توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي0%

توظيف التفسير المفاهيمي مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 105

توظيف التفسير المفاهيمي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الهادي الطهمازي
تصنيف: الصفحات: 105
المشاهدات: 25957
تحميل: 4257

توضيحات:

توظيف التفسير المفاهيمي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 105 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25957 / تحميل: 4257
الحجم الحجم الحجم
توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

توظيف التفسير المفاهيمي

في إعداد المحاضرة الدينية

( نماذج تطبيقيّة )

تأليف: الشيخ عبد الهادي الطهمازي

١

٢

الإهداء

إلى كلّ الذين ساهموا بخدمة المنبر الحسيني الشريف، وأسهموا في تعزيز دوره وأثره في حياة الأمة

أهدي هذا الجهد

٣

مقدّمة

تحتاج الخطابة كأيّ فنّ من الفنون، أو علم من العلوم كي تستمر في عطائها، وتحقيق المرجو منها إلى تطوير وتنمية مستمرة، وباتجاهات مختلفة، أبرزها:

١ ـ تنمية وتطوير قدرات القائمين عليها، وهم هنا الخطباء، وذلك بتدريبهم على استخدام أنجع وسائل وأساليب التأثير، والإقناع للمخاطبين من خلال إيقافهم عن مجموعة على القواعد والاُصول التي تسهم حال مراعاتها بتحقيق ذلك الغرض، وتزويده بأدوات البحث والتحقيق، وتنقيح المعلومات والأفكار، واستخدام أفضل الطرق للوصول إلى النتائج العلمية السليمة؛ لضمان صحة المعلومات والأفكار التي يلقيها للسامعين، وتنويره بالمفاهيم العلمية والثقافية والأدبية الإسلامية منها وغيرها؛ ليتسنى له مواكبة التقدّم العلمي والثقافي الذي يشهده عالمنا المعاصر.

ومن المفروض أن يقع ذلك على عاتق معاهد الخطابة.

٢ ـ تطوير مضامين الخطب لإنعاشها بالجديد والمفيد، وبما يتناسب أيضاً مع العصر الراهن، وما طرأ عليه من تطوّرات فكريّة وثقافيّة وعلميّة بسبب

٤

الانتشار الهائل للمعلومات التي ما انفكّت وسائل الاتصال الحديثة ترفد بها عقول وقلوب متابعيها، وبأساليب جذّابة ومتنوّعة. حيث تقدّم للمتلقّي المعلومة والفكرة بأيسر الطرق وأسهلها، وبأبخس الأثمان، وتتفنن في ترسيخ الفكرة في ذهن المتلقّي. فراح هذا يتشرّب ما تبثّه من أفكار، وما تنشر من ثقافات ومبادئ وقيم خيراً كانت أو شرّاً.

وإزاء هذا المدّ المعلوماتي الضخم لا ينبغي أن تقف مادّتنا الخطابية عند الموروث القديم، أو الحديث الذي أضحى في عصرنا هذا قديماً.

إنّ نمطيّة الشكل والمضمون تعدّ أحد أهم أسباب تراجع الخطابة، وإضعاف تأثيرها في الجماهير، ويمكن أن نلحظ ذلك في خطابتنا الحالية في انحسار الحضور الجماهيري المكثّف الذي كان يحتشّد في المساجد والحسينيات، ولا أقول أنّ هذا هو السبب الرئيس، أو الأهم في هذه الظاهرة، لكنّه بلا ريب أحد هذه الأسباب.

كما يلاحظ عليها ضعف التأثير الروحي؛ إذ لم تَعُدْ تلك الكلمات التي تُلقى على مسامع الناس ذات تأثير يُذكر في تغير سلوكهم واتجاهاتهم، ولم تَعُدْ تُتَرْجَم إلى سلوكٍ عملي يتحراه الناس في تصحيح مسار حياتهم.

كما يذكر المتخصصون سبباً آخر غير ما ذكرناه؛ لضعف الخطابة الدينية بالخصوص، وفقدانها للتأثير، وهو كثرة موضوعاتها، وتشتتها إلى درجةٍ لا يخرج السامع بحصيلةٍ ما عن الموضوع، أو القضية التي يبحثها الخطيب، وخطابتنا بصورتها الحالية مشتملة عليه.

٥

ومن هذين السببين، وأسباب أخرى تُسهم في إضعاف تأثير الخطابة الدينية، وتفقدها جدواها على المستوى القريب والبعيد، أضحت الخطابة الدينية بعامّة، والخطابة الحسينيّة بخاصّة بحاجة إلى تغيير في نمط البحث وفهرسته، وفي تركيز الموضوع الذي يتناوله الخطيب في خطبته.

فلقد مرّ ـ مثلاً ـ على التطوّر الذي أوجده المرحوم الشيخ أحمد الوائلي (طاب ثراه) في شكل ومضمون المحاضرة أكثر من نصف قرن حين أدخل (رحمه الله) مادة التفسير، وبلونه التجزيئي في مضمون الخطبة الحسينيّة، وكان هذا يُعَدّ بحقٍّ إنجازاً رائعاً، وتطوّراً هائلاً في عالم الخطابة الحسينيّة.

وعاش الخطباء ردحاً من الزمن على خُطى مدرسته، ولا زال بريق ولمعان هذا اللون من المحاضرات يسود بتأثيره، ويسحر بعض روّاد المنبر، وربما يكافح بعض الخطباء جاهداً للوصول بأدائه ومضمون خطبته إلى المستوى المذكور.

ولكن من غير الصحيح أيضاً أن تقف عجلة التطوّر عند عتبة بابٍ دون أن تتخطّاها؛ لتفتح أُفقاً آخر أوسع وأرحب، بل ولعلّ هذه الخطوة قد أصبحت ضرورية، وللأسباب التي ذكرنا بعضها قبل قليل.

ولقد تنبّه بعض كبار الخطباء إلى هذه الظاهرة، فأخذوا بتجديد مضمون خطبهم بشكل فعلي، وبالكيفية التي سنشير إليها بعد قليل، أو تقترب منها.

إنّ طريقة التفسير التجزيئي الشائعة الآن بين خطباء المنبر الحسيني لم تَعُدْ تفي بالغرض المطلوب، وللأسباب التالية:

٦

١ ـ إنّ هذه الطريقة أدخلها كما مرّ الشيخ الوائلي (شكر الله مساعيه) قبل نصف قرن من الزمن، وبأدنى تأمّل يمكن أن نلاحظ الفارق الكبير، والفجوة الواسعة بين زماننا وذاك الزمان.

٢ ـ إنّ تجزئة الآية إلى ثلاث أو أربع مقاطع، ثمّ الإتيان برأيٍ أو رأيين على كلّ مقطع منها، وشرح ذلك الرأي وتوضيحه بالشواهد الحديثة أو التاريخية، أو القصصية أو العلمية.... إلخ يجعل الخطبة مزيجاً من موضوعات عدّة.

صحيح إنّما ترضي الجمهور إذ يأخذ كلّ مستمعٍ منها ما يتّسع له وعاؤه ومستواه الثقافي، إلاّ أنّه بالوقت ذاته لا يخرج بحصيلة تامّةٍ، أو شبه تامّةٍ عن الموضوع.

وقد أشرنا قبل قليل أنّ من أسباب ضعف الخطابة عدم التركيز في الموضوعات التي تطرحها.

٣ ـ كما قد تتضمّن الآية التي يختارها الخطيب محوراً لبحثه بعض البحوث والمعلومات التي ليس لها أهمّية عملية في حياة الإنسان المؤمن، ولا يمكن للخطيب تجنّبها أو القفز عليها؛ لأنّها ستخلّ بمنهجه في البحث، إذ عليه وفق هذه المنهجية أن يشرح فقرات الآية، فقرة تلو أُخرى، ولا يمكنه بحالٍ من الأحوال تجنّب بعض الفقرات، وحينئذٍ سيتضمّن البحث كثيراً من الترف الفكري الذي لا يستفيد منه المؤمن كثيراً في حياته العملية.

٤ ـ كما تواجه الخطيب نفسه بهذه الطريقة عدّة مشاكل منها:

٧

أ ـ تضعف قدرة الخطيب على اختيار التخلّص المناسب، وربط موضوع البحث بقضية الحسين (عليه السّلام)، فالخطيب مُجبر بحكم تسلسل البحث أن يربط آخر مقطعٍ من الآية بواقعة الطفّ، وقد لا يُتاح ذلك له، أو لا يتأتّ بسهولةٍ، أو بانسيابية، أو يتخلّص بتخلّص ضعيف؛ لضعف الملازمة بين مضمون المقطع الأخير ومضمون فقرة التخلّص، ممّا ينعكس ذلك على ضعف التأثير في عواطف الجمهور، وتشتّت انتباهم بسبب التخلّص الضعيف.

ب ـ ضياع بعض مقوّمات الأسلوب الخطابي والتي قد تكون مهمّة؛ لأنّ الوقت قد لا يسع الخطيب بتوكيد فكرته لتستقر في أذهان السامعين، كما لو أراد التكرار مثلاً. أو كان في الآية جانب ترغيب مثلاً وليس فيها جانب ترهيب؛ فإنّه لو استدعاه لربما طال به الوقت، وأثّر سلباً على الفقرات الأُخرى.

٨

المنهج المقترح

والمنهج المقترح هو أن يختار مفهوماً أو موضوعاً من آية قرآنية، أو حديثٍ شريف، أو واقعةٍ تاريخية، أو قصّةٍ... إلخ كما فعلنا في هذه المجموعة من المحاضرات التي بين يديك، ويركّز الحديث حول ذلك المفهوم وحده بحيث يبحثة من كلّ الجوانب أو البعض المهمّ منها.

ويمكنه الاستعانة في تحقيق ذلك بآيات قرآنية أُخرى، ونصوص حديثة، وشواهد تاريخية، ونظريات علمية بحسب ما تقتضيه طبيعة البحث في ذلك المفهوم، وما يستوفي وقت المحاضرة.

وهذا كما هو ملاحظ نحوٍ من التفسير الموضوعي، إلاّ إنّ الباحث غير ملزمٍ بكلّ الآليات المنهجية المتّبعة في التفسير الموضوعي.

ويمكن إطلاق تسمية (التفسير المفاهيمي) عليه.

وهذا المنهج المقترح يمنح الخطيب عدداً من نقاط القوّة منها:

أوّلاً: إشباع ذلك المفهوم بحثاً، وخصوصاً في جوانبه الرئيسية والهامّة، وبذلك يوفّر الخطيب للسامع مادّة علميّةً وثقافيّةً متكاملة، أو شبه متكاملة حول الموضوع ـ المفهوم ـ، وأقلّ ما يخرج به السامع هو الاقتناع بما ذكره الخطيب فيه، ويصبح لديه تصوّر واضح عنه.

٩

ثانياً: تُتيح للخطيب فرصة اختيار التخلّص المناسب، وذلك لتمكّنه من التقديم والتأخير في طرح الأفكار الفرعية المرتبطة بالموضوع، فيختار ما هو أشدّ تأثيراً في النفوس، وأظهر في الملازمة بين موضوع بحثه وبين مفردات واقعة الطفّ.

فمثلاً: إذا أراد أن يتحدّث عن أسباب قسوة القلوب، وعوامل ترقيقها انطلاقاً من قوله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ... ) (١) .

فله أن يُقدّم الأسباب ويؤخّر عوامل الترقيق، أو يفعل العكس، كما يمكنه أن يُقدّم ويؤخّر في الفقرات الفرعية من ذلك العنوان الرئيسي، فإذا ذكر العوامل التي تؤدّي إلى ترقيق القلب، رتّبها بهذا الشكل: قراءة القرآن، مجالسة العلماء والصالحين، التصدّق على الفقراء والمساكين ومعاشرتهم، حضور مجالس عزاء الحسين (عليه السّلام)، المسح على رؤوس اليتامى، أو يُقدّم هذه ويؤخّر فقرة حضور المجالس، وهكذا.

ثالثاً: لا يكون الخطيب مقيّداً بشرح كلّ ما في الآية ـ مورد بحثه من فقرات ـ، فله الاقتصار على ما يرتبط بموضوعه منها، ولا يخلّ ذلك بوحدة الموضوع، ويمكنة أيضاً أن يختصر البحث في بعض جوانبها بعد أن يذكر منهجه لسامعيه.

رابعاً: تمنح الخطيب قدرةً وعمقاً علميّاً وثقافيّاً في فهم واستيعاب الآيات القرآنية الأُخرى المرتبطة بالموضوع؛ لأنّ القرآن يُفسّر بعضه بعضاً.

ومع التوفّر على الآيات المرتبطة بذاك المفهوم، والأحاديث الواردة فيه، والبحوث

____________________

(١) سورة البقرة / ٧٤.

١٠

التي تدور حوله في كتب التفسير أو غيرها يخرج الخطيب، أو الباحث بحصيلةٍ ممتازةٍ ورؤية واضحة، ممّا يُغني ذلك ثقافته، وتمنحة فرصة انتقاء المعلومات والأفكار التي يضخّها للسامع، وترك ما لا يرى ضرورةً فيه، وسينعكس هذا الوضوح في الرؤية على جمهوره حتماً، بخلاف ما لو كان الموضوع غامضاً لديه، ولم يُحط بجميع جوانبه.

وفي طريقة التفسير التجزيئي لو أراد الإحاطة بكلّ ما تطرحة الآية من أفكار ومعلومات لاستغرق ذلك منه وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً.

وإليك عزيزي القارئ بعض المحاضرات التي كتبت بهذه المنهجية المقترحة.

ملتمساً من إخواني أصحاب الفضيلة والخطباء الأعزّاء توقيفي على بعض الهفوات والأخطاء التي فاتني معالجتها سهواً أو غفلةً، كما ألتمسهم الدعاء إلى الله (عزّ وجلّ) أن يوفّقنا جميعاً لخدمه دينه الحنيف والمنبر الحسيني الشريف.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

١ / ج ٢ / ١٤٢٦ هـ

١١

المحاضرة الأولى: نفي الرؤية والجسمية

بسم الله الرحمن الرحيم

( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) .

تنقسم صفات الباري (عزّ وجلّ) إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية؛ والصّفات الثبوتية: هي تلك الصّفات التي تُنسب إلى الله تعالى وهي موجودة فيه، وهي نوعان:

الأوّل: الصّفات الذاتية: وهي مفاهيم منتزعة من الذّات الإلهية، بمعنى أنّ الله تعالى واجد لها، أو حائز لها؛ كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، وغيرها من أنواع الكمالات.

الثاني: الصفات الفعلية: وهي مفاهيم منتزعة من علاقة الله بمخلوقاته.

مثل: الخالقية والرازقية والرحمانية، وغيرها من الصّفات الموجودة فيه تعالى، ولكن باعتبار علاقته تعالى بمخلوقاته(٢) .

____________________

(١) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٢) راجع دروس في العقيدة الإسلاميّة ـ للشيخ مصباح اليزدي / ٨٢.

١٢

أمّا الصّفات السّلبية فهي تلك الصّفات التي يُنزّه الله عنها. وتُسلب منه، مثل: الوالدية، أو الزوجية، أو أنّه تعالى جسم، أو أنّه يُرى. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فهذه الصّفات يُنزّه الله تعالى عنها؛ فتُسمّى صفات سلبية.

إلاّ أنّ بعض المسلمين جعل من بعض الصّفات السّلبية صفاتاً ثبوتية.

فأثبتوا الجسمية له تعالى، واعتقدوا بلوازم الجسمية أيضاً، فقالوا بإمكان رؤيتة تعالى، وأنّه يتحرّك، و... و... إلى غير ذلك من اللوازم.

نريد أن نُناقش في هذه المحاضرة دليلهم على ذلك، ثمّ نُبيّن الأثر الخطير المترتّب على مثل هذا الاعتقاد، ومَنْ الذين أدخلوا هذه العقيدة في كتب بعض المسلمين، وما غرضهم من ذلك.

يتمسّك بعض المذاهب الإسلاميّة بالقول بجسمية الله تعالى، والاعتقاد بلوازم ذلك، كالرؤية مثلاً، اعتماداً على ظاهر بعض الآيات المباركة، وبعض الأحاديث الضعيفة التي دسّها البعض في كتب المسلمين عن عمد، وزعم أنّها مروية عن النبي (صلّى الله عليه وآله).

ولكن قبل أن نذكر بعض الآيات التي يستدلّون بها على الجسمية والرؤية، حريّ بي أن أُبيّن المراد من ظاهر الآيات.

هناك تقسيمات عديدة لآيات القرآن، مثل: المكي والمدني، والمحكم والمتشابه، وأحد هذه التقسيمات هو تقسيم الآيات إلى نصّ وظاهر.

١٣

والنص: ما دلّت عليه الآية دلالة قطعية لا تحتمل غيره(١) . مثل قوله تعالى:( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٢) ، فالآية نصّ على أنّ نصيب الذكر من الميراث نصيب بنتين.

والظاهر: ما احتمل أكثر من معنى، ولكنّ أحد الاحتمالات أظهر من غيره(٣) .

ولكن يتعين أحياناً الأخذ بأحد الاحتمالات، وطرح الآخر لوجود مانع من الأخذ به.

ولنذكر بعض الأمثلة ليتّضح المقصود.

قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ) (٤) .

فظاهر هذه الآية أنّ أموال اليتيم إذا اعتدى عليها أحد وأخذها تتحوّل يوم القيامة إلى قطع من نار يأكلها أولئك الظلمة.

وهذا معنى مَنْ يقول بتجسيم الأعمال، أي تحوّل العمل إلى جسم يسعد صاحبه إن كان صالحاً، ويشقيه إن كان سيِّئاً كما في المثال.

بينما هناك آيات لا يمكن التمسّك بظاهرها؛ لوجود مانع سنذكره، مثل قوله تعالى:

____________________

(١) مفتاح الوصول إلى علم الاُصول ـ الشيخ أحمد البهادلي ٢ / ٢٣.

(٢) سورة النساء / ١١.

(٣) مفتاح الوصول ٢ / ٤.

(٤) سورة النساء / ١٠.

١٤

( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) ، ومثل قوله تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) (٢) .

فهذه الآيات يظهر منها أنّ لله تعالى يداً ورجل (ساق)، ولكن لا يمكن الأخذ بهذا الظهور؛ لوجود موانع.

منها آيات صريحة تنفي كونه تعالى جسماً، أو أنّه يمكن رؤيته، كقوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٣) ، وقوله تعالى:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (٤) ، وقوله تعالى:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ... ) (٥) .

ومن الموانع: الأحاديث الكثيرة المرويّة عن آل البيت (عليهم السّلام)، وعن غيرهم، والتي تنفي أن يكون الله تبارك وتعالى جسماً، أو أنّه يمكن رؤيته، بل تنفي وتنهى عن مجرّد تصوّر ذلك.

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام):« فمَنْ وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومَنْ قرنه فقد ثنّاه، ومَنْ ثنّاه فقد جزّأه، ومَنْ جزّأه فقد جهله، ومَنْ جهله فقد أشار إليه، ومَنْ أشار إليه فقد حدّه، ومَنْ حدّه فقد عدّه » (٦) .

ويمدح (عليه السّلام) الملائكة بقوله:

____________________

(١) سورة الفتح / ١٠.

(٢) سورة القلم / ٤٢.

(٣) سورة الشورى / ٩.

(٤) سورة طه / ١١٠.

(٥) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٦) نهج البلاغة ـ الخطبة ١.

١٥

«ولا يتوهّمون ربّهم بالتصوير » (١) . أي أنّهم لا يتخيّلون الله تعالى، أو يتوهّمون أنّه يشبه شيئاً من مخلوقاته.

وهناك ما يُقارب اثنين وثلاثين حديثاً في اُصول الكافي عن الأئمّة (عليهم السّلام) تنفي كونه تعالى جسماً، أو أنّه يمكن أن يراه أحد، بل يسأل أحد الرواة، واسمه أبو قرّة، الإمام الرضا (عليه السّلام):

فتكذب بالروايات، يعني يقول للإمام: إنّ هناك روايات تقول بأنّ الله جسم، وأنّه يرى، فهل تكذّبها؟

فأجاب الإمام (عليه السّلام):« إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يُحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء » (٢) .

وغير روايات آل البيت (عليهم السّلام) يروي الترمذي عن مسروق، عن السيّدة عائشة، قال: كنت مُتّكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث مَنْ تكلّم فيهنّ أعظم الفرية على الله؛ مَنْ زعم أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) قد رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله؛ والله يقول:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ،( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) (٤) .

وكنت مُتّكئاً، فجلست، فقلت: يا أُمّ المؤمنين، انظريني ولا تعجليني، أليس الله تعالى يقول:( وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (٥) ،( وَلَقَدْ رَآَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ) (٦) ؟

____________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ١.

(٢) اُصول الكافي ح ٢٥٦.

(٣) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٤) سورة الشورى / ٥١.

(٥) سورة النجم / ١٣.

(٦) سورة التكوير / ٢٣.

١٦

قالت: أنا والله أوّل مَنْ سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال:« إنّما ذلك جبريل... » الحديث(١) .

ومن الموانع عن الأخذ بظاهر هذه الآيات، أنّها تُنافي العقل؛ إذ لو كان الله تعالى جسماً لكان معنى ذلك أنّه مركّب من أجزاء، وطبيعي أنّ كلّ مركّب محتاج لأجزائه، وواجب الوجود هو الغني، وغير محتاج لشيء.

فلو كان جسماً (تعالى الله عن ذلك) لكان محتاجاً إلى أجزاءه، وهذا غير معقول بحقّ الباري (عزّ وجلّ).

والخلاصة: إنّه لا يمكن التمسّك بظواهر هذه الآيات وإثبات الأجزاء لله تعالى؛ لوجود موانع، منها الآيات الصريحة التي ذكرناها، ومنها الأحاديث الكثيرة، ومنها عدم معقولية كونه تعالى جسماً.

الأثر الخطير في مثل هذه العقيدة

إنّ القول والاعتقاد بأنّ للحقّ تبارك وتعالى يداً ورجلاً وجسماً... إلخ له أثر خطير على فساد عقيدة الناس، وربما يدفع بالبعض إلى الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى، أو قياسه على خلقه، وغير ذلك من الآثار الخطيرة التي تؤدّي إلى الانحراف عن جادّة الصواب.

____________________

(١) نقلاً عن الوهابية والتوحيد ـ الشيخ علي الكوراني / ١١.

١٧

وهذه الفكرة، أي كونه تعالى جسماً، تجدها أكثر ما تجدها في كتب العهدين عند اليهود والنصارى؛ التوراة والإنجيل المحرفان، وهؤلاء يتعمدون على بثّ هذه الفكرة في عقول الناس؛ لتحريفهم عن عقيدتهم، ومنهم دخلت في كتب المسلمين، كما ستسمع بعد قليل.

لنقرأ نموذجاً من التوراة المحرّفة في هذا الشأن:

جاء في الإصحاح الثاني والثالث من سفر التكوين: (حيث ذكرت أنّ الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلاّ ثمرة معرفة الخير والشرّ، وقال: إنّك يوم تأكل منها موتاً تموت، ثمّ خلق آدم وزوجته، وكانا عاريين في الجنة؛ لأنّهما لا يُدركان الخير والشرّ، وجاءت الحيّة وحرّضتهما على الأكل من الثمرة، ودلّتهما عليها. فلمّا أكلا منها انفتحت أعينهما، وعرفا أنّهما عاريان، فصنعا لأنفسهما مئزراً، فرآهما الربّ وهو يتمشّى في الجنّة فاختبأ آدم وحواء منه.

فنادى الله: يا آدم أين أنت؟

فقال آدم: سمعت صوتك واختبأت لأنّي عُريان.

فقال الله: ومَنْ أعلمك بأنّك عُريان، هل أكلت من الشجرة؟

ثمّ إنّ الله لمّا ظهر له أنّ آدم أكل من الشجرة قال: هو ذا آدم صار كواحد منّا)(١) .

____________________

(١) نقلاً عن البيان في تفسير القرآن / ٥٠.

١٨

فانظر واعجب؛ فإنّ الله تعالى يتمشّى في الجنّة ولا يدري أين يختبئ آدم... إلى آخر هذه الخزعبلات التي لا يمكن لعاقل تصديقها.

وللأسف فإنّ هؤلاء اليهود والنصارى نقلوها إلى المسلمين، وتسرّبت أحاديث الرؤية والتجسيم إلى كتب المسلمين، وقد قبلها بعض الأوائل على بساطتهم، وسجيتهم السليمة التي لا تعرف المغزى الخطير منها، وسأكتفي بشاهد واحد على ذلك.

روي في البحار عن ابن عباس أنّه حضر مجلس عمر بن خطاب يوماً وعنده كعب الأحبار، إذ قال عمر: يا كعب، أحافظ للتوراة أنت؟

قال كعب: إنّي أحفظ منها الكثير.

فقال رجل من جنب المجلس: يا أمير المؤمنين، سله أين كان الله (جلّ شأنه) قبل أن يخلق عرشه، وممّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه؟

فقال عمر: يا كعب، هل عندك من هذا علم؟

فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنّا نجد في الأصل الحكيم أنّ الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلمّا أراد أن يخلق عرشه تفل تفله كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وأخّر ما بقي منها لمسجد قدسه.

١٩

قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حاضراً، فعظّم علي ربّه، وقام على قدميه، ونفض ثيابه، فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه، ففعله.

فقال عمر: غص عليها يا غوّاص، ما تقول يا أبا الحسن، فما عرفتك إلاّ مفرّجاً للغمّ.

فالتفت علي إلى كعب فقال:«غلط أصحابك، وفتحوا الفرية على الله ـ لاحظ أنّه يعبّر بالفرية كما صنعت عائشة ـ. يا كعب، ويحك! إنّ الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله، ولا تسع لعظمته، والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره... إلى أن يقول (عليه السّلام): يا كعب، ويحك! إنّ مَنْ كانت البحار تفلته على قولك كان أعظم أن تحويه صخرة بيت المقدس، أو الهواء الذي أشرت أنّه حل فيه » .

فضحك عمر وقال: هذا هو الأمر، وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب، لا عشت لزمان لا أرى فيه أبا الحسن(١) .

إذاً هذه العقيدة الزائفة دخلت إلى عقول المسلمين عن طريق كعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهم، ولقد حاربها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقوّة، وكشف الزيف فيها كما قرأت قبل قليل.

____________________

(١) بحار الأنوار ٣٦ / ١٩٤.

٢٠