الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102710
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102710 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بعد هذه العربدة التي علقت في رأس مروان انقلب إلى صفّ معاوية وصار من أنصار البيعة إلى يزيد بفعل الذهب الذي أغدقه عليه معاوية: أعظمنا في الخراج سهمك وأنا مجيز وفدك ومحسنٌ رفدك وعلى أميرالمؤمنين غناك والنزول عند رضاك فكان أوّل ما رزق ألف دينار في كلّ هلال وفرض له في أهل بيته مئة مئة(1) .

رأي ابن عمر في يزيد

وقال عبدالله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب ويشرب الخمر ويظهر الفسوق! ما حجّتنا عند الله تعالى(2) .

وقال ابن الكلبي: كان يقال ليزيد بن معاوية أبوالقرود، وذلك أنّه كان معجباً بها، وأدّب قرداً واستعمله على خمسمائة رجل من أهل الشام وكان يكنّى أبا قيس، فصاد مرّة حمار وحش فحمل أبا قيس عليه وخلّى عنه فطار به وخرج من مسكنه ولزمه القرد، فجعل يزيد يصيح به: تمسّك.

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن هلكت ضمان ...(3)

فما الذي غيّر ابن عمر بعد أن سمّاه أبا القرود وعدّ بيعته إثماً كبيراً لا جواب عليه عند الله؟ ما الذي غيّره فبايع؟! يقول ابن الأثير: فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد، فأرسل إلى عبدالله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلمّا ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد، إنّ ديني عندي إذن لرخيص وامتنع(4) ، ولسنا على علم من امتناعه عن البيعة أم عن الكيس، فالمعروف أنّ صلاة معاوية المالية لم تنقطع بابن عمر. قال نافع: كان أبن عمر تأتيه الجوائز في كلّ عام من معاوية وابن عامر وأرزاق مابين سبعة وسبعين ألفاً وثلاثة وثمانين ألفاً(5) ، والراجح أنّه بايع

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص152.

(2) اليعقوبي، ج2 ص228.

(3) الآبي، نثر الدر، ج3 ص33.

(4) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص250.

(5) البصائر والذخائر، ج6 ص245.

٣٢١

والشاهد على ذلك أنّه اعترف بالبيعة يوم الحرّة، وهدّد أهله بالصيلم إن نكثوا البيعة، سبحان من يغيّر ولا يتغيّر.

رأي أهل الشام في يزيد

لما عاد يزيد إلى دمشق بعد موت معاوية وكان غائباً عنها في مرضه، خرج الناس لتلقيه، قال سعيد بن حريث: فلمّا صعدنا ثنية العقاب إذا بأثقال يزيد قد تحدّرت في الثنية ثمّ سرنا غير كثير فإذا يزيد في ركب من أخواله من كلب وهو على بختي له رحل ورائطة مثنية في عنقه ليس عليه سيف ولا عمامة، وكان رجلاً كثير اللحم عظيم الجسم كثير الشحم كثير الشعر، وقد أجفل شعره وشعث، فسلّم الناس عليه وعزّوه ودنا منه الضحاك بن قيس بين أيديهم، فليس منّا أحد يتبيّن كلامه إلاّ أنّا نرى فيه الكآبة والحزن وخفض الصوت والناس يعيبون منه ذلك ويقولون: هذا الأعرابي الذي ولاّه أمر الناس والله سائله عنه ...(1)

والذي أعتقده أنّهم يشيرون بأعرابيته إلى جفاء أخلاقه وعنجهيّته، فقد كان فظّاً غليظ القلب، ولم تكن أخلاقه جديدة على أهل الشام وهو الذي ولد فيهم وعاش بين ظهرانيهم، ولكنّهم أيسوا من خيره حين شاهدوا طلعته وأدركهم ما يدرك القانط بعد أن تخفق أمانيه وتتلاشى آماله.

معارضة ابن الزبير تروضها الفلوس

كتب ابن الزبير إلى معاوية: قد علمت أنّي صاحب الدار وأنّي الخليفة بعد عثمان ولأفعلنّ ولأفعلنّ. فقال معاوية ليزيد: ما ترى؟ قال: أرى والله أن لو كنت أنت وابن الزبير على سواء ما كان ينبغي أن ترضى بهذا. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن توجّه إليه جيشاً. قال: إنّ أهل الحجاز لا يسلمونه فكم ترى أن أوجّه إليه؟ قال: أربعين ألفاً؟ قال: لهؤلاء دوابّ وكلّ دابّة تحتاج إلى مخلاة، فكم ثمن المخلاة؟ قال: درهم. فقال: هذه أربعون الف درهم، ثمّ قال: يا غلام اكتب لابن الزبير: قد

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص90.

٣٢٢

وجّه إليك أميرالمؤمنين ثلاثين ألفاً فاستمتع بها إلى أن يأتيك رأيه، فكتب إليه ابن الزبير: قد وصل إلينا المال، فوصل أميرالمؤمنين رحماً. فقال معاوية ليزيد: قد ربحنا على ابن الزبير في المخالي عشرة آلاف ...(1)

والحق إنّي أشكّ في هذه الرواية ولكنّي لا اُنزّه ابن الزبير، لأنّه معروف بحبّ المال والحرص عليه وادّخاره، وما يحملني على الشكّ فيها أنّ ابن الزبير لم يهادن معاوية بعد بيعة يزيد، ظلّ معارضاً لها حتّى هلاك معاوية. صحيح أنّها ليست لله سبحانه ولكن الصحيح أيضاً أنّها كانت قويّة مرهوبة من قبل معاوية من ثمّ كان يوصي يزيد بتقطيعه إرباً إربا. اللهمّ إلاّ أن يقال أنّ المال الذي دفعه معاوية إلى ابن الزبير، كان بعد مكيدة مكة وحينئذ يكون معاوية قد امتصّ معارضة ابن الزبير وهو على قيد الحياة لئلاّ يحدث فتنة في زمنه ووقع الكيس ذوالثلاثين ألفاً موقعاً ناجعاً من نفس ابن الزبير، وهذا وجه أجد نفسي تطمئنّ إليه.

رأي المغيرة في يزيد

أراد معاوية أن يعزل عن الكوفة المغيرة بن شعبة ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك فقال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً، ومضى حتّى دخل على يزيد وقال له: إنّه قد ذهب أعيان أصحاب النبي وكبراء قريش وذووا سنانهم، وإنّما بقي أبناءهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنّة والسياسة ولا أدري ما يمنع أميرالمؤمنين أن يعقد لك البيعة؟

قال: أو ترى ذلك يتمّ؟ قال: نعم، فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قاله المغيرة. فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟ فقال: يا أميرالمؤمين قد رايت ما كان من سفك الدماء والإختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال:

____________________

(1) نثر الدر، ج4 ص146.

٣٢٣

ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.

قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق به إليه في ذلك فودّعه ورجع إلى أصحابه فقالوا: مه؟ قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً وتمثّل:

بمثلي شاهدي النجوى وغالي

بي الأعداء والخصم الغضابا ...(1)

وفي رواية اليعقوبي: فوالله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلاّ سفك الدماء(2) . وفي رواية الآبي: يا ربيع وضعت والله رجله في ركاب طويل الغي على اُمّة محمّد.

ولقد عبّر عن رأيه في يزيد بهذه الكلمات ذوات الدلالة الصريحة أنّ يزيد فتنة تدوم وبليّة لا تنقطع وإنّه ركاب من جلد غرز فيها معاوية رجله فهي ما فنئت معلقة فيه حتّى يلقى الله تعالى وينال عقابه بما جنى على الاُمّة. والمغيرة شريكه في هذا الغرز، وإن حسب نفسه بمبعدة عنه وبمنجاة منه، ولكن الدالّ على الشرّ والدالّ على الخير كفاعله، والمغيرة دلّ على الشرّ وشارك في فعله، فعليه إثمان والله حسيبه.

رأي عتبة بن مسعود في يزيد

ذكروا أنّ عتبة بن مسعود قال: مرّ بنا نعي معاوية ابن أبي سفيان ونحن بالمسجد الحرام. قال: فقمنا فأتينا ابن عباس، فوجدناه جالساً قد وضع له الخوان وعنده نفر، فقلنا: أما علمت بهذا الخبر يابن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا: هلك معاوية. فقال: ارفع الخوان يا غلام وسكت ساعة ثمّ قال: جيل تزعزع ثمّ مال بكلكله، أما والله ما كان كمن كان قبله ولما يكن بعده مثله، اللهمّ أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمّنا هؤلاء لذي لبّ معتبر اشتجرنا بيننا فقتل صاحبهم غيرنا وقتل

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص249، نثر الدر، ج4 ص125.

(2) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص220.

٣٢٤

صاحبنا غيرهم وما أغراهم بنا إلاّ أنّهم لا يجدون مثلنا وما أغرانا بهم إلاّ أنّا لا نجد مثلهم كما قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك، ووالله إنّ ابنه لخير أهله أعد طعامك يا غلام.

قال: فما رفع الخوان حتّى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس أن انطلق فبايع، فقال للرسول: اقرىء الأمير السلام وقل له: والله ما بقي فيّ ما تخافون، فاقض من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس جئتك ففعلت ما أحببت. قال: ثمّ أقبل علينا فقال: مهلاً معاشر قريش أن تقولوا عند موت معاوية ذهب جدّ بني معاويةوانقطع ملكهم، ذهب لعمر الله جدّهم وبقي ملكهم وشرّها بقيّة هي أطول ممّا مضى، ألزموا مجالسكم واعطوا بيعتكم. قال: فما برحنا حتّى جاء رسول خالد فقال: يقول لك الأمير لابدّ لك أن تأتينا. قال: فإن كان لابدّ فلابدّ ممّا لابدّ منه، يا نوار هلمّي ثيابي، ثمّ قال: وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس لم يضرّكم؟

قال: فقلت له: أتبايع ليزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟ قال: مه فأين ما قلت لكم: وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمرأ وهو شرّ من شاربها، أنتم إلى بيعته سراع ...(1) وابن عباس أخفى من نفسه حقيقتها فقد كان باستطاعته أن يلهب الدنيا على معاويه ويثير نقمة الناس عليه ولكنّه كان يتكتم بقوله: إن جلس لم يضرّكم لمّا ارتحل معاوية راجعاً إلى مكة ولم يخرج لبني هاشم عطاءاً ولا جائزة فخرج ابن عباس في أثره حتّى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: من بالباب؟ فيقال: عبدالله بن عباس، فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبدالله بن عباس، فدعا بدابته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبدالله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثمّ قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكة، قال: فأين جوائزنا؟ كما أجزت غيرنا فأومأ إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم. قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد وأبى عبدالله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج2 ص174.

٣٢٥

إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا؟ فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا أعطيكم درهماً حتّى يبايع صاحبكم. فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم والله لا تركنهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل أعطيكم جوائزكم فبعث بها من الروحاء ومضى عائداً إلى الشام(1) .

وما كان معاوية لينثنى لو لم يعلم صدقه ولعلّه تظاهر بالعجز لما أضرّ فقد كان يومئذ مصاباً ببصره رضوان الله عليه.

قول عبدالله بن جعفر في يزيد وأبيه

كتب معاوية إلى عبدالله بن جعفر يجبره على البيعة ليزيد: أمّا بعد، فقد عرفت أثرتي إيّاك على من سواك وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تشكر وإن تأب تجبر، والسلام.

فأجابه ابن جعفر: أمّا بعد، فقد جائني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إيّاي على من سواي، فإن تفعل فبحظك أصبت وإن تأب فبنفسك قصّرت وأمّا ما قصّرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام، حتّى أدخلناكما كارهين غير طائعين والسلام.

رأي عبدالملك في يزيد

خطب مرّة فقال: إنّي والله ما أنا بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا بالخليفة المداهن - يعني: معاوية - ولا بالخليفة المأبون - يعني: يزيد -. وهذه الكلمة إن أطلقت فهي للشرّ خاصة ومنه أخذ المأبون الذي تفعل به الفاحشة وهي الابنة، ذكر ذلك صاحب تاج العروس. وإنّما ذكرنا ذلك مع وضوحه فلأنّ بعض الناس حاول تبديل معنى اللفظ ليدلّ على خلاف حقيقة يزيد فقد ذكر الآبي أنّ أبا حمزة الشاري دخل مكة فصعد منبرها وخطب خطبة ذكر فيها الخلفاء إلى أن وصل إلى معاوية وابنه يزيد فقال:

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص164.

٣٢٦

وولي معاوية ابن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه فاتّخذ عباد الله خولاً ومال الله دولاً ودينه دغلاً فالعنوه لعنه الله. ثمّ ولي يزيد بن معاوية، يزيد الخمور ويزيد القرود ويزيد الفهود الفاسق في بطنه، المأبون في فرجه(1) .

والكلمة الأخيرة واضحة الدلالة في المعنى القبيح، ولكن المحقق أعرض عن معناها الحقيقي وراح يضرب في تيه يزيد، فقال: يريد أنّه كان لاهياً لا يصلح للخلافة، لأنّه يشرب الخمر ويلهو بالقرود والفهود ويأكل الحرام ولا يعفّ عن الفاحشة(2) .

أجل، ما قاله محقق الكتاب ثابت، ومثله الطعن في إجّانته، والحمد لله الذي جعل عدوّ أهل البيت أخسّ أنواع الإنسان. لقد أجمعت كلمة الاُمّة على أنّ يزيد مجموعة من المثالب، وكتلة من القبائح، ولكن ابن كثير يقول عنه: تزوّج معاوية اُمّ يزيد فولدت له يزيد ابن معاوية فجاء نجيباً ذكيّاً حاذقاً(3) .

وربّما تكون الابنة عند ابن كثير فرع من فروع النجابة ولا غرو فمن كان خليفته وإمامه يزيد كانت نجابته من جنسه. وحمل ابن كثير عشقه معاوية ووريثَه المأبون على أن يلقي تبعات أعمال يزيد المنكرة في عنق أبي أيوب الأنصاري فقد قال: إنّ يزيد بن معاوية كان أميراً على الجيش الذي غزا فيه أبو أيّوب فدخل عليه عند الموت فقال له: إذا أنا متّ فاقرؤوا على الناس منّي السلام وأخبروهم أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئاً جعله الله في الجنّة وقال: سأحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله لولا حالي هذه ما حدثتكموه، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة، وعن أبي صرمة عن أبي أيوب الأنصاري: أنّه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لولا أنّكم تذنبون لخلق الله قوماً يذنبون فيغفر لهم يقول ابن كثير بعد سرده الأحاديث أعلاه: وعندي أنّ هذا الحديث والذي قبله هو الذي

____________________

(1) الآبي، نثر الدر، ج5 ص214، وانظر الحاشية.

(2) الآبي، نثر الدر، ج5 ص214، وانظر الحاشية.

(3) البداية والنهاية، ج8 ص84.

٣٢٧

حمل يزيد بن معاوية على الإرجاء وركب بسببه أفعالاً كثيرة أنكرت عليه ...(1)

ونقول لهذا المسكين المتدلّه بحب يزيد ولابدّ أنّه التقى به عند الله الآن، أما سمع القرآن كتاب الله وما فيه من الأوامر والنواهي والزواجر والمواعظ، فهلاّ حملته الآيات على ترك ما ركب ولا اعتقد أنّ حجّة ابن كثير تقنع أكثر الناس حمقاً وبلهاً ولكنّه الحبّ يعمي ويصمّ ولا غرابة فقد قال الشاعر: حسن في كل عين من تودّ، وحبّ يزيد وأبيه كالخمرة أول ما تذهب من الإنسان عقله، فلا يبصر مواضع الحقّ ومواطن الهدى، وقد عبد الهنود البقر والجرذان وأخلصوا لهما وعبادة يزيد وأبيه ليست أعجب من ذلك.

ولا تزال تقف على رأي أو قول لهؤلاء يدمي القلب ويؤذي الخاطر ويثير الإشمئزاز بالنفس. يقول ابن حزم: خروم الإسلام أربعة: قتل عثمان وقتل الحسين ويوم الحرّة وقتل ابن الزبير. ويقول العماد الحنبلي: ولعلماء السلف في يزيد وقتله الحسينعليه‌السلام خلاف في اللعن والتوقف، قال ابن الصلاح: والناس في يزيد ثلاث فرق: فرق تحبّه وتتولاّه، وفرقة تسبّه وتلعنه، وفرقة في ذلك لا تتولاّه ولا تلعنه، قال: وهذه الفرقة هي المصيبة ومذهبها هو اللائق لمن يعرف سير الماضين ويعلم قواعد الشريعة الطاهرة، انتهى كلامه، ولا أظنّ الفرقة الاُولى توجد اليوم وعلى الجملة فما نقل عن قتلة الحسين والمتحاملين عليه يدلّ على الزندقة وانحلال الإيمان من قلوبهم وتهاونهم بمنصب النبوّة وما أعظم ذلك ...(2)

وقول ابن العماد بنفي الفرقة الاُولى قول من لا يعلم، فقد كان من قبله يثبت العدالة والعلم ليزيد ويصحح إمامته ويتولاّه، يقول ابن العربي: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل إلى أن قال مثبتاً ليزيد الأهليّة: فإن قيل لمن فيه شروط الإمامة قلنا: ليس السنّ من شروطها ولم يثبت إنّه يقصر يزيد عنها. فإن قيل: كان منها العدالة والعلم ولم يكن يزيد عدلاً ولا عالماً، قلنا: وأيّ شيء نعلم عدم علمه أو عدم عدالته، ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل وإنّما رموا

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص61.

(2) العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج1 ص68، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع.

٣٢٨

إلى الأمر بعيب التحكم وأرادوا أن تكون شورى(1) .

ونقول لهذا المتيم المتبول: إن كان يصح الشك في جنايات يزيد وجرائمه فليصح في أصل وجوده ووجود أبيه أيضاً، لأنّها ثبتت بالطرق التي ثبت بها وجودٌ اسمه يزيد وآخر اسمه معاوية أي بالتواتر المفيد للعلم، الذي لا يتطرق إليها الشك وإلاّ كان العلم مهزلة، لا يجدي نفعاً وليت شعري من الذي يشك في وقعة الحرّة وما جرى فيها من المصائب والنوائب على أهل الإسلام منه، وأمّا إثبات العلم والعدالة ليزيد بزعم أنّ الثلاثة الفضلاء ولم يسمّهم المؤلّف لم يسلبوهما عنه فقد مرّ عليك إجماع الاُمّة على لعن يزيد وتفسيقه بمن في ذلك ابوه وقومه والمؤلف يجادل في الحقّ بلا علم ولا هدىً ولا كتاب مبين، وكتابه العواصم من القواصم جلّه إن لم نقل كلّه من هذا القبيل.

وجاء مسكين آخر معاصر فأثبت ليزيد الأهليّة بقوله: إن كان مقياس الأهليّة لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما فهذا ما لم يبلغه خليفة في تاريخ الإسلام ولا عمر بن عبدالعزيز، وإن طمعنا بالمستحيل وقدّرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر. وإن كان مقياس الأهليّة الإستقامة في السيرة والقيام بحرمة الشريعة والعمل بأحكامها والعدل في الناس والنظر في مصالحهم والجهاد في عدوّهم وتوسيع الآفاق لدعوتهم والرفق بأفرادهم وجماعاتهم فإنّ يزيد يوم تمحّص أخباره ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته يتبيّن من ذلك أنّه لم يكن دون كثيرين ممّن تغني التاريخ بمحامدهم وأجزل الثناء عليهم(2).

وأكاد أجزم أنّ العبارة الأخيرة يعني بها هذا الحمار، أميرالمؤمنينعليه‌السلام ولكنّه لا يجرأ على التصريح بها لأنّ يزيد عندهم أفضل من الإمام ولا ألومهم على ذلك، لأنّهم منافقون لا مسلمون وثبت بالطرق الصحيحة قول النبي للإمامعليه‌السلام : لا يحبّك منافق ولا يبغضك مؤمن.

____________________

(1) العواصم من القواصم، ص214 و223.

(2) العواصم من القواصم، ص214، الهامش (2).

٣٢٩

ثمّ راح محقّق كتاب (العواصم من القواصم) يبذل الجهد الجهيد ليثبت العدالة لإمامه يزيد فقال: أمّا عن العدالة فقد شهد له محمّد بن علي بن أبي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد: ما رأيت منه ما تذكرون وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرّياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنّة ...(1)

ولإثبات علمه قال: وأمّا عن العلم فالذي يلزم منه لمثله في مثل مركزه كان فيه موضع الرضا وفوق الرضا. روى المدائني أنّ ابن عباس وفد إلى معاوية بعد وفاة الحسن بن علي فدخل يزيد على ابن عباس وجلس منه مجلس المعزّي، فلمّا نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس(2) .

وهذه الأقوال التافهة لا تحتاج إلى رد لأنّ المقصود بها ليس الدفاع عن يزيد بل إبراز العداوة لأهل البيتعليهم‌السلام لأنّ هذا وأباه من ألدّ أعدائهم فلم يجرئوا على التصريح ببغض أهل البيت وإنّما عبّروا عن ذلك بمدح أعدائهم والدفاع عنهم، والواقع أنّ القوم لم يقنعوا مسلماً واحداً على سبيل المثال بدفاعهم هذا بقدر ما أساؤوا إلى أيمّتهم السابقين لأنّ دفاعهم عن اولئك بمنزلة دفاعهم عن هؤلاء عناد ومكابرة. وإليك مهزلة اُخرى من مهازل الدفاع عن يزيد على لسان أبي بكر بن العربي:

فإن قيل: كان يزيد خمّاراً، قلنا: لا يحلّ إلاّ بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه، بل شهد العدل بعدالته فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد قال الليث: توفي أميرالمؤمنين يزيد في تاريخ كذا فسمّاه الليث أميرالمؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلاّ توفّي يزيد(3) .

ومن يكون الليث هذا؟ وهل هو إلاّ راوية أخبار أعان الظالمين على ظلمهم فنفقت سلعته عندهم وهذا عمر بن عبدالعزيز الذي اعتبروه خامس الراشدين، قال

____________________

(1) العواصم في القواصم، ص223، هامش رقم (1).

(2) العواصم من القواصم، ص223، هامش رقم (1).

(3) العواصم من القواصم، ص228.

٣٣٠

رجل عنده: أميرالمؤمنين يزيد، فأمر به فضرب عشرين سوطاً(1) .

ولا أعجب ممّن يدّعي العلم في إنكاره المسلّمات ودفاعه عن المنكرات ويزيد ما استطاع أوليائه أن يثبتوا له حسنة واحدة، اللهمّ إلاّ حسنة واحدة وهمية دفعه إليها أبوه دفعاً وحمله عليها حملاً ليقطع قالة أسوء عليه عملاً برأي زياد حتّى قال الذهبي وهو المعروف في ولائه لهم: له على هناته حسنة وهي غزو القسطنطنيّة وكان أمير ذلك الجيش مثل أبي أيّوب الأنصاري.

وأمّا شربه للخمر فلا يكاد ينكر وشهد شاهد من أهلها يقول الذهبي: كان ناصبياً فظّاً غليظاً جلفاً يتناول المسكر ويفعل المنكر افتتح دولته بمقتل الحسين وأختتمها بواقعة الحرّة فمقته الناس ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين كأهل المدينة قاموا لله ...(2)

وعن زياد الحارثي قال: سقاني يزيد شراباً ما ذقت مثله، فقلت: يا أميرالمؤمنين لم أسلسل مثل هذا، قال: هذا رمان حلوان بعسل اصبهان بسكر الأهواز بزبيب الطائف بماء بردى(3) . ولشهرة ذلك فقد حمله القاصي والداني وشرق وغرب في البلاد لمّا أبى معاوية من عزل ابن اُخته اُمّ الحكم عن الكوفة دخل قوم من أهل الكوفة على يزيد فقال أحدهم: ما ننقم على عبدالرحمن أن لا نكون أحظى أهل المصر عنده ولكنّا غضبنا لك وذلك أنّه اُتي بجام من مها - أي بلور - فقال: ارفعوها حتّى نهديها إلى يزيد يشرب فيها الخمر بماء بردى ...(4)

وكان هلاكه بالخمرة التي والاها وأخلص لها. عن محمّد بن أبي مسمع قال: سكر يزيد، فقام يرقص، فسقط على رأسه فانشقّ وبدا دماغه(5) . وهذه اهون موتة يموتها أهون موجود على الله سبحانه. قال محمّد بن عبدالملك الزيات لبعض أصحابه: ما أخّرك عنّا؟ قال: موت أخي. قال: بأيّ علّة؟ قال: عضّت اصبعه فأرة

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج4 ص40.

(2) سير أعلام النبلاء، ج4 ص37.

(3) نفسه، ج4 ص37.

(4) البلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص149.

(5) سير أعلام النبلاء، ج4 ص37.

٣٣١

فضربته الحمرة. فقال محمّد: ما يررد القيامة شهيد أخسّ سبباً ولا أنذل قاتلاً ولا أضيع ميتة ولا أظرف قتلة من أخيك ...(1)

وأنا أقول: ما يرد القيامة ميّت أخسّ موتاً ولا أخبث نفساً ولا أذلّ ميتة من يزيد بن معاوية، أمير مؤمني الليث بن سعد وأبي بكر العربي وناصبي زماننا محبّ الدين الخطيب، وأختم هذه الجملة من الحديث بما قاله ابن العربي أخيراً واُسمّيه قولاً تأدّباً مع القارىء وهو إلى الهراء أقرب، قال:

فإن قيل ولو لم يكن ليزيد إلاّ قتله للحسين بن علي، قلنا: يا أسفاً على المصائب مرّة ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرّة، وإنّ بوله يجري على صدر النبي، ودمه يراق على البوغاء ولا يحقن ويا لله ويا للمسلمين، ثمّ أجمل مصيبة كربلاء وسمّى الأخبار التي ساقها أمثل ما روي إلى أن قال:

وأسلمه من كان استدعاه ويكفيك بهذا عظة لمن اتّعظ فتمادى واستمرّ غضباً للدين وقياماً بالحقّ ولكنّهرضي‌الله‌عنه لم يقبل نصيحة أهمّ أهل زمانه ابن عباس وعدل عن رأي شيخ الصحابة بن عمر وطلب الإبتداء في الإنتهاء والإستقامة في الإعوجاج ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقّه ولا من يبذل نفسه دونه فأردنا أن نطهّر الأرض من خمر يزيد فأرقنا دم الحسين فجائتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر، وما خرج إليه أحد إلاّ بتأويل ولا قاتلوه إلاّ بما سمعوا من جدّه المهيمن على الرسل المخبر بفساد الحال المحذّر من الدخول في الفتن وأقواله في ذلك كثيرة منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الاُمّه وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان، فما خرج الناس إلاّ بهذا وأمثاله(2) .

لقد أضلّ الله ابن العربي على علم وبهذا وأمثاله صرّح عن نفاقه وتحامله على سيّد شباب أهل الجنّة وقد صدق العماد الحنبلي بقوله: ما نقل عن قتلة الحسين والمتحاملين عليه يدلّ على الزندقة وانحلال الإيمان من قلوبهم وتهاونهم بمنصب

____________________

(1) الأغاني، ج23 ص52.

(2) العواصم من القواصم، ص231 و232 و228.

٣٣٢

النبوّة، وما أعظم ذلك(1) .

ولست أدري ما الذي صيّر عائشة صديقة وقد فرقت أمر هذه الاُمّة إلى اليوم، وصيّر طلحة فيّاضاً ومبشّراً بالجنّة وصيّر الزبير حواريّاً وعبدالله ابنه كيت وكيت وهم الذين فرّقوا أمر الاُمّه وهي جميع حقّاً وصدقاً لم يخرجوا لإنكار منكر ولا لإصلاح فساد ولا لطلب معروف، وإنّما نفسوا على أميرالمؤمنينعليه‌السلام أن ينال حقّه وتأتيه الخلافة بالإختيار والشورى بعد النصّ والوصيّة، فلا تدلّ مواقفهم المفرقة على جواز ضربهم، ثمّ يأتي صنيعة اُميّة الأندلس ابن العربي فيهذي بأقوال لم يوافقه عليها أحد حتّى أشدّ الناس عداء لأهل البيت ابن تيميّة عن الحسينعليه‌السلام وتابعه على قوله في الإمام الحسينعليه‌السلام جماعة منهم ابن خلدون.

وكان الحافظ أبوالحسن الهيثمي يبالغ في الغضّ منه. قال الحافظ ابن حجر: فلمّا سألته عن سبب ذلك ذكر لي أنّه بلغه أنّه قال في الحسين السبطرضي‌الله‌عنه أنّه قتل بسيف جدّه ثمّ أردف ذلك بلعن ابن خلدون وسبّه وهو يبكي. قال ابن حجر: لم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن وكأنّه كان ذكرها في النسخة التي رجع عنها.

قال الشوكاني: وإذا صحّ صدور تلك الكلمة عن صاحب الترجمة فهو ممّن أضلّه الله على علم(2) .

وابن العربي صاحب القول الأوّل شريكه في اللعنة وجاء من بعد ابن خلدون قوم ضلّوا بضلاله ونائوا بأقواله، وحقّت عليهم لعنة الله من قبيل المستشرق الصليبي لامنس الذي كتب في يزيد معاوية كتاباً سمّاه يزيد الأوّل من خمسمائة صفحة وكان معجباً به. ولا غرو فإنّ يزيد أثلج قلب لامنس بما جنى على أهل البيتعليهم‌السلام كما أثلج قلب من كان قبله ومن جاء بعده من إخوانه الوهابيّة الذين ترسّموا خطاه فكتبوا في يزيد كتاباً سمّوه «حقائق عن أميرالمؤمنين يزيد بن معاوية». وهذا الكتاب تطبعه المملكة العربية السعوديّه وزارة المعارف بالذات، ذكر ذلك العلامة العسكري في

____________________

(1) شذرات الذهب، ج1 ص68.

(2) الشوكاني، البدر الطالع، ج1 ص338 و339، ط بيروت، دار المعرفة، على الطبعة الاُولى المطبوعة، سنة 1348 هجري.

٣٣٣

كتابه القيم (معالم المدرستين) الجزء الأوّل وحينئذ فلا يصحّ قول ابن العماد: أمّا الفرقة الاُولى وهي التي تتولاّه فلا أظنّها توجد اليوم، بل هي موجودة اليوم كما كانت موجودة قبله وستبقى موجودة بعده ما بقي الشرّ وبقي الشرّير.

وفي ختام دفاع ابن العربي عن يزيد استدلّ على تعديله بشهادة أحمد بن حنبل في حقّه فقال: وهذا أحمد بن حنبل على تقشّفه وعظيم منزلته في الدين وورعه قد أدخل عن يزيد بن معاوية (كذا) في (كتاب الزهد) أنّه كان يقول في خطبته: ( إذا مرض أحدكم مرضاً فأشفى ثمّ تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه ...) وهذا يدلّ على عظيم منزلته عنده حتّى يدخله في جملة الزهّاد، من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويُرعوى من وعظهم، ونعم وما أدخله إلاّ في جملة الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور ألا يستحيون؟! وإذا سلبهم الله المروئة والحياء ألا ترعوون أنتم وتزدجرون؟؟! وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الاُمّة وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملّة( هذَا بَيَانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ ) والحمد لله ربّ العالمين(1) .

نقلنا الكلام بطوله لتقف على حقيقة هذا المجادل بالباطل الذي يطالب بالحياء والمروئة، وهو فاقدهما، و(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وقل ما شئت كذلك. والذي يحزّ في النفس ليس الدفاع عن يزيد ففي البشريّة من دافع عن إبليس وعبده أيضاً ومن الطريف حقّاً أن تقترن عبادة الشيطان بتعديل يزيد بن معاوية والدفاع عنه في اليزيدية. أجل يحزّ في النفس ويؤذي المروءآت أن ينبري المدافعون لإنكار منكرات يزيد وإثبات الفضائل له، فلم يكتفوا بالاُولى حتّى أثبتوا له الثانية وهذا حاك عن ضحالة دينهم وذهاب يقينهم والحقّ يقال إنّ الدفاع عن يزيد يجرّ إلى جرح الذين تقدّموه. وذلك أنّ ما قالوه عن فلان وفلان لا يعدو أن يكون نظيراً لما قالوه عن يزيد في ردّ منكراته وإثبات حسنات له، لاتحاد السبب وثبوت الداعي، لأنّ الذي حملهم على تعديل يزيد هو الخشية على سريان الجرح إلى

____________________

(1) العواصم من القواصم، ص233.

٣٣٤

معاوية ومن معاوية إلى عمر وهكذا يتداعى الجهاز بناءاً وقواعدَ، وإلاّ فلا يضمّ الوجود أمس واليوم من يجهل حقيقة يزيد وأبيه، إلاّ من أضلّه الله، من منافق مستتر بالإسلام حاقد على أهل البيت أو صليبي ناقم على الإسلام والحمد لله أن تتوحّد العلقة في هؤلاء وهؤلاء.

ثمّ هلمّ إلى هذا المتحمس المنافح المكافح عن يزيد القرود وكيف يستشهد على تعديله بابن حنبل واستمع إلى ابن حنبل كيف يجيب ولده: روى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى الفرا: أنّه روى في كتابه (المعتمد في الاُصول) بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إنّ قوماً ينسبونا إلى تولّي يزيد، قال: يا بني وهل يتولّى يزيد أحد يؤمن بالله؟ فقلت: ولم لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتني لعنت شيئاً؟ يا بني ولم لا نلعن من لعنه الله في كتابه؟ فقلت: وأين لعن الله يزيد في كتابه؟ فقال:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى‏ أَبْصَارَهُمْ ) (1) فهل يكون فساد أعظم من القتل، وفي رواية: فقال: يا بني ما أقول في رجل لعنه الله في كتابه فذكره؟(2)

قال ابن الجوزي: وصنّف القاضي أبو يعلى كتاباً ذكر فيه بيان من يستحقّ اللعن وذكر منهم يزيد ثمّ أورد حديث: من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه ألله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ...(3) ولا خلاف أن يزيد غزا المدينة

____________________

(1) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية 22.

(2) جواهر العقدين في فضل الشرفين، تأليف السمهودي وهو كتاب نفيس حقاً، ص425.

(3) للحديث سياقات كثيرة وإليك الكتب التي أخرجته بسياقات مختلفة: 1 - مسند أحمد بن حنبل، ج4 ص56 وتمام الحديث عنده: لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ورواه بسياقين آخرين في ج3 ص393 وج4 ص55. 2 - الطبراني، ج7 ص169 و171. 3 - موارد الظمئان للهيثمي، رقم 1039 قال عنه: «حسن» واقتصر على أخافه الله. 4 - مجمع الزوائد، ج3 ص306 رواه بسياقات عدّة، منها عن جابر بن عبدالله أنّ أميراً من اُمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر: لو تنحّيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال: تعس من أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال ابناه أو أحدهما: يا ابت وكيف أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مات؟ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من أخاف أهل المدينة فقد أخاف مابين جنبيّ، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ومنها عن عبادة بن الصامت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: اللهمّ من ظلم أهل المدينة أو أخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس =

٣٣٥

بجيش مسرف بن عقبة وأخاف أهلها(1) .

وقال السمهودي أيضاً: قلت: بل وقع من ذلك الجيش من القتل والفساد والسبي وإباحة المدينة ما هو مشهور ولم يرض مسرف إلاّ بأن يبايعوه ليزيد على أنّهم خول له إن شاء باع وإن شاء عتق فذكر له بعضهم البيعة على كتاب الله وسنّة رسوله فضرب عنقه وقتل بقايا الصحابة وأبناءهم وذلك في وقعة الحرّة إلى أن يقول: ثمّ انصرف جيشه هذا إلى مكة لقتال ابن الزبير فوقع منهم رمي الكعبة بالمنجنيق واحتراقها بالنار فأيّ شيء أعظم من هذه العظائم في زمنه وهي مصداق ما رواه أبو يعلى من حديث أبي عبيدةرضي‌الله‌عنه رفعه: لا يزال أمر اُمّتي بالقسط حتّى يتسلّمه رجل من بني اُميّة يقال له يزيد، ورواه غير أبي يعلى بدون تسميته: لأنّهم كانوا يخافون من تسميته(2) ، وهذا ما حمل الأباضية على تأويل الحديث في عثمان ورواه في جامع الشمل بالصيغة التالية: أوّل من يبدّل سنّتي رجل من بني اُمية. قال: رواه أبو يعلى عن أبي ذر. فقلنا نحن الأباضية: هو عثمان وقال غيرنا: إنّه يزيد بن معاوية لعنه الله، والله أعلم(3) .

هؤلاء جميعاً عند ابن العربي لا حياء لهم ولا مروءة لأنّهم جرحوا إمامه يزيد وذكروا ما كان يرتكب من المنكرات ويجترح من السيّئات ويركب من المحظورات، وبقي الحياء له ولإمامه.

من أين تخجل أوجه اُمويّة

سكبت بلذّات الفجور حياءها

وعندنا شقي آخر تنكر للحق وردّ أقوال العلماء وأنكر الثابت المتواتر من فعل يزيد فتولاّه ومنع من لعنه واعتبر الترحّم عليه من المستحبّات. قال ابن خلّكان: وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في مثل هذه المسئلة بخلاف ذلك،

____________________

= أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. 5 - كنز العمال، رقم 34838. 6 - التاريخ الكبير للبخاري، ج1 ص117 وج3 ص186. 7 - حلية الأولياء، ج1 ص372. 8 - مصنف ابن أبي شيبة، ج12 ص181. 9 - الكامل في الضعفاء لابن عدي، ج5 ص1969.

(1) السمهودي، جواهر العقدين، ص425.

(2) جواهر العقدين، ص425، ط بيروت دارالكتب العلمية، ط اولى، 1415 هجرية.

(3) اطفيش المغربي، جامع الشمل، ج1 ص536.

٣٣٦

فإنّه سئل عمّن صرّح بلعن يزيد هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصاً فيه؟ وهل كان يزيد قتل الحسينعليه‌السلام (رضي‌الله‌عنه ) أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحّم عليه أم السكوت أفضل؟ أنعم بإزالة الإشتباه مثاباً؟! فأجاب:

لا يجوز لعن مسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المسلم ليس بلعّان وكيف يجوز لعن مسلم ولا يجوز لعن البهائم؟ وقد ورد النهي عن ذلك وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويزيد صحّ إسلامه، وما صحّ قتله للحسين ولا أمره به وما لم يصحّ منه ذلك لا يجوز أن يظنّ ذلك به، فإنّ إسائة الظنّ بالمسلم حرام، وقد قال الله تعالى:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ ) (1) وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به ظنّ، ومن زعم أنّ يزيد أمر بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه ورضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقه فإنّ من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقته من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي - وإن كرهه لم يقدر على ذلك كان قد قتل بجواره وزمانه وهو يشاهده فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ فهذا لا يعرف حقيقته أصلاً وإذا لم تعرف وجب إحسان الظنّ بكلّ مسلم يمكن إحسان الظنّ به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر، بل هو معصية وربّما مات القاتل بعد التوبة ولو جاز لعن أحد فسكت عن ذلك، لم يكن الساكت عاصياً، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة لم لم تلعن إبليس؟ وأمّا الترحّم عليه فإنّه جائز بل مستحبّ إذ هو داخل في قوله: اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والله أعلم، كتبه الغزالي(2) .

وهذه الفتوى تدلّ على أحد أمرين: إمّا جهل الرجل بحقائق التاريخ وهذا بعيد عن عالم مثله، أو نصبه الشديد لأهل البيت النبوي ويظهر ذلك في تعديله لألدّ أعدائهم بل أعداء البشريّة قاطبة وثنائه عليهم، وهذا أدنى إلى المتعقل، لأنّه حاول محاولة مضحكة في فتوى هو ليس من أهلها، إنّما شأنه الشطحات وحديثه الترّهات

____________________

(1) سورة الحجرات الآية 12.

(2) اليافعي، مرآة الجنان، ج3 ص134، ط دارالكتب العلمية، بيروت، 1417.

٣٣٧

أن ينكر ضرورة تاريخية لا سبيل إلى انكارها إلاّ لمن اُصيب ببصيرته، كمن اُصيب ببصره فلا يرى الشمس الطالعة.

إنّ قتل يزيد الحسين ليس معناه حضوره في كربلاء مع ابن سعد، فذلك ما لا يقوله ذو مسكة ولا يتبناه رشيد، بل معناه صدور أمره بذلك إلى عمّاله ورضاه عنهم وتشجعيه لهم وإثابته لهم على جرائمهم منقطعة النظير. ولا تكون جرائم ولاة الاُمور إلاّ على هذا النمط وبهذا الشكل لأنّهم يؤاخذون بما يفعله ولاة أقاليمهم وعمّال بلادهم، إذا أمروهم بذلك وأثابوهم عليه، لا على الممارسة، ولو جاز إعفاء يزيد على ما ارتكبه من جرائم لعدم ممارسته لها وعصبنا الذنب في رؤوس الولاة، لما كان في الحكام مجرم ولا جان، ولم يؤاخذ أحدٌ بفعل منهم بدءاً بفرعون ومروراً بفلان وختاماً بيزيد.

بل حتّى ابن زياد نفسه ليس عليه مؤاخذة لأنّه لم يحضر كربلاء ولا باشر القتال بنفسه، إنّما فعل ذلك ابن سعد وجنوده عن أمره، فهو مؤاخذ بما أصدر من أمر وما أعدّ من خطط، وهكذا الحال بالنسبة لإمام الغزالي الصوفي يزيد بن معاوية فإنّه مؤاخذ بأمره ورضاه وتشجيعه وحمله ابن زياد وأهل الكوفة على ذلك لا على حضوره ومباشرته القتال بنفسه في كربلاء والغزالي يعلم هذا جيّداً ولكنّه يلبسه على نفسه ليجعل الشبهات عاذراً له.

أضف ألى ذلك أنّنا لو ذهبنا مذهبه وبرأنا يزيد من دم الحسين بفعل التنائي الزماني والمكاني بيننا وبينه وكان منطقنا الوحيد في المسئلة هو عسر تمييز القاتل والفاعل بعد تراكم الزمن هذه المدّة الطويلة، لاُصيب تاريخنا من بدأه إلى منتهاه بعاصفة هو جاء تذريه في العدم كما تذري الريح الهشيم لأنّ المسئلة لا تقتصر على واقعة كربلاء بل يصاب التاريخ كلّه بزلزال الشك والتخرص إذ ليس واقعة من الوقايع التاريخيه بما فيها معارك الإسلام من بدر واُحد وحنين وخيبر وفتح مكّة وقعت بمسمع ومشهد منّا بل فصل بيننا آحاد وأحقاب طويلة وحينئذ لا تبقى قيمة لتاريخنا نفعل ذلك به لنكسب البرائة لأخبث مجرم في تاريخ الأجرام أمير مؤمني الغزالي وابن العربي وابن كثير والذهبي وابن تيميّة ومحبّ الدين الخطيب وهيان بن بيان.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ عادة ولاة الاُمور جرت منذ وقديم الزمان

٣٣٨

على محاسبة العامل ومؤاخذته بما يفعل، فيثاب إن أحسن ويعاقب على الإسائة، ويتعرّض للعزل وهو أقلّها والسجن بل القتل أيضاً، فهل فعل يزيد بابن زياد شيئاً من هذا لو لم يكن راض بفعله شاكراً له حسن صنيعه بعدوّه مشجّعاً إيّاه وكان يكتب إليه: أنت أحد أعضاء ابن عمّك فاحرص أن تكون كلّها(1) على التمادي بغيّه، وهذا هو المراد بقول من قال: إنّ يزيد قاتل الحسينعليه‌السلام .

ولقد بعث ابن زياد لعنه الله إلى يزيد لعنه الله رسلاً ومعهم رؤوس الشهداء، وأوّل رأس حمل إليه رأس شهيد كوفان مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، فما كان موقف يزيد منهم إنّه استقبلهم على أحسن حال وأثابهم وردّهم إلى ابن زياد محملين بالمكافئات والجوائز السنيّة، وكتب إلى ابن زياد جواباً مع حامل رأس مسلمعليه‌السلام إليه:

أمّا بعد، فإنّك لم تعدُ أن كنت كما أحبّ عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش فقد أغنيت وكفيت وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت فاستوص بهما خيراً، وإنّه بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق فضع المناظر والمسالح واحترس على الظنّ وخذ على التهمة غير أنّ لا تقتل إلاّ من قاتلك واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكان ابن زياد قد كتب إليه بعد شهادة مسلم وهانىءعليهما‌السلام :

أمّا بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقّه وكفاه مؤنة عدوّه، أخبر أميرالمؤمنين - أكرمه الله - أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانىء بن عروة المرادي وإنّي جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما وأمكن الله منهما فقدّمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانىء بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة فليسألهما أميرالمؤمنين عمّا أحبّ من أمر، فإنّ عندهما علماً وصدقاً

____________________

(1) العقد الفريد، ج4 ص207.

٣٣٩

وفهماً وورعاً والسلام(1) .

فهل هذا قول البريء وفعله، والواقع أنّ ثلاثة أرباع تبعة قتل أهل البيتعليهم‌السلام على يزيد لعنه الله لأنّه بأمره قتلوهم ولولا إرادته قتلهم لما جرء أحد من أهل الكوفة على ذلك، وما اكتفى يزيد بالأمر وحده بل ضمّ إليه تهديد من لم يقاتلهم بقتله، وبهذا جاءت شهادة ابن زياد لعنه الله على يزيد فلقد قال ابن زياد معتذراً عن قتله الحسينعليه‌السلام : أمّا قتلي الحسين، فإنّه أشار عليّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله وقال المعلّق على الكتاب: في الطبري: فإنّه سار إلي يريد قتلي فاخترت قتله على أن يقتلني، وهي محرّفة وما هاهنا هو الصحيح ...(2)

وحين نسبر التاريخ فعل من يريد الظفر بالحقيقة، نعثر على كتب يزيد التي تحثّ عمّاله على قتل الحسين وأوّل عامل وقع اختيار يزيد عليه ليقتل الحسين هو ابن عمّه الوليد فقد كتب إليه بعد كتاب الوليد يأمره بقتل الحسين:

من يزيد أميرالمؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أمّا بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانية على أهل المدينة توكيداً منك عليهم وذر عبدالله ابن الزبير فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دمنا أحياء، وليكن مع جواب كتابي هذا رأس الحسين، فإن فعلت ذلك جعلت لك أعنّه الخيل ولك عندي الجائزة العظمى والحظّ الأوفر والسلام(3).

فلمّا ورد الكتاب على الوليد أعظم ذلك وقال: والله لا يراني الله وأنا قاتل الحسين بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو جعل لي يزيد الدنيا وما فيها ...(4) وسلم الوليد من هذا العار وعلق بابن العار الدعيّ بن الدعيّ عبيدالله بن زياد لعنه الله وكان كتاب يزيد إليه يهدّده بردّه إلى الرقّ كما كان قبلاً أبوه إن لم يقتله وكتب إليه:

____________________

(1) جمهرة رسائل العرب، ج2 ص83 و84 نقلاً عن تاريخ الطبري، ج6 ص213 و214، الفتوح، ج5 ص70.

(2) الكامل في التاريخ، ج3 ص324، وانظر الهامش رقم (1).

(3) مقتل الخوارزمي، ج1 ص186، وابن الأعثم، الفتوح، ج5 ص19، ط دار الكتب العلمية، 1406 هجرية.

(4) مقتل الخوارزمي، ج1 ص186.

٣٤٠