الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102718
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102718 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قارورة دفعها إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال الحسينعليه‌السلام : يا اماه وأنا أعلم إني مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً وقد شاء الله عزوجل أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين واطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً.

قالت ام سلمة: واعجباً فأنّى تذهب وأنت مقتول؟

قالعليه‌السلام : يا اماه إن لم أذهب اليوم ذهبت غداً وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد وما من الموت والله بد وإني لأعرف اليوم الذي اقتل فيه والساعة التي اقتل فيها والحفرة التي ادفن فيها كما اعرفك وانظر إليها كما أنظر إليك وإن أحببت يا اماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي فطلبت منه ذلك فأراها تربته وتربة أصحابه وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فإذا رأتها تفور دماً تيقّنت قتله ....(1) وكبر خروجه على نساء بني عبدالمطلب فاجتمعن للنياحة فمشى فيهن الحسين وسكّتهن وقال: انشدكن الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله فقلن: ولمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن وزينب واُم كلثوم فننشدك الله جعلنا الله فداءك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور واخبرته بعض عماته أنها سمعت هاتفاً يقول:

وإن قتيل الطف من آل هاشم

اذل رقاباً من قريش فذلّت

فصبّرها الحسين وعرفها أنّه أمر جار وقضاء محتوم(2) .

هؤلاء المعترضون والمشفقون ومثلهم معهم خفي عليهم الهدف الأساس من ثورة الحسين. فمن ثم راحوا يحاورونه في جدوى هذه النهضة عليه وعلى الاُمّة كما أنّهم بصّروه طبقاً لرؤيتهم للأحداث مقدمات ونتائج بما سوف يلاقيه من طغيان الجبابرة وعنتهم وأخذهم كل أحد بالقهر والشدّة وإن كان من أهل البيت للاحتفاظ بمقاليد الحكم بأيديهم.

وكان الحسينعليه‌السلام عالماً بخفاء الحقيقة على جلّهم ولم يفصح عن هدفه

____________________

(1) المقرم، مقتل المقرم، ص151.

(2) نفسه، ص154.

٢١

إلاّ لفئة قليلة من الناس عرف بهم صدق النيّة ومضاء العزيمة كما أنّه كشف لبعضهم جانباً مما يلحق به من الاذى في سبيل الله واخبرهم عن علمه بذلك كقوله السالف لأخيه عمرو لسيدتنا ام سلمةعليها‌السلام . وما زال المعترضون موقنين بأنّ خروج الحسين منحصر في المطالبة بحقه والهدف الاكبر منه قلب نظام الحكم الاُموي.

ولم يخرج الحسين لذلك على الأطلاق لأنه هدف غاية في التفاهة والصغر ولو كان الحسين أراده لتوخّى أسبابه، ولسلك السبل المؤدية إليه.

خلا أننا بإمكاننا أجمال هدفه الأكبر بجملة واحدة هي بمثابة الكوّة التي تفتح على عالم فسيح وهي: (قلب نظام الأخلاق).

ذلك أنّ الأمة اكتسبت جراء سلوك حكامها معها والرعية على دين ملوكها والناس بملوكهم أشبه منهم بآبائهم صفات مسترذلة واخلاقاً حقيرة وعادات سيئة تنافي ما بناه الاسلام لها من اخلاق وما شاده من مثل عليا وطلب من المسلم التحلي بها لتتم صياغة شخصيّته مطابقة لمضمونها.

وانساقت الأمة بدون وعي منها وراء هؤلاء الحكام حتّى أوشك أن يحل بها الذي حلّ بالأمم قبلها فاستحالت إلى كائنات ظاهرها الإسلام وباطنها أخلاق الحكام ...

والفرق بين الهدفين يمكن أن نصوّره بما يلي:

قلب نظام الحكم

لو أراد الإمام هذا الهدف لسعى سعيه إليه وحينئذ تنحصر الفائدة من هذا في تأسيس دولة إسلامية مشابهة لدولة أبيه هذا مع فرض النجاح وليس من المستبعد بل قريب جدّاً أن يواجه ما واجه أبوه من الناكثين والقاسطين والمارقين فما نفدت جنود إبليس بعد.

وحينئذ تثار في وجهه المتاعب ويكتض طريقه بالمصاعب وبملأ هؤلاء واولئك قلبه قيحاً ويُجرّع نغب التهمام انفاساً من أشباه الرجال، وتكون الخاتمة معلومة شهادة في محراب أو موتاً على الفراش.

٢٢

ويأتي خلفه فتجري الأحداث معه كجريها مع سلفه في حلقة مفرغة إلى ما شاء الله.

وتخرج الاُمّة من هذه التجارب بيد فارغة لم تكتسب إلاّ فوائد ليست بذات أثر في مقابل التضحيات وهي منوطة بالزمن وتنتهي بانتهائه.

قلب نظام الأخلاق

ويحتاج الإمام من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود إلى إحداث زلزال في ضمير الاُمّة الباطن وعقلها الكامن يؤدي إلى تحريك ضميرها بنبض الحياة فيفجرها بالندم والحزن ويخرجها من واقعها الادبي المتداعي إلى واقع خلقي رفيع دعامته الجهاد وركائزه المواقف المدبّجة باللوامع الخلقية الشريفة من قبيل التضحية والفداء ونكران الذات وهكذا وحينئذ تكون هذه الهزّة التي حدثت على حين انسياق وغفلة من الاُمّة بمثابة قوّة الدفع لها ولن تقتصر على الجيل المعاصر أو التالي له بل تكون صالحة لكل الأجيال التي تأتي بعده تمدّها بالحركة النازعة صوب الكمال المطلوب على أن يكون هذا الزلزال من القوّة والتنوع بحيث يرادف الحياة فيجري في الأجيال خلفاً عن سلف وصاغراً عن كابر وهكذا دواليك وحينئذ يكون بيد الأجيال جذوة متقدة تضيء حوالك الزمن وأداة استنهاض واثارة إذا طرأت على الاُمّة ظروف ماثلت تلك الظروف التي عاصرت الزلزال الأوّل.

ويكون بالإمكان فيما إذا ايقضت الظروف الحرجة وعي الاُمّة صياغة دستور ثوري منه يكرر الثورات بتكرر الظروف الحالكة. شريطة أن تتعهد هذا التفاعل فئة من الناس كالمجاهدين مثلاً أو الخطباء فتسايره راعية وموجهة وشارحةً كما يفعل الزارع بزرعه.

ويتم شحن الاُمّة بطاقئة الخارقة عن طريق الشرح والتمثيل والصياغة الحيّة. ولا مانع من تمثيل بعض مشاهده بأدوار مسرحية تجسّد للأذهان جانباً مما حدث على الصعيد الواقعي.

وكان هدف الحسين إحداث هذا الزلزال في ضمير الأمة لفاعليّته وأثره الكبير وحيويته الخالدة فليس بالإمكان نسخ النهضة الحسينيّة بمواقف بشرية وإن كانت

٢٣

في قمة المأساويّة في مستقبل الزمان كما استحال ذلك في ماضيه.

والهدف الأول يفتقر إلى هذا الأثر وإن احتوى على أثر محدود ربما امتد إلى قرن أو قرنين بل أكثر ولكنه يضعف عن مواكبة الزمن الأسلامي من هنا عافه الحسين مع قدرته عليه ولو أراده لتحقّق على يديه وبلغه كما فعل الكثير من الثوار الذين قلبوا نظاماً وإقاموا آخر غيره.

اتضح لنا الفرق بينهما ونحن من أجل إيضاح الهدف الثاني وإقامة الدليل عليه لا مناص لنا من القاء نظرة شاملة على وضع الجزيرة العربية الخلقي قبل الإسلام كما يقتضينا ذلك أن نعرف الصيغة الخلقية التي جاء بها الإسلام ودعى الاُمّة إلى التحلي أو العمل بها ومن ثم نلم بالتغيير الشامل الذي أحدثته إنظمة الحكم في أخلاق الاُمّة بخاصة الحكم الاُموي وبعد هذه الجولة المضنية سوف نتعرف على النهضة الحسينية ونتصل بأهدافها اتصالاً مباشراً إن شاء الله.

نظرة على الوضع الخلقي العام

جاء الإسلام والوضع الخلقي في الجزيرة بين الأفراط والتفريط فهو يتذبذب بين حاتم الطائي وقيس بن عاصم وأمثالهما وبين رجل مثل مادر الذي يضرب به المثل في البخل فيقال: ابخل من مادر.

وقس عليهما عنترة العبسي في الشجاعة وأبا حية النميري(1) في الجبن وهلم جراً.

ويبدو للباحث في السلوك العام لسكان الجزيرة قبل الإسلام هذان الطرفان ماثلين بوضوح ولا يخلو جانب من جوانب الحياة فيها من وجودهما على نحو من

____________________

(1) أبو حية النميري: كان له سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق وكان يسميه لعاب المنية فقال جار له: اشرفت عليه ليلة وقد انتضاه وشمّر وهو يقول: أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به مشهور ضربته لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك وإلاّ دخلت بالعقوبة عليك إني والله أن ادعُ قيساً نملاً الأرض خيلاً ورجلاً يا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها! ثمّ فتح الباب فإذا كلب قد خرج فقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني حرباً. ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص168.

٢٤

الأنحاء. فبينما تجد الناس فيها يتسابقون في اُمور تافهة مخزية وضيعة ويعامل الفائز فيها معاملة البطل فيرفع على الأكتاف ويهتف بحياته الناس.

تجد إلى جانب ذلك سباقاً تهتز مشاعر الانسان بالأريحية من تصوره وإليك هذين النموذجين للمتسابقين:

النموذج الأول:

أبو عثمان حدثنا الأصمعي قال: تجاعر حيان من العرب أي خرئوا فاختار كل حي منهم رجلاً وكان سبقهم من ذلك جزوراً قال: فاطعما من الليل طعاماً كثيراً حتّى اندحّت بطونهما قال: ثم اصبحوا فاجتمع الناس قال: فجاء أحدهما فوضع أمراً عظيماً فهال ذلك أصحاب الآخر وجبنوا وخشوا أن يغلبوا فقال صاحبهم:

لا تعجلوا ابشروا قال: فجاء صاحبهم إلى ما وضع صاحبه ثمّ جلله ثمّ تنحّى ناحية فوضع مثله قال: فغلب فاخذه أصحابه فحملوه على أعناقهم فقال: بأبي أنتم أما إذا كان الظفر لنا فأشبعوني من أطايبها يعني من أطايب الجزور(1) .

النموذج الثاني:

قالت الخنساء وقد قيل لها: ما مدحت أخاك حتّى هجّنت أباك فقالت:

جارى أباه فاقبلا وهما

يتعاوران مُلاءة الحضر

حتى إذا نزت القلوب وقد

لزّت هناك العذر بالعذر

وعلا هتاف الناس أيهما

قال المجيب هناك لا أدري

برزت صفيحة وجه والده

ومضى على غلوانُه يجري

أولى فأولى أن يساويه

لو لا جلال السن والكبر

وهما كأنهما وقد برزا

صقران قد حطّا على وكر(2)

والناظر إلى جلال هذا السباق حيث يأبى الولد أن يساوي والده لجلال السن والكبر وحمق ذلك السباق يخيّل له أنّهما من اُمّتين وليسا لأمة واحدة وكذلك تجد طرفي الإفراط والتفريط ماثلين في نظرتهم الخاصة إلى الاُنثى من الأولاد فبينما تجد

____________________

(1) أبو عبيدة التيمي، النقائض، ج1 ص11.

(2) أمالي المرتضى، ج1 ص98.

٢٥

صعصعة جدّ الفرزدق يحيى الوئيدات وأحيا قبل مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائة وأربع جوار وكان من حديث صعصعة أنّه كلما ولدت أمرأة جارية يكفل ابنتها لئلا توئد(1) .

ونجد حطان بن المعلّى يقول:

انزلني الدهر على حكمه

من شامخ عال إلى خفض

وغالني الدهر بوفر الغنا

فليس لي مال سوى عرضي

لولا بنيّات كزغب القطا

رددن من بعض إلى بعض

لكان لي مضطرب واسع

في الارض ذات الطول والعرض

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبّت الريح على واحد

لامتنعت عيني من الغمض

نجد بأزاء هذين المثلين قيساً بن عاصم نزع الله الرحمة من قلبه فما ولدت له بنت إلاّ وأدها...(2) . وإليك نماذج لهذين الطرفين لتقف على واقع الحال.

صعصعة بن ناجية

كان يشتري البنت ممن يريد وأدّها خشية الإملاق فاحيا ستاً وتسعين موءوده إلى زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك يقول الفرزدق مفتخراً:

ومنا الذي اختير الرجال سماحة

وخيراً إذا هبّ الرياح الزعازع

ومنا الذي قاد الجياد على الوجى

لنجران حتّى صبّحتها النجائع

ومنا الذي اعطى الرسول عطيّة

أسارى تميم والعيون دوامع

ومنا الخطيب لا يعاب وحامل

اغرّ إذا التفت عليه المجامع

ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب

وعمرو ومنا حاجب والأقارع

اولئك آباني فجئني بثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

...(3)

روى أبو عبيده عن عقال بن شبّه قال: قال صعصعة: خرجت باغياً ناقتين لي

____________________

(1) أبو عبيدة، النقائض، ج1 ص264.

(2) الأغاني، ج14 ص69.

(3) الآلوسي، بلوغ الارب، ج3 ص45.

٢٦

فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو اُخرى فلم تزل تفعل ذلك حتّى قلت: اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار أن لا أجد أهلها يوقدونها لكربة إلاّ فرجتها عنهم، قال: فلم أسر إلاّ قليلاً حتى أتيتها، فإذا حي من بني أنمار وإذا بشيخ يوقدها في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى إمرأة ما خض قد حبستهن ثلاث ليال، فسلمت فقال الشيخ: من أنت؟ فقلت: أنا صعصعة بن ناجية فقال: مرحباً بسيدنا، فيم أنت با ابن أخي؟ قلت: في بغاء ناقتين لي، قال: قد وجدتهما، بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك وقد تجنّاهما وعطفت أحداهما على الاُخرى وهما شأنك في أدنى الإبل، قال: فيم توقد نارك منذو الليلة قال: أوقدتها لأمرأة ماخض قد حبستنا منذ وثلاث ليال قال: فقال النساء: قد جاء الولد فقال الشيخ: إن كان غلاماً فوالله ما أدرى ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا اسمعن صوتها إلاّ قتلتها فقلت يا هذا ذرها فإنّها بنتك ورزقها على الله، فقال: اقتلها فقلت: انشدك الله، فقال: إني أراك بها حفيّاً فاشترها مني، قلت إني اشتريتها منك فقال: ما تعطيني؟ قلت: اعطيك احدى ناقتي قال: لا قلت: ازيدك الاُخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال: لا إلاّ أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن، فقلت: هو لك على أن تبلغني أهلي، قال: قد فعلت فابتعتها منه واخذت عليه عهدالله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين عنه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده قلت: اللهم هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، ثمّ قلت: اللهم إنّ لك على أن لا أسمع برجل من العرب يريدان يئد بنتاً له إلاّ اشتريتها بلقوحه وجمل فبعث الله عزوجل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد احييت مائة موءودة إلاّ أربعاً لم يشاركني في ذلك أحد حتّى أنزل الله عزوجل تحريمه في القرآن وفي رواية أخرى: إنّه جاء الإسلام وقد أحيا ثلاثمائة وستين مؤودة ...(1) .

وأخرج الطبراني عن صعصعة بن ناجية المجاشعي قال: قلت يا رسول الله إني عملت أعمالاً في الجاهليّة فهل فيها من أجر؟! احييت ثلاثمائة وستين من الموئودة اشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي من ذلك من أجر؟

____________________

(1) ابن الجوزي، المنتظم، ج5 ص264.

٢٧

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لك أجره إذ منّ الله تعالى عليك بالإسلام ...

وقد ذكر الفرزدق إحياء جده الموءودة في كثير من شعره. كما قال:

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوأيد فلم يوأد

....(1)

وما أشد الفرق والإختلاف بين صعصعة وقيس بن عاصم هذا في إحيائه ثلاثمائة وستين موءودة وهدا في وأده لبناته ...

قيس بن عاصم

ذكر أخباره أبوالفرج في الأغاني وقال: هو شاعر فارس شجاع حليم، كثير الغارات، مظفر في غزواته، أدرك الجاهليّة والإسلام فساد فيهما وهو أحد من وأد بناته في الجاهليّة.

وفد قيس بن عاصم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله بعض الأنصار عما يتحدّث به عنه من الموءودات التي وأدهن من بناته فأخبر أنّه ما ولدت له بنت قط الاوأدها ثمّ أقبل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدثه فقال له:

كنت أخاف سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات فما ولدت لي بنت قط الاوأدتها وما رحمت منهن موءودة قط الابنية لي ولدتها أمها وأنا في سفر فدفعتها أمها إلى أخوالها فكانت فيهم وقدمت فسألت عن الحمل، فأخبرتني المرأة أنّها ولدت ولداً ميّتاً، ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبيّة ونفعت فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها شيئاً من خلوق ونظمت عليها ودعاً وألبستها قلادة جزع وجعلت في عنقها مخنقة بلح، فقلت من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وكيسها فبكت ثم قالت:

هذه ابنتك كنت خبّرتك أني ولدت ولداً ميتاً وجعلتها عند أخوالها حتى بلغت هذا المبلغ فأمسكت عنها حتى اشتغلت عنها، ثمّ أخرجتها يوماً فحفرت لها حفيرة فجعلتها فيها وهي تقول: يا أبت ما تصنع بي؟! وجعلت اقذف عليها التراب

____________________

(1) الآلوسي، بلوغ الارب، ج3 ص46.

٢٨

وهي تقول:

يا أبت امفطي أنت بالتراب؟! أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني؟ وجعلت اقذف عليها التراب ذلك حتى واريتها وانقطع صوتها فما رحمت أحداً ممن واريته غيرها.

فدمعت عينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال: إن هذه لقسوة وأن من لا يرحم لا يرحم أو كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

ومن عجيب أمرهم وتناقض حالهم أن يجبر أحدهم الجراد لأنه نزل بساحته ويقري الضبع ويحميها لأنها لجئت إلى خيمته على حين يقتل بعضهم الآخر الطفل الصغير بوحشيه متناهية تؤذي القلب والضمير.

رهن الأسلع بن عبدالله العبسي بني ذببان ثلاثة من بنيه وأربعة من بني أخيه حين مشى في الصلح حتى يصطلحوا وجعلهم على يدي سبيع بن عمرو من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فمات سبيع وهم عنده: فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع إن عندك مكرمة لا تبيد إن احتفظت بهؤلاء الأغيلمه وكأني بك لو قد متُّ قد اتاك خالك حذيفة فعصر عينيه وقال: هلك سيدنا ثمّ خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم فلا شرف بعدها فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم فلما ثقل جعل حذيفة يبكي ويقول: هلك سيدنا فوقع ذلك له في قلب مالك فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك واعظمه فقال له: يا مالك إني خالك وأنا أسنّ منك فادفع إلي هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا ولم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمرية (واليعمرية ماء بواد من بطن نخل من الشربة لبني ثعلبة).

فلما دفع مالك إلى حذيفة الرهن جعل يبرز كل يوم غلاماً فينصبه غرضاً ثم يرمي ويقول: ناد أباك فينادي أباه حتى يخرقه النبل وقال لواقد بن جنيدب ناد أباك فجعل ينادي يا عماه خلافاً عليهم أن يأبس أباه والأبس القهر والتحمل على المكروه وقال لابن جنيدب بن عمر بن الأسلع ناد حُبينه فجعل ينادي يا عمراه باسم أبيه

____________________

(1) ابوالفرج الاصفهاني، الأغاني، ج14 ص69.

٢٩

حتى قتل وقتل عتبة بن قيس بن زهير(1) .

وهذه القسوة إن حققت لا تجامع ذلك الرفق بالجراد والضبع.

ولا يعدم الباحث في مجتمع الجزيرة قبل الإسلام عشرات النماذج المتذبذبة بين طرفي الإفراط والتفريط مما طبع الجزيرة بطابع خاص حمل الأمم على ازدراء سكانها وتجريدهم من محاسنهم لغلبة القسوة البالغة على حياتهم وربما الصقوا بهم إحياناً مساوئ غيرهم.

فهذا الجيهاني(2) يقول عنهم: يأكلون اليرابيع ويتعاورون ويتساورون ويتهاجون ويتفاحشون وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر لبسوا أهب الخنازير قال: ولهذا كان كسرى يسمّي ملك العرب: سگان شاه أي ملك الكلاب قال: وهذا لشدّة شبههم بالكلاب وإجرائها والذئاب وإطلائها.

ولقد ابدع ابو حيّان التوحيدي وأتى بالقول الفصل والحق الذي لا غبار عليه في ردّه المفحم على الجيهاني فقال: أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي كل كسرى كان في الفرس وكل قيصر كان في الروم وكل يَلهُور كان في الهند(3) .

وكل يقفور كان بخراسان وكل خاقان كان بالترك وكل اخشاد(4) كان بفرغانه وكل صبهبذ من اسكندر واردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد وطعم ما لحق وشرب ما قدر عليه حباً وطلباً للبقاء وجزعاً من الموت وهرباً من الفناء، أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبرّ وبار(5) .

____________________

(1) أبو عبيدة، النقائض، ج1 ص93 بتصرف.

(2) محمد بن أحمد وزير السامانيين قال عنه ابن النديم: أنه من رؤساء المتكلمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة ويصنّفون في نصرة الاثنينية.

(3) لقب لكل عظيم من ملوك الهند.

(4) اخشاد واخشيد لقب كان لملوك فرغانه.

(5) وبار أرض واسعة ببلاد اليمن.

٣٠

وسفوح طيبة(1) ورمل يبرين وساحة هبير(2) وجاع وعطش وعري اما كان يأكل اليربوع والجرذان! وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر وما أسن في تلك الوهدات؟ أو ما كان يلبس البرجد(3) والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه واخش بلى والله ويأكل حشرات الأرض وبنات الجبال وكل ما حمض ومر وخبث وضر(4) .

وهذا كلام متين منتزع من واقع الحال إذ كل من قطن تلك الديار وعاش في تلك الربوع فلا مناص له من التكيف وفقاً لما تمليه الحياة المادية فيها فما تلك الطباع براجعة إلى حقيقة الجنس بل إلى الوضع الاقتصادي والحياة المادية لتلك البلاد.

وبمثل ما نبزهم به الجيهاني من خشونة المطعم وبؤس العيش نبزهم استاذه كسرى انوشروان فقد قال للنعمان: ( قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذّاتها فافضل طعام ظفريه ناعمهم لحوم الأبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها ....(5)

نظرت بعين الحقد قوماً فعبتهم

باكلهم إذ لم تجد فيهم وصما

أجل نحن قوم نحسن الطعن في الوغى

وأنتم فريق يحسن القضم والهضما

ومن عاد لا يهتم إلاّ ببطنه

فقد قلد الانعام واتبع البهما

وهل تورث العلياء يوماً مآكل

أجاد بها الطاهي وروّقها طعما

فهل أنت في فالوذج تحكم الورى

وهل أنت في لوزينج تقهر الخصما

أتجعل كاس الأكل طاسك في الوغى

وتشحذ من لوزينج للعدى سهما(6)

____________________

(1) بلد عند زرود.

(2) رمل قرب زرود بطريق مكة.

(3) البرجد كساء غليظ صوف أحمر والخميصة كساء أسود مربع له علمان والسمل من الثياب الخلق البالي.

(4) أبو حيان التوحيدي، الأمتاع والموانسة، ص79.

(5) أحمد الهاشمي، جواهر الأدب، ج1 ص224.

(6) أحمد الصافي النجفي، الديوان الامواج، ص95.

٣١

لقد عمّت هؤلاء رحمة الله وشملتهم عنايته حين بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام :

.. تأملوا في حال نشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقيا صره أرباباً لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ومهافي الريح ونكد المعاش فتركوهم عالة مساكين أخوان دبر ودبر أذل الامم داراً واجد بهم قراراً لا يأوون إلى جناح دعوة.

يعتصمون بها ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزّها فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة والكثرة متفرقة في بلاء أزل وإطباق جهل! من بنات مؤودة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حيث بعث إليهم رسولاً فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته الفتهم كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها وأسالت لهم جداول نعيمها والتفتّ الملة بهم في عوائد بركتها فاصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة عيشها فكهين ...(1) .

أشار الإمامعليه‌السلام إلى حقيقة ما كانوا عليه قبل الإسلام وما صاروا اليه بعده فقد اشرق في جزيرتهم وهم عاكفون على أخلاقهم عكوفهم على أصنامهم لا يلقون بالاً لنصيحة ناصح ولا يصيخون السمع لصوت مصلح.

وكان فيهم قوم حكماء من قبيل ذي الأصبع العدواني وقس بن ساعدة وأمثالهما عملوا على إصلاح أوضاعهم فما تسنّى لهم ذلك حتى جاء الإسلام وانطلقت دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسري في محيطهم سريان الجذوة المتقدة في الحطب الجزل أو البرق اللامع في معتكر الظلام.

وقطعت الدعوة أشواطها في خطين متوازيين أحدهما بمنزلة الأساس للآخر. عقيدة التوحيد وما يتفرع عنها من الاُصول وما يتبعها من الشرايع والأحوال.

والمناهج الأخلاقية المرتكزة عليها والتي تستمد مادتها الاُولى من ذلك الوهج الساطع المتمثل في نور الوحدانيّة.

____________________

(1) الشيخ محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج3 ص140.

٣٢

واضحت جزيرة العرب من أقصاها إلى أقصاها مغمورة به يضيء لها ما أدلهم من حياتها.

فكانت بمنزلة المريض وكانت الرسالة المحمدية هي الطبيب الذي أقام العلاج لوضع الجزيرة على دعامتين الأولى الوقاية من الأخلاق القديمة وطرحها من حياة الناس والعمل على محوها من عرصة الوجود لأنها السبب الاكبر في مئآسي الجزيرة وسقوط شأنها وتفاهة قدرها عند سكانها وعند الناس.

والثانية كيفية العلاج وذلك بوضع صيغة معتدلة للأخلاق الواجب اتخاذها والصفات التي يجب على الاُمة الالتزام بها.

وإنما الأمم الأخلاق مابقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ورب خلق كريم يعدل عند الناس فتحاً من الفتوح بخاصة إذا كان من قائد مقتدر كما جرى لسيف الدولة بن حمدان فقد:

خرج الأمير سيف الدولة في طلب بني كلاب ومن انضاف إليها فلحق حلة من بني نمير رئيسها مماغث فاحتوى عليها فخرجت إليه ابنة مماغث مسفرة حافية كالشمس الطالعة وابو فراس يسايره فصفح لها عن الحلة وأمر برد ما أخذ منها فكتب إليه أبو فراس يداعبه:

وما انس لا انس يوم المغار

محجبة لفظتها الحجب

دعاك ذووها بسوء الفعال

لما لا تشاء وما لا تحب

فوافتك تعثر في مرطها

وقد رأت الموت من عن كثب

وقد خلط الخوف لما طلعت

دلّ الجمال بذل الرعب

تسارع في الخطو لا خفة

وتهتز في المشي لامن طرب

فلما بدت لك دون البيوت

بدالك منهن جيش لحب

فكنت أخاهن إذ لا أخ

وكنت أباهن إذ ليس أب

ومازلت مذ كنت تأتي الجميل

وتحمي الحريم وترعى النسب

فولين عنك يفدينها

ويرفض من ذيلها ما أنسحب

ينادين بين خلال البيوت

لا يقطع الله نسل العرب

أمرت وأنت المطاع الكريم

ببذل الأمان ورد السلب

٣٣

وقد رحن من مهجات القلوب

بأوفرغنم واغلى نشب

فإن هن يا ابن السراة الكرام

رددن القلوب رددنا النهب(1)

هكذا يكون ظفر القائد الشريف إذا شاهد النساء وقد خلاهن الأهل والحماة أمّا ظفر النذن الذليل المهان فهو كظفر ابن سعد وجنوده بخيام الحسينعليه‌السلام .

وعلى العيس من بنات على

نوح كل لفظها تعديد

سلبتها ايدي الجفات حلالها

فخلا معصم وعطل جيد

وعليها السياط لما تلوّت

اخلفتها اساور وعقود(2)

قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام :

بعثه والناس ضلال في حيرة وخابطون في فتنة قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء واستخفتهم الجاهلية الجهلاء حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل فبالغصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النصيحة ومضى على الطريقة ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة(3) .

بعثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال كون الناس ضالين عن طريق الحق في جهرة من أمر الدين وكانت حركاتهم على غير نظام وكانوا في فتنة وضلال جذبتهم الأهواء الباطلة والآراء العاطلة إلى مهاوي الهلاك وقادهم التكبر والتجبر إلى الخطأ والخطل والهفوة والزلل وجعلتهم الجاهلية الجهلأ أخفّاء العقول سفهاء الحلوم حالكونهم حائرين تائهين مغمورين لا يهتدون إلى وجوه مصالحهم وبلاء من الجهل أي ابتلاء بالقتل والعادات ناشئاً عن جهالتهم لعواقب الاُمورات فبالغ صلّى الله عليه في النصيحة للأمة ومضى على الطريقة المستقيمة ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة التي دعا إلى سبيل الله بهما امتثالاً لأمر الله وهو قوله تعالى: ادعوا إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية(4) .

رسم الإمام أميرالمؤمنين الملامح الظاهرة للوضع الأخلافي العام في الجزيرة

____________________

(1) أبو فراس الحمداني، الديوان، ص20.

(2) شعر السيد جعفر الحلي، الديوان، ص145.

(3) مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج2 ص66.

(4) السيد الخوئيرحمه‌الله ، منهاج البراعة، ج2 ص153 بتصرف.

٣٤

العربية وما كانوا عليه من الاقتتال وتنازع البقاء لا يأوون إلى أدب ولا يستضيئون بنور حكمه حتى بعث الله سبحانه ذلك النور المتوهج منهم وتفجر في جزيرتهم فعلمهم بعد جهل واعزهم بعد ذل ورفعهم بعد ضعة وارشدهم بعد ضلال وجمعهم بعد فرقة واقتتال.

( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) الآية.

الاسلام وخطّته في تهذيب الأخلاق

عمد الإسلام في خطته الإصلاحية لتهذيب الأخلاق في الجزيرة العربية مهد انطلاقه وفي العالم إلى انتهاج الطريق الوسط فشنّ حملة شعواء لا هوادة فيها على أخلاق الجاهلية الاُولى من قبيل الوأد والقتل والعصبيّة العمياء والتفاخر بالأعراق وهتك الاعراض وسبي النساء واتخاذهن سلعة للمزايدة وقضاء الوطر وعضلهن وغير ذلك ثم شرع في سن القوانين الأخلاقية وإقامة القواعد السلوكيّة لابنائه وأمر بالسير عليها واعتمادها في الحياة العامة والخاصه.

على أنّه لم يهمل من السلوك السائد في الجزيرة ما كان حسناً سليماً بل وضع له خطة حكيمة تردّه إلى الوسطية القائمة بين طرفي الأفراط والتفريط علماً منه بأنّ الفضائل ليست تحصل لأصحابها إلاّ بعد أن تطهر النفوس من الرذائل التي هي أضدادها أعنى شهواتها الرديئة الجسمانيّة ونزواتها الفاحشة البهيمية فإن الإسلام إذا علم أنّ هذه الأشياء ليست فضائل بل هي رذائل تجنبها وكره أن يوصف بها وإذا ظن أنها فضائل لزمها وصارت له عادة وبحسب التباسة وتدنسه بها يكون بعده من قبول الفضائل(1) .

والإسلام اختلف مع الفلاسفة فنظر إلى الإنسان نظرة مجردة فلم ينظره ملحوظاً من زاوية الخير ولا زاوية الشر وعلى هذا الأساس شرع في تهذيبه ذلك إن العلماء اختلفوا في الطبايع فزعم قوم وهم الرواقيون إن الناس كلهم يخلقون اخياراً

____________________

(1) مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص33.

٣٥

بالطبع ثم بعد ذلك يصيرون اشراراً بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الردينة التي لا تقمع بالتأديب.

وقال قوم آخرون:

إنّ الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع وإنما يصيرون اخياراً بالتأديب والتعليم إلاّ أنّ منهم من هو في غاية الشر لا يصلحه التأديب ومنهم من ليس في غاية الشر فيمكن أن ينتقل من الشر إلى الخير بالتأديب من الصبا ثم بمجالسة الأخيار والإسلام تجاوز هذين القولين واعتبرهما خطأً محضاً لأنه يرى بنور الوحي الذي صاغه أن ليس شيء من الأخلاق طبيعياً للإنسان ولا نقول أنّه غير طبيعي وذلك إنّا مطبوعون على قبول الخلق بل ننقل بالتأديب والمواعظ أما سريعاً وأما بطيئاً(1) .

واعتبر الإسلام الإنسان ساعة يولد مجرّداً عن كل نعت وصفة سواءاً كانت إلى الخير أم الشر وعبّر عن ذلك بالفطرة وعلى هديها عالج الإنسان فيما له أو عليه. والحديث الشريف يثبت لنا ذلك واليكَه:

.. كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.

وهذا الحديث اختلفت سياقاته وهو مستفيض مشهور فمن جملة هذه السياقات مضافاً إلى ما تقدم: كل إنسان تلده امه على الفطرة أبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم.

ومنها أيضاً: ما من مولود يولد على الفطرة وابواه يهودانه أو ينصرّانه كما تنتجون الأبل فهل تجدون منها جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا: يا رسول الله أرأيت من يموت صغيراً قال: الله أعلم بما كانوا عاملين(2) .

____________________

(1) راجع مسكوية، تهذيب الأخلاق، ص51 و52 بتصرف.

(2) راجع الكتب التالية: صحيح البخاري، ج2 ص125، سنن أبي داود، 4714 و4717، مجمع الزوائد، ج7 ص218، مسند أحمد بن حنبل، ج2 ص233 وص275 وص282 وج3 ص353، مسند الحميدي، رقم 1113، تجريد التمهيد، ص258، مسند أبي حنيفة، ص6 وغيرها.

٣٦

وجاء عن طريق أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن الحسين بن نعيم الصحّاف قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : أيكون الرجل مؤمناً قد ثبت له الإيمان ثم ينقله الله بعد الإيمان إلى الكفر.

قال: إنّ الله هو العدل وإنما بعث الرسول ليدعو الناس إلى الإيمان بالله ولا يدعو أحداً إلى الكفر.

قلت: فيكون الرجل كافراً قد ثبت له الكفر فينقله الله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان.

قال: إنّ الله عزوجل خلق الناس على الفطرة التي فطرهم الله عليها لا يعرفون ايماناً بشريعة ولا كفراً بجحود ثم بعث الله الرسل إليهم يدعونهم إلى الإيمان بالله حجة لله عليهم فمنهم من هداه الله ومنهم من لم يهده(1) .

وعلى أساس من الفطرة النقيّة الواردة في الأحاديث السالفة أقام الإسلام قواعده الخلقية في تهذيب الإنسان فاعتبر الفضيلة وسطاً بين رذيلتين ومن هذه النظرة الواقعية أخذ الفلاسفة فكرتهم عن الفضائل والرذائل.

وينبغي علينا أن نلم بمعنى هذه الوسطية فقد أبان العلماء حقيقتها وأماطوا الستار عنها.

يقول الفيلسوف مسكوية: وينبغي أن تفهم من قولنا أن كل فضيلة فهي وسط بين رذائل ما أنا واصفه. إنّ الأرض لما كانت في غاية البعد من السماء قيل إنها وسط وبالجملة المركز من الدائرة هو على غاية البعد من المحيط وإذا كان الشيء على غاية البعد من الشيء فهو من هذه الجهة على القطر.

فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم معنى الوسط من الفضيلة إذ كانت بين رذائل بعدها منها أقصى البعد ولهذا إذا انحرفت الفضيلة عن موضعها الخاص بها أدنى انحراف قربت من رذيلة أخرى ولم تسلم من العيب بحسب قربها من تلك الرذيلة التي تميل إليها ولهذا صعب جداً وجود هذا الوسط ثم التمسك به بعد وجوده أصعب(2) .

____________________

(1) هاشم البحراني، البرهان، ج3 ص263.

(2) مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص45.

٣٧

وهذا الذي يقوله الفيلسوف صحيح وإليه يعزى التغيّر الذي يطرأ على أكثر الناس بعد تغيير ظروفهم ويمكننا على ضوء هذه الفكرة الواقعية أن نفهم العصمة لأنها الثبات على هذا الوسط الصعب الذي قل من ثبت عليه كما قلّ من وفق إليه. ثمّ شرع الفيلسوف في بيان امهات الأخلاق وكيفية توسطها بين أضدادها فقال: أما الحكمة فهي وسط بين السفه والبله وأعني بالسفه هاهنا استعمال القوة الفكرية فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي وسماه القوم الجربزة. واعني بالبله تعطيل هذه القوة واطراحها وليس ينبغي أن يفهم أن البله ههنا نقصان الحلقة بل ما ذكرته من تعطيل القوة الفكرية بالإرادة.

وأما الذكاء فهو وسط بين الخبث والبلاده فإن أحد طرفي كل وسط افراط والآخر تفريط أعني الزيادة عليه والنقصان منه فالخبث والدهاء والحيل الردئبة هي كلها إلى جانب الزيادة في ما ينبغي أن يكون الذكاء فيه وأما البلادة والبله والعجز عن إدراك المعارف فهي كلها إلى جانب النقصان من الذكاء إلى أن يقول:

وأما العفّة فهي وسط بين رذيلتين وهما الشره وخمود الشهوة وأعني بالشرة الأنهماك في اللذات والخروج فيها عما لا ينبغي وأعني بخمود الشهوة السكون عن الحركة التي تسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته وهي ما رخص فيه صاحب الشريعة والعقل.

وأما الفضائل التي تحت العفة فإن الحياء وسط بين رذيلتين أحداهما الوقاحة والاُخرى الخرق وأنت تقدر على أن تلحظ أطراف الفضائل الاُخرى التي هي رذائل ......

وأما الشجاعة فهي وسط بين رذيلتين أحداهما الجبن والاُخرى التهور، وأما الجبن فهو الخوف في ما لا ينبغي أن يقدم عليه وأما السخاء فهو وسط بين رذيلتين أحداهما السرف والتبذير والاُخرى البخل والتقتير، أما التبذير فهو بذل ما لا ينبغي لمن لا يستحق وأما التقتير فهو منع ما ينبغي عن من يستحق.

أما العدالة فهي وسط بين الظلم والانظلام أما الظلم فهو التوصل إلى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغي وكما لا ينبغي ولذلك يكون للجائر أموال كثيرة لأنه يتوصل إليها من حيث لا يجب ووجوه التوصل إليها كثيرة أما المتظلم فمقتنياته

٣٨

وأمواله يسيره جداً لأنه يتركها من حيث يجب وأما العدل فهو في الوسط لأنه يقتني الأموال من حيث يجب ويتركها من حيث لا يجب. فالعدالة فضيلة يتصف بها الإنسان من نفسه ومن غيره من غير أن يعطي نفسه من النافع أكثر وغيره أقل. وأما في الضار فبالعكس وهي أن لا يعطي نفسه أقل وغيره أكثر لكن يستعمل المساواة التي هي تناسب مابين الأشياء ومن هذا المعنى اشتق اسمه أعني العدل(1) .

تبين لنا مما سبق أن الأصل الذي قامت عليه نظرية (وسطية الأخلاق والفضائل) سبق إليها الإسلام، وجاء الفلاسفة بعده شارحين باسهاب كيفيّة ذلك.

والناظر في تاريخ الإسلام وسيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدرك إدراكاً تاماً أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخذ هذا المنهج مطبقاً إياه على الحياة الإسلامية في كل شأن من شئونها لكي تستقر شخصيّة الإنسان المسلم على الصيغة الادبية المطلوبة ديناً وفقهاً وشريعة.

خذ على سبيل المثال وقعة مؤتة فقد تحمل منها المسلمون خسائر جسيمة واهمها استشهاد قادتهم الثلاثة ورجوعهم القهقري من غير أن يصيبوا من عدوّهم مقتلاً واعتبر بعض المؤرخين هذه العودة هزيمة بل المجاهدون أنفسهم كانوا يعدّون أنفسهم منهزمين لأن الواجب فعله أنئذ الاقتداء بالقادة حتى الشهادة للجيش كله.

ولما رجعوا إلى المدينة صار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون فررتم في سبيل الله فصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: بل هم الكرارون وفي لفظ أنهم قالوا: يا رسول الله نحن الفارّون فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل أنتم الكارّون أي الكرارون(2) .

كان هؤلاء يرون حالتهم تدور بين أمرين لا ثالث لهما فأما التهور بمهاجمة العدو وإن فاقهم عدداً وعدة وأما الفرار من الزحف كما جرى لهم ولكن النبي ردّهم إلى الحق وإلى الوسطية المرغوب فيها خلقاً وديناً وأوضح لهم أنّ ما اعتبروه انهزاماً ما هو به وإنما هو فعل الحكيم الشجاع الذي آثر الرجوع إلى الفئة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) مسكوية، تهذيب الأخلاق، ص45 وما بعدها.

(2) راجع الكتب التالية، سيرة ابن هشام الحلبية، عيون الأثر، زاد المعاد، و السيرة النبوية لابن كثير وغيرها.

٣٩

تلكم الفئة ولم يعرض الجيش كله للتلف لأن في ذلك غنماً للعدو واي غنم وغرماً فادحاً على الإسلام وأهله ومن ثم مدحهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فعلهم وقال لهم: ما صنعتم إلاّ ما ينبغي أن يصنعه أمثالكم وسماهم الكرار أو كما قال.

وهذه هي الوسيطة المطلوب تحققها في حياة المسلمين كافة وقد عبّر عنها القرآن الكريم خير تعبير فقال تعالى:( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (1).

والوسط مأخوذ من التوسط بين المقصر والغالى فالحق معه(2) فالمقصر هو المفرّط والغالي هو المفرط وكلاهما مذموم والحق مع الوسط ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي هذه الاُمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصّروا تقصير اليهود وفي الحديث خير الاُمور أوسطها وفيه عن عليعليه‌السلام :

عليكم بالنمط الاوسط فإليه ينزل الغالي وإليه يرتفع النازل(3) .

وجاء عن طريق أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: نحن نمط الحجاز فقلت وما نمط الحجاز؟ قال: أوسط الأنماط إن الله يقول: وكذلك جعلناكم امة وسطاً ثم قال: إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر(4) .

والتمثيل بالحجاز في غاية الدقة والمتانة لأنها سمّيت بذلك من الحجز بين الشيئين لأنها حجزت بين نجد وتهامة أو بين الغور والشام والبادية(5) .

فهي حينئذ وسط بين طرفين وهذا ما رمى إليه الإمامعليه‌السلام وفسّره برجوع الغالي ولحوق المقصر بهما وهما الطرفان المحيطان بالوسط.

وهكذا ما يزال الباحث يعثر على آية أو رواية أو خبر يؤكذ هذا الإتجاه التهذيبي للإسلام في حمل الأمة على الاتصاف بالصفات الشريفة التي توسطت بين طرفين يضادانها.

____________________

(1) البقرة: 143.

(2) الشيخ الطوسي، التبيان، ج2 ص6. والضمير في (معه) يرجع إلى الوسط لأنه ليس بالمقصر ولا ....

(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2 ص154.

(4) تفسير البرهان، ج1 ص160.

(5) تاج العروس، مادة حجز.

٤٠