الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102763
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102763 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الدم ونفى عنه الحلم وفي الأولى يتوجّه الإتّهام إلى ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل توجّهه إليه، لأنّه بأمر الله ومن أجل نصر رسالته سفك الدم، وفي الثانية يكذب هذا اليهودي عفوه عن أهل البصرة بعد يوم الجمل.

والواقع أنّ هذه ليست نبوءة بل هي مؤامرة على إقصاء بني هاشم وإلاّ فما باله لم يشر إلى تملّك بني العباس وقد كان عبدالله حاضراً ولو كانت نبوءةً أو علماً من الكتب التي سبقت القرآن لما أغفل ذلك، ولكنّه يشير على عمر باستعمال أعداء بني هاشم القدامي ليصير الأمر إليهم ويقع بأيديهم، وبهذا يظهر جليّاً أنّ عمر ما أقدم على مجهول حين استخلف عثمان واستعمل معاوية على الشام، وقد ذكر حمد الله مستوفي في كتابه (تاريخ گزيده): أنّ عمر أدنى أبا سفيان إليه وقرّبه منه ورفع مجلسه وسمّاه سيّد قريش ولمّا أبى البيعة لهم رشوه رشوة عظيمة ما كان يتوقّعها الرجل أبداً، وتلك هي حباء معاوية بجزء عزير رخي من أجزاء البلاد الإسلامية ألا وهو الشام(1) . وعند ذلك خمدت شرته ولانت شكيمته وراح يتملّقهم بعد أن كان يسخر منهم ويراهم أضعف بيت في قريش وأذلّه(2) .

ولم ينظر هذا المؤرخ إلى المسألة بعمق، فما كان تأمير يزيد على الشام أوّلاً ثمّ معاوية من بعده لمجرّد كبح جماح أبي سفيان أو دفع شرّه وكفّ عاديته ولكن الهدف الأكبر من ذلك إعداد العدوّ الموكل إليه، الوقوف في وجه علي والهاشميين، ولم يكن أجدر بمعاوية من هذه المأثمة ولا أولى منه بهذا الشقاء واللعنة الأبديّة، بخاصة وقد رجّح كعب الأحبار اختيارهم هذا بما أشار من أهليّة معاوية لعداوته لهم، ومن نفرة قريش من علي لأنّه أراق الدم وليس الدفع عن الحكم والخلافة، إرادة من الله بل هي إرادة قريش لأنّها الناقمة الوحيدة على إراقة دمائها، وأمّا الله سبحانه فهو الآذن بإراقتها وما كان الله سبحانه ليأذن بذلك ثمّ يعاقب عليه بوجه من وجوه العقاب اباً كان.

وأعجب من كلّ هذا عمر بن الخطّاب الذي أعرض عن استشارة المهاجرين

____________________

(1) حمدالله مستوفي، تاريخ گزيده، ص168.

(2) حمدالله مستوفي، تاريخ گزيده، ص168.

٣٠١

والأنصار وفيهم بنو هاشم، ثمّ راح يستشير كعب الأحبار وقد حشى هذا الأخير رأس عمر بالأساطير وملأه بالإسرائيليات فكان الأحرى بهذا أن يسمّى ابن سبأ لا ذاك الموهوم الذي لم يخلق بعد. والواقع أنّ كعب الأحبار هو ابن سبأ حقّاً وصدقاً لا من اختلقته مخيلة سيف بن عمر والوضّاعين من الرواة، ولقيت كلمة كعب ابن سبأ الأحبار عن الإمام أميرالمؤمنين وعدم استتباب الأمر له في خلافته واتساقه مع بني اُميّة أذاناً صاغية تلقفتها وآمنت بها، فهذا الدكتور حسين مؤنس المثقف العصري يقول في حاشيته على جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي:

وتزعم ذلك النفر - أي الثائرون على عثمان - علي بن أبي طالب وضاق الخناق على عثمان واشتدّ النقد عليه وثقلت عليه وطأة علي ومن معه واحتاج لمن ينصره فتصدّى لذلك أهله بنو اُميّة، وأصبح النزاع شيئاً فشيئاً بين بني هاشم من ناحية وبني اُميّة في ناحية اُخرى. بنو هاشم ينادون بالسيرة الاُولى وبنو اُميّة يجارون التيار العام ويتألفون الناس بالجري وراء نزعاتهم ومطامعهم فكثر جمعهم وضعفت جبهة علي ومن معه لا عن قلّة إيمان به، بل لأنّه كان ينادي بشيء شديد على الطبيعة البشريّة ويريد أن يوقف السير الطبيعي للعمران، فأخذوا يتقاعسون عن نصرته وينفضون عنه وانتهى الأمر بانتصار معاوية لا بالمال وحده بل لأنّه كان يمثّل الإتّجاه الأسهل الأكثر اتّفاقاً مع الطبيعة البشرية(1) .

وهذا القول وإن كان من دكتور عصري، ما هو إلاّ ترديد وشرح لما قاله كعب الأحبار لعمر عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام . ولو أنّي ذهبت ألتمس الوجوه لكلّ ما قاله كعب وشارحه فلا أجد وجهاً صحيحاً للمقارنة بين علي ومعاوية، وإنّ الأوّل أخفقت سياسته لأنّه يريد أن يوقف السير الطبيعي للعمران ونجح الثاني لأنّه اتّفق مع الطبيعة البشرية.

وباليقين أقطع أنّ مؤنساً الشارح هذا لا يخلوا من إحدى حالين: الاُولى أنّه يناصب عليّاً العداء كفاروقه وصنيعته، وفي هذه الحال لا كلام لنا معه فيما وصف به الإمام ولو زاد على افترائه هذا أضعافاً، والثانية: أنّه لم يقرء التاريخ ولا ألم بجنايات

____________________

(1) جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، ج 2 ص21 الهامش.

٣٠٢

معاوية وعمّاله وولاة أقاليمه ليعرف كم كان هؤلاء على طرف النقيض من الطبيعة البشرية بالقتل والنهب والعسف والظلم والتجبّر والتكبّر، وإنّ هؤلاء عمّالاً وولاة واُمراء بمن فيهم ولي أمرهم معاوية لم يؤثر عنهم عمران في أرض ولا في سماء في سهل ولا في جبل، في زراعة ولا في صناعة حتّى انقرضوا.

وله إن كان على قيد الحياة وإلاّ فلإخوانه تلاميذ كعب الأحبار أن يرجعوا إلى نهج البلاغة ويقيِّموا نظريات العمران العجيبة السابقة لأوانها التي أودعها سيّد المسلمين وإمام المتّقين أميرالمؤمنينعليه‌السلام في عهده لمالك الأشتر حين ولاّه على مصر بلد الدكتور مؤنس، ثمّ لينظروا أين يكون العمران وأين يحلّ الخراب.

وبعد هذا كلّه نرجع عودنا على بدءنا إلى الصلة الجامعة بين عمر ابن الخطّاب وبين معاوية فسنراها كامنة في اجتماع قلبيهما على بغض وعداء علي وأهل بيته، وكان عمر أبعد غوراً من معاوية ولذلك لم يترك دليلاً على هذه البغضاء إلاّ إشارات وعبارات تغني الحصيف اللبيب وتعين الباحث الأديب وتكفي للحكم عليه ...

ولا تخلو المسئلة من أيد غير مسئولة لعبت في التاريخ، فحذفت منه ما شائت وأضافت إليه لأنّ التاريخ عند هؤلاء مقاطعة ورثها الأخلاف من الأسلاف، لا أنّه أمانة قوميّة هي في الواقع بمنزلة الوطن وفي قداسته. وإنّ أي مساس به يؤدّي إلى تغييره أو تشويهه يعتبر خيانة عظمى عند الاُمّة، وعلى كلّ حال فإنّ بغض عمر لعلي لا يكاد يجهل كما لا يكاد يخفى بغض معاوية له.

فمن دلائل بغضه له أنّه كان يتّهمه بالرياء في عبادته. روي عن ابن عباس قال: دخلت على عمر بن الخطّاب يوماً فقال: يابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتّى نحلته رياءاً. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمّك - يعني عليّاً -. قلت: وما يقصد بالرياء يا أميرالمؤمنين؟ قال: يرشّح نفسه بين الناس للخلافة. قلت: وما يصنع بالترشيح! وقد رشّحه لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصرفت عنه. قال: إنّه كان شابّاً حدثاً فاستصغرت العرب سنّه وقد كمل الآن، ألم تعلم أنّ الله تعالى لم يبعث نبيّاً إلاّ بعد الأربعين! قلت: يا أميرالمؤمنين، أمّا أهل الحجى والنهى فإنّهم ما زالوا يعدّونه كاملاً منذو رفع الله منار الإسلام، ولكنّهم يعدّونه محروماً مجدوداً. فقال: أمّا إنّه

٣٠٣

سيليها بعد هياط ومياط، ثمّ تزلّ فيها قدمه ولا يقضي منها إربه..(1)

أقول: إنّ تعاليم ابن اليهودية أو ابن سبأ أو كعب الأحبار وإيحاءاته تكاملت في أبي حفص بقوله: لم يبعث نبيّاً إلاّ في الأربعين، وهذا الذي قاله عمر، اعتقاد يهودي محض، فإنّهم اعتبروا النبي لا يكون نبيّاً إلاّ إذا بلغ الأربعين، ولذا صبّ الصليبيّون والمستشرقون أقصى جهودهم للتشكيك في ولادة النبي عام الفيل، ومنهم المستشرق الخبيث لامنس مؤلف كتاب (خلافة يزيد الأول) وهو من خمسمائة صفحة يقول بروكلمان في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية قال: لسنا نعلم علم اليقين السنة التي ولد فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشهور أنّ ولادته كانت حوالي سنة 570، ولكن الذي لا شكّ فيه أنّها متأخرة بعض الشيء.

اُنظر لامنس وهذا الأخير قد حاول أن يؤخر ذلك عشر سنوات حتّى ينقض القول الشرعي الذي يقول: إنّ النبي بعث على رأس الأربعين من عمره ويخرج إلى القول: إنّه مادام الأنبياء يبعثون على رأس الأربعين ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صدع بالدعوة على رأس الثلاثين، فحمّد ليس نبياً(2) .

ولامنس هذا انطلق من منظور يهودي فحاول تطبيق الإسرائيلية التي لا تبيح للأحبار المجتهدين الجلوس للتفسير والإفتاء في مسائل الفقه الكبرى حتّى يبلغوا الخمسين من العمر. وعمر ابن الخطّاب تلقى قوله هذا من مستشاره الحبر اليهودي كعب الأحبار، وكأنّه لم يسمع قوله تعالى عن المسيح ابن مريم وعن يحيى بن زكريا:( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) ، فهل هي غفلة من الرجل أو تقديم لقول الأستاذ على قول الله؟!!

ومن دلائل بغضه الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام ما كان يقوله لابن عباس عنهعليه‌السلام : إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي! قال ابن عباس: قلت: إنّ صاحبنا ما قد علمت، إنّه ما غيّر ولا بدّل ولا أسخط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام صحبته له. قال: فقطع عليّ الكلام فقال: ولا في ابنة أبي جهل،

____________________

(1) شرح ابن أبي الحديد، ج12 ص80.

(2) بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص31 إلى آخره.

٣٠٤

لما أراد أن يخطبها على فاطمة! قلت: قال الله تعالى:( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه وربّما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله ...(1)

فأنت ترى أنّ عمر مدفوعاً بلا عج داخلي ومرارة نفسية يلتمس لعليعليه‌السلام العثرات ويرميه بالفواغر، أمّا رميه بالعجب وهي صفة مذمومة شرعاً وخلقاً، فإنّ واقع الإمامعليه‌السلام بعد نيل الخلافة يكذبه، ولو كان ما زعمه عمر حاصلاً في الإمام لكان ظهور ذلك منه وهو خليفة الناس وقائدهم وإمامهم أولى وأجلى وهذا صاحب الإمام ضرار بن ضمرة يصفه فيقول: كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه ونحن لا نكلّمه لهيبته ولا نرفع أعيننا لعظمته.

وأمّا خطبة ابنة أبي جهل فهي فرية ظالمة أراد القوم بها تخفيف الوزر عنهم ودفع الأمر عن كواهلهم فيما جنوا بحقّ الصدّيقة الطاهرة التي قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها: من آذاها فقد آذاني، وهم آذوها حتّى ماتت غاضبة عليهم ودفنت سرّاً عنهم ولم تأذن لهم بحضور جنازتها، فأرادوا صرف ذلك إلى عليعليه‌السلام تخفيفاً من ثقل الذنب الذي أوقر ظهورهم بالحمل الثقيل ولو كان شيء ممّا ادّعاه عمر فلم يكن له ذلك الصدى القوي، وها هو الإمام يمتثل أمر النبي ويعرض عن ابنة عدوّ الله، ولو أنّه تزوّجها لما كان فاعلاً حراماً بل ولا مرتكباً مكروهاً ...

وحاشاه أن يسيء إلى سيّدة نساء العالمين وحاشا النبي أن يغضب من إجراء حكم الله في الزواج من النساء مثنى وثلاث ورباع. وحكاية الجارية التي أخذها الإمام من الخمس توضح لنا أنّ النبي ما كان ليغضب من فعل عمل أباحه الله سبحانه. عن بريدة بن الخصيب قال: أبغضت عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط. قال: وأحببت رجلاً من قريش لم أحبّه إلاّ على بغضه عليّاًرضي‌الله‌عنه - الرجل هو خالد بن الوليد - قال: فبعث ذلك الرجل على جيش فصحبته ما صحبته إلاّ ببغضه عليّاًرضي‌الله‌عنه . قال: فأصبنا سبايا فكتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابعث إلينا من يخمسه. قال: فبعث عليّاًرضي‌الله‌عنه وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي. قال: فخمس وقسم فخرج ورأسه

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج12 ص50.

٣٠٥

يقطر، فقلنا: يا أباالحسن ما هذا؟! قال: ألم تروا إلى الوصيفة في الخمس ثمّ صارت في أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ صارت في آل علي فوقعت بها. قال: فكتب الرجل إلى نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: ابعثني مصدقاً، فجئت أقرء الكتاب واقول: صدق، قال: فأمسك يدي والكتاب وقال: أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم. قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبّه فازدد له حبّاً فوالذي نفس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان أحد من الناس بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ من علي. قال عبدالله يعني ابن بريدة: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث إلاّ أبو بريدة.

قلت: القول للهيثمي في الصحيح بعضه رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عبدالجليل بن عطية وهو ثقة وقد صرّح بالسماع وفيه لين(1) .

وفي طريق آخر يقول بريدة: فجئت لأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه يسقط من عين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون عليّاً، من تنقّص عليّاً فقد تنقّصني ومن فارق عليّاً فقد فارقني، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم وأنا أفضل من إبراهيم ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بريدة أما علمت أنّ لعلي أكثر من الجارية التي أُخذت وإنّه وليّكم بعدي. فقلت: يا رسول الله بالصحبة ألا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديدا؟ قال: فما فارقته حتّى بايعته على الإسلام(2) .

وللحديث طرق اُخرى وفيها إضافات مفيدة أخرجها الهيثمي في مجمع الزوائد. فماذا يقول عمر وقد تنقّص الإمام بالرياء والعجب وأمثالهما، وأخيراً نقول لمبغض عليعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : من أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّه الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغضه الله عزّوجلّ(3) والحمد لله ربّ العالمين، وما أكثر الأحاديث الصحاح والحسان حول هذا المعنى.

____________________

(1) الهيثمي، مجمع الزوائد، ج9 ص127.

(2) مجمع الزوائد، ج9 ص128.

(3) مجمع الزوائد، ج9 ص131.

٣٠٦

وأمّا معاوية فلا اعتقد في العقلاء من يشكّ ببغضه أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وقد حاول شيعته وأوليائه دفع ذلك عنه برواية أحاديث موضوعة تنافي الضرورات التاريخية من قبيل ما رواه ابن كثير عن مغيرة قال: لمّا جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟! فقال: ويحك إنّك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم ...(1)

وواقع معاوية وما جناه بحقّ الإمام واتّخاذ لعنه شعاراً لدولته، وسمه الإمام الحسن وعدائه الصريح لأهل البيت ينافي هذا الإدّعاء المردود. يقول ابن أبي الحديد: كان معاوية على أسّ الدهر مبغضاً لعليعليه‌السلام شديد الإنحراف عنه، وكيف لا يبغضه وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر، وخاله الوليد بن عتبة، وشرك عمّه في حدّه وهو عتبة أو في عمّه وهو شيبة على اختلاف الرواية، وقتل من بني عبد شمس نفراً كثيراً من أعيانهم وأماثلهم، ثمّ جائت الطامّة الكبرى واقعة عثمان فنسبها كلّها إليه بشبهة إمساكه عنه وانضواء كثير من قتلته إليهعليه‌السلام ، فتأكّدت البغضة وثارت الأحقاد، وتذكّرت تلك الترات الاُولى حتّى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه(2) .

أجل، من أجل هذا اختاره عمر ليقف في وجهه ويحول بينه وبين الخلافة بحكم على أهل الإسلام أربعة عقود من الزمن قضاها أميراً على الشام وخليفة على الإسلام عمل فيهم ما اقتضته طبائعه الجافية وتنشأته الجاهلية، وعلى يديه توقّفت نهضة الاُمّه المتفاعلة مع حركتها الثورية، وكادت تخمد فيها الجذوة المقدسة التي اقتبستها من آخر الرسالات وختام النبوات، واشتغلت الاُمّة بمئاسيها عمّا أعدّت له من إصلاح الدنيا وأهلها، وكان حكمه المفروض على الاُمّة بسماته التي قدّمناها يتضمّن سياسته تجاه الرعيّة، وهي التجويع والترويع والتحقير والتكفير.

انحاز إليه جملة من شذّاذ الآفاق أمثال كعب الأحبار وأبي مسلم الخولاني وعبيد الدنيا أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب والنعمان بن بشير الأنصاري ومعاوية بن خديج وأعداء الإسلام القدامى من اُمويين وجاهلين، فأغدق عليهم

____________________

(1) ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص133.

(2) شرح ابن أبي الحديد، ج1 ص338.

٣٠٧

هباته وعطاياه فأعزّهم واعترّ بهم ومن اعترّ بغير الله ذلّ، وترك الاُمّة بجميع فئاتها تعوم في البؤس والحرمان، فمن لم يرجه وأمن جانبه منهم تركه للتجويع والترويع وأعني به الإرهاب والخوف. ومن خافه فقد سلّط عليه سيفين قاطعين يقيمانه له وهما التحقير والتكفير.

فطالما أفتى مفتوه بإباحة دم وحرمة دم آخر وعلى أساس من هذا حارب أميرالمؤمنينعليه‌السلام حربه الضروس المعروفة بصفين، وعلى أساس من هذا المنطلق الخبيث راح وزمرته يلعنون الإمام وأهل بيته وأصحابه لعنهم الله، ولم يكد يشعر بدنوّ أجله وقرب الحمام منه حتّى وصل الشرّ بالشر والضلال بمثله، فعقدها لابنه يزيد في ظروف اصطنع أجوائها هو وأعوانه وأنفق في هذا السبيل خزانة دولته وأوقف له عرضه، فكان يهب المال لعشاقه ويلوّح بواحدة من بناته أو قريباته للفجّار.

ومن عرف منه عدم الطاعة فقد سارع إلى اغتياله، وهكذا دواليك حتّى أطاعه القاصي والداني وتمّت البيعة المشئومة لابنه يزيد، فمن هو يزيد هذا؟؟!

يزيد بن معاوية حقيقته وحكمه

ما استطاعت قصور الشام وقلاعها أن تخفي يزيد بن معاوية عن عيون الاُمّة، وما حال بعد المسافة بين الشام وبين حواضر الإسلام عن أن تمثّل حقيقة يزيد اللاهيّة اللاعبة العابثة الداعرة لأعين الاُمّة المتطلّعة إلى خلف معاوية وإلى إمامها الجديد الذي تسند إليه إمامة الاُمّة ويقوم بأدوار من تقدّمه من الخلفاء الماضين ...

وكان يزيد قبل ولاية العهد وبعدها معروفاً طبعه مشهورة جبلته وضاحة سريرته معلومة سيرته، ومن العجيب أن يشتهر يزيد بالشرّ والفساد مع أنّ أباه أراد إخفاء حقيقته على الناس بالدعاوة المضللة وإقامة الحواجز بينه وبين السواد الأعظم ظنّاً منه أنّ ذلك يبعده ولو إلى حين عن موارد التهم وأجواء الفساد، ولكن سيرته تعدّت الحدّ حتّى لا يكاد يمكن سترها.

وهنا ينبغي أن نشكر الله على أن تكون شهادة الحسينعليه‌السلام على يد مثله، ولو كان يزيد لعنه الله على شيء من الأدب أو التظاهر بالدين لرأيت رأي شيعته في

٣٠٨

الإمام الحسين وشهادته اليوم على خلاف ما هو عليه، ولله في خلقه شئون، فهلمّ معي نتعرّف على هذه الصيغة الخبيثة التي تنكر لها كلّ مسلم، حتّى أبوه نفسه ولنبدأ بكتابه إليه. يقول القلقشندي: ومن ذلك ما كتب به معاوية بن أبي سفيان في خلافته إلى ابنه يزيد وقد بلغه مقارفته اللذات وانهماكه على الشهوات وهو:

من معاوية بن أبي سفيان أميرالمؤمنين إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فقد أدّت ألسِنةُ التصريح إلى إذن العناية بك، ما فجع الأمل فيك وباعد الرجاء منك إذ مَلأت العيون بهجةً، والقلوب هيبة، وترامت إليك آمال الراغبين، وهمم المتنافسين، وشحّت بك فتيان قريش، وكهول أهلك فما يسوغ لهم ذكرك إلاّ على الجرّة المهوّعة والكظة الجشئة، اقتحمت البوائق، وأنقدت للمعاير، واعتضتها من سموّ الفضل ورفيع القدر، فليتك يزيد إذ كنت لم تكن، سررت يافعاً ناشئاً وأثكلت كهلاً ضالعاً، فواحزناه عليك يا يزيد ويا حرّ صدر المثكل بك، ما أشمت فتيان بني هاشم! وأذلّ فتيان بنى عبد شمس عند تفاوض المفاخر ودراسة المناقب، فمن لصلاح ما أفسدت ورتق ما فتقت؟

هيهات خمشت الدربة وجه التصبّر بك، وأبت الجناية إلاّ تحدّراً على الألسن وحلاوة على المناطق! ما أربح فائدة نالوها وفرصةً انتهزوها، انتبه يزيد للفظه، وشاور الفكرة ولا تكن إلى سمعك أسرع من معناها إلى عقلك، واعلم أنّ الذي وطأك وسوسة الشيطان وزخرفة السلطان ممّا حسّن عندك قبحه واحلولى عندك مرُّه أمر شركه فيك السواد ونافسكه الأعبد لا لأثرة تدّعيها أو جبتها لك الأمرة وأضعت بها قدرك فأمكنت بها من نفسك فكأنّك شانىء نفسك فمن لهذا كلّه؟ اعلم يا يزيد أنّك طريد الموت وأسير الحياة، بلغني أنّك اتّخذت المصانع والمجالس للملاهي والمزامير كما قال تعالى:( أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ ) (1) ،وأجهرت الفاحشة حتى اتّخذت سريرتها عندك جهراً.

اعلم يا يزيد أنّ أوّل ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة وآلائه المتواترة وهي الجرحة العظمى والفجعة الكبرى ترك الصلوات

____________________

(1) سورة الشعراء الآيات 128 - 129.

٣٠٩

المفروضات في أوقاتها وهنّ من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثمّ استحسان العيوب وركوب الذنوب وإظهار العورة وإباحة السرّ، فلا تأمن نفسك على سرّك ولا تعقد على فعلك، فما خير لذّة تعقب الندم وتعفي الكرم! وقد توقف أميرالمؤمنين بين شطرين من أمرك لما يتوقعه من غلبة الآفة واستهلاك الشهوة، فكن الحاكم على نفسك واجعل المحكوم عليه ذهنك ترشد إن شاء الله تعالى، وليبلغ أميرالمؤمنين ما يردُّ شارداً من نومه فقد أصبح نصب الإعتزال من كلّ مؤانس ودرأة الألسن الشامتة، وفّقك الله فأحسن(1) .

وقد استجاب الله دعاءه فيه فوفقه في أول سنة من حكمه لقتل أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي السنة الثانية لوقعة الحرة، وفي الثالثة لهدم الكعبة، فما ترك الكتاب شيئاً من حقيقة يزيد وهو شاهد عيان فقد وقف على أفعاله بنفسه ورآها عن كثب والذي يؤخذ عليه إنّ ما قاله هو بطريق النصح ولا علاج لمثل هذه الحالات إلاّ بالثورة التي تهدم جهازه وتعفي عليه. ولقد صدق الأحنف بن قيس بما أجاب به معاوية وذلك لما أجمع على البيعة ليزيد جمع الخطباء فتكلّموا والأحنف ساكت فقال: يا أبا بحر ما منعك من الكلام؟ فقال:

أنت أعلمنا بليله ونهاره وسرّه وعلانتيته فإن كنت تعلم أنّها شرّ له فلا تولّه الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة، فإنّما لك ما طاب وعلينا أن نقول سمعنا وأطعنا ...(2)

وذكر ابن قتيبة ذلك بتفصيل أدق، قال: ثمّ قام الأحنف بن قيس فقال: يا أميرالمؤمنين أنت أعلمنا بليله ونهاره وسرّه وعلانيته، فإن كنت تعلم أنّه خير لك فولّه واستخلفه وإن كنت تعلم أنّه شرّ لك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنّه ليس لك من الآخرة إلاّ ما طاب، واعلم أنّه لا حجّة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما وإلى ما هما وإنّما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير(3) .

____________________

(1) صبح الأعشى، ج6 ص373.

(2) التذكرة الحمدونية، ج3 ص190.

(3) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1 ص148، أمالي المرتضى ج ص275.

٣١٠

وقول الأحنف يلزم معاوية الحجة حيث أنّه يعرف من هو يزيد، ثمّ يرمي به الاُمّه ويحمله عليها، ولقد قال معاوية فيه قولة اُخرى كشف به عن ذاته أكثر وأكثر فقد قال له ذات يوم عندما علم عتبه عليه فقال معاوية: يا يزيد ما الذي أضعنا من أمرك وتركنا من الحيطة عليك وحسن النظر لك حيث قلت ما قلت!؟ وقد تعرف رحمتي بك ونظري في الأشياء التي تصلحك قبل أن تخطر على وهمك فكنت أظنّك على تلك النعماء شاكراً، فأصبحت بها كافراً، إذ فرط من قولك ما ألزمتني فيه إضاعتي إيّاك وأوجبت عليّ منه التقصير لم يزجرك عن ذلك تخوّف سخطي ولم يحجزك دون ذكره سالف نعمتي ولم يردعك عنه حقّ أبوّتي، أيّ ولد أعقّ منك وأكيد وقد علمت أنّي تخطّأت الناس كلّهم في تقديمك ونزلتهم لتوليتي إيّاك ونصبتك إماماًعلى أصحاب رسول الله وفيهم من عرفت وحاولت منهم ما علمت!! ...(1)

وفي هذه الكلمات المعبّرة دلالة على ما يتصف به يزيد من مستوىً أخلاقي هابط لا يرعى حرمةً حتّى لولي نعمته ومن أغضب الله من أجله وباع دينه لدنياه، وهذا ما توسمته فيه زوجة أبيه فاختة لما تعرفه من أخلاق يزيد، وقد كان بلغها ما قال المغيرة وما أشار به عليه من البيعة ليزيد، فقالت فاختة: ما أشار به عليك المغيرة؟ أراد أن يجعل لك عدوّاً من نفسك يتمنّى هلاكك كلّ يوم، فشقّ ذلك على معاوية ثمّ بدا له أن يأخذ بما أشار عليه المغيرة بن شعبة(2) .

حتّى يزيد نفسه كان يعرف من نفسه الفساد والأخلاق الساقطة، فقد كان يعجب من الذين يقرظونه فما يدري من المخدوع منهما المادح أم الممدوح؟ ولمّا أمضى معاوية بيعة يزيد جعل الناس يقرظونه فقال يزيد لأبيه: ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا؟ فقال معاوية: يا بني من خدعته فتخادع لك فقد خدعته(3) .

ورواية الآبي كالتالي: يروى أنّ يزيد بن معاوية قال لمعاوية في اليوم الذي بويع له بالعهد فجلس الناس يمدحونه ويقرظونه: يا أميرالمؤمنين والله ما ندري

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص167.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص142.

(3) أمالي المرتضى، ج1 ص286.

٣١١

أتخدع الناس أم يخدعوننا؟! فقال له معاوية: كلّ من أردت خديعته فتخادع لكحتّى تبلغ حاجتك فقد خدعته(1) .

وما كان معاوية يجهل حقيقة يزيد وهو يراه عاكفاً على الشهوات بعيداً عن هموم الدولة وقيادة الاُمّة، ولا يتجاوز بججمه ما وصفه به الإمامعليه‌السلام من كونه صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب(2) وإن كان في سنّ الكهولة كما قال عنه أبوه في كتابه إليه: سررت يافعاً ناشئاً وأثكلت كهلاً ضايعاً، إلاّ أنّ معاوية يصفه أحياناً بأضداد أخلاقه نفاقاً ومكابرة، من ذلك ما روي أنّ سعيد بن عثمان دخل على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له: إأتمنك أبي واصطنعك حتّى بلغت باصطناعه إيّاك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى فما جازيت أبي بآلائه حتّى قدّمت هذا عليّ وجعلت له الأمر دوني، وأومأ إلى يزيد، والله لأبي خير من أبيه واُمّي خير من اُمّه ولأنا خير منه!

فقال له معاوية: أمّا ما ذكرت يابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب عليّ المكافأة والمجازاة وكان من شكري إيّاه أن طلبت بدمه حتّى كابدت أهوال البلاء وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلّت تلك الأمور ولست لنفسي باللائم في التشمير ولا الزاري عليها في التقصير، وذكرت أنّ أباك خير من أب هذا، وأشار بيده إلى يزيد، فصدقت لعمر الله لعثمان خير من معاوية أكرم كريماً وأفضل قديماً وأقرب إلى محمّد رحماً، وذكرت أنّ اُمّك خير من اُمّه، فلعمري إنّ امرأة من قريش خير من امرأة من بني كلب، وذكرت أنّك خير من يزيد، فوالله يابن أخي ما يسرّني أنّ الغوطة عليها رجال مثل يزيد ...(3)

وفي الكامل: وأمّا فضلك عليه فوالله ما أحبّ أنّ الغوطة ملئت رجالاً مثلك(4) . وقال في الهامش على الكامل(5) : وفي الطبري: ما أحبّ أنّ الغوطة

____________________

(1) نثر الدر، ج3 ص27.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص157.

(3) صبح الأعشى، ج1 ص303.

(4) الكامل في التاريخ، ج3 ص253.

(5) الكامل في التاريخ، ج3 ص253.

٣١٢

دحست ليزيد رجالاً مثلك ودحست ملئت يعني أنّ الفوطة لو ملئت رجالاً مثل سعيد بن عثمان كان يزيد خيراً وأحب إليّ منهم. وفي بداية ابن كثير نحو من ذلك(1) .

وكأن معاوية نسي ما قال عن يزيد وما كتبه إليه، أو أنّه عمل بالمثل القائل: القرد في عين اُمّه غزال، من هنا لم ير لغير يزيد أهلية لقيادة الاُمّة. يقول ذكوان مولى عائشة: لمّا أجمع أن يبايع لابنه يزيد حج فقدم مكة في نحو من ألف رجل، فلمّا دنى من المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ ذكر ابنه يزيد فقال: من أحقّ بهذا الأمر منه ثمّ ارتحل فقدم مكة ...(2) يقول هذا عن يزيد مع وجود الإمامين الحسنينعليهما‌السلام في المسلمين.

ولا يزال الباحث وهو يجوس خلال هذه النفوس الغريبة يقع على مواقف وأقوال منهم تدينهم وتكون حجة عليهم، فهذا معاوية يعلن عن مبدا لنا أن نسمّيه (حقّ الإستخلاف) فيزعم أنّه لبني عبد مناف. قال: وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنّهم أهل رسول الله ...(3)

انظر التعليل جيّداً، وهذا عين ما ذهبت إليه قريش لمّا بايعوا الأوّل وهو مبدأ عمري، كان عمر يقول: من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أهله وعشيرته، ونصّ عبارته في ابن أبي الحديد هكذا: من ذا يخاصمنا في سلطان محمّد وميراثه ونحن أوليائه وعشيرته، إلا مُدل بباطل أو متجانف لإثم(4) .

وهذه حجة لهم على الأنصار ومن عداهم وهي عليهم أيضاً، وذلك أنّ استحقاق الخلافة إذا كان بقرب النسب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن يا ترى أدنى نسباً منه: أهله أم عشيرته؟؟! وعلى هذا الأساس احتج عليهم أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنّها شجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقالعليه‌السلام : احتجوا بالشجرة

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص82.

(2) تاريخ خليفة ابن خياط، ج1 ص199.

(3) الإمامة والسياسة، ج1 ص150.

(4) شرح ابن أبي الحديد، ج6 ص9.

٣١٣

وأضاعوا الثمرة(1) .

وهي حجة ملزمة لقريش بما ألزموا به غيرهم وقال لهم أميرالمؤمنين لمّا اعتقلوه إلى المسجد: يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن - أهل البيت - أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان منّا القارىء لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بالسنّة المضطلع بأمر الرعية! والله إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً ...(2)

ولا تعرف كلمة أكثر دلالة على النص من قولهعليه‌السلام : إنّه لفينا حيث أكّده بأنّ واللام والجملة الإسميّة، ولكن الشارح ينكر ذلك. ويقول سلام الله عليه واصفاً معاوية ومن تقدّمه: زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور، لا يقاس بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الاُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ونقل إلى منتقله ...(3)

أقول: ما الذي حال بين ابن أبي الحديد وبين الرجوع إلى هذا الكلام ليعلم أنّه صريح في النص وما معنى الوصية إن لم تكن هي النص؟ فكيف يقول قبل هذا الكلام: قلت: هذا الحديث يدلّ على بطلان ما يدّعى من النص على أميرالمؤمنين وغيره لأنّه لو كان هناك نصّ صريح لاحتجّ به ولم يجر للنص ذكر(4) .

ولو ألقى ابن أبي الحديد على هذه الفقرة من كلام الإمامعليه‌السلام نظرةً لرآها تنطق بالنص بصورة جليّة، ولكنّه انساق وراء المذهب ولذلك قال بعد تمام الكلام: وهذا هو نص مذهب المعتزلة. وعلى كلّ حال، فإنّ قول معاوية: إنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنّهم أهل رسول الله سند إدانة لهم وحجة عليهم، ولو كان معاوية يجنح مع الدليل في كلّ ما يأخذ ويدع لعرف أنّ الحسنينعليهما‌السلام أحقّ من كلّ أحد بالإمامة،

____________________

(1) شرح ابن أبي الحديد، ج6 ص3.

(2) شرح ابن أبي الحديد، ج6 ص12.

(3) شرح ابن أبي الحديد، ج6 ص138.

(4) شرح ابن أبي الحديد، ج6 ص12.

٣١٤

أمّا على مذهب الشيعة فبيّن، وأمّا على مذهب قريش فبما ألزمت به غيرها من القرب النسبي بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّ معاوية يخادع الاُمّة بأمثال هذا الكلام ممّا لا يقرّه ولا يعترف به.

أضف إلى ذلك أنّ ادّعائه هذا يبطل إمامة صاحبيه لأنّهما ليسا من بني عبد مناف، والواقع أنّ معاوية اتّبع هواه وانقاد له وجانب البصيرة، وتخلّى عن الحكمة وقد عرف المأزق الذي وقع فيه من اختياره يزيد لولاية العهد مع وجود الحسينعليه‌السلام . عن الشعبي قال: لمّا أصاب معاوية اللقوة بكى، فقال له مروان: ما يبكيك؟ قال: راجعت ما كنت عنه عزوفاً، كبرت سنّي ورقّ عظمي وكثر دمعي ورميت في أحسني وما يبدو منّي ولولا هواي في يزيد لاأبصرت قصدي(1) .

وروى ذلك بن كثير بوجه آخر قال: وقد أصابته لوقة (كذا) في آخر عمره فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبداً دعا لي بالعافية فقد رميت في أحسني وما يبدو منّي، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي(2) .

وحتّى الذين بايعوا يزيد ورضوا به وانقادوا لمعاوية ما كانوا ليعتقدون فيهما عقيدة صالحة وإنّما انقادوا بالرُشى أو بالطمع المرتقب يذكر لنا التاريخ هذه الحقيقة الناصعة حول ذلك. لمّا نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد، أقعده في قبّة حمراء وجعل الناس يسلّمون على معاوية ثمّ يميلون إلى يزيد، حتّى جاء رجل ففعل ذلك ثمّ رجع إلى معاوية فقال: يا أميرالمؤمنين، اعلم أنّك لو لم تولِّ هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف جالس، فقال معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟! فقال: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له باُلوف، فلمّا خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب فقال: يا أبا بحر، إنّي لأعلم أنّ شرّ ما خلق الله تعالى هذا وابنه ولكنّهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلاّ بما سمعت. قال له الأحنف: يا هذا أمسك

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج3 ص155، والبداية والنهاية، ج8 ص121، وأنساب الأسراف، ج4 ص28، وعيون الأخبار، ج3 ص46، وابن عساكر، ج16 ص357.

(2) نفسه، ج8 ص121.

٣١٥

فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً(1) .

ومشى على هذا غيره ممّن تملّقوا معاوية بالخطب الرنانة وهم يضمرون تكذيب أنفسهم شأن المنافق الطامع. عن العتبي قال: أقام معاوية - رحمه الله -!!!! الخطباء لبيعة يزيد، فقامت المعدّيّة فشقّقوا الكلام ثمّ قام رجل من حمير فقال: لسنا إلى رعاء هذه الجمال، عليهم تشقيق المقال وعلينا صدق الصيال، أما والله إنّا لصبر تحت البوارق مرافيل في ظل الخوانق لا نسأم الضراس ولا نشمئز من المراس، وإنّ واحدنا لألف، وألفنا كهف، فمن أبدى لنا صفحته حططنا عداوته ثمّ قام رجل من ذي الكلاع فأشار إلى معاوية فقال:

هذا أميرالمؤمنين فإن مات فهذا وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا وأشار إلى السيف(2) ، وهناك إشارة رابعة أغفلها هذا الخبيث وهي التي أنطقته أعني الأكياس والأطواق والألوف المؤلفة، ثمّ قال:

معاوية الخليفة لا تمارى

فإن تهلك فسائسنا يزيد

فمن غلب الشقاء عليه جهلاً

يحكّم في مفارقه الحديد(3)

رأي زياد فيه

لما قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إنّ لكلّ مستشير ثقة ولكلّ سرّ مستودع، وإنّ الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السرّ وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضوع السرّ إلاّ أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه قد خبرتهما منك وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف، إنّ أميرالمؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وإنّه يتخوّف نفرة الناس ويرجو طاعتهم وعلاقة امر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فألق أميرالمؤمنين وأدّ إليه فعلات يزيد وقل له: رويدك بالأمر فأحرى

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج3 ص50، ونثر الدر، ج5 ص60.

(2) أمالي القالي، ج1 ص200، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1975.

(3) أمالي القالي، ج1 ص200، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1975.

٣١٦

لك أن يتمّ لك لا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من فوت في عجلة.

فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه إبنه، وألقى أنا يزيد فأخبره أنّ أميرالمؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له وإنّك تتخوّف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه وإنّك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة على الناس ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أميرالمؤمنين وسلمت ممّا تخاف من أمر الاُمّة.

فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره أشخص على بركة الله فإن أصبت فما لا ينكر وإن يكن خطأ فغير مستغش وتقول بما ترى ويقضى الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذكر له ذلك فكفّ عن كثير ممّا كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتؤده وأن لا يعجل فقبل منه(1) .

واليعقوبي ذكر الرواية وفيها أنّ زياداً قال لصاحبه عبيد: إنّي اُريد أن أئتمنك على ما لم أئتمن عليه بطون الصحائف، إيت معاوية فقل له: يا أميرالمؤمنين إنّ كتابك ورد عليّ بكذا فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود ويلبس المصبغ ويدمن الشراب ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر، ولكن تأمره ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين، فعسينا أن نموّه على الناس.

فلمّا صار الرسول إلى معاوية وأدّى إليه الرسالة قال: ويلي على ابن عبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد والله لأردَّنه إلى اُمّه سميّة وإلى أبيه عبيد(2) .

رأي مروان فيه

لما بايع معاوية ليزيد في الشام وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله له على لسانه من بيعة يزيد

____________________

(1) الكامل، ج3 ص250.

(2) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص220.

٣١٧

ويأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثمّ يبايعوا ليزيد. قال: فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش فكتب لمعاوية: إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرأ رأيك. فلمّا بلغ معاوية كتاب مروان عرف أنّ ذلك من قبله فكتب إيه يأمره أن يعتزل عمله ويخبره أنّه ولّى المدينة سعيد بن العاص(1) .

وقد ذكرنا أثناء البحث ما كان من قدومه على أخواله بني كنانة وخروجه بهم إلى معاوية، فلمّا دخل عليه قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إنّ الله عظيم خطره لا يقدر قادر قدره خلق من خلقه عباداً جعلهم لدعائم دينه أوتاداً هم رقبائه على البلاد، وخلفائه على العباد، أسفر بهم الظلم وألف بهم الدين وشدّد بهم اليقين ومنح بهم الظفر ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا وكنّا نكون لهم على الطاعة إخواناً وعلى من خالف عنها أعواناً يشدّ بنا العضد ويقام بنا الأود ونستشار في القضية ونستأمر في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة ذات وجوه مستديرة تفتح بأزمّة الضلال وتجلس بأهواء الرجال، يؤكل جزورها وتمق أحلابها، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولات فطامها، وأيم الله لولا عهود مؤكدة ومواثيق معقدة لأقمت أمد وليها فأقم الأمر يابن أبي سفيان وأهدى من تأمير الصبيان واعلم أنّ لك في قومك نظراً وإنّ لهم على مناوأتك وزرا، فغضب معاوية من كلامه غضباً شديداً ثمّ كظم غيظه بحلمه(2) !!!

وهنا يبدو مروان ناقماً بل قائماً ضدّ ابن هند بأخواله ومواليه وأهل بيته، لأنّه لا يرى يزيد أهلاً لهذا المنصب الصعب، فهو صبي، وقوله هذا طرف من قول الإمام الحسينعليه‌السلام عنه: صبي يلعب بالكلاب. ولم تستمرّ هذه النقمة طويلاً بل ما أسرع ما انفجرت هذه الفقاعة، وصار مروان ركناً من أركان البيعة ليزيد، وذلك بما أعطاه معاوية من العطاء وما قضى له من حاجات أساسيّه، وهل حاجته إلاّ المال والمال وحده، لذا نراه يدعو قريشاً إلى البيعة ويجادلهم حول ذلك.

كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: إنّي قد كبرت سنّي ودقّ عظمي وخشيت

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص151.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص152.

٣١٨

الإختلاف على الاُمّة بعدي وقد رأيت أن أتخيّر لهم من يقوم بعدي وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فأعرض ذلك عليهم واعلمني بالذي يردّون عليك. فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس: أصاب ووفق وقد أحببنا أن يتخيّر لنا فلا يألو. فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر يزيد. فقام مروان فيهم وقال: إنّ أميرالمؤمنين قد اختار لكم فلم يألو وقد استخلف ابنه يزيد بعده.

فقام عبدالرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتم لأُمّة محمّد ولكنّكم تريدون أن تجعلوها هرقليّة، كلّما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه:( وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَكُمَا ) الآية فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان يا مروان فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبدالرحمن أنّه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله ما هو به ولكنّه فلان بن فلان، ولكنّك أنت فضض من لعنة الله(1) .

ولم يهج عائشة من هذه الأحداث الجسام إلاّ تأويل الآية في أخيها، ولذلك ثارت على مروان وتأوّلت الآية في آخر، أبهم الرواة إسمه، وكأنّ هذه الأحداث المروعة التي توشك أن تحلّ بالاُمّة لا تعنيها في كثير أو قليل، وكيف تعنيها؟! وهي من الراضين بولاية يزيد، لعلمها أنّها إذا تجاوزت يزيد فهي صائرة إلى الحسين حتماً، وفي هذه الطامة الكبرى التي تحلّ في عالم اُمّ المؤمنين.

وأمّا عن تأويل الآية في أخيها فقد قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبدالله ابن أبي بكر وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عزّوجلّ. وقال قتادة والسدى أيضاً: هو عبدالرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وكان أبوه واُمّه اُم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عزّوجلّ، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أنّ عائشة أنكرت أن تكون نزلت في عبدالرحمن. قال القرطبي: قلت: وقد مضى من خبر عبدالرحمن في سورة (الإنعام) عند قوله:( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ) ما يدلّ على نزول الآية فيه ...(2)

____________________

(1) الكامل في التاريخ، ج3 ص250.

(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج16 ص197.

٣١٩

والذي يدعو إلى التسائل حقّاً هو الإنقلاب الذي حدث في نفس مروان فتحوّل من النقيض إلى النقيض وصار موالياً يقوم بأعباء البيعة ليزيد بعد أن كان ساخطاً على معاوية تأميره الصبيان وفعل أكثر من هذا فقد كان يغري ابن عثمان بالوثبة على معاوية ولو بقي مروان على سخطه ونقمته لأوشك أن يحلّ شرخ عظيم في صفوف بني اميّة يؤدّي إلى ضعفهم بل انهيارهم، فترتاح الاُمّة من إمرتهم الملعونة ولكن تدارك معاوية ذلك كلّه بالذهب:

روى المصعب الزبيري في كتابه (أنساب قريش) قال: اشتكى عمرو بن عثمان فكان العواد يدخلون عليه فيخرجون ويتخلف عنده مروان فيطيل فأنكرت ذلك رملة بنت معاوية فخرقت كوّة فاستمعت إلى مروان فإذا هو يقول لعمرو: ما أخذ هؤلاء (يعني بني حرب بن اُميّة) الخلافة إلاّ باسم أبيك، فما يمنعك أن تنهض بحقّك فلنحن أكثر منهم رجالاً، منّا فلان ومنهم فلان ومنّا فلان ومنهم فلان حتّى عدد رجالاً، ثمّ قال: ومنّا فلان وهو فضل وفلان فضل، فعدد فضول رجال أبي العاص على رجال بني حرب.

فلمّا برأ عمرو تجهّز للحج وتهجّزت رملة في جهازه، فلمّا خرج عمرو إلى الحج خرجت رملة إلى أبيها فقدمت عليه الشام فأخبرته وقالت: ما زال يعد فضل رجال أبي العاص على بني حرب حتّى عدّ ابنيّ عثمان وخالداً ابني عمرو، فتمنّيت أنّهما ماتا! قال أبو عبدالله: فكتب معاوية إلى مروان:

أواضعُ رجل فوق اُخرى يعدّنا

عديد الحصى ما إن تزال تكاثر

واُمّكم تزجي تُواماً لبعلها

واُمّ أخيكم نزرة الولد عاقر

إشهد يا مروان، أنّي سمعت رسول الله يقول: إذا بلغ ولد الحكم ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ودين الله دخلاً وعباد الله خولاً والسلام.

فكتب إليه مروان: أمّا بعد، يا معاوية فإنّي أبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة والسلام(1) .

بغاث الطير أكثرها فراخاً

واُمّ الصقر مقلاة نزور

____________________

(1) الزبيري، نسب قريش، ص109، ط دارالمعارف، مصر، نشر إ ليفى بروفيسال، ط ثالثة.

٣٢٠