الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102735
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102735 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليه السلام بذلك قال في إحدى رسائله إليه:

فإنّك جعلت دينك تبعاً لدنيا امرىء ظاهر غيّهِ مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه ويُسَفِّهُ الحليم بخلطته فأتبعت اثره وطلبت فضله إتّباع الكلب للضرغام يلوذ إلى مخالبه وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته فأذهبت دنياك وأخرتك(1) .

وهذه الصفات الّتي أطلقها الإمام على ابن العاص تشمل كلّ من هو على شاكلته في إتّباع معاوية وطلبه فضله وما أكثرهم.

وبما أنّ سلاح الذهب سلاح فتّاك فقد جرّبه معاوية مع كلّ أحد فاقتنع بفاعليّته قال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجراً وقد اجتمع إليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير. فقال: والله لنحن أغنى عن معاوية من معاوية عنا وإنّا لنجد في قومه منه بدلا ولا يجد منا في الناس خلفاً. سيروا إلى هذا الرجل فلنخله من أيديهم فأقبلوا يسيرون ولم يشكّوا أنّهم بعذراء لم يقتلوا فاستقبلتهم قتلتهم قد خرجوا منها فلمّا رأوه في الناس ظنوا أنّما جاءهم ليخلّص حجراً من أيديم فقال لهم: ما وراءكم؟ قال: تاب القوم وجئنا لنخبر معاوية فسكت عنهم ومضى نحو عذراء فاستقبله بعض من جاء منها فأخبره أنّ القوم قد قتلوا فقال: عليَّ بالقوم! وتبعتهم الخيل وسبقوهم حتّى دخلوا على معاوية فأخبروه خبر ما أتى له مالك بن هبيرة ومن معه من الناس فقال لهم معاوية: اسكنوا فإنّما هي حرارة يجدها في نفسه وكأنّها قد طفئت ورجع مالك حتّى نزل في منزله ولم يأت معاوية فأرسل إليه معاوية فأبى أن يأتيه فلمّا كان الليل بعث إليه بمأة ألف درهم وقال: له: إنّ أمير المؤمنين لم يمنعه أن يشفّعك في ابن عمّك. إلاّ شفقة عليك وعلى أصحابك أن يُعيدوا لكم حرباً اُخرى وإنّ حجر بن عدي لو قد بقي خشيتُ أن يكلّفك وأصحابك الشخوص إليه وأن يكون ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر فقبلها وطابت نفسه واُقبل إليه من غده في جموع قومه حتّى دخل عليه ورضي عنه(2) .

____________________

(1) مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج3 ص553.

(2) تاريخ الطبري، ج5 ص9/278، وتاريخ ابن خلدون، ج3 ص13، والبلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص270.

٢٤١

ولولا هذه الدراهم الساحرة لطال جداله مع ابن هبيرة أو تحوّل الجدال إلى جلاد.

واستطاع معاوية أن يروّض كلّ عصي بالمال الّذي انتهبه واغتصبه حتّى عائشة تشفّع إليها بالأطواق وأكياس الذهب ومئات الاُلوف الّتى تتواتر عليها من لدنه تواتر الغيث وهو يعلم أنّ عائشة وإن بدت امرأة حبيسة دارها. ولكنّها قوّة في المسلمين خارقة أليست هي المجلبة على عثمان أو نعثل كما سمته؟ وصاحبة الجمل الّتي لا تزال آثاره تعيش معنا في القرن العشرين.

عن سعيد بن عبدالعزيزى قال: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار(1) .

وقال عروة:

بعث معاوية مرّة إلى عائشة بمئة ألف فوالله ما أمست حتى فرّقتها(2) .

وأرضت معاوية الصفقة مع عائشة كما نقلت صفقة اُخرى عبدالله بن عمر من صفوف المعارضين إلى صفوف الراضين بل الأعوان الّذين يهددون بالصيلم وقد مرّ بعض ذلك في هذا الكتاب فما بقيت سلعة من هؤلاء لم يشترها معاوية بكيس أو أكياس وطوق أو أطواق وهكذا دواليك.

وصار الذهب لسلطان معاوية بمنزلة الهواء للنفس إذا أمسك عنه هلك. من ثمّ راح يكتب إلى عمّاله أن يمدّوه به.

أخرج ابن عبدالبر في الاستيعاب قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبدالله قال: حدّثنا بقي (كذا) قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا ابن عليه عن هشام عن الحسن البصري قال: كتب زياد إلى الحكم بن عمروا الغفاري وهو على خراسان. إنّ أمير المؤمنين كتب إليَّ أن تصفي له البيضاء والصفراء فلا تقسّم بين الناس ذهباً ولا فضّة فكتب إليه الحكم بلغني أنّ أمير المؤمنين كتب إنّ تصفَّي له البيضاء والصفراء وإنّي وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين وإنّه والله لو أنّ السموات والأرض

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج3 ص154.

(2) سير أعلام النبلاء ج3 ص154.

٢٤٢

كانتا رتقاً على عبد ثمّ اتّقى الله جعل له مخرجاً والسلام عليكم ثمّ قال للناس اغدوا على ما لكم فقسّمه بينهم وقال الحكم: اللهمّ إنّ كان عندك لي خير فاقبضني إليك فمات بخراسان بمرو......(1)

لابدّ من ضخّ الذهب والفضّة كي تجري في شرايين حكمه ليمتد به العمر وإلاّ فإنّ الفناء له بالمرصاد أن توقّف هذا الضخّ.

وذكر يونس ابن عبيد أنّ معاوية كتب إلى المُغيرة يستمد بمال يبعثه. من بيت المال فبعث عِيراً تحمل مالا. فاعترض لها حجر فأمسك بزمام أوّلها وقال: لا والله حتّى يوفّى كلّ ذي حقّ حقّه.......(2)

ولقد استأثر معاوية بالفيء واحتازه لنفسه ولأقربائه ولِذي ودّه ومن يُريد شرائه من المُرتزقة وتركت عامّة الناس في فقر مدقع وخصاصة متناهية وحضر علي الوجهاء والأعيان أن يبلغوه شيئاً من هذا وإذا أسعف أحدهم الحظ وحظي بزيارته فعليه أن لا يتكلّم إلاّ لنفسه.

قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف فقام الآذن وقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم أن يتكلّم أحد إلاّ لنفسه فلمّا وصلوا إليه قال الأحنف لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أنّ رادفة ردفت ونازلة نزلت. ونائبة نابت والكلّ بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه فقال:

حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد(3) .

وقوله حسبك ليس لا عجابه وقناعته بما قال ولكن كفاً لما يريد بيانه.

وتمادى بذلك معاوية ومنع أن يسئل أحد لغيره وإنّما فعل ذلك لأنّ الّذين يصلون إليه هم عادة الرؤساء والأعيان وأهل النفوذ وأمّا السواد الأعظم وهم أهل الحاجات وعليهم تدور دوائر الجوع والغرم الفادح هم حاملوه كحملهم البؤس والحرمان وأولئك لا يمكَّنون من المثول بين يديه فأراد أن لا يسمعه أحد من أهل النفوذ صوتهم.

____________________

(1) النصائح الكافية، ص131.

(2) البداية والنهاية، ج8 ص52.

(3) التذكرة الحمدونية، ج2 ص20.

٢٤٣

وقد يحدث أحياناً أن يحتك معاوية بواقعهم بفعل الصدفة كما حدث أن خرج متنزّهاً فمر بحواء ضخم فقصد لبيت منه فإذا بفنائه امرأة برزة فقال لها هل من غداء؟ قالت: نعم حاضر قال: وما غداءك؟ قالت خبز خمير وماء نمير وحيس فطير ولبن هجير فثنى وركه ونزل فلمّا تغدى قال: هل لك من حاجة؟ فذكرت حاجة أهل الحواء قال: هاتي حاجتك في خاصة نفسك قالت: يا أمير المؤمنين إنّي أكره أن تنزل وادياً فيرفّ أوّله ويقف آخره.

والحكايات هذه دائماً تسكت عن فعل معاوية وتوليه السكوت. فهل استجاب للأحنف أو المرأة. لا نعلم؟! والأرجح أنّه لم يفعل.

وما فتىء العمّال يجلبون الذهب والفضّة لمعاوية فتدرّ عليهم أخلاف الولايات الكثير الكثير منه فيحمل إليه موفّراً دون أن ينفق قيراط منه في البلد الّذي حمله إليه. وكلّ بلد يجرد من بيت المال يسقط عطاء أبنائه فتعمّهم الخصاصات وتحلّ بهم المجاعات ولمّا بلغ السيل الزبى والسكين العظم عمد الناس إلى الأعتراض ومنع ذلك فمنهم من يوفّق إلى حفظ المال ومنهم من يواجه بالعنف والقسوة فيبوء بالخيبة والخسران.

قال العقبي: حمل زياد من البصرة مالا إلى معاوية. ففزعت بنو تميم والأزد إلى مالك بن مسمع وكانت ربيعة مجتمعة عليه كاجتماعها على كليب في حياته واستغاثوا به وقالوا: يحمل المال ونبقى بلا عطاء فركب مالك في ربيعة واجتمع إليه الناس فلحق بالمال فردّه وضرب الفسطاط بالمربد وأنفق المال في الناس حتّى وفّاهم عطائهم وقال: إن شئتم الآن أن تحملوا فاحملوا فما راجعه زياد في ذلك بحرف(1) .

وإنّما لم يراجعه لقوّته والتفاف قومه عليه ولو وجده ضعيفاًخائراً لأذاقه الموت الزؤام وليس الناس في سياسة معاوية سواءً تحت حد الفقر بل قصد جماعة بعينهم فأفقرهم إلى حدّ الادقاع وذلك لعدائه القديم لهم يُضاف إليه إنحرافهم عن حكمه أو ولائهم لأهل البيت منهم جابر بن عبدالله الأنصاري.

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج2 ص152.

٢٤٤

روي أنّ جابر بن عبدالله استأذن على معاوية فلم يأذن له أيّاماً ثمّ دخل فمُثِّلَ بين يديه فقال يا معاوية اشهد انّي سمعت المُبارك يقول: ما من أمير احتجب عن الفقراء إلاّ احتجب الله عنه يوم يفتقر إليه فغضب معاويه وقال: يا جابر ألست ذكرت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: يا معشر الأنصار سيصيبكم بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض؟ قال: قد سمعت الطيب المُباركصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوله. قال معاوية: فألاّ صبرت؟ قال: إذن والله اصبر كما صبرت حين ضربت أنفك وأنف أبيك حتّى دخلتما في الإسلام كارهين ثمّ انصرف وهو يقول:

إنّي لأختار البلاء على الغِنى

وأجزأ بالماء القراح عن المحض

وأدّرع الأملاق صبراً وقد أرى

مكان الغنى أن لو اُهين له عرضي

فناشده معاوية أن يأخذ صلته وبعث في أثره يزيد بن معاوية فقال: والله لا يجمعني وإيّاه بلد أبداً.

فلمّا خرج لقى عبدالله بن عباس وعبدالرحمن بن سليط فقال له ابن عباس:

قد بلغني ما كان من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ورأس الأحزاب. هلمّ إليَّ اُشاطرك مالي كما قاسمتني مالك ولك نصف داري كما أسكنتني دارك فقال جابر ثمر الله مالك وبارك لك في دارك فقد أثبت ما أنت أهله وقال معاوية ما كان يشبهه(1) وحبس العطاء عن سيّد الشهداءعليه‌السلام حتّى اضطرّ إلى الاقتراض من ابن عمّه عبدالله بن عباس يقول ابن حمدون.

.. وحبس معاوية عن الحسين بن عليعليهما‌السلام صلاته فقيل له: لو وجهت إلى ابن عمّك عبيدالله فإنّه قدم بنحو ألف ألف فقال الحسينعليه‌السلام : وأين تقع ألف ألف من عبيدالله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر ثم وجّه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاويه عنه صلاته وضيق حاله وإنّه يحتاج إلى مأة ألف درهم فلمّا قرء عبيد الله كتابه وكان أرقّ الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثمّ قال:

ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الاثم حتّى أصبحت لين المهاد رفيع

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج4 ص301.

٢٤٥

العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال؟! ثمّ قال لقهرمانة احمل إلى الحسين نصف ما نملكه من فضّة وذهب ودابّة. وأخبره أنّي شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلاّ فارجع إليه واحمل إليه الشطر الآخر فقال له القهرمان: وهذه المؤن الّتي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغ ذلك دللتك على أمر تقيم به حالك فلمّا أتاه الرسول قال: إنّا لله حملت والله على ابن عمي وما حسبت أنّه يتّسع لنا هذا كله وأخذاالشطر من ماله(1) .

وكان يوحي للناس إنّ ما يأخذه وما يجمعه من البلاد وليس لأحد فيه حقّ وان من حقّ معاوية أن يعطي من يشاء ويحرم من يشاء وان خزائن الله عنده وهو مخوّلٌ من قِبله في العطاء والحِرمان.

في ربيع الأبرار قال: خطب معاوية فقال إنّ الله تعالى يقول:

وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم فعلامَ تلومونني إذا قصّرت في إعطائكم فقال الأحنف: إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك وحلت بيننا وبينه(2).

ولكن كيف جعلها في خزائنه إنّه أرسل على الاُمّه زياداً والمغيرة ومعاوية ابن خديج والضحاك بن قيس وأمثال هولاء، فجبوا الدنيا له وجمعوها حتى أقفرت ربوعها وعصفت فيها المجاعات ولم ينفق من هذه الأموال حتّى أقل القليل على إعمار هذه البلاد المنكوبة به وبعمّاله قال العتبي:

وفد زياد على معاويه فأتاه بهدايا وأموال عظام وسفط مملوء جوهراً لم يُرَ مثله فسرّ سروراً شديداً فلمّا رأى زياد ذلك صعد المنبر وقال:

انا والله يا أمير المؤمنين أقمت صعر العراق وجبيت لك مالها وألفظت إليك بحرها فقام يزيد بن معاوية فقال:

إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى ولاء قريش ومن القلم إلى المنابر ومن زياد بن عبيد إلى حرب بن اميّة فقال معاوية: اجلس فداك أبي واُمّي(3) .

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج2 ص287.

(2) النصائح الكافية، ص133.

(3) التذكرة الحمدونية، ج7 ص172.

٢٤٦

وما فتىء جشعه يزداد كلّما تقدّم به العمر فإذا وافته من المال دفعة اشتاق إلى اختها وهكذا دواليك حتّى بلغ جشعه درجة تمنّى أن يزدرد الدنيا معها روي عن معاوية انّه قال لجلسائه مرّة وددت لو أنّ الدنيا في يدي بيضة نيمبرشت واحسوها كما هي(1) .

وحارَ ابن حمدون في هذا الجشع النادر فقال: وهذا خبر غريب بعيد اورده الزمخشري اللغوى في كتابه المعروف بربيع الأبرار وبهذه السياسة الطامعة والجشع الجهنّمي هجم على أموال الناس اقتناءاً واحتواءاً ومصادرةً لنفسه وترك الاُمّه للجوع والخواء وصبّت نقمته على بنى هاشم والأنصار خاصّة.

حجّ معاوية سنة 44 ولما وصل إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم، وكلّموه في اُمورهم فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقرّ عليكم دمائكم وقد قتلتم عثمان حتّى تقولوا ما تقولون؟ فوالله لا أنتم أجلّ دماً من كذا وكذا وأعظم في القول فقال له ابن عباس: كلّما قلت لنا يا معاويه بين دفّتيك أنت والله أولى بذلك منّا أنت قتلت عثمان ثمّ قمت تغمص على الناس أنّك تطلب بدمه فانكسر معاوية فقال ابن عباس: والله ما رأيتك صدقت إلاّ فزعت وانكسرت قال: فضحك معاوية وقال والله ما أحب أنّكم لم تكونوا كلّمتموني ثمّ كلّمه الأنصار فأغلظ لهم في القول وقال لهم ما فعلت نواضحكم؟ قالوا أفنيناها يوم بدر كما قتلنا أخاك وجدّك وخالك ولكنّا نفعل ما أوصانا به رسول الله قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر قال: فاصبروا ثمّ أدلج معاوية ولم يقضِ لهم حاجة(2) .

وكان معاوية يعزل العامل شرّ عزل إذا حاول الخروج على سياسته فأطعمَ جائعاً أو كسى عرياناً أو حمل راجلا.

عن سعيد بن حنظلة إنّ معاوية بن أبي سفيان أمّر عمرو بن العقيلي على الصائفة فلمّا قدم سأله عمّا بلغ الخمس فأخبره فقال أين هو؟ قال عمرو تسألني عن الخمس وأرى رجلا من المهاجرين يمشي على قدميه لا أحمله! فقال معاوية: لا

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج3 ص142.

(2) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص222.

٢٤٧

جرم لاتنالها ما بقيت. قال إذن لا اُبالي وأنشأ يقول:

تهادي قريش في دمشق غنيمتي

واترك أصحابي فما ذاك بالعدل

ولست اسيراً أجمع المال تاجراً

ولا أبتغي طول الإمارة بالبخل

فإن يمسك الشيخ الدمشقي ماله

فلست على مالى بمستغلق قفلي(1)

وبهذه السياسة الجائرة بلغ معاوية منتهى التعسّف حين يعزل العامل لأنّه أنفق المال الّذي جباه في الوجوه الصحيحة الّتي أمر الله بها.

مصادرة الأرض والاستيلاء عليها وشراء الدور بالثمن البخس من أهلها ونهب الثروات

في أوّل عهده بالحكم وفي زمن عمر بن الخطاب بدء معاوية بمصادرة الأرض والاستيلاء عليها بحجة وبغير حجة.

وقيل إنّ استيلائه على الأرض بدء في عهد عثمان وبطلب ترخيص منه في زرع الأرض الّتي تركها أصحابها وهاجروا إلى بلاد الروم(2) .

والّذي أعتقده أنّ غرام معاوية بأخذ الأرض بدء في عهد عمر حين أمره بإحراق الزرع وقد ابيض(3) ومن المعقول أن تكون شهيته لابتلاع الأرض بدئت من يومئذ وهو يشاهد الثروة الزراعية الهائلة الّتي أمره بإحراقها.

ومن المعقول أيضاً أن يخلي الأرض صاحبها بعد احراق زرعه فتتنبه شهية معاوية من ساعتئذ لسلبها.

كما إنّ عمر مهّد لمعاوية طريق سلب الأرض حين حضر على المسلمين الزراعة بأي وجه من الوجوه فقد قال لقيس بن عبدالفوت المرادي:

لا آذن لك بالزرع إلاّ أن تُقر بالذل وأمحو إسمك من العطاء ...(4)

وتمادى عمر في الاستهانة بالزراعة إلى أبعد حدّ حين عامل الفلاح معاملة

____________________

(1) تاريخ خليفة بن خياط، ج1 ص219.

(2) معاوية بن أبي سفيان، ص215.

(3) مجلة العربي، العدد 140 ربيع الثاني 1390 يوليو تموز 1970 ص25.

(4) العربي، عدد 140 ربيع الثاني 1390 يوليو تموز 1970 ص25.

٢٤٨

المشرك الكتابي فكتب إلى أهل الشام: من زرع واتبع أذناب البقر حلّت عليه الجزية(1) .

ومن الطبيعى أن يكون حاصل هذا الموقف هجر الأرض وترك زراعتها وبوارها وحينئذ يجد معاوية الذريعة حاضرة لسلبها.

سواء في زمن عمر أو زمن عثمان وفي عهد هذا الأخير كتب إليه أن يقطعه الأرض الّتي قتل أصحابها من الروم أو تركوها وهاجروا إلى بلاد غير البلاد المفتوحة من أرض الدولة البيزنطية وتعلّل له بكثرة وفود الأمصار والرسل وان هذه الضياع المتروكة لا يؤخذ عليها الخراج ولا تحسب من أهل الذمّة كما جاء في تاريخ ابن عساكر وكانت هذه الضياع تلحق ببيت المال وينفق منها على المصالح العامّة ومعونة المعوزين وذوي الحاجات فلمّا أذن لمعاوية بزرعها والانتفاع بثمراتها حبسها على نفسه وعلى آل بيته وخدّامه وأعوانه في سياسته. وعمد إلى كلّ معترض عليه وعلى انفاقه لهذه الأموال في غير وجهها فأقصاه عن الشام وأرسله إلى حيث يشاء من البلاد الاسلامية الاُخرى لا يعنيه أن يصنع الشاغبون ما يصنعون في غير ولايته(2) .

خراج الأرض يصب في خزائن بن هند

كان خراج السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم وخراج فارس سبعين ألف ألف وخراج الأهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم وخراج كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم وخراج نهاوند وماه الكوفة وهو الدينور وماه البصرة وهو همذان وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم وخراج الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم وخراج أذربيجان ثلاثين ألف ألف درهم بعد أن أخرج معاوية من كلّ بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه لأنفسها من الضياع

____________________

(1) العربي، عدد 140 ربيع الثاني 1390 يوليو تموز 1970 ص25.

(2) العقاد معاويه بن أبي سفيان، ص287.

٢٤٩

العامرة وجعله صافية لنفسه فأقطعه جماعة من أهل بيته.

وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم. فمنها كانت صلاته وجوائزه، واستقر خراج مصر في أيّام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار وكان عمرو بن العاص يحمل منها إليه الشيء اليسير. فلمّا مات عمرو حُمل المال إلى معاوية فكان يفرق في الناس أعطياتهم(1) ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الاُردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج قنّسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج الجزيرة وهي ديار مضر وديار ربيعة على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف ومائتي ألف دينار وقيل تسعمائة ألف دينار ...(2) ذكر ذلك كلّه اليعقوبي في تاريخه ثمّ قال:

وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل بيته وخاصته. وكان أوّل من كانت له الصوافي في جميع الدنيا حتّى بمكة والمدينة فإنّه كان فيها شيء يحمل في كلّ سنة من أوساق التمر والحنطة.(3)

فهذه المبالغ الخيالية المنهوبة من القرى والدساكر والمدن الإسلاميّة ما كان لينال أحداً من الفقراء والمساكين والمحتاجين منها شيء ولو كان أقلّ القليل، وكانت تنفق على ملاذ معاوية وأبنائه وبناته وأهل بيته وشهواتهم كما أنّ القسم الأكبر منها يصرف على شراء الذمم والضمائر وقسم منها يستحيل إلى أطواق من الذهب فيعطى للصديقات ثمناً لسكوتهنّ. وكانت غالبية الاُمّة تكاد تهلك جوعاً كما عرفت في حكاية جابر رضوان الله عليه مع معاوية. وتطوق كلاب معاوية ويزيد بأطواق الذهب.

____________________

(1) والناس الذين لهم أعطيات هم الاُمويون ومواليهم وشيعتهم، وجلّ أفراد الاُمّة لا عطاء لهم.

(2) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص233 و234.

(3) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص234.

٢٥٠

لما استعمل ابن زياد عبدالرحمن بن اُم برثن(1) ثمّ عزله وأغرمه مائتي ألف درهم، فخرج إلى يزيد ابن معاوية، فلمّا كان على مرحلة من دمشق نزل وضرب له خباء وحجرة فإنّه لجالس إذا كلبة من كلاب الصيد قد دخلت عليه وفي عنقها طوق من ذهب وهي تلهث، فأخذها وطلع يزيد على فرس له، فلمّا رأى هيئته أدخله الحجرة وأمر بفرسه أن تقاد، فلم يلبث أن توافت الخيل فقال له يزيد: من أنت وما قصّتك؟ فأخبره فكتب له من ساعته إلى عبيدالله في ردّ المائتي ألف عليه ...(2)

وماذا لو كان طوق الكلبة نحاساً. ويدفع هذا الذهب إلى البطون الجائعة والبيوت التي تعاني شظف العيش؟!! بالطبع لا يتغيّر شيء من ملاذ أبناء هند ولكنّهم أمعاناً منهم في السخرية بالاُمّة يصنعون هذا الصنيع.

ولقد كان معاوية يعبث بالذهب عبثاً وينفقه في موارد غير ضرورية بل لا داعي لها اطلاقاً ولا حاجة تدعو إليها ولكنّه العبث ووفرة الذهب التي لا يدري أين يضعها معاوية.

بنى معاوية الخضراء بدمشق من لبن وطين فقدم عليه وفد صاحب الروم فقال لهم: كيف ترون بنائي هذا؟ قالوا: ما أحسنه إلاّ أنّك تبنيه لنفسك وللعصافير يريدون أنّ العصافير تحفره وتنقره ولم تبنه ليبقى لمن بعدك فهدمها وبناها بالحجارة(3) . هكذا تتدفق القناطير الذهبية في عبث معاوية كتدفق العذب في الأجاج وغالبيّة الاُمّة تكاد تهلك هزالاً وجوعاً.

صعد معاوية المنبر فحمد الله وأثنى عليه، فلمّا أراد الكلام قطع عليه غلام من الأنصار قام فقال: يا معاوية ما جعلك وأهل بيتك أحقّ بهذا المال منّا؟ وإنّما أفاءها الله على المسلمين بسيوفنا ورماحنا ومالنا عندك ذنب نعلمه إلاّ أنّا قتلنا خالك وليداً وجدّك عتبة وأخاك حنظلة. فقال معاوية: لا والله يابن أخي ما أنتم قتلتموهم ولكنّ الله قتلهم بملائكة بعد ملائكة على يدي بني أبيهم وما ذاك بعار ولا منقصة، قال الأنصاري: فأين العار والمنقصة إذن؟ قال: صدقت. أفلك حاجة؟

____________________

(1) كان منبوذاً فأخذته اُم برثن وربته وتبنّته حتّى أدرك وصار رجلاً جزلاً له نبل وفضل وتألّه.

(2) البلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص309.

(3) أنساب الأشراف، ج5 ص155.

٢٥١

قال: نعم، لي عجوز كبيرة وأخوات عواتق وقد عضنا الدهر وحلّ بنا الحدثان. فقال معاوية: خذ المال ما استطعت وكان مالاً ورد من بعض النواحي فحمل الغلام وقره ومضى معاوية في خطبته حتّى فرغ(1) .

وما من ريب أنّ الغلام رأى المال يحمل إلى معاوية فثارت ثائرته ولو خاطبه على انفراد لما أعطاه شيئاً. ولو كلّمه بضعف واستخذاء لما أعتنى به ولكن عرف معاوية فيه ذرباً فهابه وهكذا هو لا تندمنه قطرة حتّى يجلد بالسنة حداد ويخاف ممّا يُعدّ له أصحابها.

قال معاوية لشداد بن أوس: قم فاذكر عليّاً وتنقّصه، فقام شداد فقال: الحمد لله الذي افترض طاعته وجعل في التقوى رضاه، على ذلك مضى أوّل الاُمّة وعليه يمضي آخرهم. أيّها الناس، إنّ الآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك قادر وإنّ الدنيا أجل حاضر يأكل فيها البرّ والفاجر، وإنّ السامع المطيع لا حجّة عليه، وإنّ السامع مع العاصي لا حجّة له، وإنّ الله إذا أراد بالناس صلاحاً عمل عليهم صلحائهم وقضى بينهم فقهائهم وجعل المال في سمحائهم، وإذا أراد بالعباد شرّاً عمل عليهم سفهائهم وقضى بينهم جهلائهم وجعل المال عند بخلائهم، وإنّ من صلاح الولاة أن تصلح قرابينها ووزرائها، نصحك يا معاوية من أسخطك بالحق وغشّك من أرضاك بالباطل.

فكره معاوية أن يجيء بشيء يكرهه فقال: اجلس رحمك الله وأمر له بمال. فقال معاوية: الست من السمحاء؟ قال: إن كان من مالك دون مال المسلمين ممّا تعهّدته عند جمعه مخافة تبعته تعهده لك من محضك النصح وآثر الحق وإن كنت أصبته اقترافاً وأنفقته إسرافاً فإنّ الله يقول:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) (2) ...(3)

هذا ومن مفارقات الدهر أن يأمر هذا السارق الكبير بقطع يد سارق صغير ثمّ يدرء ذلك عنه ويتصدّق بمائة ألف عن ذلك وهذه سخرية اُخرى من الدين وأهله.

____________________

(1) أنساب الأشراف، ج5 ص123.

(2) سورة الإسراء آية 27.

(3) أنساب الأشراف، ج5 ص105 و106.

٢٥٢

اُتي معاوية بشابّ قد سرق فأمر بقطع يده فقال:

يدي يا أميرالمؤمنين أعيذها

بعفوك أن تُلقى مكاناً يشينها

ولا خير في الدنيا وكانت حبيسة

إذا ما شمال فارقتها يمينها

ولو قدأتى الأخبار قومي لقلّصت

إليك المطايا وهي خوص عيونها

ودنت اُمّه وهي تبكي فقالت: يا أميرالمؤمنين واحدي اعفُ عنه عفى الله عنك. فقال: ويحك إنّ هذا حدّ من حدود الله. فقالت: اجعل تركه يا أميرالمؤمنين من ذنوبك التي تستغفر الله منها، فخلّى سبيله وتصدّق بمائة ألف(1) .

أقول: لا أعرف كفّارة بهذا المبلغ، ولكنّها الوفرة التي لا يريد أن يسدّ بها معاوية حاجة الناس ولا يدري أين يضعها. هذا من جانب ومن جانب آخر إذا كان درء الحد ذنباً وكفّر عنه معاوية بهذا المبلغ فبم يكفّر عن سمّ الحسن وقتل حجر واستلحاق زياد وغيرها من جرائمه وموبقاته.

سلب الأرض من أهلها بالمصادرة والإحتيال

لم يكن نظير لمعاوية في الطغاة والجبابرة في ولعه بالإستيلاء على الأرض أينما تكون ولأيّ إنسان تكون، وما فتىء يحتال على الأراضي التي تستحوذ على قلبه حتّى يأخذها. وأحياناً تعوزه الحيلة فيفزع إلى القوّة والإرهاب والتهديد وهذا مرض سلطاني عجيب. يقول له عقيبة الأسدي:

أكلتم أرصنا فجرّدتموها

فهل من قائم أو من حصيد

فهبها اُمّه هلكت ضياعاً

يزيد يسوسها وأبو يزيد ...(2)

والظاهر أنّ أحلامه في كلّ شيء تحقّقت إلاّ في أخذ الأرض وامتلاكها، لأنّه وإن ملك أكثر الأراضي في بلاد الشام والعراق ومصر والجزيرة إلاّ أنّ حلمه الذهبي أن تكون الكرة الأرضيّة بمياهها ووديانها وجبالها وقيعانها له لا يشركه بها غيره. كان معاوية يقول: ما شيء أحبّ إليّ من عين خرّارة في أرض خوّارة ...(3) كما أنّ بيوت

____________________

(1) أنساب الأشراف، ج5 ص131 و132.

(2) أنساب الأشراف، ج5 ص64.

(3) أنساب الأشراف، ج5 ص65.

٢٥٣

الناس جزء من هذه الأرض التي يريد امتلاكها. فقد راح يبذل المال الطائل لتكون بيوت الناس سكناهم ومأواهم وأرض زراعتهم له وله وحده، والناس أجراء عنده إن شاء أبقى وإن شاء طرد. اشترى معاوية من حويطب بن عبدالعزّى داره بخمسة وأربعين ألف دينار فهنّأه قوم فقال: وما خمسة وأربعون ألف دينار بالحجاز مع سبعة من العيال(1) .

وتبدو لي في هذه الحكاية ظاهرة غريبة وهي تهنئة الناس له هل هي لحويطب وحده؟ بناءاً على ظروف خاصة أو هي عامة لكلّ من يبيع داره أو أرضه؟ وما هو السبب؟ لعلّ الحاجة بلغت بالناس حداً أن فضّل معها الناس بيع دور السكنى على الجوع والحاجة وأحسب أنّ قول حويطب مع سبعة من العيال قرينة على وقوع ذلك.

ولقد بلغ ولع معاوية بالأرض حدّ الجنون، فقد أراد ابتياع ضيعة من بعض اليهود وذكرت له فبعث إلى صاحبها فاُتي به وهو شارب نبيذ، فلمّا رآه معاوية طمع في غبّته، فقال له: بعني ضيعتك، فضحك اليهودي وقال: ليس هذا وقت بيع ولا شراء ولكن إن شئت غنّيتك صوتاً، فضحك معاوية وقال: اللهمّ اخزه فما أشدّ عقدته وأثبت عكدته(2) .

وعمرو نفسه وقد عرف معاوية تهالكه على الطمع راوده ذات يوم عن أرض له تسمّى «الوهط» وقال له: أحب أن تصفح لي عن الوهط ضيعتك. فقال: يا أميرالمؤمنين أحبّ أن تعرض لي عنها. قال: لا. فأبى عمرو أن يفعل، فقال معاوية: مثلك يا عمرو مثل ثور في روضة إن ترك رتع وإن هيّج نطح. فقال عمرو: ومثلك يا أميرالمؤمنين مثل بعير في روضة يصيب من اخلاط الشجر فيها فرأى شجرة على صخرة زلاّء فرغب عمّا هو فيه وتعاطى الشجر فتكسّر(3) .

وبقيت ذكرى الوهط تعتاده حتّى إذا هلك عمرو أراد أن يصادرها من ورثته ومنهم عبدالله ولده. عن سعد بن إبراهيم أنّه سمع رجلاً من بني مخزوم يحدّث عن

____________________

(1) أنساب الأشراف، ج5 ص67، والبداية والنهاية، ج8 ص72، والمنتظم، ج5 ص275.

(2) أنساب الأشراف، ج5 ص72. والعكدة العصعص والقوّة.

(3) أنساب الأشراف، ج5 ص75.

٢٥٤

عمّه: إنّ معاوية أراد أن يأخذ أرضاً لعبدالله بن عمرو يقال لها (الوهط) فأمر مواليه فلبسوا آلتهم وأرادوا القتال، قال: فأتيته فقلت: ماذا؟ فقال: إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من مسلم يظلم بمظلمة فيقاتل فيقتل إلاّ قتل شهيداً(1) .

وكان عهد إلى وكلائه أن يأخذوا كلّ أرض تمتدّ إليها أيديهم. قال الواقدي: حدّثني أصحابنا عن ابن جعدية وغيره قالوا: كان لعبدالرحمن بن زيد بن الخطّاب أرض إلى جانب أرض لمعاوية، وكان وكيل معاوية بالمدينة النضير مولاه فعمد إلى أرض عبدالرحمن فضمّها إلى أرض معاوية وقال: هذه لأميرالمؤمنين. فقال عبدالرحمن: عندي البيّنة، إنّ أبابكر بن أبي قحافة قطعها لي مقتل أبي باليمامة. فقال النضير: هذه قطيعة أميرالمؤمنين، فخاصمه إلى مروان بن الحكم. فقال: اصطلحا وكره أن يجزم القضاء على معاوية.

فأتى عبدالرحمن بن زيد الشام فلمّا صار إلى باب معاوية ألقاه جالساً بالخضراء بدمشق، فقال لأبي يوسف: استأذن لي على أميرالمؤمنين، فاعتلّ عليه، فرفع صوته فقال: مالي بدّ من الوصول إليه، فأنا إلى أن توصل أرحامنا وتُثمر لنا أموالنا أحوج منّا إلى أن يؤخذ منّا ما في أيدينا. فسمعه معاويه فقال: ادخله، فدخل فسلّم وقال: إنّ وكيلك بالمدينة تعدّى عليّ وعمد إلى ما قطع لي خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجازه لي عمر فألجأه إلى أرضك وزعم أنّ عنده كتاباً من عثمان بأنّه قطعه لك، وكيف يقطع لك عثمان حقّاً هو لي؟

فقال معاوية: تركت أرضك لم تعمرها حتّى عملتها، فلمّا غرست فيها خمسة آلاف وديّة قلت قطعية أبي بكر وقد روي عن عمر أنّه بلغه أنّ قوماً يتحجّرون الأرض ثمّ يدعونها عطلاً فيجيء آخرون فيزرعونها أنّها لمن زرعها. فقال: والله ما قلت الحق يا معاوية فأنصفتني. فقال معاوية: عليّ بالقاضي ...(2) ويقال: إنّ القاضي حكم عليه.

لقد صادر معاوية حتّى أولياء نعمته، فهذا المتظلم منه هو ابن أخي ولي

____________________

(1) ابن كثير، جامع المسانيد والسنن، ج26 ص456.

(2) أنساب الأشراف، ج5 ص139.

٢٥٥

نعمته وغارس شجرته عمر بن الخطّاب، ولكنّ ابن هند لا يبالي بصاحب الأرض إذا حاز أرضه له وإن كان ولي نعمه أو صاحب يد سلفت إليه. بنى معاوية استيلائه على الأرضين وحيازته لها على دعامة عجيبة من أوهام الحكم واستبداده في رأس صاحبه، فقد كان يرى ذلك مباحاً له، بل حتّى الأرض التي يتركها فإنّه يفعل ذلك ممتناً على صاحبها أي إنّ له في عنقه منه في قبال تركه أرضه دونما مصادره. قال يوماً لجلسائه: الأرض لله وأنا خليفته فما أخذت فلي حلال وما تركت للناس فلي عليهم فيه منّة. فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الاُمّة فيه إلاّ سواء، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لقد هممت. قال صعصعة: ما كلّ من همّ فعل. قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه(1) .

وحين نستنطق النص ندرك أنّ معاوية لم يقل ذلك ابتداءاً بل لابدّ من سبق اعتراض عليه من جلسائه أو من غيرهم، والحقيقة أنّ الاُمّة لم تتلق جشع معاوية بالرضا والقبول، ولكن لم تنقل نقمتها على معاوية إلاّ موجهة أو معدلة أو مخففة إلى أن انقرضت دولة الشجرة الملعونة وما نقل إليها فقد نقله كائناتٌ مدّجنة ونعني بهم اولئك المؤرخين الذين نقلوا التاريخ وكتبوه بروح اُمويّة صرفه.

وبلغ معاوية هوس الإستيلاء على الأرض وحيازتها إلى درجة غير معقولة، فما وصفت إليه أرض ذات تربة صالحة إلاّ وأسرع لأخذها ما لم يحل بينه وبينها حائل، وكان يتحرّى إلحاح الحاجة على صاحب الأرض فيأخذها منه بالثمن البخس أو غصباً إن قدر على ذلك. وكان يُدل على خاصته بيد له عليهم أو معروف سالف أسداه لهم أو حتّى صلة القربى بينه وبينهم فيأخذ أرضهم ويجردهم منها فلم يسلم منه حتّى خاصته.

حج معاوية فرأى شخصاً يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا: شعبة بن غريض، وكان من اليهود، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله فقال: أجب أميرالمؤمنين. قال: أوليس قد مات أميرالمؤمنين؟ قيل: فأجب معاوية، فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج7 ص169.

٢٥٦

بتيماء؟ قال: يكسى منها العاري ويردّ فضلها على الجار. قال: أفتبيعها؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بستّين ألف دينار ولولا خلّة أصابت الحي لم أبعها. قال: لقد أغليت. قال: أمّا لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستّمائة ألف دينار. قال: أجل، وإذا بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه. فقال: قال أبي:

يا ليت شعري حين أندب هالكاً

ماذا تؤبنني به أنواحي

أيقلن لا يبعد فربّ كريهة

فرّجتها ببشارة وسماح

ولقد ضربت بفضل مالي حقّه

عند الشتاء وهبّت الأرواح

ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم

ولقد رددت الحقّ غير ملاحي

وإذا دعيت لصعبة سهّلتها

اُدعى بأفلح مرّة ونجاح

فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك. قال: كذبت ولؤمت. قال: أمّا كذبت فنعم وأمّا لؤمت فلم؟ قال: لأنّك كنت ميت الحق في الجاهلية وميتة في الإسلام ; أمّا في الجاهلية فقاتلت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحي حتّى جعل الله كيدك المردود، وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلافة وما أنت وهي وأنت طليق بن الطليق. فقال معاوية: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده فاُقيم(1) .

ولم يسلم على أرضه وماله حتّى أهله وخاصّته، وفد الوليد بن عقبة إلى معاوية، فقيل له: هذا الوليد بالباب. فقال: والله ليرجعنّ مغيظاً غير معطىً فإنّه قد أتانا يقول: عَلَيّ دين وعليّ كذا وكذا، يا غلام إأْذن له، فأذن له، فساءله معاوية وتحدّث معه فقال له: أما والله إن كنّا لنحبّ إتيان مالك بالوادي وقد أعجب أميرالمؤمنين فإن رأيت أن تهبه ليزيد فعلت. قال الوليد: هو ليزيد. اُنظر يا أميرالمؤمنين في شأني فإنّ عَلَيّ مؤونةً وقد أرهقني دين. فقال له معاوية: ألا تستحي بحسبك ونسبك تأخذ ما تأخذه فتبذّره ثمّ لا تنفكّ تشكو ديناً؟! فقال الوليد: أفعل ثمّ انطلق من مكانه وصار إلى الجزيرة وقال:

تأبى فعال الخير لا

تروى وأنت على الفرات

فإذا سُئلت تقول لا

وإذا سئلت تقول هات

____________________

(1) النصائح الكافية، ص133.

٢٥٧

أفلا تميل إلى نعم

أو ترك لا حتّى الممات؟

وبلغ معاوية مقدمه إلى الجزيرة فخافه وكتب إليه أن اقبل إليّ فكتب إليه من الطويل.

اعف واستغني كما قد أمرتني

فأعط سواي ما بدا لك وانحل

سأحدو ركابي عنك إنّ عزيمتي

إذا نابني أمر كسلّة منصل

وإنّي امرىء للرأي منّي تطرب

وليس شبا قفل عَلَيّ بمقفل

ورحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بصلته وجائزته ...(1)

واشترى معاوية الدور من أصحابها ليكون الناس جياعاً في العراء، ويكون معاوية وحده صاحب الدار والمال ومن يحب من الخاصة، باع حكيم بن حزام داره من معاوية بستّين ألف دينار فقيل له: غبنك معاوية. فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلاّ بزق خمر أشهدكم أنّها في سبيل الله فانظروا أيّنا المغبون(2) .

وما باع أحد داره أو أرضه إلاّ اضطراراً أو من شدّة الخصاصة أو المخمصة فهذا قيس بن سعد وهو الكريم ابن الكريم والشهم ابن الشهم، لمّا رأى ما على جيرانه وإخوانه وقومه من أثر الحاجة المروّع، عمد إلى بيع أرضه من معاوية بتسعين ألفاً فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفاً وأطلق الباقي، ثمّ مرض بعد ذلك فقلّ عوّاده، فقال لزوجته قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر: إنّي أرى قلّه من عادني في مرضي هذا وإنّي لأرى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كلّ رجل ممّن كان له عليه دين بصكّه المكتوب عليه فوهبهم ماله عليهم. وقيل إنّه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حلّ، فما أمسى حتّى كسرت عتبة بابه من كثرة العوّاد ...(3)

وعمّ البلاء حتّى الأموات، فقد مات سعيد بن العاص وهو اُموي صليبة من شجرة معاوية، ولمّا دفن بالبقيع ركب ابنه عمرو إلى معاوية فعزّاه فيه واسترجع

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج3 ص121.

(2) نفسه، ج2 ص98، والبداية والنهاية، ج8 ص71.

(3) البداية والنهاية، ج8 ص103.

٢٥٨

معاوية وحزن عليه وقال: هل ترك من دين عليه؟ قال: نعم! قال: وكم هو؟ قال: ثلاثمائة ألف درهم وفي رواية ثلاثة آلاف درهم. فقال معاوية: هي عليّ. فقال ابنه: يا أميرالمؤمنين إنّه أوصاني أن لا أقضي دينه إلاّ من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية الأراضي بملغ الدين وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له ...(1)

ولم تكن الأرض وحدها مورد نُهمته ومجال نُهزته بل همّه الأكبرنهب الثروات الشعبيّه والأموال العامّة بأيّة وسيلة كانت ومن أيّ جهة أتت. لمّا ألزم بني مخزوم اثنى عشر ألف درهم دية ابن أثال أدخل بيت المال منها ستة آلاف وأخذ هو ستّة آلاف، فلم يزل ذلك بجري دية المعاهد حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز فأبطل الذي يأخذه السلطان لنفسه، وأثبت الذي يدخل بيت المال(2) .

ومعاوية أوّل من سنّ هذه السنّة الخبيثة، فقد كانت السنّة الاُولى أنّ دية المعاهد كدية المسلم، فكان معاوية أوّل من قصرها إلى نصف الدية، وأخذ نصف الدية لنفسه(3) ، وليس معنى ذلك أنّه حطّ الدية إلى النصف من دية المسلم، بل معناه أنّه قسّمها نصفين، أخذ نصفاً لنفسه ودفع الباقي إلى أصحابها، فكان الذي يدفع ديةً النصف، فقيل قصّرها على النصف. وما أكثر السنن المبتدعة التي وضعها معاوية في الناس، فسار عليها من جاء بعده من طواغيت اُميّة. يقول اليعقوبي:

وكان معاوية أوّل من أقام الحرس والشرط والبوّابين في الإسلام، وأرخى الستور، واستكتب النصارى، ومشي بين يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الأعطية، وجلس على السرير والناس تحته، وجعل ديوان الخاتم، وبنى وشيّد البناء، وسخّر الناس في بنائه ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال الناس فأخذها لنفسه(4) واقتدى به من جاء بعده.

كان العجير السلولي دلّ عبدالملك بن مروان على ماء يقال له مطلوب، وكان لناس من خثعم فأنشأ يقول:

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص90، وراجع المنتظم، ج5 ص297، والحكاية فيه أكثر تفصيلاً.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص454.

(3) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص72.

(4) اليعقوبي، ج2 ص232.

٢٥٩

لا نوم إلاّ غرار العين ساهرة

إن لم اودع بغيظ أهل مطلوب

إن تشتموني فقد بدّلت أيكتكم

ذرق الدجاج بحفان اليعاقيب

وكنت اُخبركم أنّ سوف يعمرها

بنو اُميّة وعداً غير مكذوب

قال: فركب رجل من خثعم يقال له اُميّة إلى عبدالملك حتّى دخل عليه فقال: يا أميرالمؤمنين إنّما أراد العجيران يصل إليك وهو شويعر سأّل وحرّبه عليه(1) فكتب إلى عامله بأن يشدّ يد العجير إلى عنقه ثمّ يبعثه في الحديد فبلغ العجير الخبر فركب في الليل حتّى أتى عبدالملك فقال له: يا أميرالمؤمنين أنا عندك فاحتبسني وابعث من يبصر الأرضين والضياع فإن لم يكن الأمر على ما أخبرتك فلك دمي حلّ وبل. فبعث فاتّخذ ذلك المال فهو اليوم من خيار ضياع بني اُميّة ...(2)

وتكاملت سنن ابن هند على يد ابن الزرقاء، فكان له جواسيس يصفون له الأرضين فما راق له أخذه لا يردعه عن ذلك رادع ولا يمنعه مانع، ومعاوية شريكه في ظلمه، كما أنّ من نصب معاوية حتّى بلغ هذا الحد شريكه في ظلمه أيضاً هذه الجرائم والمنكرات التي تأباها الإنسانيّة، وكان معاوية يقترفها باسم الدين والقرآن وخلافة سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وتتبرّء منها ذووا الضمائر الحرّة، تبعّد معاوية حتّى من حضيرة الملوك والجبابرة، لأنّ لأولئك نفوساً عالية تترفّع عن دنايا معاوية وموبقاته، كان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدوّ الله هامان فلمّا ابتدء في حفره أتاه أهل القرى يسئلونه أن يجري الخليج تحت قراهم ويعطون على ذلك ما أراد من المال، فكان يعمل ذلك حتّى اجتمعت له أموال عظيمة فحمل تلك الأموال إلى فرعون فسأله فرعون عنها فأخبره الخبر، فقال فرعون: إنّه ينبغي للسيّد أن يعطف على عبيده ويفيض عليهم معروفه ولا يرغب فيما في أيديهم، ونحن أحقّ بمن يفعل هذا بعبيده، فاردد على أهل كلّ قرية ما أخذته منهم، ففعل هامان ذلك(3) .

____________________

(1) سأّل: الملحاح في السؤال. حربه: حرّضه عليه.

(2) أبوالفرج الإصفهاني، الأغاني، ج13 ص59. ومعنى قوله: حلّ وبل أي حلال ومباح مطلق. وبل من برد الماء أي دمي يبرد صدرك.

(3) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج1 ص56.

٢٦٠