الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102815
تحميل: 10476

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102815 / تحميل: 10476
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتي ...(1) . والخطبة طويلة وبهذا المقدار الكفاية ولقد وفّى زياد بما قطع على نفسه. فقتل الآلاف من الأبرياء في العراق والمدن التي تحت ولايته.

واستعمل زياد على شرطته عبدالله بن حصن فامهل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر الى الكوفة وكان يؤخر العشاء حتّى يكون آخر من يصلي ثمّ يصلي، يأمر رجلاً فيقرأ سورة البقرة ومثلها يرتل القرآن. فإذا فرغ أمهل بقدر مايرى أن انساناً يبلغ الخريبة ثمّ يأمر صاحب شرطته بالخروج. فيخرج ولا يرى انساناً الا قتله، قال: فأخذ ليلة اعرابياً فأتي به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ قال: لا والله. قد مت بحلوبة لي وغشيني الليل.

فاضطررتها الى موضع. فاقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير. قال: اظنّك والله صادقاً ولكن في قتلك صلاح هذه الاُمّة ثمّ أمر به فضربت عنقه.

ولا يحل دم هذا المسكين في أي مذهب من مذاهب طغاة العالم قديماً وحديثاً الا في مذهب معاوية وزياد بن أبيه. وقال الطبري أيضاً:

وكان زياد أوّل من شدّ أمر السلطان واكدّ الملك لمعاوية. وألزم الناس الطاعة. وتقدّم في العقوبة وجرّد السيف، وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه الناس في سلطانه خوفاً شديداً ...(2) ومن عمال معاوية سمرة بن جندب..

عن محمد سليم قال: سألت أنس بن سيرين هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب! استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت أو كما قال(3) .

عن أبي سوار العدوي، قال: قتل سمرة من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن(4) .

____________________

(1) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص219.

(2) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص221 وص222.

(3) نفسه، ج5 ص236 والبلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص220.

(4) تاريخ الطبري، ج5 ص237.

٢٢١

وكان القتل عند سمره وأصحابه لمجرد التشهي والمتعة عن عوف، قال: اقبل سُمرة من المدينة فلما كان عند دور بني اسد خرج رجل من بعض ازقّتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجل من القوم فأوجره الحربة قال: ثم مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحط في دمه فقال: ما هذا؟ قيل: اصابته أوائل خيل الأمير قال: إذا سمعتم قد ركبنا فاتقوا اسنتنا.

إنّ زياداً اشتد في أمر الحرورية بعد قريب وزحّاف فقتلهم وأمر سُمره بذلك وكان يستخلفه على البصرة إذا خرج إلى الكوفة فقتل سمره منهم بشراً كثيراً كل هذا فعله وهو لم يبق في الإمارة أكثر من ستة أشهر فقد أقرّه معاوية بعد زياد ستة أشهر ثم عزله فقال سمره: لعن الله معاوية! وألله لو اطعت الله كما اطعت معاوية ما عذبني ابداً(1) .

ونقول له لعن الله كليكما، فهذه حسرة الدنيا وأما الآخرة فإنّ الله أشد انتقاماً وأعظم تنكيلاً.

وكان الناس في زمن هؤلاء الطغاة يأمنون الوحوش والسباع ويخافونهم لأن الوحش أكثر رفقاً بالإنسان من زياد وسمره. يقول الفرزدق وقد خرج هارباً من زياد مع دليله مقاعس: فخرجنا إلى بانقيا حتى انتهينا إلى بعض القصور التي تنزل فلم يفتح لنا الباب فالقينا رحالنا إلى جنب الحائط والليلة مقمرة فقلت يا مقاعس أرأيت إن بعث زياد بعد ما تصبح إلى العتيق رجالاً، أيقدرون علينا؟ قال: نعم يرصدوننا ولم يكونوا جاوزوا العتيق وهو خندق كان للعجم قال: فقلت: ما تقول العرب؟ قال: يقولون امهله يوماً وليلة ثم خذه فارتحل فقال: إني أخاف السباع فقلت: السباع أهون من زياد فارتحلنا لا نرى شيئاً إلاّ خلفناه ولزمنا شخص لا يفارقنا فقلت: يا مقاعس أترى شخصاً! لم نمرر بشيء إلاّ جاوزناه غيره فإنه يسايرنا منذ والليلة قال: هذا السبع قال: فكأنه فهم كلامنا.

فتقدم حتى ربض على متن الطريف فلما رأينا ذلك نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا

____________________

(1) تاريخ الطبري، ج5 ص291، الكامل، ج3 ص245، المنتظم، ج5 ص267 ولم يذكر ابن الجوزي لعن سمره معاوية.

٢٢٢

بثنايين وأخذت قوسي وقال مقاعس: يا ثعلب أتدري ممن فررنا إليك؟ من زياد فأحصب بذنبه حتى غشينا غباره وغشى نافثينا قال: فقلت: أرميه فقال: لا تهجه. فأنّه إذا أصبح ذهب. قال: فجعل يرعد ويُبرق ويزئر ومقاعس بتوعّده حتى انشقّ الصبح فلما رآهُ ولىّ وأنشأ الفرزدق. يقول:

ما كنتُ احسبنى جباناً بعدما

لاقيت ليلة جانب الأنهارِ

ليثاً كان على يديه رحالة

شثن البراثن مؤجد الأظفار

لما سمعت له زمازم أجهشت

نفسى إليّ وقلت أين فرارى

وربطت جروتها وقلت لها اصبرى

وشددت في ضيق المقام ازارى

فلأنتَ أهون من زياد جانباً

أذهب إليكَ مخرِّم الأسفار(1)

واعتبر أنتَ أيّها القارىء بوال يكون السبع الضاري أهون جانباً منه..

ملأ زياد الأسلام بأمر معاوية دماً وإجراماً ولا يحصى من قتلهم بالسيف أو ما توافي سجنه تحت وطأة التعذيب فهلك ولمعاويه من اجرامه النصيب الأكبر.

وقرّب معاوية إلى سدّة حكمه كلّ من استشعر من نفسه حبّ الجريمة والولع بسفك الدم فأدناه وبذل له ما شاء من الدنيا الزائلة.

فهذا مسرف. مجرم الحرّة ومستبيح المدينة وقاتل الأبرار من صحابة وتابعين. كان من أقرب الناس إليه وآثرهم عليه واتّخذ منه مستشاراً له. ذكر ابن حمدون في تذكرته قال:

مرض سعيد بن العاص بالشام فعاده معاوية ومعه شرحبيل بن السمط ومسلم بن عقبة المري ويزيد بن شجرة الرهاوي فلمّا نظر سعيد إلى معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاماً له فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان. فإنّك ضعفت للعلّة فسقط فبادر معاوية نحوه حتّى حنا عليه وأخذ بيده فأقعده معه على فراشه وجعل يسائله عن علّته ومنامه وغذائه ويصف له ما ينبغى أن يتوقّاه وأطال القعود عنده فلمّا خرج التفت إلى شرحبيل ويزيد بن شجرة فقال:

هل رأيتما خللا في حال أبي عثمان؟!

____________________

(1) الطبرى، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص247.

٢٢٣

فقالا: لا ما رأينا شيئاً ننكره فقال لمسلم: ما تقول أنت؟ قال: رأيت خللا قال: وما ذاك؟ قال: رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة ورأيت صحن داره غير مكنوس ورأيت التجّار يخاصمون قهرمانه.

قال: صدقت. كلّ ذلك قد رأيت. فوجّه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف. فسبق رسول مسلم إلى سعيد يبشّره بتوجيهها ويخبره بما كان فغضب سعيد وقال للرسول: إنّ صاحبك ظنّ أنّه أحسن فأساء وتأوّل فأخطأ. فأمّا وسخ ثياب الحشم فمن كثرت حركته اتّسخَ ثوبه وأما كنس الدار. فلست من جعل داره مرآته وبهاءه لبسته ومعروفه عطره ثمّ لا يُبالي من مات هزلا من ذوي رحمه أو لحمته. وأمّا منازعة التجّار قهرماني فمن كثرت حوائجه وبيعه وشرائه لم يجد بدّاً من أن يكون طالباً أو مطلوباً وأمّا المال الّذي أمر لنا به أمير المؤمنين فوصلته به كلّ رحم قاطعه وهناه كرامة المنعم بها وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمأة ألف ولشرحبيل بن السمط بمثلها وليزيد بن شجرة بمثلها وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معوّلنا. فركب مسلم إلى معاوية فأعلمه فقال: صدقَ ابن عمّي فيما قال وأخطأت فيما أنهيت إليه فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك فإنّه من جنى جناية عُوقب بمثلها. كما أنّه من فعل خيراً كوفىء عليه ...(1)

فأنت ترى أنّ مسرفاً أحد ثُقاته وهو مستشاره. وكان لثقته بمسلم يعدّه للوقائع الجسام والاُمور العظام حتّى أنّه لما حضرته الوفاة دعا يزيد فقال له: إنّ لك من أهل المدينة يوماً فإنّ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته. فلمّا صنع أهل المدينة ما صنعوا وجه إليهم مسلم بن عقبة وقد بعث أهل المدينة إلى كلّ ماء بينهم وبين أهل الشام فصبّوا فيه زفاً من قطران وغوّروه فأرسل الله عليم السماء فلم يستقوا بدلو حتّى وردوا المدينة(2) .

وهنا لابدّ أن يذهب معاوية إلى ربّه وفي عنقه دماء شهداء الحرّة. كما أنّ من نصّبه وأعانه ذهب بشطر من هذه الدماء كبير. وأعجب من هؤلاء المجرمين. الرواة

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج2 ص290.

(2) تاريخ خليفة بين خياط، ص229 ج1، تحقيق أكرم العمرى، ط المجمع العراقي 1368، مطبعة الآداب النجف.

٢٢٤

والمؤرّخون الّذين ينحازون إلى جانبهم. بخيوط وهمية من الاعتقادات الباطلة فهذا ابن الخيّاط. يرى أنّ الله أعان مسرفاً على أهل المدينة بالمطر. أرسله على جيشه لئلا يظمىء وحتى يكون أقدر على القتل واستباحة حمى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأعجب منه ابن تغري بردي. ذكر جرائم مسرف في الحرّة وكثرة من قتل من الصحابة والتابعين وأغمار الناس ثمّ أمسك عنه. لأنّه فيما يزعم من الصحابة. قال: وفيها أي سنة ثلاث وستين.

كانت وقعة الحرّة على باب طيبة. وهو أنّ يزيد بن معاوية بعث إليها جيشاً عليهم مسلم بن عقبة حين خالفوا عليه وأمره بهتك حرمة المدينة وكان مع مسلم اثنا عشر ألفاً فوصل مسلم المذكور إلى المدينة وفعل فيها ما لا يفعله مسلم فإنّه قتل في هذه الواقعة خلقاً من المهاجرين والأنصار وانتهكت حرمة المدينة وانتهبت وافتضّت فيها ألف عذراء واستشهد فيها عبدالله بن حنظلة الغسيل في ثمانية من بيته وله صحبة وروايةوقتل فيها أيضاً معقل بن سنان الأشجعي صبراً واستشهد أيضاً عبدالله بن زيد بن عاصم المازني النجاري وله صحبة ورواية واستشهد فيها أيضاً أفلح مولى أبي أيّوب. ومحمّد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولد في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحمّد بن ثابت بن قيس بن شماس حنَّكه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريقه ومعاذ بن الحارث الأنصاري أبو حليمة القارىء الّذي أقامه عمر يصلي التراويح وتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله ستّ سنين ومحمّد بن الجهم بن حذيفة ومحمّد بن أبي حذيفة العدوي كلّ هؤلاء قتلوا يومئذ وهذا ممَّا اختصرته من مقالة الذهبي.

وقد ذكر هذه الواقعة أيضاً أبو المظفّر وساق فيها اموراً شنيعة إلى الغاية وفيما ذكرناه كفاية يعرف منها حال مسلم بن عقبة المذكور ويكفيك أنّه من يومئذ سمي مسلم المذكور (مسرف بن عقبة) وقيل: انّه أدرك النبىّ ......

إلى أن يقول بعد كلام:

وذكر الذهبي رحمه الله: أنّ مسلماً هذا أدرك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت ولهذا أمسكنا عن الكلام في أمره ...(1)

____________________

(1) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج1 ص160 وص161.

٢٢٥

وهذا ان حقّقت. هو دين القوم. الذهبي وابن كثير وابن تغري بردي وغيرهم. يذكر جرايم مسرف ثم يلقي عليه حصانة هي كالدرع المجفف. انّها الصحبة. فمسلم أو مسرف لا يرقى إليه الذم لأنّه أدرك النبي. أي لأنّه صحابي. فكيف والحال هذه لا يؤلّهون معاوية وصاحبه.

ونحن نقول لهم إنّ معاوية شريك في هذه الدماء الّتي أراقها مسلم والأعراض الّتي انتهكها. كما أنّ صاحبة الّذي ولاّهُ وجرّأه على الإسلام وسمّاه فتى قريش وأصمّ اُذنيه عن سماع كلّ كلمة تسيىء إليه وأمدّ له بالطغيان وقوّاه بالدعم المادي والمعنوي والعسكري أيضاً يتحمّل معه، التبعة الكبرى كذلك بشهادته على نفسه. حين قال له ابنه عبدالله عن عليعليه‌السلام لم لا تستخلفه؟! قال: أكره أن أتحمّلها حياً وميّتاً وبناءاً على هذا فالميت يتحمّل شطراً من تبعات الحيّ إذاكان شريكه في العمل وعونه عليه..

بسر بن أرطاة لعنه الله

وهذا نموذج ارهابي آخر من أعوان معاويه على الشرّ والجريمة. «بسر بن أرطاة» أحد بنى عامر بن لؤي بعثه معاوية بعد تحكيم الحكمين لقتل شيعة عليّ فمرّ في البلاد يشن الغارات ولا يكفُّون أيديهم عن النساء والصبيان!! ففعل ذلك بالمدينة ومكّة والسراة ونجران واليمن وكان عبيدالله بن العباس عاملا لعلي على اليمن وكان غائباً وقيل بل هرب من بسر ووجد صبيَّين له فذبحهما بمدية واسمهما عبدالرحمن وقثم وأصاب ام الصبيين وهي ام حكيم بنت فارط على ابنيها كالجنون فكانت لا تعقل ولا تصغى إلى قول من أعلمها أنّهما قد قتلا ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس أبياتاً:

يا من أحسَّ بأبني الّذين هما

كالدرّتين تشظى عنهما الصدف

يا من أحسن بابني اللّذين هما

سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف

نبثت بسراً وما صدّقت ما زعموا

من قولهم ومن الإفك الّذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنى مرهفة

مشحوذة وكذاك الاثم يقترف

حتّى لقيت رجالا من أرومته

شمّ الاُنوف لهم في قومهم شرف

٢٢٦

فالآن إلعن بسراً حقّ لعنته

هذا لعمر أبي بسر هو السرف

ولما بلغ عليّاً قتل الصبيَّين جزع ودعا على بسر فقال: اللهمّ اسلبه دينه ولا تخرجه من الدُّنيا حتّى تسلبه عقله. فأصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه ما شاء حتّى مات.

ولمّا كانت الجماعة واستقرّ الأمر على معاويه دخل عليه عبيدالله بن العبّاس وعنده بسر بن أرطاة فقال له عبيدالله: أنت القاتل للصبيَّين أيّها الشيخ؟ فقال بسر: نعم أنا قاتلهما فقال عبيدالله:

لوددت أنّ الأرض أنبتتني عندك فقال له بسر:

فقد انبتتك الآن عندي فقال عبيدالله:

ألا سيف؟ فقال بسر: هاك سيفى فلمّا أهوى عبيدالله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثمّ قال لبسر: أخزاك الله شيخاً قد كبرت وذهب عقلك تعمد إلى رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه تدفع إليه سيفك؟ أنّك لغافل عن قلوب بني هاشم والله لو تمكن منه لبدأ بى قبلك فقال عبيدالله أجل والله ثمّ لثنيتُ به(1) .

وذكر الطبري هذه الواقعة بإيجاز وقال:

ولقي بسر ثقل ابن العبّاس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما وقد قال بعض الناس انّه وجد ابني عبيدالله عند رجل من بني كنانه من أهل البادية فلمّا أراد قتلهما قال الكناني علامَ تقتل هذين ولا ذنب لهما! فإن كنت قاتلهما فاقتلني قال: أفعل فبدأ بالكناني فقتله. ثمّ قتلهما ثمّ رجع بسر إلى الشام وقد قيل أنّ الكناني قاتَل عن الطفلين حتّى قتل وكان اسم أحد الطفلين اللّذين قتلهما بسر عبدالرحمن والآخر قثم. وقتل بسر في مسيره ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي ...(2)

وقال اليعقوبي:

وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن: يا بسر هذا الرجال يقتلون فما بال الولدان

____________________

(1) التذكرة الحمدونيّة،. ج4 ص276 وص277.

(2) تاريخ الطبري، ج5 ص140.

٢٢٧

والله ما كانت الجاهلية تقتلهم والله إنّ سلطاناً لا يشتد إلاّ بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء فقال بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف وقدّم الطفلين فدبحهما(1) .

أجل، إنّ سلطان معاويه سلطان سوء وبهذه النفس المريضة حكم المسلمين خليفة بل ملكاً عشرين عاماً. ملأ بها دنيا الإسلام جرائم ومئاسي ودماء حتّى هلك بعد أن وصل ماضيه الأسود بحاضر ولده. فتمّ لفلان ما أراد من دخول الإسلام في هذا النفق المظلم.

السمة الثامنة: المتاجرة بعرضه

وهذه السمة من أحطّ السمات. فقد ألف الناس من سيرة الحاكم. الترفّع عن هذه الدنايا بخاصّة. إذا كان أساس حكمه الدّين. وهو يدعى أمير المؤمنين. ولكنّ معاوية. رفع شعار المتاجرة بالعرض. في حكمه حتّى رُميَ بقلّة الغيرة(2) .

ولعلّ من شواهد قلّة الغيرة عنده إرسال جاريته إلى يزيد ولده ليحيي سنة اُميّة جدّه حين تنازل عن امرئته وزوّجها ولده أبا عمر.

قال خديج الخصي مولى معاوية:

اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة وبيده قضيب. فجعل يهوي به إلى متاعها يعني فرجها ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع..

اذهب بها إلى يزيد بن معاويه. ثمّ قال: لا!

ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي وكان فقيهاً فلما دخل عليه قال: إنّ هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك. وإنّي أردت أن أبعث بها إلى يزيد قال لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنّها لا تصلح له فقال: نعم ما رأيت(3) .

والّذي أعتقده أنّ هذه الحكاية أكملت بعد معاوية وربيعة الّذي استفتاه

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص199.

(2) الآبي، نثر الدر، ج3 ص18.

(3) البداية والنهاية، ج8 ص143.

٢٢٨

معاوية نسب إلى الفقه وكان يقصّ في زمن معاوية(1) ويقول أحمد بن حنبل عن هؤلاء القصاص أنّهم أكذب الناس.

وعن أبي قلابة: ما أمات العلم إلاّ القصاص(2) .

ونسب الجريش إلى الصحبة ولم تثبت. وكل من ترجم له أشار إلى ذلك. وقالوا عنه: كان زبيريّاً.

ولو أنّنا تابعنا الحكاية وصحّحنا مقدمها وتاليها. وقُلنا بما قاله شيعة ابن هند إنّ في ذلك دلالة على فقهه أما كان في تجريد الجارية من ثيابها بين يدي الخصي دلالة على فقدان الغيرة عنده. وليس الخصي لأنّه مجبوب بعد عن النساء أو اجتواهن. بل الخصي ينكح ويتّخذ الجواري ويشتد شغفة بالنساء وشغفهنّ به وهو وإن كان مجبوب العضو فإنّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجب إليهنّ. وقد يحتلم ويخرج منه عند الوطىء ماء ولكنّه قليل متغيّر الريح. رقيق ضعيف وهو يباشر بمشقّة ثمّ لا يمنعه من المعاودة الماء الّذي يخرج منه إذ كان قليل المقدار. لا يخرجه من القوّة إلى الضعف مثل الّذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان وهو أخثر وأكثر. واجد ريحاً. وأصح جوهراً(3) .

وهذا كلام عالم بحقيقة وضع الخصي الجنسي. فكيف طابت نفس ابن هند أن يجرّد جاريته الجميلة بين يديه لو كان في رأسه قيراط غيرة.

وكما هانت عليه جاريته هانت عليه امّه فقد كانت تذكر بعض مزاياها النسائيّة بين يديه فلا يثير ذلك في نفسه شيئاً من الغيرة أو المروئة وينسبه من رآه إلى الحلم بل هو إلى فقدان الغيرة أقرب.

ذكر ابن كثير عن الأعمش أنّه قال:

طاف الحسن مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه فقال الحسن ما أشبه إليتيه بإليتي هند؟.

____________________

(1) الحافظ المزي، تهذيب الكمال، ج6 ص172، ط دارالفكر، بيروت 1414 هجري.

(2) محمود أبو ريّةرحمه‌الله ، أضواء على السنّة المحمديّة، ص134.

(3) الجاحظ كتاب الحيوان، ج1 ص166، ط دارالفكر، بيروت 1408 هجري.

٢٢٩

فالتفت إليه معاوية فقال: أما إنّ ذلك كان يعجب أبا سفيان.(1)

وكذب بذلك الأعمش على الإمام الحسنعليه‌السلام لأنّه لا ينطق العوراء ولا يفحش بشهادة صاحب الإليتين.

قال معاوية: ما تكلّم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلّم أن لا يسكت من الحسن بن علي وما سمعت منه كلمة فحش قط إلاّ مرّة فإنّه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفّان خصومة في أرض فعرض الحسن بن علي أمراً لم يرضه عمرو فقال الحسن: ليس له عندنا إلاّ ما رغم أنفه فهذه أشدّ كلمة فحش سمعتها منه قط(2) .

وشهادة معاوية شهادة عدو بفضل عدوّه ولا أستبعد أن يكون غُلمته أذاع عن الإمام الحسن حكاية العجيزة حسداً منهم لما عرف به الإمام الحسنعليه‌السلام من نزاهة المنطق وحُسن القول. ويدلّ على ذلك حكاية أخرى عن عجيزة هند وابنها جاءت في صبح الأعشى بسياق آخر يقول القلقشندى:

ومن غريب ما يُحكى في ذلك أنّ رجلا أخذَ خطراً من قوم على أن يُغضب معاوية ابن أبي سفيان مع غلبة حلمه فعمد إلى معاوية وهو ساجد في الصلاة فوضع يده على عجيزته وقال: ما أشبه هذه العجيزة بعجيزة هند!

يعني ام معاوية فلمّا سلّم من صلاته. التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا إنّ أبا سفيان كان محتاجاً من هند إلى ذلك وإن كان أحد جعل لك شيئاً على ذلك فخذه.

وهذه الحكاية تغلب عليها الصنعة ولا يخالجني ريب في وضعها لأثبات حلم ابن هند.

لأنّ هذا الرجل إن كان معهم في الصلاة فكيف جازَ له الكلام ولو فعل لأنبه من حضر. وأوّلهم معاوية. ثمّ كيف ينفذ إلى المقصورة الّتي هي أمنع من عقاب الجو ومعاويه أوّل من أحدثها بعد محاولة اغتياله الفاشلة وكيف يتركه الحرس يتقدّم دون

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص138، مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص59.

(2) اليعقوبي، ج2 ص227.

٢٣٠

أن تمتدّ إلى لبطنة الحراب لتوجرها مع أنّ معاوية تقدّم إليهم أن لا يدخل عليه مجهول وكان جباناً في نفسه إلى حدّ الهلع والفزع.

لما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرّب إليه فقال: أنا وابن ملجم قتلنا علياً فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتّى دخل منزله وبعث إلى أشجع وقال لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنّه ببابي لأهلكنكم أخرجوه عن بلدكم(1) .

جبنت من الرومي وهو مقيّد

فكيف إذا لاقيته وهو مطلق

وحكاية عجيزة جدّة المؤمنين «هند» أوّل من تغزّل بها شيخ مضير تهم أبو هريرة ليرفع من قدر ولدها (خال المؤمنين) قال أبو هريرة:

رأيت هنداً بمكّة جالسة وكأنّ وجهها فلقة قمر وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس ....(2)

ولا يهمّنها من هند هذا ولا ذاك ولكن يهمنا أن نتميّز الأجواء الّتي علقت فيها بمعاوية وولدته وقضى سنيّ طفولته فيها.

لأنّها أجواء تعتبر بمثابة مفتاح السر الّذي يفتح لنا المغلق من شأن معاوية في غيرته على حرمه وكيف بلغ بها إلى درجة يأنف منها حتّى الإنسان الجاهلي بل يأباها حتّى القرد.

وأذكر من بعض مشاهداتي وما سجلته في سجل ذكرياتي إنّني في عهد الشبيبة وزميلا لي زرنا طهران وقصدنا حديقة الحيوان فيها. وسحنا في أطرافها وأكنافها وشاهدنا ضمن ما شاهدناه فيها أقفاص القرود وهي في الواقع خير ما فيها آنذاك ومررنا بقفص منها وفيه قردان و ما كنا نعلم أنّهما زوجان. وشاهدنا قرداً منهما نائماً إلى جانب السياج ممسكاً بإحدى يديه بطرف منه فعمد صاحبي إلى راحة يد القرد وأخذ يحكها بسبابتهِ بلطف وكأنه استطاب حمرتها ونعومتها وفجئة انقضَّ علينا القرد الراقد في أعلى القفص وقد ملأه صراخاً وزعيقاً وهبط إلى أسفل القفص وأوسع القدر النائم صراخاً وهمهمة فعللمنا حينئذ إنّها اُنثاه وقد غار عليها من سبابة

____________________

(1) ابن الأثير الكامل، ج3 ص206.

(2) ابن الأثير الكامل، ج3 ص206.

٢٣١

زميلي وساعتها اكتشفنا لأوّل مرّة أنّ القرد يغار أيضاً على عرضه من الإنسان فما بالك به لو شاهد قرداً معها وأعتقد أنّ هذا القرد خير من معاوية ابن أبي سفيان الّذي وضع عرضه في مهبّ السياسة كالريشة في مهب الريح..

وأعتقد أنّ أجواء الإنفلات في بيت هند الّتي قضى فيها معاوية طفولته وصباه بل وفتوّته أيضاً هي الّتي أكسبته هذه اللامبالاة.

وصيّرته يستخدم العرض للأغراض السياسيّة فيهب البنت والاُخت وبنت الأخ والولد تارة لهذا واخرى لذاك. ليجذبهم إلى حضيرة سياسته. ويسخّرهم لمآربه ولقضاء أوطاره السياسيّة يقول الزمخشري:

وكان معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو وإلى عمارة بن الوليد وإلى العباس بن عبدالمطّلب وإلى الصبّاح مغن أسود كان لعمارة قالوا: كان أبو سفيان دميماً قصيراً وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان شاباً وسيماً فدعته هند إلى نفسها.

وقالوا: إنّ عتبة بن أبي سفيان من الصبّاح أيضاً وأنّها كرهت أن تضعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك وفي ذلك قال حسان:

لمن الصبي بجانب البطحاء

ملقى غير ذي سهد

نجلت به بيضاء آنسة

من عبد شمس صلتة الخد(1)

والبيت الأوّل كنا نقرءه كالتالي:

لمن الصبي بجانب البطحاء

في الأرض ملقىً غير ذي مهد

وهو الصواب أمّا «غير ذي سهد» فلا معنى لها ولكني نقلته كما وجدته في المصدر.

في هذه الأجواء الأباحية ولد معاوية وترعرع فيها وهي أجواء الزنا الرسمي تقارفه هند على رؤوس الأشهاد لا تحذر أحداً.

وتأثير هذا على الولد أشدّ من تأثيره إذا كان خلسة مع الحذر والخوف.

ففي الأوّل يتفتّح وعي الناشىء في أحضانه على ممارسته بشكل علني وبإصرار فتهون عليه الأخلاق والمـُثُل الشريفة. أمّا الثاني فيدرك أنّه إثم مذموم حين

____________________

(1) الزمخشري، ربيع الأبرار، ج4 ص275 وص276.

٢٣٢

يمارس مع الخوف والحذر.

فلا يبعد عن العلاقة الطيّبة مع الخلق الشريف والقيم المحترمة..

ومن المعقول أن تكون هذه الأجواء المنفلتة والمجانبة للآداب هي علّة خروج معاوية على المألوف من الغيرة واحترام العرض.

وإذا شئت فجزء علّة على أقلّ تقدير. والواقع أنّ الوسط الجاهلي بصورة عامّة يعيش مثل هذه الأجواء الداعرة وكان معاوية في بيته يعيش في أعماق ذلك الوسط الجاهلي.

من ثمّ أصبح في عزّ ملكه وليس يُبالي ما أنزل بعرضه والّذي يستنبطه الباحث من حياة معاوية السياسيّة انّه اتّخذ من شهوة الحكم غايته القصوى وصارت الوسائط عنده سواءٌ منها العرض أو الدين تبرّرها تلكم الغاية.

ولما استلحق معاوية زياداً بشهادة أبي مريم السلولي أرسلت إليه جويريّة بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية فأتاها فأذنت له و كشفت عن شعرها بين يديه وقالت أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم(1) .

وأبو مريم هذا خمّار في الجاهلية شهد على أبي سفيان بالزنا بسميّة ولو كان لهذه الشهادة واقع صحيح فإنّ تمييز علوق سمية من أبي سفيان من بين عشرات الزائرين أمر مستحيل وكان على جويريّة لو لم تكن كأخيها الامتناع عن ذلك نظراً لهذه الحقيقة.

أمّا معاوية فقد تمادى في إدّعائه إلى حدّ توظيف العرض له.

وزوّجَ إحدى بناته من أحد أبناء زياد ليدلّ بذلك على صحّة هذا الإدّعاء.

فافتخرت يوماً على زوجها وتطاولت، فشكاها إلى أبيه زياد. فدخل عليهابالدرّة يضربها ويقول لها أشفراً وفخراً .....(2)

وحكاية معاوية مع عبدالله بن سلام بشأن امرأته اُرينب بنت اسحاق وكيف أغراه معاوية بابنته وزواجه منها ليطلّقها ويقضى واحدة من أماني ابنه يزيد في

____________________

(1) مروج الذهب، ج3 ص7.

(2) أمالي المرتضى، ج1 ص80.

٢٣٣

الزواج منها وكان انعكاس هذه الحكاية على الرأي العام شديداً على معاوية. حتّى قال الناس فيه:

كما نقل ذلك ابن قتيبة بالتفصيل فقال:

.. وذاع أمره في الناس وشاع ونقلوه إلى الأمصار وتحدّثوا به في الأسحار وفي اللّيل والنّهار وشاع في ذلك قولهم وعظم لمعاوية عليه لومهم وقالوا:

خدعه معاوية حتّى طلّق امرأته وإنّما أرادها لإبنه فبئسَ من استرعاه الله أمر عباده ومكّنه في بلاده وأشركه في سلطانه يطلب أمراً بخدعة من جعل الله إليه أمره ويحيّره ويصرعه جرأة على الله(1) .

وأحسب أنّ معاوية كان يحسب بناته بمثابة الذهب يوجّهه إلى من يُريد اكتسابه أو شراء ذمّته..

وطالما أنفقهنّ كمرادفهنّ الذهب في تمرير سياسته الباطلة. ولست واجداً في جاهلية أو اسلام أباً كمعاوية في جعل بناته بل عرضه بضاعة وَوَضْعِها في سوقه الخاصّة بالغدر والخديعة والكذب والدجل السياسي.

بلغ معاوية أنّ ابنته امتنعت على ابن عامر في الافتضاض فخرج إليها يتوذف في مشيته وفي يده مخصرة فجلس وجعل ينكث في الأرض ويقول:

من الخفرات البيض أما حرامها

فصعب وأما حلّها فذلول

وخرج فدخل ابن عامر فلم تمتنع عليه(2) .

وهذه حالة من غرائب الحالات لا تواتي إلاّ من كان مثل معاوية وما اختط لنفسه من السياسة العرضية ووضعها في مزاد سياسة الحكم.

وحكاية ابنته مع أبي دهبل تكشف عن هذه السياسة الوقاح بشكل سافر. نقل أبو الفرج الاصبهاني عن عاتكة ابنة معاوية أنّها حجّت فنزلت من مكّة بذي طوى فبينا هي ذات يوم جالسة وقد اشتد الحر وانقطع الطريق وذلك في وقت الهاجرة إذ أمرت جواريها فرفعن الستر وهي جالسة في مجلسها عليها شفوف لها تنظر إلى

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص170 وقد نقل ابن قتيبة حكاية اُرينب بنت اسحاق بتفصيل واف.

(2) التذكرة الحمدونية، ج1 ص459.

٢٣٤

الطريق إذ مرّ بها أبو دهيل الجمحي وكان من أجمل الناس وأحسنهم منظراً. فوقف طويلا ينطر إليها وإلى جمالها وهي غافلة عنه فلما فطنت له سترت وجهها وأمرت بطرح الستر وشتمته فقال أبو دهبل:

إنّي دعاني الحين فاقتادني

حتّى رأيت الظبي بالباب

يا حسنه إذ سبّنى مدبراً

مستتراً عني بجلبابِ

سبحان من وقّفها حسرة

صبّت على القلب بأوصاب

يذود عنها إن تطليتها

اب لها ليس بوهّاب

أحلّها قصراً منيع الذرى

يحمى بأبواب وحجاب

قال وأنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض اخوانه.

فشاعت بمكّة وشهرت وغنى فيها المغنون حتّى سمعتها عاتكة انشاداً وغناءاً فضحكت وأعجبتها وبعثت إليه بكسوة وجرت الرسل بينهما فلما صدرت عن مكّة خرج معها إلى الشام ونزل قريباً منها فكانت تعاهده بالبر واللطف حتّى وردت دمشق وورد معها فانقطعت عن لقائه وبعد من أن يراهاومرض بدمشق مرضاً طويلا فقال في ذلك:

طال ليلي وبت كالمحزون

ومللت الثواء في حيرون

وأطلت المقام بالشام حتّى

ظن أهلي مرجمات الظنون

فبكت خشية التفرّق جمل

كبكاء القرين إثر القرين

وهي زهراء مثل لؤلؤة الفواص

ميزت في جوهر مكنون

ثمّ خاصرتها إلى القبّة الخضراء

تمشي في مرمر مسنون

قبّة من مراجل ضربوها

عند برد الشتاء في قيطون

عن يساري إذا دخلت من البا

ب وان كنت خارجاً عن يميني

ولقد قلت إذ تطاول سقمي

وتقلبت ليلتي في فنون

ليت شعري أمن هوىً طار نومي

أم براني الباري قصير الجفون

قال: وشاع هذا الشعر حتّى بلغ معاويه فأمسك عنه حتّى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل فقال معاويه لحاجبه إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه وأردده إليَّ وجعل الناس يسلّمون وينصرفون فقام أبو دهبل لينصرف فناداه

٢٣٥

معاوية يا أبا دهيل إليَّ فلما دنا إليه أجلسه حتّى خلا به ثمّ قال له: ما كنت أظن أنّ في قريش أشعر منك حيث تقول:

ولقد قلت إذ تطاول سقمي

وتقلبت ليلتى في فنون

ليت شعري أمن هوىً طار نومي

أم يراني الباري قصير الجفون

غير أنّك قلت:

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص

ميزت من جوهر مكنون

وإذا ما نسبتها لم تجدها

في سناء من المكارم دون

وواللله إنّ فتاةً أبوهامعاوية وجدها أبو سفيان وجدّتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها ولقد أسأت في قولك:

ثمّ خاصرتها إلى القبة الخضراء

تمشي في مرمر مسنون

فقال والله يا أمير المؤمنين ما قلت هذا وإنّما قيل على لساني فقال له: أمّا من جهتي فلا خوف عليك لأنّي أعلم صيانة ابنتي نفسها وأعرف أنّ فتيان الشعر لم يتركوا أن يقولو النسيب في كلّ من جاز أن يقولوه فيه وكلّ من لم يجز وإنّما أكره لك جوار يزيد وأخاف عليك وثباته فإنّ له سورة الشباب و أَنَفَة الملوك ...(1)

والحكاية طويلة ذكرها أبو الفرج بطولها وفي ختامها أنّ أبا دهبل لم يزل يطارد عاتكة فرأى معاوية أن يزوّجه ليتخلّص من قالة السوء فزوّجه وكفّ عنها.

فهل هذا حُلُم أو دياثة ادع ذلك لفطنة القارىء واحسب ان عرض معاوية كان مثار حديث أهل الشام ودهشتهم. لذلك نرى معاوية في احدى خطبه ينهى عن ذلك من طرف خفي فيقول على المنبر:

إيايّ وقذف المحصنات وان يقول الرجل سمعت وبلغني فلو قذفت إمرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة ...(2)

ولعلّ توغّله في الزمن صعوداً إلى عهد نوح قرينة على أنّ القوم كانوا يخوضون في سيرة امّه وما ورّثتهُ اياهُ من عدم الاهتمام بالعرض من ثم سارع إلى بيان

____________________

(1) الأغاني، ج7 ص121.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص49.

٢٣٦

ذلك ليكون أوقع في الردع.

وإلاّ فلا أجد مناسبة تدعوه إلى ذكر ذلك سوى تلك المناسبة.

وربّما بدرت من معاوية بادرة صغيرة دلّت على ما يتّصف به من قلّة الغيرة.

ذكر الجاحظ: إنّ معاوية خرج ذات يوم يمشي ومعه خصي له. إذ دخل على ميسون ابنة بجدل وهي ام يزيد فاستترت منه فقال:

أتستترين منه وإنّما هو مثل المرأة؟ قالت أترى إنّ المثلة به تُحلّ ما حرّم الله(1) .

وإن تعجب من هؤلاء فإنّ أمرهم عجب وأيّ عجب ولكن أعجب من شيعتهم أمثال ابن كثير والذهبي وابن تيميّة وغيرهم.

فهذا ابن كثير يعدّ خلافة يزيد مكافئة لأمّه على احتجابها من الخصي قال:

وكانت حازمة عظيمة الشان جمالا ورياسة وعقلا وديناً دخل عليها معاوية يوماً ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك؟ فقال: إنّه خصي فاظهري عليه.

فقالت: ما كانت المثلة لتحلّ ما حرّم الله عليه وحجبته عنها. وفي رواية إنّها قالت له:

إنّ مجرّد مثلتك له(2) لن تحلّ ما حرّم الله عليه فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه(3) وأقول لهذا العاشق المفلس:

ما أعزّ ميسون على الله وما أهون امّة محمّد يكافىء هذه المرأة على احتجابها من خصي بكارثة كبرى ينزلها في الإسلام والمسلمين وهي ولاية يزيد لعنه الله فيقتل أهل البيت ويستبيح المدينة ويقتل أهلها وفيهم سبعون بدرياً ويجري من غربان الشام ما يجري على نسائها وعواتقها. ويهدم الكعبة بنصب المجانيق على أسوارها لقتل ابن الزبير كلّ هذا مكافئة لميسون لأنّها استترت من خصي. بعداً وسحقاً لعقلك يا ابن كثير وعقل اشباهك.

____________________

(1) الجاحظ، كتاب الحيوان، ج1 ص177.

(2) وقولها هذا يدلّ على أنّ معاوية هو الذّي خصاه..

(3) البداية والنهاية، ج8 ص148.

٢٣٧

وقد تكون هذه المرأة على شيء من الحزم حين عرقت عن معاوية ودنياه وعرفت طبيعة ذاته.

لما زفت ميسون بنت بجدل الطلبية إلى معاوية تشوّقت إلى البادية فقالت:

لبيت تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ من قصر منيف

وأصوات الرياح بكلّ فج

أحبّ إليّ من نقر الدفوف

وكلب ينبح الطراق عني

أحبّ إليّ من هر ألوف

وبكر يتبع الأضعان صعب

أحب إليّ من بغل زفوف

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشغوف

وخرق من بني عمي كريم

أحبّ إليّ من علج عليف

فلمّا بلغت الأبيات معاوية قال: والله ما رضيت بنت بجدل حتى جعلتني علجاً عليفاً ...(1)

ولا أعتقد أنّ مجرّد الحياة الحضرية المغايرة لطبيعة البادية حملتها على هذا الحنين وطلب العودة من حيث أتت بل من الممكن أن تكون قَلَت حياة الابتذال في القصر وما كانت تشاهده من غياب الضوابط الأخلاقية ونقر الدفوف!! وما يتبع ذلك من هزّ الأعطاف في قصر معاوية.

والواقع أنّ أكثر الكلمات استيعاباً لحقيقة معاوية قول عبدالملك بن مروان فيه:

قال أبو عاصم عن ابن جريج عن أبيه قال:

حجّ علينا عبدالملك بن مروان سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين فخطبنا فقال:

أمّا بعد فإنّه كان قبلي من الخلفاء يأكلون من هذا المال ويوكلون واني والله لا أداوي أدواء هذه الأمّة إلاّ بالسيف ولست بالخليفة المستضعف يعني عثمان ولا الخليفة المداهن يعني معاوية(2) .

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج7 ص416.

(2) تاريخ خليفة بن خياط، ج1 ص270.

٢٣٨

أجل والله صدق هذا الخبيث فلن تجد مداهناً في دينه وعرضه مثل معاوية بن أبي سفيان.

السمة التاسعة: أفقار الناس بنهب أموالهم وحيازة أراضيهم واستصفاء الذهب

والفضة وجمعها في خزائنه ليحوك المؤامرات ويشتري الذمم

وأعتقد أنّ هذه السمة أشدّ السمات فتكاً وأعمّها أثراً في الاُمّة فقد تنبهت في معاوية بعد أن ذاق حلاوة الحكم حاسّة الجشع الفاجر واستفحلت فيه طبيعة الطمع بعد أن وجد سبيل النهب والجمع والادّخار معداً له في إمارته وخلافته. بخاصة وقد جعل له عمر عطاءه من بيت المال عشرة آلاف دينار وهو مبلغ خيالي في ذلك الزمان ...

والدينار يساوي المثقال وهو احدى وسبعون شعيرة تقريباً بناءاً على أنّ الدانق ثماني حباب وخمسمائة حبّة..(1)

وباستطاعتك أن تلمّ بالمبلغ الكبير الّذي كان يهبه عمرلمعاوية ثمناً لكيده الإسلام ومخالفته شرائعه.

ولقد إسر حبّ المال معاوية وملك عليه شغاف قلبه فأعشى بريق الذهب عينيه وأصم أذنيه أذنيه. وجعله قاعدةً رفع عليها. دعائم ملكه. واستعبد به عبّاده مثل ابن العاص فقد قال له ذات يوم:

ما أشدّ حبّك للمال قال ولِمَ لا اُحبّه وأنا استعبد به مثلك وابتاع دينك ومروءتك ....(2) وصدق ابن هند لقد ابتاع به دين الكثير من نظراء ابن العاص في الطمع والخسّة.

وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة من بني ربيعة بن كعب بن سعد والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل أحد بني حُويّ بن سفيان بن مجاشع إلى معاوية بن أبي سفيان.

____________________

(1) حسين يوسف موسى وعبدالفتاح الصعيدي، فقه اللغة، ج2 ص1230.

(2) التذكرة الحمدونية، ج7 ص191.

٢٣٩

فأعطى كلّ رجلّ منهم مائة ألف وأعطى الحتات سبعين ألفاً فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضاً فأخبروه بجوائزهم. فكان الحتات أخذ سبعين ألفاً فرجع إلى معاوية فقال: ما ردّك يا أبا منازل؟ قال: فضحتني في بني تميم أما حسبي بصحيح أولست ذا سن! أولست مطاعاً في عشيرتي! فقال معاوية: بلى قال: ما بالك خسست بي دون القوم! فقال: اني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفّان وكان عثمانياً فقال: وأنا فاشتري منّي ديني فأمر له بتمام جائزة القوم وطُعن في جائزته فحبسها معاوية ...(1)

والمال عند معوية سبب مهم لبلوغ غايات ومنها شراء الذمم والأديان وما من أحد ممّن اشترى معاوية منهم دينهم يجهل حقيقة الصفقة أو خطة معاوية في ذلك.. فهذا عمرو بن العاس يعلم انّه باع دينه بدنانير مصر. عن ابن عباس:

.. إنّ عمرو بن العاص قال لمعاوية بن أبي سفيان: رأيت فيما يرى النائم أبا بكر كئيباً حزيناً قد أخذ بضبعيه رجلان قلت: بأبي أنت وأمي يا خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شأنك؟ أراك كييباً حزيناً! قال وكّل بي هذان الرجلان ليُحاسباني بماترى. وإذا صحف ليس بالكثيرة ورأيت عمر بن الخطّاب كئيباً حزيناً وقد أخذ بضبعيه رجلان فقلت بأبي وأمي انت يا أمير المؤمنين مالى أراك كئيباً حزيناً! قال: وكّل بي هذان الرجلان ليُحاسباني بما ترى وإذا صحف مثل الحزورة جبيل ليس بالضخم. ثمّ رأيت عثمان بن عفّان كئيباً حزيناً فقال وكّل بي هذان يُحاسباني بما ترى وإذا صحف مثل الخذمة.

- جبل إذا دخلت البطحاء عن يسارك - ورأيتك يا معاوية كئيباً حزيناًقد أخذ بضبعيك رجلان قد ألجمك العرق فقلت: بأبي واُمي يا أمير المؤمنين! مالى أراك كئيباً حزيناً؟ فقلت: وكلّ بي هذان ليُحاسباني بما ترى وإذا صحف مثل أُحد وثبير. فقال معاوية: أما رأيت ثمّ دنانير مصر(2) .

وهذه الدنانير هي الّتي جعلت عمراً كالكلب يتبع الضرغام كما وصفه الإمام

____________________

(1) الطبري، ج5 ص242، والكامل، ج3 ص231.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص69، والبداية والنهاية، ج8 ص148.

٢٤٠