تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93323
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93323 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يربي على ما أدركه فهم الخطباء، وهذه مزيّة خارقة في القرآن، قناعة كافية للعوام، وحجّة وافية للعلماء، وبذلك فاق سائر الكلام.

وقد بيّنا أنواع القياس الاقتراني والاستثنائي الواردة في القرآن على أساليب متعارفة وبديعة، وإليك أنواعاً أُخر مِن الأقيسة:

السبر والتقسيم:

من أنواع الحجج المصطلح عليها في علم الجدل (السبر والتقسيم) باستقصاء جوانب المسألة وكل محتملاتها، ثمّ إخراجها فرداً فرداً؛ ليبقى الاحتمال الأخير هو الصحيح المطلوب.

ومن أمثلته في القرآن ما جاء في سورة الأنعام بشأن ما زعمه المشركون من حرمة ذكور الأنعام تارةً وإناثها أُخرى، وإسناد تحريمهما إلى شريعة الله، افتراءً عليه، فجاء ردّ مزعومتهم بالشكل التالي:

( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ أَرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ أَرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (1) .

خلاصة الاستدلال: إنّ الله تعالى هو الذي خلق الزوجين من الأنعام - الذكر والأنثى - فهل كانت علّة تحريم ما ذكرتم هي الذكورية؟ وعليه فيلزم تحريم كلّ ذكر مِن الأنعام، ولا يخصّ بعضاً دون بعض! وإن كانت علّة التحريم هي الأُنوثية فلازمه أيضاً تحريم جميع الإناث من الأنعام! وإن كانت لأجل اشتمال الأرحام عليها فلازمه تحريم الصنفين معاً ذكوراً وإناثاً! وعليه فبطل تحريمهم لبعض دون

____________________

(1) الأنعام: 143 و144.

٤٤١

بعض لغير ما سبب معقول.

وأمّا احتمال أن يكون شريعة التحريم أخذوها عن الله - بواسطة رسول أو بلا واسطة - فهو منفي، أَوّلاً: لأنّهم لم يدّعوه.

وثانياً: ظهور بطلان الدعوى لو ادّعوها؛ إذ لم يأتوا عليها بسلطان.

ومِن ثَمّ عقبها بقوله: ( قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَى‏ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1) .

القول بالموجب:

قال ابن معصوم: هو نوع من البديع غريب المعنى، لطيف المبنى، راجع الوزن في معيار البلاغة، مفرغ الحسن في قالب الصياغة. وهو والأُسلوب الحكيم (2) ، رضيعا لبانٍ، وفرسا رِهانٍ (3) .

قال ابن أبي الإصبع: هو أن يتكلّم أحدٌ بشيء، فيعمد السامع إلى لفظة من كلامه، فيبني عليها ويناقضه بسببها، ردّاً عليه من كلام نفسه، وذلك يوجب معاكسة مقصود المتكلّم ونقض غرضه، قال: لأنّ حقيقة القول بالموجب هو ردّ كلام الخصم من فحوى لفظه (4) وهو نوع (المسلّمات) من القياس الجدلي في مصطلح علماء الميزان (5) .

____________________

(1) الأنعام: 145.

(2) سنأتي عليه، وهو: تلقّي المخاطب بغير ما يترقّب، بحمل كلامه على خلاف مراده، تنبيهاً على أنّه الأَولى بالقصد، كقول القبعثري للحجّاج لمّا قال له متوعّداً: لأَحمِلنّك على الأدهم - أراد به القيد - فقال: مِثل الأمير يُحمل على الأدهم والأشهب - أراد به الفرس - (راجع: أنوار الربيع، ج2 ص211).

(3) أنوار الربيع: ج2 ص198.

(4) بديع القرآن: ص314.

(5) هو القياس المؤلّف من قضايا مسلّم بها لدى الخصم، فيبتنى عليها الكلام لدفعه.

٤٤٢

نعم، هو من ألطف أنواع البديع، في معاكسة كلام صديق أو مناقضة قول خصيم.

قال ابن حجّاج:

قلتُ ثقّلتُ إذ أتيتُ مراراً

قالَ ثقّلتَ كاهلي بالأيادي

قلتُ طوّلتُ، قال لي تطوّلـ

ـتَ وأَبرمتُ، قال حبلَ ودادي

* * *

* ومن أمثلة في القرآن المجيد قوله تعالى: ( يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأَعَزّ مِنْهَا الأَذَلّ ) - يريدون بالأعزّ أنفسهم، وبالأذلّ المؤمنين... وصادقهم تعالى على إخراج الأعزّ الأذلّ، غير أنّه تعالى فسّرهما على عكس مطلوبهما (1) كناية عن أنّ المؤمنين سوف يكونون هم الذين يخرجون المنافقين من المدينة؛ لأنّهم هم الأعزّاء وغيرهم الأذلاّء.

* وقوله تعالى: ( وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) (2) كأنّه قيل: نعم، هو أُذُن، ولكن نِعم الأُذن، أي هو أُذن كما قلتم، إلاّ أنّه أُذن خير لا أُذن سوء. فسلّم لهم قولهم فيه، إلاّ أنّه فسّره بما هو مدح له، وإن كان قصدوا به المذمّة، ولا شيء أبلغ في الردّ من هذا الأُسلوب؛ لأنّ فيه إطماعاً في الموافقة، وكرّاً إلى إجابتهم في الإبطال، وهو كالقول بالموجب في الأُصول (3) .

الأُسلوب الحكيم:

قال ابن معصوم: يشترك (القول بالموجب) و(الأُسلوب الحكيم) في كون كلّ منهما مِن إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، ويفترقان باعتبار الغاية، فإنّ

____________________

(1) المنافقون: 8.

(2) التوبة: 61.

(3) نقله ابن معصوم عن الطيبي، راجع أنوار الربيع: ج2 ص200.

٤٤٣

(القول بالموجب) غايته ردّ كلام المتكلّم وعكس معناه، (الأُسلوب الحكيم) هو تلقّي المخاطب بغير ما يترتّب، بحمل كلامه على خلاف مراده، تنبيهاً على أنّه الأَولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلّب، بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيهاً على أنّه الأَولى بحاله والمهمّ له.

أمّا الأَوّل: فكقول القبعثري للحجّاج: (مِثل الأمير يُحمل على الأدهم والأشهب) وقد تقدم (1) .

وأمّا الثاني: فكثير منه في القرآن، ويُعدّ مِن بدائع خطابه مع أُولئك الأقوام الجهلاء بما يُصلحهم ويناسب شأنهم.

مِن ذلك قوله تعالى: ( يَسْألونَكَ عَنِ الأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَى‏ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) .

كانوا سألوا عن الهلال ما باله يبدو دقيقاً ثمّ لا يزال يزداد حجماً حتى يكتمل بدراً، ثمّ يعود شيئاً فشيئاً حتى يصير كما بدأ؟ فأُجيبوا: بما في الآية تنبيهاً على أنّ الذي ينفعهم وهو أهمُّ بحالهم، ويكون وِفق إدراكهم هو هذا، لا الذي سألوه.

* * *

وقوله تعالى: ( يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (3) .

سألوا عن الذي ينفقونه، فأُجيبوا ببيان مصارف الإنفاق، تنبيهاً على أنّ المهمّ هو معرفة موضع الإنفاق، أمّا الذي يجب أن يُنفق فهو خير ما تيسّر، مِن أيّ جنس كان؛ لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلاّ أن تقع موقعها، وكلّ ما فيه خير وصلاح فهو صالح

____________________

(1) في هامش 2 من صفحة 453.

(2) البقرة: 189.

(3) البقرة: 215.

٤٤٤

للإنفاق؛ ومِن ثَمّ خُتمت الآية بنوايا صاحب الإنفاق وأنّ الله عليم بذات الصدور (1) .

الاستدراج:

وسمّاه بعضهم (مجاراة الخصم) ليعثر، بأن يُسلّم له بعض مقدماته حيث يراد تبكيته وإلزامه، كم يُجاري الصيدَ ليستولي عليه ويقبضه.

قال ابن معصوم: هو إرخاء العنان مع الخصم ليعثر حيث يراد تبكيته وإفحامه، وهو من مخادعات الأقوال والتصرّفات الحسنة التي هي مِن السحر الحلال، يُسمعه الحقّ على وجه لا يُغضبه.

كقوله تعالى: ( لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (2) ، لم يقل عمّا تجرمون؛ احترازاً عن التصريح بنسبة الجرم إليهم واكتفاءً بالتعريض في قوله (عمّا أجرمنا) ؛ لئلاّ تأخذهم الحمية الجاهلية والأنفة، وليتفكّروا في حالة أنفسهم وحالة من خالفهم في العمل، إن صلاحاً أو فساداً، فيُدركوا بالتأمّل ما هو الحقّ منهما (3) .

وقد فصّل الكلام في ذلك ابن الأثير، وعقد له باباً استخرجه من كتاب الله وشرحه شرحاً وافياً، قال:

وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، والكلام فيه وإن تضمّن بلاغة، فليس الغرض هاهنا ذِكرُ بلاغته فقط، بل الغرض ذِكر ما تضمّنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، وإذا حُقّق النظر فيه عُلم أنّ مدار البلاغة كلّها عليه؛ لأنّه لا انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة، ولا المعاني اللطيفة الدقيقة، دون أن تكون مستَجلِبة لبلوغ غرض المخاطب بها.

والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيراً في خلابه، لا قصيراً في خطابه.

____________________

(1) راجع أنوار الربيع: ج2 ص209 و210.

(2) سبأ: 25.

(3) أنوار الربيع: ج6 ص62 و63.

٤٤٥

فإذا لم يتصرّف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده، وإلاّ فليس (1) بكاتب، ولا شبيه له إلاّ صاحب الجدل، فكما أنّ ذاك يتصرّف في المغالطات القياسية، فكذلك هذا يتصرّف في المغالطات الخطابية.

وقد ذكرتُ في هذا النوع ما يُتعلّمّ منه سلوكُ هذه الطريق.

فمِن ذلك قوله تعالى: ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيّنَاتِ مِن رَبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) (2) .

أَلا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه، فإنّه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو هذا الرجل مِن أن يكون كاذباً فكذبه يعود عليه ولا يتعدّاه، أو يكون صادقاً فيصيبكم (3) بعض الذي يعدكم إن تعرّضتم له.

وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك، فأقول: إنّما قال: ( يُصِبْكُم بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ ) وقد عُلم أنّه نبيٌّ صادقٌ، وأنّ كلّ ما يعدهم به لابدّ وأن يصيبهم، لا بعضه؛ لأنّه احتاج في مقاولة خصوم موسى (عليه السلام) أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة؛ ليكون أدعى إلى سكونهم إليه، فجاء بما عُلم أنّه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم إيّاه، فقال: ( وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ ) وهو كلامُ المنصف في مقابلة غير المشتطّ؛ وذلك أنّه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادقٌ في جميع ما يَعدُ به، لكنّه أردف بقوله: ( يُصِبْكُم بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ ) ليهضمه بعض حقّه في ظاهر الكلام فيريهم أنّه ليس كلام مَن أعطاه حقّه وافياً، فضلاً عن أن يتعصّب له، وتقديم الكاذب على الصادق مِن هذا القبيل، كأنّه بَرطلَهم (4) في صدر

____________________

(1) سياق المعنى يقتضي حذف كلمة (وإلاّ).

(2) غافر: 28.

(3) في الأصل (يصبكم).

(4) يقال: بَرطل فلاناً أي: رشاه، فتبرطل: فارتشى.

٤٤٦

الكلام بما يزعمونه؛ لئلاّ ينفروا منه.

وكذلك قوله في آخر الآية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) أي هو على الهدى، ولو كان مسرفاً كذّاباً لَما هداه الله للنبوّة، ولا عَضده بالبيّنات.

وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه مالا خفاء به، وقد تضمّن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأمّلته حقّ التأمّل أعطيته حقّه من الوصف.

وممّا يجري هذا الأُسلوب قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مِنَ الرّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً ) (1) .

هذا كلامٌ يهزّ أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو أنّه لمّا أراد إبراهيم (عليه السلام) أن ينصح أباه ويعظه وينقذه ممّا كان متورّطاً فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل رتّب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف، والأدب الحميد، والخلق الحسن، مستنصحاً في ذلك بنصيحة ربّه، وذاك أنّه طلب منه أَوّلاً العلّة في خطيئته طلب منبّهٍ على تماديه، موقظٍ من غفلته؛ لأنّ المعبود لو كان حيّاً مميّزاً سميعاً بصيراً مقتدراً على الثواب والعقاب - إلاّ أنّ بعض الخلق يستخفّ عقل مَن أهّله للعبادة، ووصفه بالربوبية ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيّين - فكيف بمَن جعل المعبود جماداً لا يسمع ولا يبصر، يعني به الصنم.

ثمّ ثنّى ذلك بدعوته إلى الحق، مترفِّقاً به، فلم يَسِم أباه بالجهل المطلق، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنّه قال: إنّ معي لطائف من العلم وشيئاً منه، وذلك عِلمُ الدلالة على سلوك الطريق، فلا تستنكف، وهب أنّي وإيّاك في مسير وعندي

____________________

(1) مريم: 41 - 45.

٤٤٧

معرفة بهداية الطريق دونك، فاتّبعني أُنجك مِن أن تضلّ.

ثمّ ثلّث ذلك بتثبيطه عمّا كان عليه ونهيه، فقال: إنّ الشيطان الذي استعصى على ربّك - وهو عدوّك وعدوّ أبيك آدم - هو الذي ورّطك في هذه الورطة، وألقاك في هذه الضلالة، وإنّما ألغى إبراهيم (عليه السلام) ذِكر معاداة الشيطان آدم وذرّيته في نصيحة أبيه؛ لأنّه لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايتي الشيطان إلاّ التي تختّص بالله، وهي عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذرّيته.

ثمّ ربّع ذلك بتخويفه سوء العاقبة، فلم يُصرّح بأنّ العقاب لاحِقٌّ به، ولكنّه قال: ( إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ ) ، فنكّر العذاب ملاطفةً لأبيه، وصدّر كلّ نصيحة من هذه النصائح بقوله (يا أبت) توسّلاً إليه واستعطافاً.

وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه، فإنّه قال: ( أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ) فأقبل عليه بفظاظة الكفر، وغلظ العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل قوله (يا أبت) بقوله (يا بنيّ)، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله ( أراغبٌ أنت ) ؛ لأنّه كان أهمّ عنده، وفيه ضربٌ مِن التعجّب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته.

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة مِن هذا الجنس لا سيّما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفّار، والردّ عليهم، وفي هذين المثالين المذكورين هاهنا كفاية ومقنع (1) .

* * *

____________________

(1) المثل السائر: ج2 ص260 - 264.

٤٤٨

٤٤٩

2 - الإعجاز العلمي

إشاراتٌ عابرة وإلماعاتٌ خاطفة

- الماء أصل الحياة.

- منشأ تكوين الجنين.

- الرجع والصدع.

- الفضاء يتمدّد.

- تخلخل الهواء في أطباق السماء.

- الغلاف الهوائي حجابٌ حاجز.

- ماسكة الفضاء.

- الرتق والفتق.

- السحاب الثقال.

- التبخّر والإشباع والتكاثف.

- الماء الأُجاج.

- الجبال أوتاد.

- مسيرة الأرض والجبال.

- مدّ الظلّ وقبضه.

... ومواضيع أُخر

٤٥٠

الباب الثاني

في الإعجاز العلمي

( قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1)

إشاراتٌ عابرة وإلماعاتٌ خاطفة

عن غياهب الوجود

لا شكّ أنّ القرآن كتاب حكمةٍ وهدايةٍ وإرشاد ( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (2) ، ( وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) (3) ، ( وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ ) (4) ، ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) (5) .

هذه هي رسالة القرآن رسالة الله في الأرض، ( أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى‏ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (6) .

إذاً، فليست الشريعة دراسة طبيعة، ولم يكن القرآن كتاب عِلم بالذات، سوى

____________________

(1) الفرقان: 6.

(2) آل عمران: 164، الجمعة: 2.

(3) الأعراف: 157.

(4) المائدة: 16.

(5) الفرقان: 1.

(6) الفتح: 28، الصف: 9.

٤٥١

إشاراتٍ عابرة جاءت في عَرض الكلام، وإلماعاتٍ خاطفة وسريعة إلى بعض أسرار الوجود، وإلى طرف من كوامن أسباب الحياة، لكن إجمالاً وفي غموضٍ تامّ يعرفها العلماء الراسخون؛ إذ لم تصدر على سبيل القصد والبيان، وهي في نفس الوقت تنمّ عن خضّم بحرٍ لا ينفد، وعن مخزون علم لا يتناهى. ( قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (1) ، ( أَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَي‏ءٍ عِلْمَاً ) (2) .

نعم، إنّها شذرات بدت من طيّ كلامه تعالى، ورشحات فاضت من عرض بيانه، كانت عظيمة وفخيمة، كلّما تقدّمت رُكَب الحضارة، وتألّق نجم العلم والمعرفة على آفاق الوجود، وإذا بالقرآن يسبق الإنسان بخُطوات، ولا يكاد يلحق أذياله في هذا المسير ( وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) (3) .

* * *

وهذا نظير ما يُؤثَر عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من كلمات جاءت في عرض كلامه، وهي تنمّ عن خضمّ بحر متلاطم أمواجه، بعيد أغواره، أو كما قال هو (عليه السلام): (ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير).

فمِن ذلك قوله في عجائب خلقة الإنسان: (اعجبوا لهذا الإنسان ينظرُ بشحمٍ، ويتكلّم بلحمٍ، ويسمع بعظمٍ، ويتنفّس من خَرمِ) (4) .

كان علم التشريح (5) القديم يرى من طبلة الأُذن (6) العضو الأساسي لآلة السمع، وذلك بتذبذبٍ يحصل فيه على أثر الموج الصوتي الوارد عليه، وعلى أثره يحصل تموّج في الهواء الراكد المحفوظ في حفرة الصِماخ خلف هذا الغشاء، وهذا

____________________

(1) الكهف: 109.

(2) الطلاق: 12.

(3) النحل: 89.

(4) نهج البلاغة: قصار كلماته رقم 8.

(5) علم وظائف الأعضاء، وقد شرحه ابن سينا في القانون: ج1 ص24 فما بعد.

(6) هو الغشاء الفاصل بين التجويفين الداخلي والظاهري للأُذن.

٤٥٢

التموّج يُؤثّر في العصب الدماغي المفروش على سطح الصِماخ الباطني، وبذلك ينتقل الصوت إلى مركزه في المخّ ويحصل السماع (1) .

وبذلك تعرف أن لا شأن للعظام في أجهزة السمع في نظرة الأطبّاء القدامى.

ومِن ثَمّ حمل ابن أبي الحديد ذلك على مخاطبة العامّة بما يفهمونه من ظاهر الكلام: قال: هذا كلامٌ محمولٌ بعضه على ظاهره لِما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامّة بما يفهمونه والعدول عمّا لا تقبله عقولهم ولا تعيه قلوبهم.

قال: فأمّا السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق وإنّما هو بالقوّة المُودعة في العصب المفروش في الصِماخ كالغشاء، فإذا حمل الهواء الصوت ودخل في ثقب الأُذن المنتهي إلى الصِماخ - بعد تعويجات فيه - جُعلت لتجري مجرى اليراعة المصوّتة، وأفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوّة السامعة، حصل الإدراك، قال: وبالجملة، فلابدّ من عظم؛ لأنّ الحامل للّحم والعصب إنّما هو العظم (2) .

أمّا ابن ميثم فحمل كلامه (عليه السلام) على إرادة عظم الصدغ الحاوي على جهاز السمع، قال: وأراد بالعظم الذي يسمع به، العظم المسمّى بالحجري، وهو عظم صُلب فيه مجرى الأُذن كثير التعاريج والعطفات، يمرّ كذلك إلى أن يلقى العصبة

____________________

(1) قال ابن سينا بصدد تشريح الأُذن: الأُذن عضو خُلق للسمع وجُعل له صدف معوّج ليحبس جميع الصوت ويوجب طنينه، وثقب يأخذ في العظم الحجري ملولب معوّج ليكون تعويجه مطولاً لمسافة الهواء إلى داخل مع قصر تحته، وثقب الأُذن يؤدّي إلى جوبة (حفرةٍ) فيها هواء راكد وسطحها مفروش العصب الدماغي. فإذا تأدّى الموج الصوتي إلى ما هناك أدركه السمع والصِماخ كالثقبة العنبية المشتملة على الهواء الراكد الذي يُسمع الصوت بتموّجه. (القانون: ج2 ص148 - 149 الفنّ الرابع في أحوال الأُذن).

وقال عند تشريح العصب الدماغّي: تنبت مِن الدماغ أزواج من العصب سبعة... وأمّا الزوج الخامس فكلّ فرد منه ينشقّ بنصفين على هيئة المضاعف، منبته من جانبي الدماغ، والقسم الأَوّل من كلّ زوج منه يعمد إلى الغشاء المستبطن للصِماخ فيتفرق فيه كلّه. وهذا القسم منبته بالحقيقة من الجزء المؤخّر من الدماغ وبه حسّ السمع. (القانون: ج1 ص54 - 55).

(2) شرح النهج: ج18 ص103 - 104.

٤٥٣

النابتة من الدماغ التي هي مجرى الروح الحامل للقوّة السامعة (1) .

* * *

أمّا التشريح الحديث (2) فيرى أنّ حاسة السمع إنّما تقوم بسلسلة عظام متّصلة

____________________

(1) شرح ابن ميثم: ج37 باب المختار من حكمه.

(2) الأُذن كما يفصّلها علماء التشريح مركّبة من ثلاثة أجزاء:

الأوّل: الأُذن الظاهرة، وهي المكوّنة من صفيحة غضروفية، وتُسمّى (الصيوان) ومِن قناة تمتدّ داخل العظم الصدغي، على جانبيها عدّة ثقوب تتّصل بغدد تفرز دهناً ثخيناً أصفر يُسمّى (الصملاخ) ضروريّ لصحّة الأُذن متى أدّى وظيفته خرج بنفسه ولفظته الأُذن، فيرفعه الإنسان بإصبعه بسهولة..

الثاني: الأُذن المتوسّطة، تنفصل عن الأُذن الظاهرة بغشاء الطبلة، وهو غشاء شفّاف تحته تجويف ضيّق يتّصل بالفم الخلفي بواسطة قناة، وفي أقصى هذا التجويف فتحتان مسدودتان بغشاء مشدود، هما متّصلتان بالأُذن الباطنة، إحدى هاتين الفتحتين متّصل بها أربع عُظيمات تتحرّك بعضلات صغيرة، وتُحدث توتّراً أو استرخاءً في الغشاء المرتكزة عليه.

الثالث: الأُذن الباطنة، هي الجزء الانتهائي، وهي مكوّنة من دهليز تنفتح فيه قنوات أشكالها كأنصاف الهلال، مملوءات بسائل من نوع السائل الذي يملأ ذلك الدهليز، وبجانب تلك القنوات عضو يشبه القوقعة مملوء بسائل، ومتّصل بصندوق الطبلة. وفي هذه الأُذن الباطنة تتوزع أفرع العصب السمعي.

ولا يخفى أنّ المتكلّم إنّما يحدث بكلامه ارتجاجاً في الهواء، على توقيع خاصّ، فتصل تلك الارتجاجات الهوائية إلى صيوان الأُذن، ومنه تدخل إلى القناة السمعيّة الظاهرة، ومنها إلى غشاء الطبلة الذي هو أسفل تلك القناة، فترجّه فيرتجّ، فتتبعه العُظيمات السمعيّة التي هي على الغشاء، فتُحدث في ذلك الغشاء توتّراً أو رخاوةً بواسطة عضلاتها، على حسب شدّة الصوت وضعفه، وفي نفس الوقت تحدث الارتجاجات عينها في الهواء الموجود في صندوق الطبلة، فينتقل منها إلى الأُذن الباطنة بواسطة الفتحتين اللتين ذكرناهما، وهنالك تتأثر الأعصاب السمعية، وينقل الصوت إلى المخّ فتدركه الروح وتفهمه.

(دائرة معارف القرن العشرين: ج 1 ص135 - 136)

.

والأُذن الوسطى تجويف مملوء بالهواء، في داخل العظم الصدغي، ويُسمّى (صندوق الصِماخ) وشكله كعدسة مقعّرة الطرفين، ارتفاعه 5/1 سانتيمتر، وينفصل عن الأُذن =

٤٥٤

بطبلة الأُذن كائنة خلفها، فينتقل الصوت بواسطتها إلى العصب السمعي الذي تنقل آثاره إلى الدماغ.

وذلك أنّ ذرّات الوسط الناقل للتموّجات الصوتية باهتزاز مصدر الصوت، فإذا صادف أن التقطت الأُذن بعض هذه التموّجات ومرّت في القناة السمعية - وهو الجزء الظاهر منها - فإنّ تأثيرها يصل إلى الطبلة الموجودة في نهاية القناة السمعية، فتهتزّ بتأثير الفرق بين الضغوط الواقعة على وجهيها الأمامي والخلفي، فتنتقل هذه التغيّرات بواسطة سلسلة العظام المتّصلة بها إلى السائل الذي تسبح فيه فروع العصب السمعي الذي تنقل آثاره إلى المخّ.

وبذا يكون الإنسان قد تمكّن - بنتيجة تعوّده سماع أصوات مختلف الآلات - مِن تعيين شدّة الصوت الذي وصل إلى سمعه ودرجته ونوعه (1) .

وأمّا حاسّة الأبصار فلا تختلف النظرة القديمة عن النظرة الحديثة، في أنّها قائمة بشحمة العين (2) وقد عبّر عنها ابن سينا في القانون (3) بالرطوبة الجليدية،

____________________

= الخارجية بواسطة غشاء الصِماخ. وصندوق الصِماخ يتّصل بحفر الأنف بواسطة تجويف مخروطيّ الشكل، وله فتحات دائرية الشكل وبيضيّه تفصله عن الأُذن الداخلية.

وغشاء الصِماخ غشاء رقيق، سعته التقريبية سانتيمتر مربع، ويُشكّل في قعر الأُذن زاوية بدرجة (45 - 40) ويكون تحديبه إلى الداخل.

وهذا الغشاء متكوّن من ثلاثة أجزاء: سطحه الخارجي جلدة رقيقة، وسطحه الداخلي مادّة مخاطيّة، وفي الوسط طبقة متشابكة من ألياف عصبية كثيرة.

وعلى السطح الداخلي للغشاء عُظيمات على أشكال مَدقّات أو مطرقات صغيرة، متّصلة به بواسطة عضلات، وهذه العُظيمات واقعة بين غشاء الصِماخ والفتحات البيضيّة الشكل في نهاية الأُذن.

وهذه العُظيمات هي التي تنقل التذبذبات الصوتية من غشاء الصِماخ إلى الفتحات البيضيّة، ومنها إلى ألياف العصب السمعي فإلى المخ. (لغت نامه - دهخدا).

(1) مبادئ العلوم العامة: ص362.

(2) قالوا: العين هي الجزء المسبّب لحاسّة الأبصار، وتتكوّن من شحمة على هيئة كرة تستطيع =

٤٥٥

قال: وهي رطوبة صافية كالبرد والجليد مستديرة ينقص تَفرطُحها من قدّامها... فإن كان أراد بها نفس الشحمة التي جاءت في تعابير المتأخرين... وإلاّ فهو دليل آخر على إعجاز كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العالِم بخبايا العلوم وأسرار الوجود.

* * *

هذا، والمقال مِن إفادات والدي العلاّمة المرحوم (الشيخ علي معرفة) نبّه عليه في كثير من خطاباته على حشود أهل الأدب والمعرفة من أبناء كربلاء المقدّسة قبل هجرتنا إلى النجف الأشرف التي وقعت في العقد السابع من القرن الرابع عشر للهجرة، فرحمة الله عليه مِن والدٍ بارّ ومُؤدِّبٍ كريم وما هداني إلى هذا الطريق إلاّ عنايته بتربيتي هذه التربية الدينية الصالحة - إن شاء الله - والخالصة لله تعالى، إعلاءً لكلمته وإحياءً لشريعته المقدّسة.

فليكن إنجازي لهذا المشروع القرآني الضخم (في محتواه وغايته) والمتواضع (في عمله) هديّة إلى روحه الطيّبة (4) ، جزاءً مِن الله عنّي وعن الإسلام خير جزاء الصالحين، وحشره مع أوليائه الأئمة الميامين محمّد وآله الطاهرين عليهم

____________________

= الحركة داخل كساء يتركب من جزءين، أحدهما مُعتم والآخر شفّاف، ويُسمّى الأخير بالقرنية، وهو عبارة عن قرص كثير التحدّب يشبه زجاجة الساعة، يوجد خلفه قرص ملوّن مستدير يُسمّى (القزحيّة) وفي وسطه ثقب يُسمّى (البؤبؤ) وتسدّ البؤبؤ من الداخل عدسة لامة شفّافة وظيفتها جمع الأشعة الضوئية المارّة بالبؤبؤ على حاجز خلفها يُسمى (الشبكّية) حيث ينتهي العصب البصري فيها بتفرّعات دقيقة جدّاً، وبواسطة هذا العصب تنتقل التأثيرات الضوئية إلى الدماغ. (مبادئ العلوم ص352).

(3) القانون: ج1 ص108. وتبعه على هذا التعبير سائر الأطباء القدامى الذين تأخّروا عنه، قبل أن تزدهر شُعب العلوم في العصر الأخير.

(4) تُوفي (رحمه الله) في 22 صفر 1379 هـ عن عمر جاوز الستّين (63) ودُفن في كربلاء بجوار أبي الفضل العباس بن علي (عليهما السلام) في الصحن الشريف على يمين الداخل من الباب الخلفي تحت الطاق.

٤٥٦

صلوات ربّ العالمين.

* * *

وبعد، فإذا ما أضفنا إلى هذه الحقيقة المذهلة، أنّها عُرضت على يد رجل أُمّي لا يكتب ولا يقرأ عن كتاب ولا درس عند أُستاذ، من أُمّةٍ عربية جاهلة، وفي بيئة بدوية متوغّلة في البداوة، في صحراء جرداء قاحلة، بعيدة عن حضارات الأُمم وثقافات العالَم بمسافات شاسعة، فنحن إذاً أمام معجزة خارقة للعادة، لا شكّ فيها ولا ريب، وإنّما يُكابر فيها مَن استغلق على نفسه مشارع البصيرة، وعاقب نفسه؛ إذ حجب عنها إشعاع تلك الرحمة التي يشعّها هذا الكتاب الكريم.

( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (1) . ( فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى‏ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُور ) (2) . ( وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ ) (3) .

* * *

وليُعلم أنّنا في هذا العرض إنّما نُحاول فهم جانب من الآيات الكونية، ربّما صعُب دركها قبلئذٍ، وأمكن الاهتداء إليها في ضوء حقائق علمية راهنة، جهد المستطاع، وقد نُخطئ الصواب، ويعود العتب علينا بالذات.

إنّنا لا نُحاول تطبيق آية قرآنية ذات حقيقة ثابتة على نظرية علمية غير ثابتة وهي قابلة للتعديل والتبديل، إنّما مبلغ جهدنا الكشف عن حقائق وأسرار كونية انطوت عليها لفيفٌ مِن آيات الذكر الحكيم، كشفاً في ضوء العلم الثابت يقيناً حسبما وصلت إليه البشرية قطعيّاً، ممّا لا يَحتمل تغييراً أو تعديلاً في مسيره، نظير ما وصل إليه العلم مِن دورة المياه في الطبيعة، والجاذبية العامّة، ودرجات ضغوط الأجسام وما شابه.

____________________

(1) الإنسان: 3.

(2) الحج: 46.

(3) فصّلت: 35.

٤٥٧

فإنّ بقاء الآية على إبهامها أَولى مِن محاولة تطبيقها على نظريّة علميّة غير بالغة مَبلغ القطعية والكمال، وربّما كانت تحميلاً على الآية وتمحّلاً باهتاً، إن لم تكن قولاً على الله بغير علم.

هل وقع التحدّي بالإعجاز العلمي؟

هل وقع التحدّي بجانب إعجاز القرآن العلمي كما وقع بجوانب الإعجاز البياني من فصاحة وبيان ونظم وأُسلوب؟

لا شك أنّ الإعجاز قائم - في الجملة - بهذا الجانب كسائر الجوانب، أمّا التحدّي فقد يقال باختصاصه بجانب البيان فحسب؛ إذ لم تكن إشارات القرآن العلمية معروفةً عند نزوله لأحد مِن الناس، وإنّما أثبتها العلم بعد ذلك بعدّة قرون أو سيُثبتها عبر الأيّام - فإن كان ذلك دليلاً على إعجازه في مجال قادم فإنّه ليس دليلاً على وقوع التحدّي به في أَوّل يومه.

هكذا يقول الدكتور أحمد أبو حجر: إنّ آيات التحدّي إنّما تُسجّل عجز العرب الأوائل عن معارضة القرآن، وبما أنّهم عجزوا وثبت عجزهم - وهم سادة البيان وأرباب الفصاحة - فالعرب اليوم أولى بالعجز، وبذلك قامت الحجّة بهذا الكتاب العزيز (1) .

قال ابن عطية: قامت الحجّة على العالَم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنّة المعارضة، كما قامت الحجّة في معجزة موسى بالسَحَرة، وفي معجزة عيسى بالأطباء (2) .

ويقول الدكتور صبحي صالح: ولا ريب أنّ العرب المعاصرين للقرآن قد سُحروا قبل كلّ شيء بأُسلوبه الذي حاولوا أن يعارضوه فما استطاعوا، حتى إذا

____________________

(1) التفسير العلمي للقرآن في الميزان، ص131.

(2) مقدّمتان في علوم القرآن: ص279.

٤٥٨

فهموه أدركوا جماله ومسّ قلوبهم بتأثيره... وهذا ما نجده عنصراً مستقلاً بنفسه كافياً لإثبات فكرة الإعجاز وخلود القرآن، بأُسلوبه الذي يعلو ولا يُعلى. أمّا ما يتساوق مع هذا العنصر الجمالي الفنّي الرائع مِن الأغراض الدينيّة والعلمية - التي توسّع فيها بعضهم (1) - كاشتمال القرآن على العلوم الدينية والتشريعية، وتحقيقه مسائل كانت مجهولة للبشر، وعجز الزمان عن إبطال شيء منه... فهي أُمور لا سبيل إلى إنكارها، بل يقوم عليها مِن الأدلّة والبراهين مالا يُحصى، غير أنّها أدخل في معاني الفلسفة القرآنية منها في بلاغة القرآن، وليست هي مادّة التحدّي لفصحاء العرب، وإنّما تحدّى القرآن العرب بأن يأتوا بمثل أُسلوبه، وان يُعبّروا بمثل تعبيره، وأن يبلغوا ذروته التي لا تُسامى في التصوير.

فما إعجاز هذا الكتاب الكريم إلاّ سِحره، ولقد فعل سِحره هذا فعله في القلوب في أوائل الوحي، قبل أن تنزل آياته التشريعية ونبوءاته الغيبية ونظرته الكلّية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان (2) .

ويسترسل أبو حجر في كلامه: إذا كنّا لا نجد تناقضاً بين الآيات الكونية المذكورة في القرآن وبين ما يكتشفه العلم في حاضره ومستقبله - بل نجد توافقاً وانسجاماً - فليس ذلك دليلاً على إعجازه المرتبط بالتحدّي، بل هو دليل على أنّه مُنزل مِن عند الله تعالى.

وليس كلّ ما نزل مِن عند الله معجزاً، فالتوراة والإنجيل وغيرهما مِن الكتب السماوية نزلت مِن عند الله، ولم تُوصف بالإعجاز كما وُصف القرآن، ولم يقع بها التحدّي كما وقع بالقرآن.

وأيضاً فإنّ الآيات الكونية التنزيلية لا تشمل سور القرآن كلّها ولا آياته

____________________

(1) انظر تفسير المنار: ج1 ص210 - 212 الوجه السابع مِن وجوه الإعجاز التي ذكرها بمنتهى الاختصار والإيجاز، وقد جرى على هذا الزرقاني في مناهل العرفان: ج2 ص353 - 361.

(2) مباحث في علوم القرآن: ص320 - 321.

٤٥٩

جميعها، وإنّما تقع فقط في بعض السور وفي بعض الآيات... ومعلوم أنّ التحدّي وقع بأيّة سورة من سور القرآن، فكلّ سورة مِن سوره فيها إعجاز لا يبلغه أحد ولن يصل إليه أحد.

قال: فلو كان القرآن معجزاً بسبب الإشارات العلمية المتفرّقة في ثنايا بعض آياته لكان كثير مِن السور التي تخلو مِن مثل هذه الإشارات بعيدة عن الإعجاز، ولم يقل بذلك أحد؛ لأنّ قليل القرآن وكثيره معجز.

وإذا ثبت أنّ قليل القرآن وكثيره معجز ثبت أنّ ما في القرآن مِن حقائق الأخبار ودقائق الشرائع وعجائب الأسرار - التي لم يعرفها البشر إلاّ بعد القرون المتطاولة - كلّ ذلك بمَعزل عن الذي طولب به العرب أن يعارضوه، بما حملهم على الاعتراف بأنّه كلام ربّ العالمين (1) .

وأضاف أنّ هذا الوجه مِن الإعجاز - على القول به - لن يُوفّق إلى فهمه والإحاطة به إلا مَن كان مِن أهل العلم الذي يُدرك هذه الحقائق ويعيها ويؤمن بصدقها، فإن لم يكن مِن أولئك حُجب عنه هذا الوجه.

وأخيراً، فإنّ في هذا الوجه مُنزلقاً خطيراً؛ إذ أنّ بعض مَن يدّعي العلم قد يُحمّل آيات مِن القرآن في هذا السبيل مالا تحتمل، وقد ينسبون إلى العلم ما هو منه براء، رغبةً في إثبات إعجاز جديد للقرآن الكريم (2) .

قال: هذه هي وجهة نظر القائلين بأنّ اشتمال القرآن على الحقائق العلمية لا يُعدّ وجهاً مِن وجوه الإعجاز في القرآن، وإن كان يدلّ على أنّه مُنزل مِن عند الله (3) .

* * *

____________________

(1) انظر الظاهرة القرآنية تقديم محمود شاكر: ص22.

(2) انظر الإسلام والإنسان المعاصر لفتحي رضوان (سلسلة اقرأ): 226 ص406.

(3) التفسير العلمي للقرآن: ص130 - 133.

٤٦٠