تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93351
تحميل: 8475


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93351 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على أنّهم قد يتعقّبون آراء الفريق الأَوّل (القائل باستمرار التحدّي والإعجاز الشامل) بالنقد، فيُعلّقون على قولهم: (إنّ هذا النوع مِن المعارف التي جاءت في سياق بيان آيات الله وحكمه كانت مجهولة للعرب أو لجميع البشر في الغالب، حتى أنّ المسلمين أنفسهم كانوا يتأوّلونها ويخرّجونها عن ظواهرها لتوافق المعروف عندهم في كلّ عصر مِن ظواهر وتقاليد أو مِن نظريّات العلوم والفنون الباطلة...) (1) ...

يُعلّقون على هذا القول، بأنّ المسلمين الذين لم يعرفوا أنّ قرآنهم جاء مؤيّداً لحقائق العلوم - التي لم يُوفّق إليها العلماء إلاّ بعد أربعة عشر قرناً - قد حَسُن إيمانهم بالقرآن، وحسُن انتفاعهم بأحكامه وآياته، فنشروا نوره وأقاموا دولته ونفّذوا أوامره وانتهوا بنواهيه وتأدّبوا بآدابه، في حين أنّ الذين يعرضون الآن علمهم وذكاءهم وقدرتهم على استنباط ما يتّفق مِن آيات القرآن مع العلم الحديث هم أقلّ الأجيال المسلمة تأثّراً بهذا القرآن في شؤون دينهم ودنياهم (2) .

* * *

يبدو أنّ الذي دعا بالقائل بعدم الشمول واقتصار التحدّي على العرب الأوائل وفي جانب بيانه فقط هي نظرته القاصرة على آيات وقع التحدّي فيها مُوجّهاً إلى العرب بالذات، ولا شكّ أنّ تحديّاً موجَّهاً إلى العرب يومذاك لا يعني سوى جانب البيان الذي فاق أساليب العرب وأعجزهم عن أن يأتوا بمثله.

غير أنّ تحدّي القرآن لم يقتصر على فترة مِن الزمان ولا على أُمّة مِن الناس دون مَن سواهم، فنراه وجّه نداءه الصارخ إلى البشرية جمعاء في طول الزمان وعرضه، ولكلّ الأجيال ومختلف الأقوام، وما شأنه ذلك لا يعقل اقتصاره على جانب الفصاحة والبيان؛ إذ ليس كلّ الناس عرباً ولا كلّ العرب فصحاء... فلابدّ أنّ في القرآن شيئاً هو الذي تُحُدِّيَ به تحدّياً على وجه العموم، ومِن ثَمّ كان بمجموع

____________________

(1) راجع تفسير المنار: ج1 ص212.

(2) التفسير العلمي للقرآن: ص133 - 134.

٤٦١

الكتاب، لا بسورة واحدة أو آية أو آيات بالذات (1) .

قال تعالى: ( قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنّ عَلَى‏ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (2) .

فهذا تحدّ عامّ وقع مُوجّهاً إلى كافّة الأنام، سواء مَن عاصر نزول القرآن أو سائر الأيّام.

* * *

وبعد، فإليك بعض ما وصلت إليه أفهام البشرية حسب ما وصلت إليه مِن العلوم الطبيعة المقطوع بها تقريباً، وكان ذلك دليلاً على معجزة القرآن الخارقة للعادة في يوم كان سرّ هذه العلوم والآراء النظرية، مكتوماً على البشرية يومذاك، وأصبح اليوم مكشوفاً، وسيُكتشف حسب مرّ الأيّام.

____________________

(1) ذهب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أنّ الإعجاز العلمي حاصل بمجموع القرآن، وهو إعجاز حاصل من القرآن، وغير واقع به التحدّي إلاّ إشارة (هامش التفسير العلمي: 133/1).

(2) الإسراء: 88.

٤٦٢

الماءُ أصلُ الحياة

( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (1)

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كلّ شيء خُلق مِن الماء) (2) .

تدلّنا النصوص الشرعية الصادرة عن منابع الوحي على أنّ الماء هو أَوّل ما خَلق الله مِن الجسمانيات، فقد روى الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن جابر ابن يزيد الجعفي (تابعيّ ثقة صدوق: 128) أنّ رجلاً مِن علماء أهل الشام جاء إلى أبي جعفر الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) وقدّم إليه أسئلة زعم أنّه قدّمها إلى سائر أصناف الناس فاختلفوا ولم يَتَبين وجه الصواب، فمِن ذلك سؤاله عن بدء الخِلقة، فكان فيما أجابه الإمام (عليه السلام) قوله: (فأوّل شيء خَلَقه مِن خَلْقه الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء) (3) .

وهكذا رواه ثقة الإسلام الكليني في روضة الكافي، قال (عليه السلام): (وخَلَق الشيء

____________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) بحار الأنوار: كتاب السماء والعالم ج54 ص208 رقم 170، وراجع الدرّ المنثور: ج4 ص317.

(3) بحار الأنوار: ج54 ص67 رقم 44 عن كتاب التوحيد ص67 رقم 20 باب التوحيد.

٤٦٣

الذي جَميع الأشياء منه، وهو الماء الذي خلق الأشياء منه، فجعل نسب كل شيء إلى الماء، ولم يَجعل للماء نسباً يُضاف إليه) (1) .

وأيضا بإسناده عن محمّد بن مسلم (الثقة الجليل) عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام): (كان كلّ شيء ماءً، وكان عرشه على الماء) (2) .

* * *

وفي قوله تعالى: ( وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) (3) ، دلالة على أنّ الماء وُجد قبل أن تُوجد عوالم الكون مِن سماء وأرض؛ لأنّ العرش كناية عن عرش التدبير، وهو عِلمه تعالى بمصالح الوجود على الإطلاق، فإذ لم يكن سوى الماء، فإنّ عرشه تعالى لم يكن مستوياً على شيء سوى الماء، فالآية كناية عن أنّه تعالى كان ولم يكن معه شيء، سوى أنّه خلق الماء قبل أن يخلق سائر الموجودات.

* * *

وفي القرآن الكريم أيضاً مواضع تُشير إلى أنّ أصل الحياة مِن الماء، في نشأتها وتكوينها وظهورها في عالم الوجود، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (4) وقال ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) (5) ، وقال في خصوص الإنسان بالذات: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً ) (6) .

اختلف أهل التفسير في المراد مِن هذا الماء الذي هو نشأة الحياة.

قال الإمام الرازي: ذكروا في هذا الماء قولين: (أحدهما) أنّه الماء الذي خلق منه أُصول الحيوان، وهو الذي عناه بقوله: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) ، (والثاني)

____________________

(1) الكافي: ج8 ص94 رقم 67، البحار: ج54 ص97 رقم 81.

(2) الكافي 6 ج8 ص95 رقم 68 وص153 رقم 142، البحار: ج54 ص98 رقم 82.

(3) هود: 7.

(4) الأنبياء: 30.

(5) النور: 45.

(6) الفرقان: 54.

٤٦٤

أنّ المراد النطفة، لقوله: ( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) (1) ، ( مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) (2) (3) .

وقال - في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) -: في ذلك وجوه:

(الأَوّل) - وهو أحسنها - ما قاله القفّال: إنّ قوله (من ماء) صلة (كلّ دابة) ، وليس مِن صلة (خلق) ، والمعنى: أنّ كلّ دابة متكوّنة مِن الماء - أي متولّدة مِن انعقاد النطفة - فهي مخلوقة لله تعالى.

(الثاني) : أنّ أصل جميع المخلوقات مِن الماء؛ لأنّ الماء هو الأصل الأوّل الذي خَلَقه الله، كما ورد في الحديث: أَوّل ما خَلق الله الماء.

(الثالث) : أنّها متولّدة مِن النطفة، أو لأنّها لا تعيش إلاّ بالماء (4) .

* * *

ولكنّ المحقّقين مِن أهل التفسير لم يزالوا على القول بأنّ المراد مِن هذا الماء هو الذي منه أصل جميع المخلوقات، فإنّ مِن الماء نَشَأة الحياة وبذرت بذرتها الأُولى، بشكل حيوان بسيط ذي خليّة واحدة (الأميبا) (5) وارتقت إلى حيوانات معقّدة الأعضاء ذوات الخلايا العديدة، فوق الملايين.

أمّا وكيف وُجدت أَوّل ما وُجدت الحياة - في المياه: البحار والبحيرات والمستنقعات -؟ فهذا ممّا لم يجد له العلم إجابةً صحيحة صالحة للقبول على مسرح العلوم التجريبية المجرّدة.

ومِن ثَمّ فإنّ نظرية التطوّر في الحياة - على أنحائها وأشكالها - إنّما تبتدئ مِن عصر ما بعد الخليّة، أمّا عصر ما قبلها فمجهول، سوى أنّه أمرٌ تحقّق بإرادة الله المهيمن على مقدّرات هذا الكون، الأمر الذي لا محيص عن الإذعان به ما دام

____________________

(1) الطارق: 6.

(2) المرسلات: 20.

(3) التفسير الكبير: ج24 ص101.

(4) التفسير الكبير: ج24 ص16.

(5) قد بسط الأُستاذ الطنطاوي الكلام حول هذا الحيوان (ذي الخليّة الواحدة) في تفسيره الجواهر (ج12 ص226) عند قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً ) .

ولشيخنا الأُستاذ محمّد تقي الفلسفي أيضاً مقال لطيف حول مسألة الحياة، بَحث فيه على ضوء الآراء الحديثة عن الحياة ونشأتها وتطوّرها، على أُسلوبه الشيّق، فراجع تفسيره لآية الكرسي: ص39 - 98.

٤٦٥

التسلسل باطلاً وكان التولّد الذاتي مستحيلاً، وقد أَبطله العلم على أساس التجربة أيضاً.

* * *

قال سيّدنا الأُستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) - عند قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) -: والمراد أنّ للماء دخلاً تامّاً في وجود ذوي الحياة، كما قاله: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) ، قال: وفي ظلّ البحوث العلمية الحديثة ظهرت صلة الحياة بالماء (1) معجزة قرآنية خالدة.

* * *

قال سيّد قطب: وأمّا قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) فيُقرّر حقيقةً خطيرة يَعدّ العلماء كشفَها وتقريرها أمراً عظيماً، ويُمجّدون (دارون) لاهتدائه إليها! وتقريره: أنّ الماء هو مَهد الحياة الأَوّل.

وهي حقيقة تُثير الانتباه حقاً، وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يُثير العَجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقيناً بصدق هذا القرآن، فنحن نستمدّ الاعتقاد بصدقه المطلق، في كلّ ما يُقرّره، مِن إيماننا بأنّه مِن عند الله، لا مِن موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له، وأقصى ما يقال هنا كذلك: إنّ نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النصّ القرآني في هذه النقطة بالذات.

ومنذ أكثر مِن ثلاثة عشر قرناً كان القرآن الكريم يُوجّه أنظار الكفّار إلى عجائب صُنع الله في الكون، ويستنكر أن لا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود (أفلا يؤمنون؟) وكلّ ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبّر الحكيم (2) .

وقال أيضاً - عند قوله تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) -: وهذه الحقيقة

____________________

(1) تفسير الميزان: ج14 ص305.

(2) في ظِلال القرآن: ج5 ص531.

٤٦٦

الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة - حقيقة أنّ كل دابّة خُلقت مِن ماء - قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعاً، وهو الماء، وقد تعني ما يُحاول العلم الحديث أن يُثبته مِن أنّ الحياة خرجت مِن البحر ونشأت أصلاً في الماء، ثمّ تنوّعت الأنواع، وتفرّعت الأجناس.

ولكنّنا نحن - على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل - لا نزيد على هذه الإشارة شيئاً، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية، وهي أنّ الله خَلق الأحياء كلّها مِن الماء فهي ذات أصل واحد، ثمّ هي - كما ترى العين - متنوّعة الأشكال منها الزواحف تمشي على بطنها، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين، ومنها الحيوان يدبّ على أربع، كلّ ذلك وِفق سنّة الله ومشيئته، لا عن فلتة ولا مصادفة، فالنواميس والسُنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئة الله الطليقة ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) .

* * *

____________________

(1) في ظلال القرآن: ج6 ص111.

٤٦٧

منشأ تكوين الجنين

( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَائِبِ ) (1) .

الدِفق: الدفع بشدّة، والدافق هنا بمعنى المدفوق، وقد شاع هذا الاستعمال عند العرب ولا سيّما عند أهل الحجاز، قال الفرّاء: أهل الحجاز أفعل لهذا مِن غيرهم أن يجعلوا المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب نعت، كقول العرب: هذا سرٌّ كاتم، وهمٌّ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشةٌ راضية، قال: وأعان على ذلك أنّها تُوافق رؤوس الآيات التي هي معهنّ (2) .

والصُلب: العمود الفقري الممتدّ مِن الكاهل حتى العَجْب.

والترائب: جمع تريب وتريبة، أُطلق على عظام متساوية الأطراف ومترادفة التركيب في هيكل الإنسان العظمي، منها الضلوع الكائنة بين الثديين، ومنها العظم الناتئ بين الحاجبين فوق العينين، ومنها العظم المنحني المتساوي الطرفين الكائن بين أُصول الفخذين فوق العانة كما نُقل عن الضحّاك - فيما رواه ابن كثير - قال: الترائب بين الثديين والرجلين والعينين (3) .

____________________

(1) الطارق: 7.

(2) معاني القرآن: ج3 ص255.

(3) تفسير ابن كثير: ج4 ص498.

٤٦٨

وأصله مِن (تِرب) بمعنى تساوي الشيئين، وهو أصل في اللغة، كما قال أحمد ابن فارس (1) ، ومنه الأتراب - جمع التِرب - بمعنى الخِدن، ومنه التريب أي الصدر عند تساوي رؤوس عظامه، ومنه التربات وهي الأنامل لتساوي أطرافها، والواحدة تِربة.

قوله: ( يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَائِبِ ) أي صُلب الرجل وترائبه؛ لأنّ الوَلد إنّما يتكوّن مِن ماء الرجل، أي نطفته لا غير كما قال تعالى: ( خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) (2) والنطفة ماء الرجل ومنيّه يُنزله بشهوة ودِفق، صرّح بذلك أهل اللغة. والأصل: سلالة الماء وزلاله، والأكثر استعماله في النَزر منه؛ وبذلك خُصّ إطلاقه على منيّ الرجل.

قال الراغب: النطفة الماء الصافي، ويُعبّر عن ماء الرجل.

وفي قوله تعالى: ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) (3) ، وقوله: ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ) (4) تصريحُ بأنّه مخلوقٌ مِن ماء الرجل يُنزله في رِحم المرأة، والآيات بهذا الشأن كثيرة (5) .

وقوله: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) (6) أي أخلاط مِن عناصر شتّى.

قال الإمام الرازي: لا شكّ أنّ أَعظم الأعضاء معونةً في توليد المني هو الدماغ، وللدماغ خليفة وهي النخاع، وهو في الصُلب، وله شُعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن، وهو التريبة، فلهذا السبب خصّ الله تعالى هذين العضوين بالذِكر (7) .

* * *

____________________

(1) معجم مقاييس اللغة: ج1 ص346.

(2) النحل: 4.

(3) القيامة: 37.

(4) النجم: 45 و46.

(5) راجع الكهف: 37، والحجّ: 5، والمؤمنون: 13، وفاطر: 11، ويس: 77، وغافر: 67، والإنسان: 2، وعبس: 19.

(6) الدهر: 2.

(7) التفسير الكبير: ج31 ص129 - 130.

٤٦٩

دور الصُلب والترائب في إفراز المني:

النطفة تتكوّن عند الرجل في أنابيب الخصية، ثمّ بعد كمال تكوينها ونضجها تنتقل بالحبل المنوي، إلى الحويصلينِ المنويينِ، ومنهما إلى القناتين الدافقتين، فالإحليل، فإلى خارج الجسم.

والصُلب - حسب علم التشريح - يشمل: العمود الفقري الظهري، والعمود الفقري القطني، وعظم العَجز، ويشتمل مِن الناحية العصبيّة على المركز التناسلي الآمر بالانتعاظ ودفق المني وتهيئة مستلزمات العمل الجنسي، كما أنّ الجهاز التناسلي تعصبه ضفائرُ عصبية عديدة ناشئة مِن الصُلب، منها الضفيرة الشمسية، والضفيرة الخثلية، والضفيرة الحويضية، وتشتبك في هذه الضفائر الجملتان الودّية ونظيرة الودّية، المسؤولتان عن انقباض الأوعية وتوسّعها، وعن الانتعاظ والاسترخاء وما يتعلّق بتمام العمل الجنسي.

أمّا الترائب فقد عرفت أنّ مِن معانيها ما يتّفق مع الحقيقة العلمية، وهي عظام أُصول الأرجل أو العظام الكائنة ما بين الرجلين، كما ذكره ابن كثير نقلاً عن الضحّاك.

وأصبح تفسير الآية - على ضوء هذا التوضيح، كما ذكره الدكتور كنعان الجابي، في كتابه (موجز علم النسج) -: إنّ الماء الدافق الذي هو ماء الرجل. أي المني - يخرج مِن بين صُلب الرجل وترائبه - أي أصول أرجله - وذلك؛ لأنّ معظم الأمكنة والممرّات التي يخرج مها السائل المنوي تقع من الناحية التشريحية بين الصُلب والترائب، فالحويصلان المنويّان - وهما الغدّتان المُفرِزتان - يُشكّل إفرازهما قسماً مِن السائل المنوي، ويقعان خلف غدّة الموثة (البروستات) وإفرازهما ذو لون غنيّ بالفركتوز، كما أنّ لهما دوراً إيجابياً في عملية قذف السائل

٤٧٠

المنوي على شكل دفقات، بسبب تقلّص العضلات الموجودة بهما (1) .

وقال الدكتور حسن هويدي: إنّ في تعبير الآية الكريمة دلالة على تعاون الصُلب والترائب في هذا الإفراز وإخراج السائل المنوي، كعاملينِ لإخراج المني مِن مستقرّه ليؤدّي وظيفته؛ وذلك لأنّه يخرج من بين صُلب الرجل - كمركز عصبي تناسلي آمر - وترائبه - كمناطق للضفائر العصبية المأمورة بالتنفيذ، حيث يتمّ بهذا التناسق بين الآمر والمأمور خروج المني إلى القناتين الدافقتين، وهذا ثابت من الناحية العلمية، ومُوضّح لدور الجملة العصبية، ولابدّ مِن تعاون الجانبين لتدفّق المني، فإنّ تعطّل أحدهما توقّف العمل الجنسي الغريزي (2) .

* * *

____________________

(1) مع الطبّ في القرآن الكريم: ص33.

(2) مجلّة حضارة الإسلام: العدد الأوّل سنة عشرين.

٤٧١

الرجع والصدع وأثرهما الهائل في تكييف الحياة

( وَالسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ ) (1)

الفضاء المحيط بالأرض له خاصّة ارتجاعية، بسبب حالتها الانحنائية الحاصلة لها بفعل الجاذبة الأرضية، وهذا الوضع الدائري للسماء هو الذي أكسبها هذه الخاصّة الارتجاعية، فتُرجع كلّ ما يصعد إليها بشدّة ودفق.

وقد فَهم المفسّرون الأوائل: أنّها تُرجع البخار الصاعد إليها مطراً.

والآن فقد علمنا أنّ الأمواج اللاسلكية والتليفزيونية ترتدّ هي الأُخرى من السماء إذا أُرسلت إليها، بسبب انعكاسها على الطبقات العليا الآيونية، ولهذا نستطيع أن نلتقط ما تذيعه المذاييع البعيدة بعد انعكاسها ونستمع إليها ونشاهدها، ولولا ذلك لضاعت وتشتّتت ولم نعثر عليها، فالسماء أشبه بمرآة عاكسة تُرجع ما يُبثّ إليها، فهي السماء ذاتُ الرجع.

وهي أيضاً تعكس الأشعة الحرارية تحت الحمراء فتُرجعها إلى الأرض؛ لتدفئها.

* * *

____________________

(1) الطارق: 11 - 12.

٤٧٢

والأرض تتصدّع ليخرج منها النبات ونافورات الغاز الطبيعي والبترول وينابيع المياه الكبريتية ونفث البراكين، وتنصدع مع كلّ هزّة زلزالية.

إنّنا مرّةً بعد أُخرى نجد أنفسنا أمام ألفاظ دقيقة، جامعة في معانيها، ومختارة بدقّة، ومصفوفة بإحكام.

وإنّها علمٌ الهيّ نافذ إلى أعماق الطبيعة، وليس علماً بشريّاً مقصوراً على مظاهر الكون دون الوصول إلى أسرارها الكامنة.

فنحن أمام دقّةٍ وإعجاز وعلمٍ شامل.

* * *

ومعنى آخر لعلّه أدقّ وأنسب لِما بين صدع الأرض ورجع السماء من رابطة طبيعية، وهو أن يكون المراد - والله العالم - تراجع السماء في دورة الفَلَك السنوية، بسبب انحراف محور الأرض في دورتها حول الشمس قليلاً عن العمود على مستوى فَلكها (مدارها) ويكون انحرافه بزاوية قدرها (5/23 درجة) ولذلك تأثير على تغيّر مناخ الأرض بنتيجة دورانها حول الشمس، ويؤدّي إلى ما نُسمّيه بتبدّل الفصول الأربعة، فتتصدّع الأرض أي تنفلق - لتُخرج نباتها كلّما تراجعت السماء من فصل إلى فصل، مِن شتاء إلى ربيع فإلى صيف والى خريف، وهكذا بسبب هذا التراجع السماوي وتبدّل الفصول، تتفجّر عيون الأرض وتتدفّق مياهها فتفيض بغزارة الأمطار، أو تغور وتنضب وتجدب الأرض إذا أمسكت السماء قَطرَها.

هكذا يرتبط اختلاف مناخ الأرض باختلاف حركات السماء ربطاً وثيقاً، ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (1) ، ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (2) .

* * *

ومعنى ثالث أعمق وأخفى هي: رجعة الاعتدالين في دورة تستغرق 26 ألف سنة، ومِن جرّائها يَطرأ على الأرض كلّ 13 ألف سنة عظيم في المناخ وفي

____________________

(1) النمل: 88.

(2) القمر: 49.

٤٧٣

سطح القشرة الأرضية مِن صدوع وشقوق وفوالق وجيوب، بسبب ما يحصل مِن تغيير في باطن الأرض مِن هذا التحوّل.

فقد دلّت البحوث الفَلكية على أنّ القطب الشمالي الأرضي لا يتّجه اتّجاهاً ثابتاً إلى نقطة في السماء (النجمة القطبية) بل له دورة حول دائرة متصوّرة في السماء قطرها الظاهري 18 متراً، وتستغرق هذه الدورة 26 ألف سنة.

فإذا تصوّرنا مدّ المحور الأرضي عن القطب الشمالي إلى الفضاء فالخطّ الوهمي هذا ينحرف عن النجمة القطبية اليوم درجةً ونصفاً، فإذا أخذ هذا الخطّ بالاقتراب من النجمة القطبية حتى إذا ما بلغ الانحراف عنها بنصف درجة أخذ بالابتعاد عنها، وهكذا يبتعد ويقترب منها في دائرة تستغرق دورتها ستاً وعشرين ألف سنة، وتُسمى هذه الظاهرة الفَلكية عندهم برجعة الاعتدالين، مطابقة لما جاء في تعبير القرآن ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ) !.

وسبب هذه الدورة أو الرجعة تأثير جاذبتي الشمس والقمر، على القسم المنبعج من سطح الأرض (منطقة خطّ الاستواء الدائري)، كلّ منهما يُحاول إرجاع الأرض إلى مستوى مداره.

فتأخذ نقطة الاعتدال (وهي نقطة الملتقى بين مدار الأرض والدائرة الاستوائية المائلة عن المدار) بالرجوع مِن جرّاء ذلك.

ورجعة الاعتدالين هذه لها أثر عظيم على حياة سكّان الأرض؛ إذ أنّ مِن جرّائها يطرأ على الأرض كلّ ثلاثة عشر ألف سنة تغيير عظيم في المناخ، فنصف الكرة الشمالي يحلّ الصيف فيه الآن والأرض أبعد ما تكون عن الشمس في دورتها حولها، ولذلك كان الصيف معتدلاً، وبالعكس في النصف الجنوبي الذي يكون الصيف فيها شديد الحرّ؛ لقرب الشمس منها، والشتاء في النصف الشمالي الآن معتدلٌ أيضاً لقرب الشمس منه، والعكس في النصف الجنوبي.

لكن بعد 13 ألف سنة يتحوّل المناخان، ويكون اتّجاه الأرض عكس اتّجاهها

٤٧٤

اليوم، فالصيف في النصف الشمالي شديد الحرّ وهو معتدل في النصف الجنوبي، والشتاء على العكس، كلّ ذلك بسبب تبديل المناخ الحاصل بارتجاع نقطة الاعتدالين.

وأمّا الصدع فهو يَنشأ من هذا الرجع أيضاً؛ إذ أنّ دلائل العلم الحديث برهنت على أنّ الزلازل الأرضية تكون صدوعاً وشقوقاً وفوالق في القشرة، بعوامل طبيعية أهمّها رجعة الاعتدالين - أي عدم ثبات القطب الشمالي -. ولا تزال الزلازل تنتاب الأرض كلّ يوم عشرات المرّات العنيفة وأكثرها الخفيفة، تسجّلها مقاييس الزلازل مِن حيث لا يشعر الإنسان بها، وهذه الزلازل كثيراً مّا تحدث شقوقاً وصدوعاً في قشرة الأرض كما هو معروف.

قال رشيد رشدي (مدرّس الجغرافية في المدارس العالية ببغداد): انظر إلى هذا الانسجام والاتّساق، والإعجاز في تعبير الرجع والصدع، والربط الوثيق الطبيعي بينهما، فلو حاول كلّ عباقرة البيان ونوابغ علوم الطبيعة ليأتوا بكلمتين تخلفان هاتين اللفظتين بمعناهما المتّسع الشامل لَما قدروا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (1) .

* * *

٤٧٥

الفضاء يتمدّد توسّعاً مطّرداً مع تضاعف الزمان

( وَالسّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ ) (1)

يقال: آدَ يَأيد أيداً، وزان: باع يبيع بيعاً، بمعنى اشتدّ وقوى وصَلُب. أي بَنَينا السماء بقوّة وإحكام. والإيساع: الإكثار مِن الذهاب بالشيء في الجهات (2) .

وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى حقيقة كونية ظلّت خافية ثلاثة عشر قرناً، حتى ظهرت معالمها في القرن الرابع عشر للهجرة (أوائل القرن العشرين للميلاد) حيث عثر العِلم على ظاهرة التوسّع في عالم النجوم.

إنّ فسحة الفضاء لا تزال تتمدّد وتتوسّع اطّراداً مع توالي الأحقاب، وإنّ مجموعة المجرّات غير العديدة تزداد تلوّياً وانفلاتاً عن بعضها، كأنّها في حركاتها اللولبية أو الحلزونية آخذة بالفرار مِن مراكز دوائرها - إن صحّ هذا التعبير - وبذلك تتوسّع دائرة الوجود المتكوّن مِن هذه الأنجم المتكدّسة في ضلوع المجرّات.

هذا مضافاً إلى ما تتولّد من كواكب على إثر انفجارات هائلة في كرات عظيمة كادت تُشكّل مجموعات شمسية في أحضان المجرّات:

____________________

(1) الذاريات: 47.

(2) مجمع البيان: ج9، ص160.

٤٧٦

عن ابن عبّاس في تفسير الآية: قادرون على خَلق ما هو أعظم منها، أي سماوات هي أعظم ممّا تَرون فوق رؤوسكم بأعين مجرّدة.

لكن الآية نصّت على فعليّة هذا الاتّساع ولا يزال، وليس مجرّد القدرة عليه فحسب (1) .

وأَوّل مَن تنبّه لمطّاطية السماء هو العالم الفَلَكي (آبه جرج لومتر) البلجيكي المتولّد سنة 1894 م، وذلك عام 1927 م. كان أُستاذاً بجامعة (لوون) أبدى نظرته هذه ردّاً على نظرة (أينشتاين) المتوفّى سنة 1955 م، المادّية المحضة للكون، كانت تفرض مِن شكل العالم اسطوانياً محدوداً مِن جوانبه الأربعة: اليمين واليسار والخلف والأمام. أمّا الفوق والتحت فلا نهائيان. هكذا كان (أينشتاين) يفرض شكل العالم.

أمّا (لومتر) فقد ردّ على هذه الفرضية التي تجعل مِن الكون مادّة هامدة لا حِراك فيها، وكذا مِن فرضية (ويليام دوستير)، المتوفّى سنة 1934 م، القائلة بأنّ الكون حركة بلا مادّة.

قال لومتر: هاتان النظرتان لا تترجّح إحداهما على الأُخرى، بل المُترجّح في النظر أنّ هذا الكون يتشكّل مِن مادّة وحركة، ومِن ثَمّ فإنّ له أمداً ونهاية، وإنّه يشبه أن يكون ككرة قديمة ينتفّخ فيزداد توسّعاً وتضخّماً، وينبسط شيئاً فشيئاً عبر الأحقاب.

ونُشرت فرضيته هذه في مجلّة علمية سنوية في (بروكسل) ولكنّها سرعان ما تُنوسيت ولم يعرها أحد باهتمام، غير أنّ الأرصاد الأمريكية في نفس الوقت كانت تعمل في الكشف عن هذه الحقيقة لترى فرضية (لومتر) مِن عالَم الكون بعين شهود.

كان (وستوملون سليفر) مدير المرصد الأمريكي عام 1912م قد أثبت أن أطيافاً جمّة مِن سحابيات حلزونية تتغيّر من جهاتها، وكأنّها بفضل القوّة الطاردة

____________________

(1) لظهور الوصف (المشتق) في فعلية النسبة، لا شأنيّتها.

٤٧٧

آخذة بالفرار والابتعاد مِن عالَمنا الشمسي.

وحقيقة الفرار هذه لفتت مِن نظر الأُستاذ (هوبل اُودون پاول) فقام بجمع أطياف السحابيات الحلزونية، والتي كانت جميعاً تؤيّد نظرية (سليفر)، فعمّم (هوبل) النظرية وأعلن أنّ السحابيات الحلزونيّة آخذة بالفرار جميعاً بعضها من بعض، وسرعة هذا الفرار تتناسب مع الفواصل بينها؛ وبذلك احتارت أنظار العلماء بالنسبة إلى أجرام السماء.

وفي هذا الأثناء عثر الأُستاذ (ادينكتون) على مقال الأُستاذ (لومتر) الآنف، فجعل يطالعه بنَهمٍ وحرص شديد، معترفاً بصدق الحقيقة التي اكتشفها (لومتر) مِن ذي قبل، واتّضحت لديه ظاهرة التمدّد في عالم الكون، وكان ذلك تحوّلاً في فرضية عالم النجوم؛ ومِن ثَمّ قام (ادينكتون) عام (1931) بنظيم نظرة (التوسّع الكوني) وتقديمها إلى جامعة لندن كحقيقة ثابتة من عالم الوجود.

وخلاصة النظرة: أنّ عالم المجرّات - وهي تفوق الملايين - قد تحوّلت مِن حالتها الهامدة التي كان يفرضها (أينشتاين) في شكلها المنحني إلى صورة كرة دائرية تتضخّم وتتوسّع شيئاً فشيئاً، وسرعة هذا التوسّع تبلغ في شعاع مطّرد مع ضعف الزمان، ففي مدّة ملياردَي عام (عمر الأرض) ازداد هذا الشعاع بضعف، وهي سرعة هائلة يطّرد معها توسّع الكون وانبساط هذا الفضاء الرحيب (1) .

قال الأُستاذ رشيد رشدي: والكون برحبه الفسيح آخذٌ في التوسّع، كما بَرهن عليه التحقيق العلمي الحديث، ودلّت عليه الآية الكريمة ( وَالسّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ ) ولام التأكيد هنا لا تحتاج إلى توضيح في الدلالة على حتمية هذه التوسعة وعلى استمرارها في الأكوان والعوالم السماوية، فيا لها مِن معجزة قرآنية (2) .

وقال سيّدنا الطباطبائي (قدس سرّه): ومِن المحتمل أن يكون (موسعون) مِن (أوسع

____________________

(1) راجع تاريخ العلوم تأليف (پى ير روسو) ترجمة حسن صفّاري بالفارسية: ص862 - 868.

(2) بصائر جغرافية: ص301.

٤٧٨

في النفقة) أي كثّرها، فيكون المراد: توسعة خَلق السماء، كما تَميل إليه الأبحاث الرياضية اليوم (1) .

* * *

هذا، ولكن غالبية المفسّرين حملوا التوسعة هنا على الغنى والسعة في الرزق، كما في قوله تعالى: ( يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ ) (2) وبقرينة قوله قبل ذلك ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (3) ، وقوله بعد ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (4) .

نعم، هو معنى مجازي للتوسعة، أخذاً مِن التوسعة في المكان للتوسعة في الحال، قال الراغب: السعة تقال في الأمكنة وفي الحال وفي الفعل، كالقدرة والجود ونحو ذلك، ففي المكان نحو قوله: ( إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ) (5) ، وفي الحال قوله تعالى: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) (6) ، وقوله: ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ) (7) والوسع مِن القدرة ما يفضل عن قدر المكلف. والوسع الجدة والطاقة... وأوسع فلان: إذا كان له الغنى وصار ذا سعة.

هكذا روي عن الحسن في تفسير الآية، قال: وإنّا لموسعون الرزق على الخَلق بالمطر (8) .

غير أنّ هذا المعنى المجازي للسعة يتوقّف على مجاز آخر في كلمة (أيد) مجازاً مِن القدرة إلى النعمة، كما ذكره سيّدنا الطباطبائي، وهو مجاز شايع أيضاً.

وسياق الآية عَرض لمظاهر قدرته تعالى في الخلق والتدبير، ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) (9) ومِن ثَمّ جاء تعقيبها بقوله: ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (10) .

____________________

(1) تفسير الميزان: ج18 ص414.

(2) النساء: 130.

(3) الذاريات: 22.

(4) الذاريات: 58.

(5) العنكبوت: 56.

(6) الطلاق: 7.

(7) البقرة: 236.

(8) مجمع البيان: ج9 ص160.

(9) فاطر: 1.

(10) الذاريات: 50.

٤٧٩

تخلخل الهواء في أطباق السماء وعندها تتضايق الأنفاس

( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعَدُ فِي السّماءِ ) (1) .

التصعّد: محاولة أمر شاقّ بتكلّف وتحرّج، يقال: تَصعّده الأمرُ وتصاعده أي شَقّ عليه وصَعُب.

وقد ذكر المفسّرون في معنى الآية وفي وجه هذا التشبيه الغريب: أنّ مَن يرد الله خذلانه يتركه وشأنه، ومِن ثَمّ يمنعه مِن فيض ألطافه، فيقسو قلبه وينبو عن قبول الحقّ وعن الاهتداء إلى جادّة الصواب، فعنده يجد قلبه مطموساً مغلقاً عليه أبواب الرحمة ومنافذ النور، فيجد نفسه في تضايق مِن الحياة ويتحرّج عليه العيش، فحالة هكذا إنسان متعوس، تُشبه حالة مَن يُحاول أمراً ممتنعاً عليه فيتكلّفه مِن غير جدوى، كمحاولة الصعود إلى أطباق السماء، ونتيجته ضيق النفس وكربة الصدر والرهق المُضني لا غير.

وهذا التفسير كان يصحّ لو كان التعبير (كأنّما يَصّعّد إلى السماء) لكن التعبير

____________________

(1) الأنعام: 125.

٤٨٠