تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 93357
تحميل: 8477


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93357 / تحميل: 8477
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والسحاب الممطر لا يَعدو النوعين، والعرب تُسمّي السحاب الممطر باسم (المُزن)؛ ولذلك فمِن الوجهة العلمية هناك المُزن الرُكامي والمُزن البساطي (الطبقي)، قال تعالى، ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) (1) .

السُحب الرُكامية:

والسُحب الرُكامية هي النوع الأهمّ مِن السحب؛ لأنّها قد تمتدّ عمودياً (رأسياً) عبر (15) أو (20) كيلومتراً، فتصل إلى طبقات مِن الجوّ بارد جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى (60) أو (70) درجة مئوية تحت الصفر.

وبذلك يتكون (البَرَد) في أعالي تلك السحب، والمعروف علمياً أنّ نموّ البَرَد في أعالي السحب الرُكامية يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائية سالبة، وأنّه عندما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائية موجبة، وعندما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق، وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ الذي يُحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدِثاً الرعد، وما جلجلة الرعد إلاّ عملية طبيعية بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث مِن قواعد السحب لصوت الرعد الأصلي.

وقد يحدث في بعض العواصف أن يتكرّر حدوث البرق داخل السحابة 40 مرّة في الدقيقة الواحدة، أمّا إذا حدث التفريغ الكهربائي بين السحابة وأيّ جسم مرتفع على سطح الأرض فإنّه يُسمّى (صاعقة).

وتحدث عواصف الرعد في كافّة أرجاء الأرض ما عدا المناطق القطبية،

____________________

(1) الواقعة: 68 - 69.

٥٠١

حيث ضآلة حجم الهواء بالنسبة إلى خطّ الاستواء.

وقد وُجد بالحساب أنّ عدد عواصف الرعد التي تحدث في جوّ الأرض في يوم واحد يبلغ أكثر من 40 ألفاً، أي بمتوسط قدره 1800 عاصفة في الساعة، وتستهلك العاصفة في المتوسط نحو (2/2) مليون كيلو وات ساعة (1) .

* * *

____________________

(1) الله والكون: ص146 - 161.

٥٠٢

التبخّر والإشباع والتكاثف

( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ) (1)

عوامل ثلاث لنزول المطر: لحصول المطر عوامل ثلاث لا غيرها، إذا توفّرت لابدّ من نزول المطر، وإذا نقص عامل منها فلا إمكان لحصوله، وتلك العوامل هي:

1 - التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، ليؤدّي إلى تكوين سحاب.

2 - وصول الهواء المتحمّل للبخار إلى درجة الإشباع المختلف حسب المناخ.

3 - التكاثف ، وضدّ عملية التبخّر، ليتحوّل البخار إلى ذرّات الماء.

وهذا الترتيب على التعاقب ممّا لا محيص عنه لتكوين المطر ونزوله، وهو مِن بديهيّات العلم المقطوع به والمفروغ عنه بلا ريب، وإليك شرح هذه العوامل باختصار.

(أَوّلاً) التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، وانتقاله إلى الهواء،

____________________

(1) النور: 43.

٥٠٣

وذلك بتأثير حرارة الشمس على السطوح المائية المتوسّعة، كالمحيطات والبحار والبحيرات والمستنقعات والأنهار، بل وحتّى السطوح الثلجية والجليدية، بل وحتّى على أوراق الأشجار والنباتات وخاصّة الغابات.

(ثانياً) الإشباع ، وهو استمرار التبخّر حتى يبلغ حدّاً معيّناً، ويُسمّى بدرجة التشبّع، وتختلف حسب اختلاف المناخ، فكلّما اختلفت درجة الحرارة اختلفت درجة التشبّع اللازمة لتكوين الأمطار، فالهواء الحارّ في درجة التشبّع يحوي مقداراً مِن البخار أعظم ممّا يمكن أن يحويه الهواء البارد، فكمّية الرطوبة التي تكفي للتشبّع في درجة 15 م مثلاً لا تكفي للتشبّع في درجة 20 م، وإذا كان الهواء متشبّعا قيل: إنّ نسبة رطوبته 100%.

وبعبارة أوضح: إنّه حيثما وُجد الماء والهواء فإنّه يحدث تبادل بين جزئيات أحدهما مع الآخر، فتمرّ جزئيات الماء عن طريق التبخّر إلى الهواء، كما تمرّ جزيئات الهواء إلى الماء؛ ولذلك يوجد دائماً مقدار مِن بخار الماء في الهواء، كما يوجد مقدار مِن الهواء في الماء.

وإذا كان مقدار البخار الذي في الهواء قليلاً فإنّ الجزئيات البخارية التي تتصاعد من الماء تكون أكثر من جزيئات الهواء التي تمرّ إلى الماء، وعلى ذلك فإنّ عملية التبخّر تستمر ولكن إذا كان مقدار ما في الهواء من البخار كثيراً فإنّ تبادل الجزيئات بين الماء والهواء يكون متساوياً، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء متشبّع بالبخار المائي، أو إنّه في درجة الإشباع، أي لا يستطيع أن يحمل أكثر ممّا هو معلّق به مِن البخار.

فدرجة الإشباع تتوقّف على التساوي والتعادل في تبادل جزئيات الماء والهواء والتآلف بينهما.

ومن ناحية أُخرى - ذات أَهميّة كبرى - أنّ درجة التشبّع تتوقّف على ظاهرتين طبيعيتين أُخريينِ، لابدّ منهما في وصول الهواء إلى حالة الإشباع الكافي:

٥٠٤

الظاهرة الأُولى: هي التساوي في الضغط، فلبخار الماء المتصاعد ضغط كما لبخار الهواء المتشبّع ضغط، فإذا تساوى الضغطان فالتبخّر والتكاثف يتعادلان، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء مشبّع بالبخار الكافي، والمطر نتيجة لازمة لهذا التعادل.

والظاهرة الثانية: هي اتّحاد الكهربائيتين، فإنّ السحب ذوات تكهربٍ، وكل سحاب يحمل نوعاً من نوعي الكهرباء السالبة والموجبة، فإذا ما تقارنت السحب واختلف نوع الكهرباء فيها تجاذبت، وإلاّ تنافرت، شأن الكهرباء عموماً يتجاذب نوعان منه ويتنافران من النوع الواحد.

واجتماع السحب وتأليف بعضها مع بعض إنّما هو بفعل الرياح، تُثير السحب مِن مكان إلى مكان، فإذا جمعت الرياح بين نوعين من الكهربائية ذوات الموجبة وذوات السالبة فعند ذلك تتجاذب بعضها إلى بعض وتتقارب وتتآلف، وبذلك يحصل اللقاح الناتج للإمطار، ( وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) (1) .

يا ترى مَن ذا كان يعرف هذه الظاهرة الطبيعية يومذاك؟! أن تقوم الرياح الباردة فتثير سحاباً، وهي تدفع السحب المُكهرَبة إلى لقاء بعضها مع بعض، وتُلقى بالسحابة السالبة التكهرب بين اذرع سحابة أُخرى موجبة التكهرب، وبذلك يحدث عملية اللقاح، الناتجة للبرق والرعد ونزول المطر الغزير، فيخصب الأرض ويمهّدها للإنبات، وهي عملية أُخرى للّقاح في التربة الصالحة، بين الماء والأرض (2) .

____________________

(1) الحجر: 22.

(2) فيكون تلقيح مِن نوع ثالث هذه المرّة، تلقيح بالمعنى الحرفي للآية الكريمة.

فنحن أمام كلمة صادقة مجازاً كما حمله المفسّرون القدامى، وصادقة حرفياً كما أثبته العلم متأخّراً، وعلى أي صورة قلّبتها فهي تصدق معك، وهي بعدُ كلمة جديدة وغريبة، وصفة مبتكرة حينما تُوصف بها الرياح =

٥٠٥

(ثالثاً) التكاثف ، وهو عكس عملية التبخّر؛ ليتحول بخار الماء مِن الحالة الغازية إلى حالة السيلان، فتنقلب ذرّات البخار إلى قطرات مائية دقيقة... إذا كانت درجة الحرارة فوق الصفر المئوي، أو حالة جليدية برداً أو ثلجاً، إذا كانت درجة الحرارة تحت الصفر، الأمر الذي يعجز الهواء عن حمله، فتتساقط القطرات مطراً.

وهذا التكاثف إنّما يحدث إذا ما تصاعد الهواء المتشبّع ببخار الماء في طبقات جوّية ذات الضغط الأعظم، فبأثر الضغط العالي يتمدّد الهواء ويفقد جزءً كبيراً مِن حرارته، وبذلك يبرد وتنخفض درجة حرارته، درجةً واحدةً مئويةً كلّما ارتفع 170 متراً.

غير أنّ هذه النسبة تَطَّرد حتّى ارتفاع 5 كيلومترات عن سطح البحر، وبعده تتغيّر هذه النسبة فتأخذ بالنقص باعتبار درجة واحدة مئوية لكل 100 متراً ارتفاعاً، وتستمرّ هذه النسبة إلى ارتفاع 12 كيلو متراً حيث توجد طبقة هوائية ثابتة الحرارة، تبلغ درجة حرارتها 55 درجة مئوية تحت الصفر.

والسحب تنعقد على ارتفاعات لا تزيد على 6 أو 7 كيلومترات عن سطح البحر في الأغلب.

وعملية التبريد هذه بالتمدّد هي إحدى العوامل الفعّالة في إحداث التكاثف.

وكذلك يبرد الهواء بشعّ حرارته كلّما لامسَ جسماً بارداً في الجوّ أو على سطح الأرض مثل الثلج والجليد، أو إذا تقابل مع هواء أبرد، والشعّ ذو أثر فعّال في تبريد الهواء وتكاثفه، وخاصّة إذا هبّت الرياح من جهة حارّة إلى جهة باردة.

وفي الحقيقة ليس الهواء هو الذي يبرد بهذه الطريقة، ولكنّه (الهباء) الكثير

____________________

= وهي بعدُ من الناحية الجمالية الإيقاعية ذروة، وفي النطق بها عذبة: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) تنطقها وتلوكها في فمك، فتستوقف السمع وتُطرب الأُذن.

.. وكل هذا العلم التفصيلي في تكهرب السحاب وانتقال حبوب اللقاح لم يكن معلوماً أيام نزول الآية، فتدبّر.

٥٠٦

المنتشر في الهواء، فيتّخذ البخار لنفسه مراكز من هذا الهباء، يلتفّ حولها، ويتكوّن حول كلّ مركز قطرة، فإذا اشتدّت برودة الجوّ الملبّد بالسحب استمرّ التكاثف، فتنضمّ قطرات السحب المائية إلى بعضها، فيعجز الهواء عن حملها، فتتساقط أمطاراً على سطح الأرض بفعل جاذبيّتها.

* * *

فقد تبيّن أنّ المطر لا يحصل إلا إذا توفّرت الشرائط الثلاثة متعاقبة: التبخّر فالتشبّع فالتكاثف.

وهذا هو الذي دلّت عليه الآية الكريمة المنوّه عنها في صدر المقال، فقد جاءت بوصف موجز مدهش، ومحيّر للعقول.

عبّرت أولاً بقوله تعالى: ( يُزْجِي سَحَاباً ) (1) إشارة إلى عملية التبخير وتكوين السحب والإزجاء هو عملية إثارة السحب وانتشالها بصورة أبخرة من البخار.

( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً... ) (2) لأنّ الرياح بهبوبها على سطح البحار هي التي تُسبّب التبخير والتدافع بها لتتصاعد وتتكاثف وتتكوّن سحباً.

* ثمّ عبّرت عن عملية التشبّع بقوله تعالى: ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) (3) لانّ درجة الإشباع الكافي إنّما تتوقّف على حصول التعادل وتساوي تبادل الجزئيات بين الماء والهواء.

وما هذا إلاّ التآلف والتعاضد بين تلك الجزئيات.

ومن ناحية أُخرى، لا يحصل التشبّع إلاّ بالتعادل والتآلف بين ضغطي بخار الماء وبخار الهواء، أو الاتّحاد بين نوعي الكهربائية كما سبق بيانه.

وعليه فإنّ أصدق تعبير عن هذه الظاهرة هو وصف التأليف، الذي جاء وصفه في العلم بالتشبّع.

____________________

(1) النور: 43.

(2) الروم: 48.

(3) النور: 43.

٥٠٧

* ثم جاءت بقوله تعالى: ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ) (2) ، وهذا ابلغ تعبير عن عملية التكاثف الذي حقّقه العلم.. إذ لا تفسير للركام سوى التكاثف وتراكم بعض الشيء على البعض مع ضغطٍ يقال: تراكم الشيء أي اجتمع بعضه مع بعض بكثرة وازدحام، والركام: المتراكم بعضه فوق بعض بضغط.

وبعد، فإذا ما تحقّقت الشرائط الثلاثة فعند ذلك: ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (3) الودق: المطر.

* وقد فَصل تعالى بين العمليّات الثلاث بـ (ثمّ)؛ لأنّ كلّ عملية إنّما تحصل بتعاقبٍ مع فترة، أمّا النتيجة - وهو الإمطار - فجاءت بالفاء: تعاقبٌ بلا تأخير، وهو الفور في حصول نتيجة عملية الإمطار.

فيا له من دقيق تعبير، وسبحانه من عليم خبير.

* * *

٥٠٨

الماء الأُجاج

( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (1)

هل في سنن الكون أن يتحولّ ماء المطر - الذي هو أنقى المياه وأعذبها - إلى ماء أُجاج لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه؟

الآية قبلها تنصّ على أنّ الماء الذي يشربه الناس والدوابّ - وحتّى الذي يُسقى به الزرع والنبات - هو الماء النازل من السماء: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ (2) أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ) (3) .

* * *

إنّك تعرف أنّ الأرض رُبعها يابس وثلاثة أرباعها ماء، هذا الماء كلّه مالحٌ أُجاج، لكنّ الله تعالى بفضله ورحمته يقطر للإنسان والحيوان النبات من هذا الماء الأُجاج ماءً عذباً فراتاً سائغاً للشاربين، أمّا جهاز التقطير فليس كمثله جهاز، البحار كلّها في ذلك دَست (4) لا يسخن من تحت، كما يفعل الإنسان في تقطيراته

____________________

(1) الواقعة: 70.

(2) المزن: السحاب المشبّع بالماء.

(3) الواقعة: 70.

(4) أي القدر، وهو كلّ ما يغلى فيه الماء.

٥٠٩

التافهة.. ولكن يسخن من فوق بنار تفوق حجم الأرض بآلاف المرّات، فإذا ما تبخّر الماء بحرارة الشمس تكثّف في مكثف ناهيك من مكثف الجوّ المحيط كله والجبال، والرياح مستمرّة دائبة في حمل هذا البخار المتكاثف ونقلها إلى حيث يشاء الله، فإذا أمطرت السماء وسالت الأودية وفاضت الأنهار وحملت الخصب والنماء إلى الأقطار تبخّر بعض الماء وامتصّت الأرض منه بعضاً وصار باقيه إلى البحر الذي كان منه مصعده، لكن ليس شيء من الماء بضائع! فما تمتصّه الأرض تتفجّر به بعدُ عيوناً، ويتبخّر من الماء العذب أو يصير إلى البحر، فهو في حرز حريز من الضياع؛ إذ مآله أن يصير مرّة أُخرى ماء يحيى به الناس والأنعام، وتحيى به الأرض بعد موتها، فالماء بين البحر والجوّ واليابسة في دورة متّصلة، لا انقطاع فيها ولا تنتهي أبداً، إلا أن يشاء الله، هو ربّ كل شيء.

هكذا يتحوّل الماء من أصلٍ مالحٍ أُجاج إلى مقطّرٍ عذبٍ فرات، في جهاز تقطير كهذا الجهاز العظيم في جوّ السماء.

* * *

وبعد، فهل هناك ما يحول دون هذا التحوّل في الماء؟ فينزل من السماء أُجاجاً لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه.

أجاب العلماء: نعم، إنّ في الجو من العوامل ما يمكنها الحؤول دون هذا التحوّل والانقلاب، لولا رحمته تعالى بالعباد، وقد جعل حواجز دون هذا الحؤول.

جاء في كتاب (سنن الله الكونية) للعلاّمة محمّد أحمد الغمراوي (1) .

إنّ عذوبة الماء الذي يسقيهم الله إيّاه من السحاب هي بمحض رحمته تعالى، إنّ الماء طبعاً عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنّه أنقى المياه، لكن طبيعة تكوّنه من السحاب تُعرضه لأن ينقلب أُجاجاً لا ينتفع به الإنسان.

____________________

(1) نقلاً عن كتاب بصائر جغرافية: ص220.

٥١٠

وذلك لأنّ الهواء خليط عن عناصر عدّة تختلف نسبة وجودها مع البعض، وأهمّ تلك العناصر هو النتروجين (الآزوت)، ونسبة وجوده في الهواء تعادل (21/78) بالمئة. ثمّ الأوكسجين، ونسبة وجوده (96/20). والارجون (79%)، وثاني اوكسيد الكاربون (4%).

وعناصر الهواء موجودة فيه بصورة اختلاط ميكانيكي، وليست ممزوجة امتزاجاً كيماوياً، ومعنى ذلك أنّها لا تتفاعل مع بعضها، وأنّ كلاً منها محتفظ بكيانه مستقلاً كأن لا وجود للعناصر الأُخرى.

وفي هذا من الحكمة البالغة والنعمة السابغة مالا يكاد يخفى... إذ لولا ذلك لاكتسب الهواء مميّزات وخواصّاً كيماوية أُخرى تختلف عن مميّزاته الحالية، فلم تكن تصلح للحياة بشكلها المعروف، وتنوّعاتها التي نشاهدها على سطح الكرة.

خذ مثلاً أنّ غاز الآزوت لا يتّحد مع غيره اتّحاداً كيماوياً إلاّ بصعوبة وبشرائط ملائمة خاصّة، فيتّحد في مثل هذه الظروف مع غاز الأوكسجين مكوّناً ما يُسمّونه بحامض الآزوتيك أو النتريك، وهو ما يُعرف عند القدماء بماء الفضّة، وهو أقوى الحوامض وأضرّها على حياة الإنسان بالذات فلو كان الغازان يمتزجان مع بعضهما امتزاجاً كيماوياً بسهولة ويسر وبلا واسطة أعمال كيماوية، لانقلب الجوّ جهنّم سعيراً؛ لأنّه بذلك كان الغازان يستحيلان في الجوّ حامضاً فتّاكاً، ولأمطرت السماء ماء الفضة بدلاً من الماء العذب الفرات، وما هو إلاّ شواظ من نار ولهيب جهنّم لا يُبقي ولا يذر، فسبحانه وتعالى من رءوف رحيم.

( قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (1) .

* * *

وإذ قد عرفت أنّ أربعة أخماس الهواء هو الآزوت (النتروجين) وهذا الغاز لا

____________________

(1) يونس: 58.

٥١١

يكاد يتّحد في العادة بشيء ولا بالأوكسجين الذي يكاد يتّحد بكلّ شيء لكنّ الكيماويين وجدوا أنّهم يستطيعون بالكهربائية أن يُحوّلوا الآزوت غير الفعّال إلى آزوت فعّال يتّحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية، كما وجدوا أنّهم يستطيعون أن يحملوا الآزوت على الاتّحاد بالأكسجين بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتّحاد ينشأ بعض أكاسيد للآزوت، قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتّحد به وكوّن حمضين آزوتيين، أحدهما: حمض الآزوتيك (أو ماء النار) كما كان يُسمّيه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني، وقليلٌ من حمض الآزوتيك في الماء كافٍ لإفساد طعمه.

وأظنّك الآن بدأت تُدرك الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماءً أُجاجاً من غير خرق لنواميس الطبيعة ولا تبديل لسنّة الله التي جرت في الخلق، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكوّن به المطر، وكلّ الذي يلزم أن يتعدّل التفريغ الكهربائي أو يتكرّر في الهواء تكراراً يتكوّن به مقدار كافٍ من الأكاسيد الآزوتية يذوب في ماء السحاب ويُحوّله حمضياً لا يستسيغه الناس.

وهذا هو موضعٌ مَنَّ الله على الناس، إنّه يُكيّف التفريغ بالصورة التي يُنزل بها المطر، ولا يَؤجّ بها الماء.

إنّ شيئاً من ذينك الحمضين لابدّ أن ينزل في ماء العواصف، وهذا ضروريّ لحياة النبات، لكنّ الله برحمته وحكمته قدّر تكوينه بحيث لا يتأذّى به إنسان ولا حيوان، ولو شاء الله لكثّره في ماء المطر فأفسده على الناس.

وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها فإنّ قوله تعالى: ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التي يتكوّن بها المطر، يفهمها مَن يفقه تلك الحقائق السابقة، ومَن يعرف أنّ الطريق الكهربائي هو أحد الطرق العلمية التي يمكن بها تحويل الآزوت الجوّي إلى حمضي، فسبحان الذي أتقن صُنع كلّ شيء وأحكمه إحكاماً.

* * *

٥١٢

( وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) (1)

( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم ) (2)

عبّر القرآن الكريم عن الجبال بالأوتاد، وأبان عن وجه الحكمة فيها هي محافظة الأرض دون أن تضطرب بأهلها، فكيف هذا الإيتاد؟ وكيف ذاك الميدان الذي حال دونه وجود الجبال؟

ولفهم هذا الجانب من السؤال لابدّ من النظر في تعابير القرآن أوّلاً، ثمّ ما تعرضه معطيات العلم الحديث.

جاء التعبير بالرواسي عن الجبال في تسع آيات (3) ، وكانت العاشرة قوله تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (4) .

والوَتد: المِسمار وكلّ ما رُزّ في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه ليُمسك به الشيء كالخباء وشبهه.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأرزّها فيها أوتاداً) (5) أي أثبت الجبال في الأرض

____________________

(1) النبأ: 7.

(2) الأنبياء: 31.

(3) الرعد: 3، والنمل: 61، والحجر: 19، وق: 7، والنحل: 15، ولقمان: 10، والأنبياء: 31، وفصّلت: 10، والمرسلات: 27.

(4) النازعات: 32.

(5) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة رقم 186 ص275.

٥١٣

ثبوت الأوتاد رسوخاً وإحكاماً.

قال (عليه السلام): (ووتّد بالصخور ميدانَ أرضه) (1) أي ثبّتها فيها لتحول دون اضطرابها، والميد والميدان: الحركة والاضطراب ضدّ السكون والهدوء.

وفي خطبة أُخرى أوضح هذا المعنى بتفصيل أكثر، قال:

(وجبلَ جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست قواعدها في الماء، فأنهد جبالَها عن سهولها، وأساخ قواعدَها في متون أقطارها، ومواضعَ أنصابها، فأشهق قِلالَها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان مَن أمسكها بعد موجان...) (2) .

واليك شرح الغريب من ألفاظ الخطبة:

جلاميد: جمع جلمود، وهو الصخر الصلب. وجَبل الشيء بمعنى خَلقه وفطره، ومنه الجِبلّة بمعنى الفطرة وأصل الخِلقة.

وأنهد الشيء: رفع به وعظّمه. ومنه النهد بمعنى الثدي. يقال: نهد الثدي أي كَعب وانتَبَر وأشرف.

والأنصاب: جمع نصب هي مواضع نصب الجبال.

وساخ في الشيء: غاص فيه ورسب. وساخ بالشيء: انخسف به. والموجان: الهياج.

* * *

وأمّا ما يُستفاد من هذا الكلام الذهبي فشيء كثير، نُشير إلى ما يخصّ المقام من دلائل جلائل:

____________________

(1) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطب الأُولى ص39.

(2) المصدر السابق: الخطبة رقم 211 ص328.

٥١٤

قوله (عليه السلام): (ورست قواعدها) أي رسخت أُصول الجبال في أعماق الأرض حيث المياه الجوفية، ولعله إشارة إلى جذور الجبال متّصلةً بعضها ببعض، المُعبّر عنها بسلاسل جبلية محيطة بالأرض.

قوله: (فأنهد جبالَها عن سهولها) كأنّه إشارة إلى مبدأ حدوث الجبال على سطح الأرض، بعد أن كان مستوياً، فتجعّد على أثر برودة القشرة، فكانت نتؤات وانخفاضات؛ وبذلك انقسم وجه الأرض إلى مرتفعات شامخات وهضبات، والى وديان وسهول.

وقوله: (وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها) أصرح في الدلائل على السلاسل الجبلية المكتنفة بالأرض من جميع أقطارها.

قوله: (وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً)؛ لأنّها هي التي حالت دون تفتّتها، ودون اضطراب قشرتها، ودون خروجها عن مداراتها..

تلك ثلاث خِلال، جاءت في وصف الإمام (عليه السلام)، لبيان حكمة نتوء الجبال وتسلسلها الماسكة بأكناف الأرض، وإليك شرح هذا الجانب:

قال (عليه السلام): (فسكنت على حركتها مِن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها..) تلك ثلاث فوائد وحِكم جاءت في كلامه:

(أَوّلاً) هدأت - رغم حركتها الانتظامية - من الميدان والاضطراب، فهي تتحرك بهدوء واتّزان، لا ترتعش ولا تميد ولا تضطرب.

(ثانياً) هدأت واطمأنت واستحكمت قشترها وصَلُبت، فلا تسيخ ولا تنخسف ولا تتشقق قشرتها، وإلاّ لأصبحت قشرة الأرض كلّها براكين وفوهات ونافورات بالموادّ المنصهرة والجلاميد المذابة.

(ثالثاً) هدأت وانتظمت في حركاتها الوضعية والانتقالية على أنحائها وأنواعها، والتي بها انتهجت الحياة عليها منهجها الرتيب، فلا تميل عن مواضعها في دوائرها الدائرة فيها بانتظام.

٥١٥

هذه ثلاث حِكم بينّها الإمام (عليه السلام) أثراً لوجود سلاسل الجبال في الأرض، الأمر الذي يدعمه العلم باكتشافاته وبحوثه وتجاربه.

وتوضيحاً لهذا الجانب نقول: إنّ الأثر العظيم للجبال - في إمكان الحياة على وجه الأرض - إنّما يُعلّله جانب صخرية السلسلة الجبلية المنبثّة في القشرة الأرضية الصلبة، والمتشابكة بعضها مع بعض كأطواق محيطة بأكناف الأرض.

ومِن ثَمّ فالذي يلفت إليه كلام الإمام (عليه السلام) في أُولى خطب نهج البلاغة هو تبديل التعبير بالجبال إلى التعبير بالصخور، قال: (ووتدّ بالصخور ميدان أرضه)، تفسيراً لقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (1) وهو جانب ذو أهمّية كبيرة؛ حيث الأمر مرتبط بصخرية السلاسل الجبلية دون سائر جوانبها، الأمر الذي يستلفت الأنظار.

وإليك بعض الكلام عن السلسلة الصخور الجبلية، ودورها في توازن الأرض وانتظام حركتها.

إنّ لسلسلة الصخور الجبلية - رافعة وخافضة - دورها الخطير في توازن الأرض وتماسك أجزائها، وهكذا ثبات قشرتها وصلابتها دون تلوّيها واضطرابها، رغم توهّج باطنها والتهاب لظاها.

ومَن درس علوم الطبيعة يعلم أنّ الأرض مطوّقة بأطواق من السلاسل الجبلية التي جعلت الأرض أشد تماسكاً، وقد يعرف حكمة وجهة امتدادها وكيفية اتّصالها مع بعضها، بحيث تكوّنت منها أطواقٌ جبلية طوّقت الأرض تطويقاً على نظام بديع متقن ممّا يستلفت الأنظار، فإذا نظرنا إلى خارطة عالمية طبيعية فيها التضاريس الأرضية ظاهرة ظهوراً جلياً نرى السلاسل الجبلية تمتدّ في كلّ قارّة على طولها بصورة عمومية لا على عرضها، فتكون بمثابة عمود فقري لكلّ منها،

____________________

(1) الأنبياء: 31.

٥١٦

وحتى إذا لاحظنا أشباه الجزائر في كلّ قارة فلابدّ أن نرى السلاسل ممتدّة على أطول قسم منها، وكذلك الجزائر الجبلية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، امتّدت فيها السلاسل على طولها أيضاً.

وقد ثبت بصورة قطعية، وذلك عن طريق سبر قاعات البحار والمحيطات، إنّ الغالب من الجزائر ومرتفعاتها ما هي إلاّ امتداداً للسلاسل الجبلية وجزءً منها، حيث انغمر قسمٌ بماء البحر وبقي القسم الآخر كجزائر ظاهرةً على سطح الماء.

فالقارّات كلّها تتّصل بعضها ببعض بسلاسل جبلية عن طريق البر أو البحر.

وممّا يستلفت الأنظار أيضاً وجود طوق من السلاسل تحت البحر قليلاً قرب الساحل الشمالي للقارّات الثلاث الشمالية، يُطوّق المحيط المتجمّد القطبي الشمالي تطويقاً، وقد ظهرت منه كثير من الجزر التي تحفّ بهذا الساحل.

ويقابل ذلك من الجهة من الأرض طوق آخر من السلاسل يُطوّق القارّة القطبية المنجمّدة الجنوبية، وترتبط بالطوقين المذكورين ارتباطاً وثيقاً أطواقٌ أُخر لسلاسل جبلية ممتّدة في القارّات وفي المحيطات من الشمال إلى الجنوب، كأنّها إطارات تشابكت بعضها ببعض، فاستمسكت بعُرى الأرض دون التفتّت والانبثاث وتفرّق ذرّاتها هباءً في الفضاء (1) .

* * *

ومن جانب آخر كانت الأرض ذات لهب في باطنها، إنّها نارٌ موقدة ذات تغيّض وزفير، تكاد تميّز من الغيظ، وتحاول تحطيم القشرة المحيطة بها لولا صلابتها وسمكها الثخين، وما هذه الزلازل ونافورات البراكين إلاّ جانباً ضئيلاً من تلك الثورة والفورة النارية والمتوهّجة في باطن الأرض.

إنّ صلابة القشرة الأرضية العليا - التي بردت منذ أحقاب من الزمان - هي التي كفحت من جِماح باطنها المتوقّد، ولولا صلابتها وضخامة سمكها لتلوّت

____________________

(1) بصائر جغرافية: ص100 - 104.

٥١٧

واضطربت اضطراب الأَرشية، ولكانت الزلازل والهزّات الأرضية مستمرة على أشدّها، ولعمّت وجه الأرض كلّها، هذا إلى جانب أخطار خسف الأرض بأهلها وتشقّق أكنافها، لولا أنّ الله تعالى أمسكها بفضله وأسكنها برحمته، ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (1) .

هكذا قال سيّدنا الأُستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) عند قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) -: فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً بالزلازل، ولولاها لاضطربت الأرض بقشرتها (2) .

قال سيّد قطب: الآية تُقرّر أنّ هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد بهم ولا تضطرب وحفظ التوازن يتحقّق في صور شتّى، فقد يكون توازناً بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة، وقد يكون بروز الجبال في موضعٍ معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر... وعلى أيّة حال فهذا النصّ يُثبت للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها، فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتمّ بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل (3) .

* * *

وقال الأُستاذ الطنطاوي: مرّت على الأرض أدوار ستة مُقسّمة إلى 26 طبقة، والدور الأَوّل منها كان عبارة عن الزمن الذي كُوّن فيه على الكرة الأرضية النارية قشرةٌ صوانية (4) صُلبة، ومعلوم أنّ الأرض كانت ناراً ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية، وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض

____________________

(1) فاطر: 41.

(2) الميزان: ج14 ص305.

(3) في ظِلال القرآن: ج5 ص531.

(4) ضَرب من الحجارة فيه صلابة يتطاير منه الشرر عند قدحه بالزند، استعمله الإنسان في عصر ما قبل التاريخ في صناعة أدواته البسيطة وفي آلات الصيد، وهو حجر صلد من المَرو يوجد في شكل عروق بطبقات الحجر الجيري من الأرض.

٥١٨

تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتّقدة في جوفها كل وقت ناراً بالبراكين.

فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفّس بها الأرض لتَخرج بعض النار من باطنها ثمّ يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر. وهذه البراكين تُخرج ناراً ومواداً ذائبة تدلّنا على أصل أرضنا، وما كانت عليه قبل الدهر.

فهذه القشرة الصلبة (1) لولاها لتفجّرت ينابيع النار من سائر أطرافها كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثورات والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلّفة للكرة النارية هي التي نبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقوله علماء طبقات الأرض.

فمن هنا ظهر أنّ هذه الجبال جُعلت لحفظها من أن تميل؛ لأنّ الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدّت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحاً، وإذ ذاك تثور البراكين آلافاً مؤلّفة وتضطرب الأرض اضطراباً عظيماً وتتزلزل زلزالاً شديداً؛ لأنّ البراكين وثوراتها زلزلة.

ثمّ إنّ هذه الجبال قطعة من القشرة، غاية الأمر أنّها ارتفعت، فما هي إذاً إلاّ حافظة للكرة النارية التي لو تُركت لشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر، فأهلكت الحرث والنسل.

هذه هي المعجزة الأُخرى للقرآن العظيم؛ لأنّ السابقين كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية.

ولقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً أنّ الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية (2) ، فلو فرضنا أنّ الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم يكن أرفع

____________________

(1) وقُدّر سمك القشرة الصلبة الأرضية العليا بمئات الأميال (مبادئ العلوم: ص43).

(2) يبلغ أعلا قُلل جبال الأرض هملايا 8700 متراً. بينما قطر الأرض يبلغ 12750 كيلومتراً =

٥١٩

الجبال فوقها إلاّ كنحو نصف سبع شعيرة فوقها (1) ، ولو أنّ الأرض كرة قطرها مترٌ واحدٌ لم تزد الجبال عليها مليمتراً واحداً ونصفه (2) فقط، فما هذا الجزء اليسير بالنسبة لتلك الكرة العظيمة حتّى يمنع ميلها وسقوطها!

نعم، كان الناس يؤمنون بظاهره، وقد ظهرت هذه النبوّة فعلاً في العلم الحديث، ولم تظهر إلاّ على يد مَن كفر بدين الإسلام، والمسلمون لا يعلمون إلاّ من الفرنجة، ونحن نكتب ذلك عنهم، فمنهم وإليهم (3) .

فصدق الله وجاءت المعجزات العلمية في القرآن تترى كلّما تقدم العلم وازدهرت حقائق العلوم وتجلّت أسرار هذا الكون، ولم يُعرف تفسير القرآن على وجه علميّ برهانيّ إلاّ في هذا العصر، وستنكشف حقائق أُخر في مستقبل الأيّام، فلله درّه من معجزة خالدة خلود الزمان.

* * *

وتمخّض البحث بالنتائج الثلاث التالية:

1 - إنّ للجبال (أي الصخور الجبلية المكتنفة بالأرض) أثراً مباشراً في توازن الأرض دون أن تضطرب، فتحيد عن مداراتها المنتظمة المؤثرة في تنظيم الحياة عليها..

وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه الآنف: (أو تزول عن مواضعها).

____________________

= والنسبة بينهما تعادل 1/1450 تقريباً، وهي نسبة ضئيلة جدّاً، (راجع مباني جغرافياى انسانى لجواد صفى نژاد: ص17).

(1) الذي ذكره شارح الجغمينية أنّه نسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وهو أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ستة شعيرات قال: ويلزم أن يكون كنسبة الواحد إلى ألف وثمانية (شرح جغميني: ص12 - 13).

(2) ولعلّ هنا سهواً، والصحيح أنّ النسبة مليمتر واحد على كرة قطرها متر ونصف تقريباً.

(3) تفسير الجواهر ج10 ص198 - 199.

٥٢٠