الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 102722
تحميل: 10470

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102722 / تحميل: 10470
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزّه عن العوارض البشرية(1) ، وهذا عين ما قاله عمر ولكن باسلوب اقرب إلى التهذيب ولابد لنا قبل بيان واقع الحال من ذكر أحدى سياقات الرواية مع ذكر الكتب التي وردت فيها واخترنا من بين هذه السياقات أحديها بلفظ مسلم فقد أخرجها مسلم في كتابه بثلاث طرق الثالث منها أكثر تفصيلاً قال: حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبدالرزاق معمر عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال: لما حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمّ اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده فقال عمر: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوموا قال عبيد فكان ابن عباس يقول: ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

ولم يذكر في هذه بكاء ابن عباس وفي الأولى: ثم بكى حتى بل دمعه الحصى وفي الثانية: ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ولم يصرح فيهما باسم عمر بل ابهمه واسند القول إلى جماعة الحاضرين عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنه صرح بلفظ: ما شأنه أهجر؟ في الاُولى، وبلفظ: فقالوا: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر.

وفي الثالثة صرّح باسم عمر ولكنه بدل لفظ يهجر بآخر من سنخه وهو غلبه الوجع صيانة لماء وجه عمر ولا أرى فرقاً بين اللفظين إلاّ مابين اللازم والملزوم فقد اكتفى بالاول عن الثاني(2) .

أمّا البخاري فقد أخرجها في صحيحه في كتاب العلم بطريق واحد عن الزهري عن عبيدالله عن ابن عباس: وفي كتاب المغازي بطريقين الأول منهما عن

____________________

(1) بدر الدين العيني، عمدة القارئ، ج2 ص171.

(2) صحيح مسلم، بشرح النووي، ج11 ص89 وص94 وص95.

٦١

ابن عينية عن الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، والثاني عن عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيدالله عن ابن عباس وأخرجه في كتاب المرضى بطريق واحد مثله. كما أخرجه في كتاب الاعتصام بنفس السند أيضاً فيكون مجموع رواياته خمس روايات.

أما الاُولى فقد صرح فيها باسم عمر القائل ولكنه حرّف كلمة يهجر إلى غلبه الوجع ولم يذكره في الثانية وصرح بكلمة يهجر ولكن جعلها جملة استفهامية وفي الثالثة لم يصرح باسمه كذلك وسماه بعضهم ونقل نفس العبارة (غلبة الوجع) وصرّح باسم عمر في الرابعة والخامسة إلى جانب الكلمة المحرفة(1) .

وظهر من هذا أنّهم متى صرّحوا باسم عمر لم يذكروا لقط يهجر أو أهجر ومتى ابهموا اسمه ذكروا هذا اللفظ صيانة له وحرصاً على مركزيته في الإسلام ومقامه عندهم.

وتحاشى البخاري أن يذكر في رواياته الخمسة بكاء ابن عباس مع أن سنده مع مسلم واحد، وهذا يدلّ على أن البخاري تصرّف بالنص كما يحلو له.

وأخرجها سوى صاحبي الصحيح أحمد بن حنبل في مسنده(2) وسلك ذات الطريق في إبهام اسم عمر وجعل الكلمة الخبيثة استفهاماً وزاد على ذلك قول سفيان بن عينيه بعد قوله: فقالوا: ما شأنه أهجر؟ قال سفيان: يعني هذى استفهموه فذهبوا يعيدون عليه.

إذن هي محاولة لتخفيف أجواء الكلمة القاسية بنسبتها إلى الجميع (قالو) وجعلها استفهاماً وليست خبراً والقاء التبعة في ترك الكتاب على النبي لأنهم ذهبوا يعيدون عليه ليحصل عندهم تمييز حالتيه من الهجر أو الصحة فطردهم بقوله دعوني بعد أن أغراهم بالكتاب وفائدته.

وأخرجها البيهقي في سننه الكبرى ولكنه تجنّى على الحق بعلم حين ابهم اسم عمر واثبت التنازع وحذف كلمة يهجر أو غلبه الوجع من رأس ولم يشر إلى

____________________

(1) راجع ابن حجر: فتح الباري، ج1 و7 و10 و13 ص251 وص738 وص131 وص347.

(2) المسند، ج1 ص222.

٦٢

طبيعة هذا التنازع فقال: فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع(1) على أن الرجل في كتاب دلائل النبوة وافق أصحابه فأخرج الرواية مصرحاً فيها تارة بلفظ هجر بهمزة الاستفهام واُخرى باسم عمر مع تحريف اللفظ إلى غلبه الوجع ثم شرع في الاعتذار عن عمر بما هو قريب من الهجر والهذيان(2) .

وقد اتّفق القوم على لون الاعتذار عن عمر فأخذ اللاحق عن السابق بببغائيّة غريبة ولم يكلف أحدهم نفسه نقداً لهذه الأفكار البائسة فمن هؤلاء الى جانب البيهقي ولعله السابق إلى هذه الأعذار الباردة لتقدمه عليهم في الحياة الكرماني في شرحه على صحيح البخاري والعيني في عمدة القارئ وابن حجر العسقلاني في فتح الباري والنووي في شرحه على مسلم والسيوطي والسندي في حاشيتيهما على سنن النسائي الذي أخرجها في كتابي العلم والطب من سننه.

ومن الذين أخرجوا الرواية أيضاً الزيلعي في نصب الراية وابهم اسم عمر ونسب القول إلى الحاضرين قائلاً فتنازعوا وقالوا ما شأنه أهجر؟! استفهموه(3) .

وفعل عبدالرزاق الصنعاني فعل إخوانه فابهم اسم القائل وعزى القول إلى جماعة الحاضرين بنفس الجملة الاستفهامية(4) .

الاعتذار عن عمر

لطف الله بنا وبالحق أن الرواية أخرجها الشيخان ولذا تكلف القوم المشاق والأهوال التي أخرجتهم احياناً إلى الهجر والسخافات في توجيهها وتأويلها وتحويرها وتحريف كلمها عن مواضعه وابدالهم كلمة بأخرى مثل كلمة يهجر بغلبه الوجع ولن تضلوا بلا تضلوا مع حذف النون وهكذا.

ولو كانت مروية في كتاب آخر لسارع القوم إلى تكذيبها وإن كانت ثابتة صحيحة بل متواترة كائناً ما كان ذلك الكتاب كما فعلوا مع روايات كثيرة من هذا

____________________

(1) السنن الكبرى، ج9 ص107.

(2) البيهقي، دلائل النبوة، ج7 ص181.

(3) نصب الراية، ج3 ص455.

(4) مصنف عبدالرزاق، ج6 ص57 رقم الحديث 9992.

٦٣

النوع. والذي حملهم على هذا الاهتمام بالعذر عن عمر فلإنّ ذلك يؤدي إلى كفره باعتباره.

أوّلاً: ردّاً على النبي والراد عليه راد على الله.

ثانياً: نسبة الهجر ومعناه الهذيان إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكذيباً لقول الله: (لا ينطق عن الهوى) وردّاً لتعزيره وتوقيره الذين أمر الله بهما.

ثالثاً: يعتبر موقف عمر هذا ردّاً للسنة الثابتة القطعية وراد السنة كافر بحكم جميع الفرق الإسلامية.

نقل صاحب كتاب (حجية السنة) عن ابن عبدالبر: أنّه قد حكم على من ردّ السنة المتواترة بالارتداد(1) وهل أكثر تواتراً مما يراه المسلم من نبيه بعينيه ويسمعه بأذنيه.

وقال ابن حزم: وقال الله تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما قررناه آنفاً.

فلم يسع مسلماً يقر بالتوحيد أن يرجع - عند التنازع - إلى غير القرآن والخبر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أن يأبى عمّا وجد فيهما.

فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلاً للخروج عن أمرهما وموجباً لطاعة أحد دونهما فهو كافر ولا شك عندنا في ذلك.

وقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن اسحاق بن راهوية كان يقول: من بلغه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر يقر بصحته، ثمّ ردّه بغير تقيّة فهو كافر ولم تحتج في هذا باسحق، وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا - في تكفيرنا - من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول الله تعالى مخاطباً لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم).

هذه الآية كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيّته عزوجل الواردة عليه.

____________________

(1) العلاّمة الدكتور عبدالغني عبدالخالق، حجية السنة، نقلاً عن كتاب جامع بيان العلم، ج2 ص32.

٦٤

فليفتن الإنسان نفسه، فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل خير يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجد نفسه مائلة عن قول فلان وفلان أو إلى قياسه واستحسانه أو وجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحداً دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صاحب فمن دونه فليعلم أنّ الله قد اقسم وقوله الحق أنّه ليس مؤمناً وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمناً فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث، إلى أن يقول: ولو أنّ امرأً قال: لا نأخذ إلاّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الاُمة ولكان لا يلزمه إلاّ ركعة مابين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولاحد للأكثر في ذلك.

وقائل هذا كافر مشرك، حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة مما قد اجتمعت الاُمة على كفرهم، وبالله التوفيق(1) وما قاله ينطبق تماماً على ما نحن فيه فإن عمر ردّ السنة وقال حسبنا كتاب ربنا وقد تواتر الخبر عنه بذلك ولم يُكفَّر بل مدح على هذا القول وهذا الرد ونسب إلى الفقه والورع والعلم والاشفاق على النبي والحرص على الاجتهاد وتفضيل العلماء على غيرهم كما ستطّلع عليه إن شاء الله. وكُفّر غيره بل عصب الكفر في جبين الرافضة ولست اعرف عن هذه الغالية شيئاً.

والذي أعرفه أنّ عمر صاحب هذا القول وموقفه من السنة طيلة خلافته معلوم فقد حضر على الصحابة أن يرووا حديثاً عن رسول الله.

قال قرطة بن كعب خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: اتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا أردت أن تشيّعنا وتكرمنا؟ قال: إن مع ذلك لحاجة خرجت لها إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم.

وفي رواية اُخرى: إنكم لتأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث، لتشغلوهم جوّدوا القرآن واقلوا الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) العلاّمة الدكتور عبدالغني عبدالخالق حجيّة السنة، ص252 وص253 وص254 نقلاً عن كتاب ابن حزم الأحكام في اصول الأحكام، ج1 ص99.

٦٥

وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا قال: نهانا عمر(1) .

إنّ هذا فعل من يريد اماتة القرآن حيث أنّ السنة ما هي إلاّ بيان وشرح وتفسير للقرآن فإذا أُميتت فمن الذي يتكفل بتفسيره وبيان معناه وإذا بقي القرآن بلا بيان وتفسير فما الفائدة منه حينئذ.

بل ذهب عمر بعدائه للسنة ابعد من هذا الشوط حين امر بتحريقها.

عبدالله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليّ أحاديث فقال: إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني الناس القاسم بن محمد يومئذ أن اكتب حديثاً(2) .

وبناء على ما تقدم فإن الغاية القصوى لهذا الرجل هي محو السنة. وقد دلّ ما تأخّر من عمله على ماتقدم.

وشيء آخر من هذا الرجل يعرب بما لا يدع مجالاً للشك عن عدانه الصريح للسنة النبوية هو تشبيهها بالمشنأة.

والمشنأة هي نص التلمود اليهودي ذلك أن التلمود وهو مجموع الشرايع اليهودية التي نقلت شفوياً مقرونة بتفاسير رجال الدين ينقسم إلى قسمين: المشنة وهي النص والجمارة وهي التفسير من هنا(3) لجأ عاشقوه إلى توجيه فعله وتخفيف شدته ودرء خطر الكفر عنه بخاصة ردّه الكتاب يوم الخميس.

قال النووي: خشي عمر أن يكتب أموراً فيعجزوا عنها فيستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للإجتهاد فيها.

أقول: لو رزق الله النووي السلامة من هذا العذر لكان خيراً له لأنّه بناءاً عليه يكون عمر أرأف بالاُمة وأحنى عليها وانظر لها من نبيها فقد أراد لها نبيها العقوبة بكتابة ما تعجز عنه ولكنّ عمر تفضل فرفع عن الامة هذا التكليف وهذا ليس عذراً بل هو الكفر بعينه.

____________________

(1) اضواء على السنة المحمدية، ص55.

(2) نفسه، ص47.

(3) العلاّمة الكبير الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي حفظه الله، اصول الحديث، ص41.

٦٦

ولو ألقى النووي بالاً للرواية لوجد في قول النبي: لن تضلوا بعده قرينة صارفة عما توهم جنابه، فكيف يعِدُهم بعدم الضلال بعد كتابته ثم يكون سبباً في عجزهم وعقوبتهم وهل هذا إلاّ عين الضلال والأضلال وهل قول النووي إلاّ تكذيب لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقد أدّى بهم الاعتذار عن صاحبهم بالباطل إلى كفرهم وياللأسف.

وقال البيهقي: قصد عمر التخفيف على النبي عليه الصلاة والسلام حين غلبه الوجع ولوكان ما يريد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عزوجل بلغ ما أنزل إليك من ربك كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه(1) .

أقول له: هذا عذر مضحك فأين التخفيف عنه من رميه بالهجر والهذيان والحيلولة بينه وبين نفاذ أمره واحداث صدع في صفوف المجتمعين. ظهرت آثاره على حياتهم إلى اليوم.

وآثارة الفتنة والخصومة يبنهم بحيث ارتفعت أصواتهم عند من أمروا بان لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته وسماه بعضهم لغطاً.

فآلم النبي ذلك وهو في السياق حتى طردهم من حضرته غاضباً عليهم آيساً من صلاحهم.

وأما قوله الثاني فنجيبه عليه: بأن هذا ليس أمراً جديداً ولا حكماً حادثاً ليبلغه على كل حال بل هو تأكيد لحكم وتحقيق لأمر متقدم سبق وأن أعلنه وبيّنه على رؤوس الأشهاد في أكثر من مناسبة وآخرها يوم غدير خم حين قال لهم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

ومع هذا فإنّ النبي لم يسكت عن تبليغه آنئذ حين أوصاهم بثلاث ذكروا اثنين وزعموا نسيان الثالثة ولو عقل البيهقي الدين عقل رعاية لا عقل رواية لعرف هذه الثالثة أنها ولاية علي وعرف لماذا طرحت ونسيت من حياة المسلمين.

وفي البخاري: وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب

____________________

(1) البيهقي، دلائل النبوة، ج7 ص181.

٦٧

واجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها(1) وفي أكثر الروايات ذكر هذه الثلاث.

اعتذار الخطابي

أما اعتذاره الثاني عن عمر فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى ولقد أصابه الهوى العمري وهو كالهوى العذري بحيث أخّر عقله وقدّم هواه، فراح يعتذر باعذار مهلهلة لا تستر عورة ولا تصون جسماً والقصد من ذلك توجيه عمل الشيخ وتبرئة ساحته من الكفر والضلال.

تسائل العيني في العمدة قائلاً: فإن قيل: كيف جاز لعمر أن يعترض على ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام قيل له: قال الخطابي(2) : لا يجوز أن يحمل قوله أنه توهم الغلط عليه أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحاله لكنه رأى ما غلب عليه من الوجع وقرب الوفاة خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين ....

ونقول له: برّئها من العيوب وعقر ولو لا جلال العلم واحترامنا لمن تزيّا بزيّه لقلنا في حقه من الكلام ما هو أهل له واسمع واعلم وافهم يا خطابي وانت يا من لف لفه لا توجد كلمة في العربية أوقع في الهجو وأجمع للذم من كلمة (يهجر) فإن معناها يهذي فكيف يعتقد في عمر أنّه لم يتوهّم الغلط وليته توهمه وأحسن القول لأن الإنسان قد يغلط من غير قصد ثم يتلافاه ولا غضاضة عليه به أما الهذيان ففيه ذهاب العقل وغياب حسّ الإدراك. وكيف يحسن الخطابي الظن في عمر بأنّه لم يظن في النبي ما لا يليق وهل عند الشيخ أن الهجر والهذيان مما يليق بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يليق في عمر.

واسئل لو انني قلت اليوم في مسجد من مساجد الرياض أو جده أو مكة، أن عمر يهجر فما كنت ألاقي من شيعته؟!

____________________

(1) محمد بن اسماعيل، كتاب الصحيح، ج6 ص11.

(2) عمدة القاري، ج2 ص171.

٦٨

وأمّا قوله عن عمر: لما رأى ما غلب عليه من الوجع الخ فهذا تكرار لما قاله عمر ولكن بصيغة ادنى الى التهذيب. فالخطابي كسيده الصحابي يعتقد بالنبي الهجر فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وأما قوله عن المنافقين فمتى كانت لهم كلمة مرهوبة بين المسلمين ألم يكن نفاقهم دليلاً على ضعفهم وخذلانهم.

ولئن صحت كلمة الخطابي هذه فإن قول المنافقين بعد رد عمر للكتاب وقوله عن النبي أنّه يهجر أكثر من أي مناسبة اخرى.

بل أعطاهم عمر الذريعة بعد رميه النبي الكريم بالهجر أن يتطاولوا على قدس النبي بمثله وبأكثر منه وهل بإمكان المنافق أن يقول باعظم مما قاله عمر أو فعله وهل وجد المنافق الجرأة في يوم من الأيام ليقول عن النبي أنّه يهذي ولقد تعدّى عمر بقوله هذا نفاق كل منافق.

وقال الخطابي: وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يراجعون النبي عليه الصلاة والسلام في بعضى الاُمور قبل أن يحزم فيها كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي الصلح بينه وبين قريش فإذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه أحد ....(1) .

أقول: أما المراجعة التي هي الاستفهام والاستيضاح كما فعل الحباب بن المنذر بن الجموح حين خرج رسول الله يريد بدراً فنزل أدنى ماء من بدر فقال له الحباب: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثمّ نغوّر ما ورائه من القلب ثمّ نبني عليه حوضاً فنملأه ماءاً ثمّ تقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد اشرت بالرأي(2) هذه هي المراجعة المقبولة المرضي عنها وعن صاحبها أما مراجعة الرد والعصيان والبذائة التي أغضبت النبي فطردهم من أجلها فهي مرفوضة من الاُمة قاطبة وهي مذمومة

____________________

(1) العيني، عمدة القارئ، ج2 ص171.

(2) الروض الأنف، ج3 ص26.

٦٩

ومذموم صاحبهاوإن تأوّل له المتأوّلون ونحتوا له الأعذار كائناً من كان، ونسئل الخطابي عن هذه المراجعة التي قاس عليها مَن مِن صحابة النبي فعلها غير عمر وعصابته؟؟!

أليس هو صاحب صلح الحديبية، حين أنكره على النبي؟

أليس هو الشاك وقد أخبر عن نفسه وما نزل به مما سمّاه أمراً عظيماً؟ ولقد قال صاحبه له حين بدى الشك في نبوة رسول الله منه: الزم غرزه أنه لرسول الله حقاً.

أليس هو المنكر للفتح الوارد في الآية؟ فما كان يسميه فتحاً ردّاً على الله ورسوله؟

أليس هو المكذب للنبي في وعده لهم بدخول مكة حتى قال له النبي: أكنت قلت لك إنّنا ندخلها هذا العام؟

وهذه المراجعة العمرية من قبيل ردّ الكتاب ورمي النبي بالهجر تحكي عن نفس لم يستقر فيها الإيمان وإلاّ لوسعه الصبر والسكوت كما وسع سائر المسلمين في تلك الفترة. ومثله صاحبه سعد بن أبي وقاص في غنائم بدر وطلحة ابن عبيدالله في قضيّة الحجاب فهل كانت هذه مراجعات صحيحة حتى يفيس عليها الخطابي واضرابه؟!!

والعجب قوله: فإذا أمر بالشيء أمر عزيمه فلا يراجعه أحد: فاسئله أما كان صلح الحديبية أمر عزيمه لما اعترض عليه الفاروق واعلن شكه؟! ثمّ إن عدم تنزيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العوارض البشرية من أجل عمر حاك عن ضحالة الدين وتفضيل عمر على سيد المرسلين واتحاذ سنة عمر مثالاً تقاس عليها النبوة والشريعة والدين.

ومضافاً إلى كون الخطابي الذي اجتمع القوم على نقل اعتذاره كالعيني وابن حجر والكرماني في شروحهم على البخاري والنووي في شرحه لمسلم أقول: مضافاً إلى كونه يرسل القول على عواهنه فقد أساء إلى قدسية المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أقر عمر على ما تجرأ به على هذه القدسية المصونة وأكدّ قوله للنبي «يهجر» فقال: ومعلوم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزّه عن العوارض

٧٠

البشرية.. الخ(1) .

وهذا عين ما قاله عمرو لكن بصيغة أخرى ويقول الخطابي: يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه الوحي واجمعوا كلهم أنّه لا يقر عليه.

أقول من أين علم هذا العاشق المتبول أن الوحي لم ينزل على النبي ساعة طلب الكتاب.

وإذا جاز عليه الخطأ فأين العصمة إذن وما الفرق بين النبي وبين من عداه بل يحمل هذا القول ضمناً تفضيل عمر عليه لأنهم اعتبروا النبي مخطئاً حين طلب الكتاب كما دلّ على ذلك فحوى اعتذارهم كما اعتبروا عمر مصيباً وهذا من مصائب الدهر وهو حاك عن رقة الدين عند هؤلاء القوم وإن ما عندهم مما يسمّى ايماناً بالله ورسوله لا يصب في مجرى الإسلام بل هو تعصب للباطل ودفاع عن الضلال وتيهٌ في مهاوي الزيغ. وهاهم يستدلون على صواب إمامهم بقضية مزعومة تصوروها بعقولهم ثم استنطبوا منها قضية أخرى وذلك أنّهم زعموا أن عمر لو لم يكن مصيباً لماترك النبي الإنكار عليه ونقول لهم ببساطة وهل يكون انكار أكبر من الغضب والطرد إنّ طردهم من حضرته دليل على غضبه عليهم وإنكاره.

ونقول للمازري - وهذا طامة اخرى - كما قلنا لصاحبه الخطابي: اخفقت يا شيخ في ترجيك بلعلّ فلو كانت هناك قرينة لما جرى من امامك من سوء الأدب ما جرى ولما انقسم الصحابة بين مؤيد ومفنّد ولو كانت قرينة لا تحد موقفهم أزاءها.

وقال القرطبي: (أئتوني) أمر وكان حق المأمور أن يبادر للأمتثال لكن ظهر لعمر وطائفة أنّه ليس على الوجوب وأنّه من باب الارشاد إلى الاصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى( مَا فَرّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) وقوله تعالى:( تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) ولهذا قال عمر عنه: حسبنا كتاب ربنا وظهر لطائفة أخرى أنّ الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره ....(2) .

أقول للقرطبي: لا يبقى محل لهذا الكلام بعد قول عمر: (يهجر) أو قول

____________________

(1) العيني، عمدة القارئ، ج2 ص171 وانظر فتح الباري وشرح الكرماني والنووي على مسلم.

(2) العيني، ج2 ص171 وص172.

٧١

مرادفها (غلبه الوجع) فكلاهما من سنخ واحد.

والدليل على أنّه للوجوب ولم يكن ذلك ملحوظاً لعمر وعصابته قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن تضلوا بعده ولقد جمع النبي بهذه الكلمة جوهر رسالته وهل ارسله الله إلاّ لنفي الضلال ولهداية الناس وإرشادهم.

ولو نظر عمر في مصلحة الاُمة دون مصلحته الشخصية لعرف الدلالة في قوله لن تضلوا ولكن غلبت عليه شهوة الحكم الذي يعد نفسه للوثوب عليه ولسارع بالإجابة ولم يحل بين النبي وبين الكتابة وتولّى كبر الرد على النبي وناء بثقل العصيان وتحمل كل ضلالة وفتنة ترتبت على ترك الكتابة فهي في عنقه وعنق من أعانه إلى يوم القيامة كما شاركه من اعتذر عنه.

وقفة قصيرة مع الحافظ بن حجر!!

حشد احبار المسلمين كل طاقاتهم العلمية للدفاع عن عمر فما وفقوا والحمد لله وجاء اعتذارهم اقبح من فعل عمر واستبان لنا مما سلف أن اعتذارهم أدّى إلى تخطئة النبي وإثبات العوارض البشرية أي يهجر عليه وتفضيل عمر عليه بالنقاط التالية:

أولاً: اخطأ في طلب الكتاب - وحاشاه من قول الجاهلين - وأصاب عمر.

ثانياً: أراد النبي أن يكلفهم ما يعجزون عن حمله فبادر عمر إلى رده فكان له الفضل على المسلمين حين حماهم من هذا التكليف الباهض.

ثالثاً: صار النبي في طلب الكتاب سبباً لتقول المنافقين على الإسلام ولكن عمر حماه منهم في رد الكتاب.

رابعاً: فضلوا عمر بالفقه على ابن عباس حين اكتفى بالقرآن ولم يكتف به ابن عباس ولازم هذا أن يكون عمر أفقه من رسول الله أيضاً لأنه لم يكتف بالقرآن وطلب منهم الكتاب.

ولا تكون نتيجة الاعتذار بالباطل أحط من هذه النتيجة وجاء دور ابن حجر العسقلاني فصب اهتمامه على قول عمر «يهجر» ولم يكن البادئ بذلك بل سبقه الرواة إليها حين اعيتهم الحيلة ولم يجدوا مخرجاً من هذا المازق وسدّت في

٧٢

وجوههم المسالك إلاّ مسلكين:

الأول: خسارة الفاروق وهي خسارة جسيمة بخاصة إذا عرفنا أنّه ثالث الدعائم الحاملة لمذاهبهم تاريخاً ومعتقداً وفقهاً.

الثاني: اللعب بالنص روحاً ولفظاً وتحريف الكلم عن مواضعها وتبديل لفظة ثقيلة بأخرى أخف منها وإن كان المؤدى واحداً. وحمل جريرة الواحد على الجميع وهكذا.

وفعلاً فقد اختاروا الثاني كما اتّضح لك مما سلف وأهم ما في الرواية امور ثلاثة النبي وفاروقهم ولفظ يهجر أمّا النبي فقد جوزوا عليه ما لا يجوز بل ما نقاه القرآن عنه من أجل الاحتفاظ بالثاني فاروقاً ومحدّثاً وسراجاً للجنة ويثيب الله على حبه كما يثيب على التوحيد أو أكثر.

وأمّا عمر فنحتوا له الأعذار وقلبوا القضيّة لصالحه فاصبح العجيبة التاسعة في الدنيا وصارت القضية التي يكفّر بها غيره لو قالها أو فعلها تستنبط له منها المقامات السامية فهو الفقيه وهو المشفق على الإسلام وعلى النبي وهو حامي حمى الفضيلة والإجتهاد وهو عون العلماء ونصيرهم لأن النبي لو كتب الكتاب لبطل الاجتهاد وتضاءل دور العلماء أرأيت من هاهنا دهينا(1) .

وأمّا لفظ (يهجر) فصيّروه هكذا: ما شأنه؟ أهجر؟ ونسبوا قول ذلك إلى جماعة الأصحاب الموجودين ساعتئذ بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأنت تعلم أنّه من المستحيل طبعاً أن يقولها الجميع دفعة واحدة دونما سابق تقدم ولاحق اقتفى آثره وهذا واضح لمن تدبره لا مرية فيه فالسابق إليها عمر واديرت دفة الكلمة صوب غيره لتخف الوطأة عليه وهذا الإهتمام بالرواية إلى هذا الحد كان من أجله كما هو واضح. ثمّ شرعوا في ترقيص كلمة يهجر لتكون بمثابة الزئبق لا تستقر على حالة.

قال الحافظ: بهمزة بجميع رواة البخاري، وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ (فقالوا هجر) بغير همزة ووقع للكشميهني هناك فقالوا: هجر هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) البيهقي، دلائل النبوة، ج7 ص184.

٧٣

أعادوا هجر مرّتين.

قال عيّاض معنى أهجر افحش يقال: هجر الرجل إذا هذى واهجر إذا أفحش الغرض من تغيير الفعل إلى الرباعي المهموز هو تغيير معناه إلى أفحش ونسبته إلى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخف وطأة على عمر من نسبة الهجر.

ثم قال الحافظ بعد قبوله لتلخيص القرطبي وتقديمه على غيره وتسميته حسناً:

وحاصله أن قول هجر الراجح فيه إثبات همزة الاستفهام وبفتحات على أنّه فعل ماضي.

وبهذا التزويق للكلمة تبرد اللوعة على الحبيب إذا كان بنحو الاستفهام لا بنحو الخبر مع كونه منسوباً إلى الحاضرين جميعاً ومع حصول الشك بأن عمر ليس في القائلين ثمّ شرع الحافظ في تفسير الهجر بعد ضبطه بالضم ثم السكون قال والمراد به هنا: ما يقع من كلام المريض الذي لا يتنظم ولا يعتدّ به لعدم فائدته ووقوع ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحيل لأنّه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني لا أقول في الغضب والرضا إلاّ حقاً وإذا عرف ذلك فانما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة فكأنه قال: كيف تتوقف أتظن أنّه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره واُحضره ما طلب فإنّه لا يقول إلاّ الحق قال: هذا أحسن الاجوبة(1) .

وقال الحافظ أيضاً ملخصاً قول القرطبي: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه عليه لنقل.

ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته وقال غيره ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنّه اشتدّ وجعه فاطلق اللازم وأراد الملزوم لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدّة وجعه(2) .

____________________

(1) ابن حجر، فتح الباري، ج7 ص739 وص740.

(2) فتح الباري، ج7 ص740.

٧٤

ونقول له: أولاً تمطيط العبارة إلى هذا الحد وتحميلها هذه الجمل الطويلة يرده قول عمر: غلبة الوجع وهي العبارة الملطفة بل المحرقة عن «يهجر» وقد جعل القرطبي أو غيره ذلك أحد الاحتمالات ولكنه عكس فقد استنبط أن القائل نطق باللازم وهو الهذيان وأراد الملزوم وهو غلبة الوجع.

والعبارة المنسوبة إلى عمر هي الملزوم وأرادة اللازم. وعلى أية حال فالمؤدّى واحد والمحذور حاصل وما فر منه الحافظ وأصحابه وقعوا فيه. ولا يجدي التطويل فتيلاً.

وثانياً: كيف لم ينكره الصحابة وقد اختلفوا إلى درجة الخصومة راجع رواية 7366 من فتح الباري وفيها: واختلف أهل البيت واختصموا(1) .

وفيم هذه الخصومة ليت شعري إن لم تكن في الإنكار على القائل. وأما قوله: لو أنكروا لنقل إلينا.

أقول الدواعي آنئذ متوفرة لكتمان كل شيء بخاصة والقائل هو الفاروق وقد أوتي وجماعته العصاة الحكم بعد رسول الله فكيف يبقون على أثر للحادثة وهل يظن عاقل أنهم يتركون ذيولهاعالقة بهم وهي حجة عليهم وواحدة من أسباب ادانتهم.

وأنت تعلم أن عمر حارب السنة واحرقها ونهى عنها وبعد هذا لا يبقى شك بأنّهم قضوا على كل أثر للحادثة. وهناك احتمالات باردة ركيكة اطلقها الحافظ ليس من داع لتحريرها هنا.

والواقع أن عمر هو قائل الكلمة الخبيثة وحده وساندته عصابته وقالوا: القول ما قاله عمر.

وكان هدفه من منع الكتاب أن لا ينص على عليعليه‌السلام ولو كتبه لردّه وحجّته أنه كتبه وهو يهجر فلا يعقل. وهذا الذي جعل النبي يعرض عن الكتابة لأنّ اختلافهم بعد طلبه أهون من اختلافهم بعد كتابته بل هو اختلاف لا يكاد يذكر بالقياس إلى ما يحدث من الشقاق العظيم والانقسام الشديد. وحينئذ تكفر الاُمة برمتها حال كتابة الكتاب وردّه.

____________________

(1) فتح الباري، ج13 ص347.

٧٥

ماذا أراد النبي أن يكتب!

لا يخالج ذا مسكة ريب أنّ موقف عمر الصلب وتحمسه الشديد لدفع الكتاب ليس عفو الخاطر أو هو وليد الارتجال أو الاندفاع الذي أملاه الدهش في تلك الساعة العصيبة والآونة الرهيبة من توديع نعمه واستقبال مصيبة، بل دلّت قرائن الحال أن الرجل ومعه أصحابه ومراكز القوى القرشية كانوا يعلمون بما ينوي النبي كتابته من النص المكتوب على صاحب الأمر بعده وحينئذ تردم في وجوههم المسالك وتخفق الخطة التي اجمعوا على تنفيذها بعد وفاة النبي، بخاصة وإن الكاتب للكتاب هو أميرالمؤمنينعليه‌السلام (1) . من هنا قامت قيامتهم وضحّوا بالدين من أجل دنياً يصطادونها وفعلاً عُجّلت لهم هذه اللذة وأجّل عنهم ما سوف يحاسبهم الله عليه.

وقد أشار المأرخون إلى طرف من ذلك، قال الخطابي في الكتاب الذي هم النبي بكتابته يحتمل وجهين:

أحدهما أنّه أراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الحمل وصفين وقيل أراد أن يبيّن كتاباً فيه مهمات الأحكام، ليحصل الاتفاق على المنصوص عليه ثم ظهر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن المصلحة تركه أو أوحي إليه به(2) . ورجح هذا القول ابن حجر(3) .

وأنت إن جانبتك العصبيّة وأَصخت السمع لصوت العقل لتعلمن علم اليقين إن الصحيح هو الإحتمال الأول ولذا ثارت ثائرة الثاني وعصابته وإلاّ فما يضيره من كتابة الأحكام ولو ملأ بذلك رسول الله ألف طرس وطرس وهناك قول مضحك ذكره سفيان بن عينية وهو يدلّ على تخبط القوم في تيه بني السقيفة وهو كتيه بني اسرائيل.

وقال سفيان بن عينية: أراد أن ينص على اسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع

____________________

(1) عمدة القارئ، ج2 ص171.

(2) عمدة القاري، ج2 ص171.

(3) فتح الباري، ج1 ص252.

٧٦

منهم اختلاف ويؤيده أنّهعليه‌السلام قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة أدعي لي أباك وأخاك حتى اكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنّى متمنّ ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبابكر(1) .

وحرّف النووي قول سفيان فلم يذكر النص على الخلفاء بعده بل اقتصر على استخلاف أبي بكر فقال: وقد حكى سفيان بن عينية عن أهل العلم قبله أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثمّ ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ....(2) ونقول لهؤلاء المساكين: لو صحّ هذا أكان عمر يصاب بتلك اللوثة؟ أليس ذلك مراداً له ولجماعته وهل يريد عمر أكثر من النص على صاحبه وعليه من بعده؟ ولو علم ذلك لطار إليه مسرعاً ولم يتلكأ كيف وهو يستدلّ على تقديم أبي بكر بما يقال من تقديمه للصلاة ويبني من هذه الحبة قبة.

أكان يتراجع عن الكتاب لو علم بما فيه من تحقيق حلمه الذهبي بتولية صاحبه وبالنص عليه؟! أجل استندوا إلى هذا القول الخائب بما روته عائشة من أنّ النبي قال لها: ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنّى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبابكر أخرجه مسلم وللبخاري معناه(3) .

وهذه الرواية موضوعه في مقابل رواية الكتاب ولولا أنها مروية في كتابي الشيخين لما ألقى أحد إليها بالاً لأنّها نحمل عناصر زيفها ويدلّ سياقها على وضعها.

ولو أنّ النبي أعدّ الصديق والد الصديقة لعروس الخلافة لما أخرجه مع أسامة بن زيد!!

ولو علم أبوبكر أو صاحبه بالكتاب لاحتج على أهل السقيفة به ولو صح الكتاب لما جاز له أن يقدم للبيعة عمر أو أبا عبيدة لأن ذلك يعتبر ردّاً لوصية النبي له ونصّه عليه.

ولو صحّ الكتاب لبطلت نظرية الاختيار والشورى ولكان شيعة علي وشيعة

____________________

(1) عمدة القارئ، ج1 ص171، فتح الباري، ج1 ص252، والقول الأول حذفه ابن حجر لأن فيه تأييداً لما تذهب إليه الشيعة.

(2) النووي على مسلم، ج11 ص90.

(3) راجع! العيني عمدة القارئ، ج2 ص171.

٧٧

عتيق متساويين في ادعاء النص وترى القوم وفيهم الصديقة أشد الناس انكاراً للنص.

ولو صحّ الكتاب لما أنكر عبدالله بن أبي أوفى الوصية فقال لمن سأله: هل أوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لا فقلت فلم كتب على المسلمين الوصية أو فلم أمروا بالوصية قال: أوصى بكتاب الله عزوجل(1) .

ولما أنكرت عائشة الوصية فقالت: ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً ولا أوص بشيء(2) .

 خاتمة المطاف

علمت مما تقدم حقيقة هذا الكتاب المبتلى ولماذا ردّه عمر وجماعته وعارضوه.

وكان هذا الكتاب مسرحاً لاستنباطات كثيرة، منها ما قاله النووي عن اتفاق العلماء المتكلمين على أنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره!!!(3)

ومنها ما قاله ابن بطال: وفيه شاهدٌ على بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإمامة لأنه لو كان عند عليرضي‌الله‌عنه عنه عهد من الرسول صلعم أو وصيه لأحال عليها ...(4)

ونقول لهذا المسكين الواله المتحيّر: إنّ الشيعة لا تدّعي بأن الوصية عبارة عن صك كتبه النبي واعطاه بيد الإمامعليه‌السلام وإنما هي أحاديث متواترة صرّح بها النبي بوصايته ووراثته وخلافته من بعده بلغت المئات كحديث يوم الدار وحديث الغدير والثقلين وما إلى ذلك.

____________________

(1) رواه البخاري في الوصايا والمغازي وفضائل القرآن ورواه مسلم في الوصايا والترمذي في الوصايا، والنسائي في الوصايا وابن ماجة في الوصايا. راجع تحفة الاشراف، ج4 ص284.

(2) أخرجه مسلم في الوصايا وأبو داود في سننه كتاب الوصايا والنسائي في الوصايا الكبرى وابن ماجة في الوصايا راجع تحفة الاشراف، ج12 ص308.

(3) النووي على مسلم، ج11 ص90.

(4) الكرماني على صحيح البخاري، ج2 ص128.

٧٨

والآن أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرن القول بالعمل لأن الحديث المسموع عرضة للزيادة والنقصان وهو معرض أيضاً للنسيان.

من ثم طلب الكتاب لينص عليه تحريراً كما نص عليه شفهياً وعلم عمر بذلك فمنعه واحدث فتنة أعانه عليها عصابة الانقلاب على الاعقاب ولو كتبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكانت المصيبة أكبر والرزية أعظم لأن القوم مجمعون على الخلاف ولو كتب ألف كتاب وكتاب وهم قد عارضوه في تأمير أسامة على سرية حتى لعنهم فكيف يرضون بتأمير علي على الاُمة واستخلافه.

وحينئذ ما الذي يحول بين عمر وبين أن يقول إنّ الكتاب كتب والنبي مشف على الموت وهو في حالة فلا تقبله. وحينئذ تكفر الامة قاطبة برده والنبي إن ترك تبليغ ما أمره الله به تحريراً فما تركه قولاً حيث أوصاهم بثلاث وهذا تمام الحديث:

أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.

وهذه الثالثة هي التي أراد النبي أن يكتبها وهي وصية الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام وخلافته ولهذا نسيت فلم تذكر. وأخيراً نقول: إن جميع الفتن والمصائب والحروب والاقتتال وما جرى في خلافة عثمان وبعده من حروب الجمل وصفين والنهروان وحرب كربلاء وما كان بين بني امية وبني العباس وفتن الخلافة ومخالفات الأحكام والدماء التي سفكت والأموال التي نهبت والأعراض التي هتكت في حرب الحرة وغيرها. وكل ضلال اصيبت به الأمة الاسلامية امس واليوم في عنق اولئك الذين منعوا كتابة الكتاب وقد أخبرهم نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لن تضلوا بعده. فقل لعشاق أبي حفص: قولوا ما تشائون واعتذروا عنه بما ترون وأوّلوا وغيّروا وبدّلوا فإن الحق أقوى من كل قوة والباطل زاهق والحمد لله.

وإنما أطلنا في التعليق على هذا الكتاب فلأنه فاتحة الانقلاب على الاعقاب. ومن دقق نظره فيه عرف ما بيّته القوم لأهل البيتعليهم‌السلام بعد وفات النبي الأعظم. وكانت المواقف من الصحابة بداية تلك المصائب التي حلت بأهل البيت.

٧٩

وقامت عليهم بعد ما غاب أحمد

مصائب غيٍّ اظهرت كامن الحقد(1)

وقد نقضت عهد النبي بآله

الهداة وقل الثابتون على العهد

قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام في خطبته المسماة: بالشقشقيّة:

إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنية بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبنة الربيع إلى أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله وكتب به بطنته(2) .

يعد الاجراء الذي اتخذه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته من تسريح جيش اسامة وطلب الكتاب فرصة نادرة لم يمكن اهتبالها حتى سقط الحكم بأيد أقل ما يقال فيها إنها ليست معدة من الله لممارسته بل تم لها الانتزاء على دسته بمعونة ظروف خاصة ذكرها أكثر المؤرخين ليس هنا موضع ذكرها ونرشد بالرجوع إلى كتاب (السقيفة) للعلامة المظفر فقد أشبع الموضوع بحثاً دونما تطويل ممل رحمه الله رحمة واسعة. وبدأت من يومئذ معالم المجتمع الاسلامي بالتغيبر وتبدل وجهه الناصع بأشراقة الإسلام وتربية النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وجه مظلمة سحناته عابسة قسماته كسته حروب ما يسمّى بالرده بلون داكن من البؤس والظلم والارهاق.

وتعتبر هذه الحرب اولى مراحل التغيير بل هي فاتحة العهد الجديد للسياسة التي صودر بها المسلم في دينه ودنياه.

فصار يهدر دمه بعقال البعير وتوضع أسراه بالمئات وفيهم النساء والاطفال والعجزة في الاخاديد وتضرم عليهم النار ويخرق بالنبال ويرمى به من رؤوس الجبال الشاهقات ويوضع رأسه أثفية للقدور ويدخل بنسائه ليلاً قبل أن تجف دماء أزواجهن أو تستبرء أرحامهن وعوملن بما لم يعامل به نساء أهل الشرك من القسوة والوحشيّة.

وراحت هذه البداية المزعجة تتأشب أغصانها على يد أبي حفص وتؤتي

____________________

(1) شعر الشيخ حسن الدجيليرحمه‌الله ، انظر: ادب الطف، ج9 ص320.

(2) مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج1 ص90، ثالث القوم عثمان، نافجاً أي رافعاً نثيله يعني روثه والمعتلف من العلف يخضمون يأكلون وفتل الحبل لواه والبطنة التخمة.

٨٠