الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102737
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102737 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معاوية وما كانت الاُمّة لتخرج من أتونها دون أن تحترق وتكون رماداً، فقد خسرت الاُمّة قيمها الفاضلة، وأتت أساليب ابن هند الجاهليّة في الحكم على أخلاقها الجميلة ومحامد صفاتها واكتسحت أخلاقه الآجنة وأصحابه وذويه وخاصته آدابها التي بناها الإسلام وأرسى قواعدها على الحبّ والأخاء، وهذه تعتبر من أقسى الضربات التي تلقتها الاُمّة من سياسة معاوية والاُمويين.

السمة الثانية عشرة: التأثير على العامة وأوشاب الناس

انتهت أيّام معاوية في سنة ستّين للهجرة ولكن لم تنته آثار حكمه، بل بقيت عالقة في الجماعة الإسلاميّة، وتحوّلت من اُروقه السياسة إلى مذاهب الفرق والطوائف، وانقسمت إلى مسائل فقهيّة واُخرى كلاميّة، واختفى الواضع الأوّل أعني معاوية في العدم، وبقيت أقواله أو جلّها على أحسن تقدير معمولاً بها عند أكثر المذاهب الإسلاميّة، خذ على سبيل المثال مسألة التفضيل بين الصحابة فما كان أحد يعتريه الشك في تقديم الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام على المسلمين بأجمعهم، حتّى جاء معاوية وراح يوسوس في صدور الناس ومعه مرتزقة من رواة وعلماء وفقهاء حول أفضليّة الإمام فأنكر كلّ خاصة له وبذر بذور الشك في كلّ فضيلة ثبتت بالتواتر له، وقدّم عليه في الفضل من تقدّمه في الحكم، فقد كتب إلى الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه، واجتبى من المسلمين أعواناً أيّده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده، ثمّ خليفة الخليفة، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم عثمان، فكلّهم حسدت وعلى كلّهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفّسك الصعداء وإبطاءك عن الخلفاء، وأنت في كلّ ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتّى تبايع وأنت كاره ...(1)

____________________

(1) جمهرة رسائل العرب، ج1 ص437.

٢٨١

وها أنت عزيزي القارىء ترى أنّ مسئلة التفضيل بن الخلفاء الأربعة وتفضيل الثلاثة على الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام بدأت من معاوية ولم تكن معهودة في المسلمين قبل ذلك، بل لم يكن المسلمون يعرفون لهؤلاء الثلاثة شيئاً من التقدم على بلال وخباب بن الأرت وخوات ابن جبير بله عليّاًعليه‌السلام ، ولكن معاوية أطلقها وأشاعها بين المسلمين لأغراضه السياسية وتلقفها من بعده الاُمويون ثمّ شاعت في العباسيين بعد ثورة بني الحسنعليهم‌السلام ، وتجذّرت في عصر المتوكل وهو المعبّر عنه بيزيد بني العباس وكان نصبه ممّا لا يكاد ينكر وما زالت هذه المسئلة معمولاً بها اليوم بخاصة بين نابتة الاُموية.

وتكرّرت هذه المقولة الباطلة على لسان معاوية بصيغ شتّى وعبارات مختلفة، فقد كتب إلى الإمامعليه‌السلام ثانية يقول: ثمّ إنّ الله سبحانه اختصّ محمّداً عليه الصلاة والسلام بأصحاب أيّدوه ونصروه وكانوا كما قال الله سبحانه لهم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم، فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة الخليفة الأوّل الذي جمع الكلمة ولمّ الدعوة وقاتل أهل الردّة، ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصّر الأمصار وأذلّ رقاب المشركين، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملّة وطبّق الآفاق بالكلمة الحنيفيّة(1) .

والباحث النزيه حين يحتك بهذه الأحداث ويتناولها بعقل القاضي الحصيف يدرك حتماً أنّ واضع بذرة التفضيل معاوية ليحط من قدر أهل بيت النبي بزعمه وأتبعه القوم أمس واليوم، وما كان المسلمون حتّى من أفردوهم بالتقدم يجهلون فضل أهل البيت على الناس قاطبة ولقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام علن أفضلية علي، فقال: سبق الأبعدين بالقرابة والأقربين بالسبق إلى الإسلام، وهذه كلمة قيّمة تغني المسلم عن تجشّم البحث والفحص وفيها مقنع للعقول السليمة من أسر الهوى.

وكان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول للناس على المنبر: يا لله وللشورى، متى اعترض فيّ الريب مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنّي اسففت إذ أسّفوا وطرت إذ طاروا.

____________________

(1) جمهرة رسائل العرب، ج1 ص444.

٢٨٢

وكان معاوية نفسه يعترف بسبق الإمام وتقدّمه وفضله وذلك في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر يقول فيه: فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مبرزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام ما عنده وأتمّ له ما وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه الله إليه صلوات الله عليه كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره على ذلك اتّفقا واتّسقا(1).

وفي هذه الرسالة يعترف بفضل الإمام على من تقدّمه لأنّه يريد بذلك أن يخصم ابن أبي بكر وتعلّقت سياسته فيما عدا ذلك بتفضيل فلان وفلان على أميرالمؤمنين وسار القوم على نهجه ونسجوا على نوله ولم يفيئوا إلى حجة صحيحة مقبولة ولا إلى ميزان سليم يتمّ الفضل به لواحد ويسلب عن آخر، اللهمّ إلاّ هذه النزغات المطعمة بالحقد والأغراض الشخصيّة.

وأشهر ما في باب التفضيل أقوال تعزى إلى أصحابها وليس فيها خبر يقين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمر بن أسيد عن عبدالله بن عمر قال: كنّا نقول في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله خير الناس ثمّ أبوبكر ثمّ عمر، ولقد اُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم: زوّجه رسول الله ابنته وولدت له، وسدّت الأبواب إلاّ بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر(2) .

وابن عمر حجّ نفسه بنفسه، لأنّ صاحب هذه الخصال التي تمنّى واحدة منها هل لأبيه وصاحبيه شيء منها، فكيف يفضّلهما عليه، وهل هذا إلاّ الهجر والهذيان، ثمّ هو يقول: كنّا نقول ...!! إن كان القائلون هم الأولاد والأحفاد والزوجات والبنات ومن لفّ لفّهم فنجيبهم بمثل واحد ونكسب النجاة من وجع القلب: القرد في عين اُمّه غزال، وإن كان غيرهم فكان على ابن عمر أن يسمّيهم ولو كانوا من طراز سيّدنا هيان بن بيان.

ويقول أحمد بن حنبل اقتفاءاً لقول معاوية وسئل عن التفضيل: من قدّم عليّاً على أبي بكر فقد طعن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قدّمه على عمر فقد طعن على

____________________

(1) جمهرة رسائل العرب، ج1 ص545.

(2) مسند أحمد، ج2 ص26.

٢٨٣

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر، ومن قدّمه على عثمان فقد طعن على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى أهل الشورى والمهاجرين والأنصار(1) .

ولو سئلنا سلالة حرقوص(2) ذي الثدية ابن حنبل ما سبب الطعن على رسوله في تقديم ابن عمّه وابن اُمّه قاطمة وزوج ابنته وأبي سبطيه على ابن أبي قحافة وابن صهّاك الزنجيّة المعروفة بباطحلي وتاريخها معروف مشهور، ماذا يكون جوابه؟ قلنا سابقاً إنّ الذين اتّبعوا ابن هند في نزغاته هم أوشاب الناس وأوباشهم، ومن علامتهم أنّهم لا يحتكمون إلى العقل فيما يقولون أو يفعلون أو يعتقدون.

حجّ خراساني من أهل السنّة، فلمّا حضر الموسم أخذ دليلاً يدلّه على المناسك، فلمّا فرغ أعطاه شيئاً يسيراً لا يرضيه، فأخذه منه ثمّ جاء به إلى بعض الأركان فنطح الركن برأسه فقال له الخراساني: ما هذا؟ قال: كان معاوية يأتي هذا الركن فينطحه برأسه، وكلّما كانت النطحة أشدّ كان الأجر أعظم، فشدّ الخراساني على الركن ونطحه نطحةً سالت الدماء منها على وجهه وسقط مغشيّاً عليه فتركه الرجل ومرّ(3) .

وهذا منتهى البلاهة والحمق ولا تظنّنّ أنّ ذلك من أحاديث التسلية والترفيه عن النفس وأكثره موضوع من الظرفاء لا أصل له كلاّ ثمّ كلاّ.. فإنّ جلّ من اتّبع معاوية فيما وضع وابتدع بمنزلة هذا الخراساني أو أشدّ حمقاً. كان بعضهم يتشدّد في خلق القرآن فسئل عن معاوية أمخلوق هو؟ قال: كان إذا كتب الوحي غير مخلوق وإذا لم يكتبه كان مخلوقاً ...(4)

ومسئلة اُخرى اتّبعوا فيها معاوية وخالفوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي استلحاقه زياداً، وسوف نطلعك فيما يأتي على اتّباعهم معاوية وتركهم قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورائهم ظهريّاً.

____________________

(1) ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج3 ص45.

(2) يقال: إنّ أحمد بن حنبل من سلالة حرقوص بن زهير ذي الثدية الخارجي الذي قتله الإمام بالنهروان.

(3) التذكرة الحمدونية، ج3 ص275.

(4) التذكرة الحمدونية، ج3 ص278.

٢٨٤

للعاهر الحجر

لما كان الوسط الجاهلي منغمساً في الإباحية الجنسيّة حتّى شحمة اُذنيه، ولم تقتصر هذه الإباحية على أهل الجاهلية وحدهم، وإنّما امتدّت لها ذيول هنا وهناك بين من أسلموا حديثاً، وما زالت أخلاق الجاهلية تعتادهم كما يعتاد المرض الناقه، لذلك كثرت فيهم حالات القذف والولادات غير الشرعية كما كثر فيهم الأدعياء، وهذه بالطبع مسألة حادة جدّاً تؤدّي إلى انقسام المجتمع الوليد على نفسه، وتجرّ إلى فتن عمياء بها ينفى الصميم ويقصى الحميم ويلحق الدعي لهذا اقتضت المشيئة الربانية تحقيقاً للرحمة التي لازمت شرعه وتجسّدت بسيّد أنبيائه أن يكون لها حلّ شرعي، بعيداً عن مؤثّرات العاطفة واختلاجات النفس الأمّارة بالسوء وبمنأىً كذلك عن الروح الجاهليّة المدمّرة.

وهذا الحلّ الشرعي كسائر الحلول للقضايا الحادة لا يأخذ بعين الإعتبار إلاّ المصلحة العامة بغضّ النظر عن رضا الراضين وغضب الغاضبين، وليس من وكده أن ينال القبول عند فئة معيّنة، بل الغاية القصوى له أن يكون حلاًّ جذريّاً عام المنفعة يتمّ تنفيذه بيسر وسهولة، وجاء الحلّ على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد طرو حالة معيّنة على المجتمع الجديد الناهض.

أخرج البخاري في جامعه عن عائشة قالت: كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أنّ ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه إليك، فلمّا كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي عهد إليّ فيه. فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إليّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثمّ قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه لما رأى من شبهة بعتبة، فما رآها حتّى لقي الله ...(1)

____________________

(1) صحيح البخاري، ج8 ص191.

٢٨٥

وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الولد للفراش(1) .

وأخرج البخاري أيضاً بسياق آخر مثل: الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر(2) .

وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع والترمذي رقم 2120، 2121 وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق والنسائي في المجتبى كتاب الطلاق وللحديث سياق آخر عند البخاري وهو: الولد للفراش وللعاهر الحجر وهي الصيغة المشهورة للحديث وله سياقات اُخرى أخرجتها كتب جمّة بأسانيد كثيرة لا تحصى، ومن أهمّ هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر: مسند أحمد، فتح الباري، مصنّف عبدالرزاق، مصنّف ابن أبي شيبة، جامع مسانيد أبي حنيفة، الطبقات الكبرى لابن سعد، شرح معاني الآثار، تاريخ إصبهان لأبي نعيم، البداية والنهاية لابن كثير، ومجمع الزوائد، كنز العمال، تاريخ بغداد للخطيب، سنن البيهقي، موطأ مالك، شرح السنة للبغوي، وغير هذه كتب ليست في حوزتي فلم يتيسّر لي الإطلاع عليها.

وقال العلماء تعليقاً على هذا الحديث الشريف كأبي جعفر فقد قال: ذهب قوم إلى أنّ الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كلّ ولد يجيء به بعد ذلك ادّعاه أو لم يدّعه، واحتجّوا في ذلك بهذا الحديث لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: هو لك يا عبد بن زمعة، ثمّ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، فألحقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزمعة لا لدعوة ابنه لأنّ دعوة الإبن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن لأنّ اُمّه كانت فراشاً لزمعة بوطئه إيّاها(3) .

وبهذا يظهر زيف ادّعاء معاوية نسب زياد من أبي سفيان، لأنّها دعوة ابن لنسب غيره من أبيه، وكانت اُمّ زياد فراشاً لغيره، وكان عمر بن الخطّاب يفتي بهذا طيلة خلافته. عن عبدالله بن عمر أنّ عمر بن الخطّاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثمّ يعزلونهنّ، لا تأتيني وليدة يعترف سيّدها أن قد ألم بها إلاّ قد ألحقت به

____________________

(1) صحيح البخاري، ج8 ص191.

(2) راجع من البخاري: ج3 ص70 و106 و161 وج4 ص40 وج5 ص192 وج8 ص140 و205.

(3) الطحاوي، معاني الآثار، ج3 ص114، ط دار الكتب العلمية، 1416 هجري.

٢٨٦

ولدها، فاعزلوا أو أتركوا(1) .

واتّبع عبدالله أباه في فتواه، عن نافع عن ابن عمر قال: من وطىء امة ثمّ ضيّعها فأرسلها تخرج ثمّ ولدت فالولد منه والضيعة عليه(2) .

وخالفهما زيد بن ثابت، فقد روى عنه خارجة ابنه أنّ أباه كان يعزل عن جارية فارسية، فحملت فأنكره وقال: إنّي لم أكن اُريد ولدك وإنّما استطيب نفسك فجلدها وأعتقها وأعتق الولد(3) .

وفتوى عمر وابنه جائت موافقة للحديث الشريف وأمّا ابن ثابت فمن المحتمل أن يكون ثبت عنده أنّ الولد من غيره بالقطع واليقين لأنّه لم يمارس العمل بحيث تصب النطفة في الرحم أو بعضها، ليحتمل نسبة الولد إليه، وبهذا صحّ انكار الولد واعتبره من غيره واعتبر الجارية مقارفةً إثماً لذلك عمد إلى جلدها.

ومهما تكون الحال، فإنّ الشريعة وعمل الصحابة جاء بخلاف ما عمل به معاوية من استلحاقه زياداً بنسبه وما كانت ضرورة تدعوه إلى ذلك ولكن أراد مخالفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أجل مجرّد مخالفته والردّ عليه، وهو معذور طبعاً لما ينطوي عليه من العداء الساخن للشريعة وصاحبها ولكن ما بال من انتسب إلى الدين والعلم وتقدم المسلمين إماماً يقتدى به ويعمل برأيه ويقلّد في الحلال والحرام أمثال مالك بن أنس وأبي بكر بن العربي وابن خلدون وابن كثير وابن تيميّة وأمثالهم كثير ردّوا سنّة المصطفى بأقوال واهية وآراء فجة واتّبعوا سنّة ابن هند؟

يقول أبوبكر بن العربي: فإن قيل: أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل والقضاء بما لا يحلّ من استلحاق زياد! قلنا: قد بيّنا في غير موضع أنّ استلحاق زياد إنّما كان لأشياء صحيحة وعمل مستقيم. ثمّ شرع ابن العربي يناقش أقوال المؤرخين بشأن زياد فقال: قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث بن كلدة واشترى زياد عبيداً أباه بألف درهم فأعتقه. قال أبو عثمان النهدي: فكنّا نغبطه. إلى أن يقول:

____________________

(1) نفسه، ج2 ص14.

(2) معاني الآثار، ج3 ص14 و16.

(3) معاني الآثار، ج3 ص14 و16.

٢٨٧

ورووا أنّ عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشياً لساق الناس بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم اُمّه. فقال له علي: ومن؟ قال: أنا. قال: مهلاً يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان أبياتاً من الشعر:

أما والله لولا خوف شخص

يراني يا علي من الأعادي

لأظهر أمره صخر بن حرب

ولم تكن المقالة عن زياد

وقد طالت مخالفتي ثقيفاً

وتركي فيهم ثمر الفؤاد

فذلك الذي حمل معاوية واستعمله علي على فارس، وحمى وجبى وأصلح وكاتبه معاوية يروم إفساده فوجّه زياد بكتابه إلى علي بشعر فكتب إليه علي: إنّي ولّيتك ما ولّيتك وأنت أهل لذلك عندي ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلاّ بالصبر واليقين، وإنّما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً، وإنّ معاوية يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه.

فلمّا قرأ زياد الكتاب قال: «شهد لي أبوالحسن وربّ الكعبة» فذلك الذي جرّأ زياداً ومعاوية بما صنعا، ثمّ ادّعاه معاوية سنة أربع وأربعين وزوّج معاوية ابنته من ابنه محمّد. وبلغ الخبر أبا بكره أخاه لاُمّه فآلى يميناً أن لا يكلّمه أبداً وقال: هذا زني اُمّه وانتفى من أبيه والله ما رأت سمية أبا سفيان قط، وكيف يفعل باُم حبيبة أيراها فيهتك حرمة رسول الله وإن حجبته فضحته. فقال زياد: جزى الله أبابكرة خيراً فإنّه لم يدع النصيحة في حال، وتكلّم فيه الشعراء ورووا عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: أوّل قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.

قال القاضي أبوبكررضي‌الله‌عنه : قد بينّا في غير موضع هذا الخبر وتكلّمنا عليه بما يغنى عن إعادته ولكن لابدّ في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول: كلّ ما ذكرتم لا ننفيه ولا نثبته لأنّه لا يحتاج إليه، والذي ندريه حقّاً ونقطع عليه علماً أنّ زياداً من الصحابة بالمولد والرؤية، لا بالتفقه والمعرفة، وأمّا أبوه فما علمنا له أباً قبل الدعوة على التحقيق وإنّما هي أقوال غائرة من المؤرخين وأمّا شرائه له فمراعاة للحضانة فإنّه حضنه عنده إذ دخل عليه فله نسب بالحضانة إليه، إن كان ذلك.

٢٨٨

وشرع ابن العربي يرد ما تقدم بحجج واهية يستحي أهل العلم من نسبتها إليهم فمنها قوله:

وأمّا بعث معاوية إليه ليكون معه فصحيح في الجملة، وأمّا تفصيل ما كتب معاوية أو كتب زياد به إلى علي أو جاوب به علي زياداً فهذا كلّه مصنوع.

وأظنّه استراح من عناء الرد والبحث وتأليف الحجج بقوله: كلّه مصنوع. وذكّرني ابن عربي بأيّام طفولتنا يوم كنّا نسرح ونمرح على ضفاف شطّ العرب لاهين وادعين وقد يحدث أحياناً أن ننقسم إلى كتلتين كتلة تقاتل كتلة وتغار منها، فإذا انجلت المعركة الوهمية عنّا وجلسنا للعتاب أخذ الرواة ينقلون ما قاله بعضنا في البعض الآخر، وما من كلمة إلاّ ولها صلة بالحقيقة وإن أضاف النقل إليها أو حذف منها إليها أو حذفت منها تبعاً لمشاعر الناقل أو أمانته أو سلامة ذاكرته وما كنت تسمع من الأقران إلاّ عجيج التكذيب، وأكبر حجة يعتمدها الجميع هي قول: كذب، صنعه، أو وضعه، أو لم أقله، أو افترى عليّ ونحو ذلك، وتنتهي اللعبة بالإرهاق والنعاس فنغادر الطرقات والحارات إلى الأسرة أو السطوح وهذه هي روح الطفولة فهل يريد ابن العربي أن يتعامل مع تاريخنا بمثل هذه الروح؟ لست أدري!!

ويقول ابن العربي مثبتاً قول معاوية ناسياً أباه إلى الإجتهاد: وأمّا قول علي: إنّما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحقّ بها نسباً، فلو صحّ لكان ذلك شهادة كما روى عن زياد، ولم يكن ذلك بمبطل لما فعل معاوية لأنّها مسئلة اجتهاديّة بين العلماء فرأى علي شيئاً ورأى معاوية وغيره غيره. وأمّا نكتة الكلام وهو القول في استلحاق معاوية زياداً وأخذ الناس عليه في ذلك، فأيّ أخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأيّ عار على أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زناً كان في الجاهليّة، فمعلوم أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان كما لم تكن وليدة زمعة - أشار إلى الحديث النبوي الذي مرّ - لعتبة، لكن كان لعتبة منازع تعيّن القضاء له ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.

وهذا تلبيس من ابن العربي، لأنّه لم يشترط بالفراش أن يكون صاحبه على قيد الحياة حتّى ينازع في أمر الإدعاء، بل يكفي أن يكون له وجود قبل الإدّعاء في

٢٨٩

مقابل الدعوة، وهذا عين ما نحن فيه، فإنّ منازع معاوية في زياد هو واقع الحال الذي كان عليه انتساب زياد إلى غير أبي سفيان الذي كانت اُمّه تضاجعه في فراش واحد وهو عبيد الثقفي ولا يشترط في صاحب الفراش أن يبقى حيّاً أو يبعث من جديد لكي ينازع معاوية في زياد وإلى هذه المسئلة نظر الحديث الشريف فأثبت الولد للفراش.

ولو دقّقنا النظر في مسئلة زمعة فسوف نرى المنازع وهو زمعة غير موجود ساعة ادعاء سعد الولد، بل هو في الموتى وإنّما نازع سعد عبد بن زمعة أخو المنازع فيه، وهذا لا حقّ له في المنازعة لما مرّ من أنّ دعوة الإبن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، فشابهت حكاية زمعة استلحاق معاوية زياداً وابن العربي يعرف ذلك ولكنّه على عمد لبّس على نفسه.

ويقول ابن العربي في الردّ على ابن المسيّب: وأمّا ما روي عن سعيد بن المسيّب فأخبر عن مذهبه في أنّ هذا الإستلحاق ليس بصحيح وكذلك رأي غيره من الصحابة والتابعين، وقد صارت المسئلة إلى الخلاف بين الاُمّه وفقهاء الأمصار، فخرجت من حدّ الإنتقاد إلى حدّ الإعتقاد، وقد صرّح مالك في كتاب الإسلام وهو الموطأ بنسبه فقال: في دولة بني العباس: زياد بن أبي سفيان ولم يقل كما يقول المجادل: زياد بن أبيه. هذا على أنّه لا يرى النسب يثبت بقول واحد(1) .

وليس هذا قول ابن العربي أو مالك وحدهما، وإنّما عليه أهل السنّة والجماعة برمّتهم إلاّ من عصم الله وقليل ما هم، مع علمهم بأنّ استلحاق زياد جرّ على الإسلام والمسلمين الويلات. يقول ابن الأثير: وكان استلحاقه أوّل ما ردّت به أحكام الشريعة علانية فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال ابن الأثير أيضاً: ومن اعتذر لمعاوية قال: إنّما استلحق زياداً لأنّ أنكحة الجاهلية كانت أنواعاً لا حاجة إلى ذكرها جميعاً وكان منها أنّ جماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح إلاّ أنّه أقرّ كلّ ولد كان ينسب إلى أب من أيّ نكاح كان من أنكحتهم

____________________

(1) راجع حول أقوال أبي بكر بن العربي وردوده كتابه «العواصم من القواصم» من الصفحة 236 - 242.

٢٩٠

على نسبه ولم يفرق بين شيء منها فتوهّم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهليّة والإسلام، وهذا مردود لاتّفاق المسلمين على إنكاره ولأنّه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة ...(1)

وابن الأثير فاتته الإشارة إلى أنّ هذا الإستلحاق لم ينطبق عليه ولا نكاح واحد من أنكحة الجاهلية والنكاح الذي استشهد به المعتذرون يعتمد على شهادة البغي الاُم وإلحاقها الولد بواحد من زوّارها. أمّا مسئلة استلحاق زياد فنعتمد على دعوة معاوية بنسبة ذلك إلى أبيه وشهادة أبي مريم السلولي الخمّار: فأين هذه من تلك. يقول ابن الأثير:

قال معاوية لأبي مريم: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منّي بغيّاً فقلت له: ليس عندي إلاّ سميّة. فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها فأتيته بها فخلا معها، ثمّ خرجت من عنده وإنّ اسكتيها لتقطران منيّاً، فقال له زياد: مهلاً يا أبا مريم إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شائماً، فاستلحقه معاوية(2) .

ولم يأنف زياد إلاّ من اسكتيها، ولم يعتبر زناها شنيعة، والحمد لله الذي جعل عدوّ أهل البيت على شاكلة هؤلاء نسباً وعقلاً وديناً، ولو ذهبنا نلتمس العذر لهم في اعتذارهم عن معاوية وفي طلب الوجوه لاستلحاقه زياداً بنسبه فما عذرهم في اتّباع معاوية في صدقة رمضان وتركهم قول رسول الله الذي أمروا باتّباعه وبهذا ثبت لنا أنّهم الغوغاء وليس العلماء لأنّ العالم لا يحيد عن الحقّ ولا يجنح مع الهوى واعتبر بمن يجعل من نزغات معاوية وأهوائه الشيطانيّة ديناً يقابل بها أقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يصنع مع عمر.. وإليك فصلاً نافعاً عن صدقة الفطر وما فعل معاوية ليميل بها إلى هواه عن حقيقتها وموقف الأوباش منها.

أخرج مسلم عن ابن عمر قال: فرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة رمضان على الحرّ والعبد والذكر والاُنثى صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. قال: فعدل الناس به نصف

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص221.

(2) الكامل في التاريخ، ج3 ص221.

٢٩١

صاع من بر وعنه أيضاً أنّه قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بزكاة الفطرة صاع من تمر أو صاع من شعير. قال ابن عمر: فجعل الناس عدله مدّين من حنطة(1) .

وهنا أبهم الأمر مسلم على جاري عادته فلم يقل جعل معاوية بل نسب ذلك إلى الناس، ونعثر على الرواية التالية في مسند الإمام الشافعي تجلي الإبهام: عن داود بن قيس أنّه سمع عيّاض بن عبدالله بن سعد يقول: إنّ أبا سعيد الخدري قال: كنّا نخرج في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فلم نزل نخرجه كذلك حتّى قدم معاوية حاجّاً أو معتمراً فخطب الناس فكان فيما كلّم الناس به أن قال: إنّي أرى مدّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك(2) .

وفي ابن ماجة: إذا كان فينا رسول الله بدل قوله في زمن رسول الله. وفيه قول أبي سعيد: لا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول اصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبداً ما عشت(3) .

وأخرج النسائي عن ابن عمر قال: فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة الفطر على الذكر والاُنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. قال: فعدل الناس إلى نصف صاع من بر(4) .

وركّز السندي في حاشيته على النسائي على قوله: فعدل. وصب اعتذاره عن معاوية بهذا القالب العلمي فقال: أي قاسوه به وظاهر الحديث أنّهم إنّما قاسوه لعدم النص منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البر بصاع أو نصفه وإلاّ فلو كان عندهم حديث بالصاع لما خالفوه أو بنصفه لما احتاجوا إلى القياس بل حكموا بذلك(5) . ويريد إمام السند أن يبعد الإبتداع عن إمامه ابن هند، وبذلك يسلم أتباعه من الضلال.

____________________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص60.

(2) مسند الإمام الشافعي المطبوع بهامش «الاُم»، ص125، ط الدار المصريّة للتأليف والترجمة مصوّرة عن بولاق 1321.

(3) سنن ابن ماجة، ج1 كتاب الزكاة، ص585.

(4) سنن النسائي، ج5 ص47.

(5) حاشية السندي على النسائي، ج5 ص47.

٢٩٢

ويرده رواية الشافعي وفيها: كنّا نخرج صاعاً من طعام، والطعام عند أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة، ويرده قول النووي أيضاً: وليس للقائلين بنصف صاع حجة إلاّ حديث معاوية(1) .

وقول معاوية على المنبر: إنّي أرى أنّ مدّين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك، وهذا تصريح من معاوية بأنّه رأي رآه في مقابل سنّة المصطفى فاتّبعه الدهماء، وتركوا السنّة وممّن اتّبعه أبو حنيفة وأحمد بن حنبل، ومن بقي من العامة لم يأخذ بذلك فلأنّه اعتبره قول صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممّن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم أولى من بعض.

أقول: وهذا القول يحاولون به الإعتذار عن معاوية، وإلاّ فليس في المسئلة قولان لصحابيين أو أقوال لأكثر من ذلك، وإنّما هي سنّة المصطفى وبدعة معاوية، والقوم اتّبعوا البدعة وخلّفوا السنّة ورائهم، وليس ما ذهب إليه أبو سعيد رأي رآه أو قول ذهب إليه، بل هو الثبات على السنّة، ولذا قال كأنّه يتحدّاهم بذلك: لا زال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبداً ما عشت.

وسنّة المصطفى هي القول والفعل والتقرير وهذه منه والقوم جرياً على سالف عاداتهم صوّروا المسئلة وكأنّها خلاف بين الأصحاب وليست كذلك وبعد الذي مرّ عليك وسقناه لك على سبيل المثال لا الحصر هل بقي في النفس شكّ على أنّ القوم اُمّة معاوية وليسوا لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باُمّة؟ بخاصّة إذا عرفنا أنّه الواضع لإسمهم أهل السنّة والجماعة، والسنّة هي لعن أميرالمؤمنين والجماعة هي اجتماع الناس عليه كما يزعم بعد صلح الإمام الحسنعليه‌السلام وقد مرّ ذلك في ما تقدّم من الكتاب.

وإذا ثبت كونهم اُمّة معاوية، فلا غرابة فيما جنوه على أهل البيت من فجايع وفضايع ولا يستغرب حينئذ قول يزيد بعد مجيء السبايا ومعهنّ الرؤوس إليه وقوله مستشهداً بشعر ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

____________________

(1) النووي، على مسلم، ج7 ص60.

٢٩٣

صفات ابن هند الممدوحة وحقيقتها

بقي علينا بعد البحث في سمات حكم معاوية أن نلم بحقيقة اُخرى طالما أثارها الرواة والمؤرخون على سبيل التمدّح بابن هند معاوية وهي صفات ممدوحة رواها الرواة له، ومنها الحلم الذي طالما تغنّى به شيعته وذكروه بكثير من الزهو والخيلاء وذكروا له نبوءات نسبت إلى اُمّه وإلى غيرها بأنّه سيسود العالم من قبيل ما روى الذهبي عن أبان بن أبي عثمان قال: كان معاوية وهو غلام يمشي مع اُمّه فعثر فقالت: قم لا رفعك الله، وأعرابي ينظر فقال: لم تقولين له؟ فوالله إنّي لأظنّه سيسود قومه. قالت: لا رفعه إن لم يسد إلاّ قومه(1) .

وبالطبع ليس لهذه الرواية أساس من الصحّة وآثار الصنع بادية عليها، ولو صحّ من هذا شيء لظهر عليه قبل الإسلام أو بعده قبل أن يسلم ولما نجم قرنه في عهد عمر لا غير. والقوم بالغوا في حلم معاوية ولكنّه كما قال الأحنف حين سمع رجلاً يذكره بالحلم فيقول: ما أحلم معاوية! فقال: لو كان حليماً ما سفه الحق، والأحنف يعرف حقيقة الحلم لأنّه حليم ووصفه رجل عند الشعبى بالحلم فقال: ويحك، وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد شيء(2) . والشعبي أخذ قوله هذا من ابن عباس، قال ابن حمدون: وكان معاوية مذكوراً بالحلم وأخباره فيه كثيرة وقد دفعه قومه عن ذلك ذكر عند ابن عباس بالحلم فقال: وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد إحنه(3) .

وقال شريك بن عبدالله: لو كان معاوية حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً(4)(5) وقال: لو كان حليماً لما حمل أبناء العبيد على حرمه ولما أنكح إلاّ الأكفاء(6) . وقال

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج3 ص121.

(2) أمالي المرتضى، ج1 ص298.

(3) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر عن قول شريك، ج5 ص139.

(4) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر عن قول شريك، ج5 ص139.

(5) البداية والنهاية، ج8 ص132، ومختصر تاريخ دمشق، ج25 ص38.

(6) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر، ج5 ص139.

٢٩٤

الآخر: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا سمع ومن تعرّض للسفيه فهو سفيه(1) . وقال آخر: كان يحب أن يظهر حلمه وقد كان طار اسمه بذلك فأحب أن يزداد فيه(2) .

وشهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له معاوية: كذبت. فقال: الكاذب والله المتزمّل بثيابك. فقال معاوية: هذا جزاء من عجل(3) .

وهذا مصدق قول من قال: كان معاوية يتعرض الخ. ومعاوية بنفسه نفى عن نفسه الحلم بعد قتل حجر بن عدي. قالت عائشة لمعاوية حين حج ودخل إليها: يا معاوية! قتلت حجراً وأصحابه فأين غرب حلمك عنهم؟ أمّا إنّي سمعت رسول الله يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات. قال: لم يحضرني رجل رشيد يا اُمّ المؤمنين.

وروي أنّ معاوية كان يقول: ما أعدّ نفسي حليماً بعد قتلي حجراً وأصحاب حجر(4) . وإن اتّصف معاوية بصفة الحلم يوماًما فإنّه حلم عن الأقوياء والرواية التالية توضح لنا ذلك. قال عيسى بن يزيد المدني: قالت فاختة بنت قرظة امرأة معاوية: يا أميرالمؤمنين لم تصانع الناس وترى أنّهم منصفون منك؟! فلو أخذتهم من عل كانوا الأذلّين وكنت لهم قاهراً. فقال: ويحك إنّ في العرب بقيّة بعد، ولولا ذلك لجعلت عاليها سافلها. فقالت: والله ما بقي أحد إلاّ وأنت عليه قادر.

قال: فهل لك في أن أريك بعض ذلك منهم؟ قالت: نعم، فأدخلها بيتاً وأسبل عليها ستره، ثمّ أمر حاجبه أن يدخل عليه رجلاً من أشراف من بالباب، فأدخل عليه رجلاً من قيس يقال له الحارث، فقال له معاوية: يا حويرث، إيه أنت الذي طعنت بالخلافة وتنقّصت أهلها؟ والله لقد هممت أن أجعلك نكالاً. فقال: يا معاوية إنّما دعوتني لهذا؟ والله إنّ ساعدي لشديد، وإنّ رمحي لمديد، وإنّ سيفي لحديد، وإنّ جوابي لعتيد، ولئن لم تأخذ ما أعطيت بشكر لتُنزَعنّ عمّا نكره بصغر. فقال: أخرجوه عنّي فاُخرج. فقالت فاختة: ما أجرأ هذا وأقوى قلبه؟! فقال معاوية:

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر، ج5 ص139.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر، ج5 ص139.

(3) التذكرة الحمدونية، ج2 ص126، وراجع نثر الدر، ج5 ص139.

(4) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص231.

٢٩٥

ما ذاك إلاّ لإدلاله بطاعة قومه له.

ثمّ أمر الحاجب فأدخل عليه رجلاً من ربيعة يقال له: جاريه، فقال له معاوية: إيه يا جويرية أنت الذي بلغني عنك تجنيب للجند وقلّة من الشكر؟ فقال: وعلام نشكر؟ ما تعطي إلاّ مداراة ولا تحلم إلاّ مصانعة، فاجهد جهدك، فإنّ ورائي من ربيعة ركناً شديداً لم تصدع أدرعهم مذ جلوها، ولا كلّت سيوفها مذ شحذوها. فقال: أخرجوه.

ثمّ أمر معاوية حاجبه فأدخل إليه رجلاً من أهل اليمن يقال له عبدالله، فقال له: إيه يا عبيد السوء، الحقتك بالأقوام واطلقت لسانك بالكلام، ثمّ يبلغني عنك ما يبلغني من سوء الأرجاف؟! لقد هممت أن أخرجك وأنت عبرة لأهل الشام. فقال: أيا معاوية ألهذا دعوتني ثمّ صغّرت اسمي ولم تنسبني إلى أبي؟ وإنّما سمّيت معاوية باسم كلبه عاوت الكلاب فأربع على ظلعك فذلك خير لك. فقال لحاجبه: أخرجه. فقالت فاختة: صانع الناس بجهدك وسعهم برفقك وحلمك فأخزى الله من لامك ...(1)

وهذا النص جمع حقيقة حلم ابن آكلة الأكباد، إنّه ليس حلماً في طبعه، بل هو تحالم عن أولئك الذين يهابهم ويخاف قبائلهم لأنّها مطيعة لهم تحوطهم بالحماية من كلّ أحد ولو كان في سلطان معاوية، أمّا من كان بمثابة حجر وأصحابه وعمرو بن الحمق وزوجته وإخوانه في الجهاد فلا يسعهم حلم معاوية.

وأمّا ما نسب إليه من العقل فقد أحسن الحسن البصري التعبير عنه، حين سئل عن العاقل فقال: العاقل من اتّقى الله تعالى وتمسّك بطاعته. قال له رجل: فمعاوية؟ قال: تلك الشيطنة، تلك الفرعنة. ثمّ قال: ذلك شبيه بالعقل(2) .

ولم يكن قول الحسن البصري في عقل معاوية اكتشافاً جديداً، فقد كشف ذلك قبله إمام المتقين أميرالمؤمنينعليه‌السلام فكتب إلى زياد بن أبيه: وقد عرفتُ أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك ويستفلّ غربك فأحذره، فإنّما هو الشيطان يأتي

____________________

(1) البلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص115.

(2) التذكرة الحمدونية، ج1 ص362.

٢٩٦

المؤمن من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرّته ...(1)

وأحسن سفيان الثوري أيضاً حين سمع رجلاً في مجلسه يقول: كان معاوية عاقلاً، فقال: العقل لزوم الحق وقول الصدق(2) .

وقال الإمام زين العابدينعليه‌السلام في معاوية كلمة جامعة حين بلغه قول نافع بن جبير في معاوية: كان يسكته الحلم وينطقه العلم فقال: كذب، بل كان يسكته الحصر وينطقه البطر(3) .

وأوّل من وصف معاوية بالعقل والحلم عمر بن الخطّاب، فقد ذكر معاوية عنده فقال: دعونا من ذمّ فتى قريش وابن سيّدها، من يضحك في الغضب ولا ينال على الرضا، ومن لا يأخذ ما فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه.

وقد مرّ في أثناء الكتاب وهذه الجمل العمرية تعطي معاوية العقل والحلم والصبر والحكمة، وتفرغ عليه هذه الصفات الفضفاضة، ومن عجب أنّ عمر يرمي أميرالمؤمنين بالدعابة وما قصد مدحه! بل قصد القدح بشخصيّته، لأنّه قالها في ظرف تستعدّ الاُمّة فيه لاختيار زعيمها السياسي خلفاً لعمر، فأراد أن يصيب الهدف وهو العزوف عن اختيار الإمام لقصور صفاته الخلقية عن صفات الزعيم الجدير بقيادة الاُمّة بحكم الدعابة التي تثلم شخصيّة البقّال فما بالك بزعيم القوم. يقول هذا عن فتى الإسلام وأخي المصطفى وباب مدينة علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ هو يفرغ الصفات الطنّانة والنعوت الرنّانة على ابن آكلة الأكباد ويعطي أباه صفات السيادة على قريش بأجمعها لا يستثنى حتّى اُسرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولا تعرف هذه السيادة لأبي سفيان إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب، بل الواقع يحكي عكس ذلك: كانت بين أبي الأزيهر وبين الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة، كانت بين الوليد وبينه، فجاءه هشام وأبو الأزيهر قاعد في مقعد أبي سفيان بذي المجاز فضرب عنقه فلم يدرك به أبو سفيان عقلاً ولا قوداً في بني المغيرة،

____________________

(1) في ظلال نهج البلاغة، ج4 ص8.

(2) التذكرة الحمدونية، ج1 ص362.

(3) الآبي، نثر الدر، ج1 ص239.

٢٩٧

وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:

غدا أهل حصني ذي المجاز بسُحرة

وحار ابن حرب لا يروح ولا يغدو

كساك هشام ابن الوليد ثيابه

فأبل وأخلق مثلها جدداً بعد(1)

وأبو الأزيهر هذا هو ابن أنيس بن الحبس بن مالك بن سعد بن كعب بن الحارث الأزدي وكان أخواله من دوس فنسب إليهم، وكان حليفاً لأبي سفيان بن حرب، وكان يقعد هو وأبو سفيان في أيّامهما فيصلحان بين من حضر ذلك المكان الذي هما به وكانت ابنته تحت أبي سفيان، ثمّ تزوّج ابنة له اُخرى الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن مخزوم وأخذ ابو الأزيهر من الوليد المهر فبلغه بعد أنّه غليظ على النساء فأمسكها ولم يردّ المهر وقال بعض: إنّها اُهديت إليه. فقال الوليد لها ليلة أن دخل عليها: أنا أشرف أم أبوك؟ فقالت له: إنّ أبي سيّد قومه وفي قومك من يساويك ويفوقك. فغضب ولطمها على خدّها فهربت فرجعت إلى أبيها فأمسكها ولم يردّها عليه وكان مقتله لأجل هذا(2)

وقالت صفية بنت عبدالمطّلب تعير أبا سفيان وبني اُميّة بذلك:

ألا أبلغ بني عمّي رسولاً

ففيم الكيد فينا والأمار

وسائل في جموع بني علي

إذا كثر التناشد والفخار

بأنّا لا نقرّ الضيم فينا

ونحن لمن توسّمنا نضار

متى نقرع بمروتكم نسؤكم

وتظعن من أماثلكم ديار

ويظعن أهل مكة وهي شكر

هم الأخيار إن ذكر الخيار

مجازيل العطاء إذا وهبنا

وأيسار إذا جبّ القتار

ونحن الغافرون إذا قدرنا

وفينا عند غدوتنا انتصار

ولم نبدأ بذي رحم عقوقاً

ولم توقد لنا بالغدر نار

وإنّا والسوابح يوم جمع

بأيديها وقد سطع الغبار

لنصطبرن لامر الله حتّى

يبيّن ربّنا أين الفرار

____________________

(1) شرح ابن أبي الحديد، ج15 ص208.

(2) نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين، ص149.

٢٩٨

قال المؤلف: وإنّما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعيّر به أبا سفيان بن حرب(1) . فأين سيادته وما استطاع صون حليفه من سيف ابن المغيرة؟ وهذا الفرزدق يسخر من معاوية نفساً وجدّاً ووالداً بشعره فيقول:

أنا ابن الجبال الشمّ في عدد الحصى

وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه

أنا ابن الذي أحيا الوئيد وضامن

على الدهر إذ عزّت لدهر مكاسبه

وكم من أب لي يا معاوي لم يزل

أغرّ يباري الريح ما أزورّ جانبه

نمته فروع المالكين ولم يكن

أبوك الذي من عبد شمس يقاربه ...(2)

ويظهر قدر أبي سفيان عند قريش في كلامهم له حين عاد بخفي حنين قبل فتح مكة لم يتمكن من تجديد الحلف أووقف الزحف على مكة فقد قالوا له: تالله ما رأينا أحمق منك ما جئتنا بحرب فنحذر ولا بسلم فنأمن(3) .

ويظهر قدره أيضاً عند هند حين أخذت بشاربه بعد عودته ينذر أهل مكة بأن يضعوا السلاح ويستسلموا(4) . وقال الواقدي: أخذت برأسه(5) لئلاّ يهين شارب أبي سفيان، وهند هذه كانت تذكر بمكة بفجور وعهر(6) فأين السيادة في أبيه أو في اُمّه وكيف صار فتى قريش من أبوه بمكانة أبي سفيان واُمّه في عهر هند وفجورها؟!

لم يقل عمر ذلك إلاّ لغاية في نفسه، وهي جدّ واضحة لمن تدبّر أو ألقى السمع وهو شهيد، وما كان طموح عمر ومن ورائه قريش بقضها وقضيضها لتحصر في تسنّم غارب الحكم، وإلاّ فقد أوتي سؤله ونال غايته وبلغ مبتغاه، ولكن الهدف الأكبر يومئذ تمثّل في إقصاء علي وبني هاشم عامة عن الخلافة والحكم لئلاّ تجتمع لهم النبوّة والإمامة.

وبحثوا عن شخص يقف في وجه علي وأبنائه، يحشونه بالعداوة عليه، كما

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق، ج17 ص17.

(2) النقائض، ج2 ص609.

(3) البلاذري، فتوح البلدان، ص50.

(4) ابن هشام، السيرة النبوية، ح4 ص47.

(5) مغازي الواقدي، ج2 ص822.

(6) شرح ابن أبي الحديد، ج1 ص338.

٢٩٩

تصنع النحل يعسوبها فوقع اختيارهم على العباس وأبنائه أوّلاً وذلك بمشورة المغيرة بن شعبة، لما يعلمونه من المنافسة الكائنة بين الأعمام، فلم يجدوا عندهم ما ابتغوه من عداوة علي، فحولوا اتّجاههم حينئذ إلى معاوية وهو اختيار ناجع ودواء نافع لما يتبطّنه معاوية من عداوة الإمام لأنّه موتور بأهله الذين قتلهم أميرالمؤمنينعليه‌السلام في وقعة بدر وبسيفه كان النصر عليهم، ولأنّه من الشجرة الملعونة الذين ينزون على منبر النبي نزو القردة، أي يأتيهم الحكم من بعده، وكان يعلم هذا عمر بن الخطّاب كما يزعمون بأخبار كعب الأحبار له، فقد استشاره عمر فيمن يولّيه إن نزلت به نازلة قائلاً:

إنّي أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر وأظنّ وفاتي قد دنت، فما تقول في علي؟ أشر علي في رأيك واذكرني ما تجدونه عندكم فإنّكم تزعمون أنّ أمرنا مسطور في كتبكم. فقال: أمّا من طريق الرأي فإنّه لا يصلح، إنّه رجل متين الدين لا يغضي على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعية في شيء، وأمّا ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر ولا ولده وإن وليه كان هرج شديد. قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنّه أراق الدماء، فحرمه الله الملك، إنّ داود لمّا أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه: إنّك لا تبنيه لأنّك أرقت الدماء، وإنّما يبنيه سليمان.

فقال عمر: أليس بحقّ أراقها؟ قال كعب: وداود بحقّ أراقها يا أميرالمؤمنين. قال: فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والإثنين من أصحابه إلى اعدائه الذين حاربهم وحاربوه وحاربهم على الدين. فاسترجع عمر مراراً وقال: أتستمع يابن عباس! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول: ليصعدنّ بنو اُميّة على منبري ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة، وفيهم أنزل:( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (1) .

ولسنا بصدد الردّ على هذا الخبيث اليهودي الذي اتّهم أميرالمؤمنين بإراقة

____________________

(1) شرح ابن أبي الحديد، ج12 ص81.

٣٠٠