقةً أو تخيّلاً، فتراهم جادّين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطربون وإن كانوا لا يَطربون ( وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) (1) .

وكلّ إنسان حينما يفكّر فإنّما هو فيلسوف، وكل إنسان حينما يحسّ فإنّما هو شاعر، ولا تتكافأ القوّتان، (قوّة التفكير وقوّة الوجدان)، وكذا سائر القوى النفسية على سواء... ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فإنّها لا تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة، بل متناوبة في حال بعد حال، وكلّما تسلّطت قوّة اضمحلّت أُخرى وكاد ينمحي أثرها، فالذي يُنهمك في التفكير تتناقص قوّة وجدانه، والذي يسعى وراء لذائذه عند ذاك تضعف قوّة تفكيره وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً ( مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (2) .

وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء، وما كلام المتكلّم إلاّ انعكاس الحالة الغالبة عليه، (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح)، ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) (3) وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به.

هذا مقياس يمكنك أن تتبيّن فيه ما لكلّ لسان وما لكلّ قلم مِن قوّة غالبة عليه، حينما ينطق وحينما يكتب، فإذا رأيته يتّجه إلى حقيقة فرغ له بعد ما قضى وطره ممّا مضى... عرفت بذلك أنّه يضرب بوترين، يتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.

____________________

(1) الشعراء: 224 - 226.

(2) الأحزاب: 4.

(3) الإسراء: 84.

٤٣٨

وأمّا أنّ أُسلوباً واحداً يتّجه اتّجاهاً واحداً، ويستهدف هدفاً واحداً، ويرمي إلى غرض واحد، ولكنّه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين: إقناع عقلك وإمتاع نفسك معاً، وفي آنٍ واحد وفي كلام واحد، كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة أوراقاً وأثماراً، أنواراً وأزهاراً، معاً، أو كما تجري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر... فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق، ولا هو من سُنن الله في النفس الإنسانية... ( مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) .

فمِن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأُسلوب واحد، يفيض عليك من الحقيقة البرهانية والدلائل العقلانية، بما يرضي أُولئك الفلاسفة الحكماء، والمتعمّقين النبلاء، ويرضخ بعقولهم الجبّارة.

وإلى جانب ذلك - وفي نفس الوقت - يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة والطلاوة، ما يسدّ فَهمَ هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين.

ذلك هو الله ربّ العالمين، الذي لا يشغله شأن عن شأن، القادر على أن يُخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد، وأن يخرج الحقّ والجمال جميعاً، يلتقيان ولا يبغيان... فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان... ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً، عذباً فراتاً، سائغاً لذّةً للشاربين.

هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم، حيثما توجّهت وأينما تولّيت بوجهك، إنّه في فسحة قَصَصه وأخباره عن الماضين، لا ينسى حقّ العقل من حِكم وعِبر، وأنّه في مزدحم براهينه ودلائله، لا يغفل حظّ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء، يبثّ ذلك بوفرة شاملة، في جميع آياته وبيّناته، في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها، الأمر الذي ( تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى‏ ذِكْرِ اللّهِ ) (1) ، و ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) (2) .

____________________

(1) الزمر: 23.

(2) الطارق 13 و14.

٤٣٩

أنواع مِن الاستدلال البديع في القرآن

قلنا: من بديع بيانه تعالى لإقناع الخصوم هو ذاك لطيف برهانه، همساً في الأسماع ووخزاً في القلوب، فتلك حججه قاطعة ودلائله لائحة، ترفع الغبار عن وجه الحقيقة بيدٍ ناعمة ولمسٍ خفيف، وتكشف النقاب عن محيّى الحقّ بإشارة خفية نافذة إلى الأعماق.

وممّا وقف عليه العلماء من أسرار بيان القرآن هو جمعه لأنواع البراهين العقلية، ولكن لا بمثل تلك التعقيدات التي تكلّفها المتكلّمون، بل جرياً مع المتعارف من الكلام المعقول، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ ) (1) ، فإنّ الراغب في دقيق المحاجّة هو العاجز عن إقامة الحجّة بالجليل من الكلام، ومَن استطاع أن يفهم الأكثر بالأوضح مِن البيان لا يلجأ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلاّ الأقلّون.

فقد أخرج الله تعالى مخاطباته في محاجّة العباد في أبهى صورة وأجلى بيان؛ ليفهم العامّة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجّة، وتفهم الخواصّ مِن أثنائها ما

____________________

(1) إبراهيم: 4.

٤٤٠