الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة0%

الحسين في طريقه إلى الشهادة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 222

الحسين في طريقه إلى الشهادة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الخطيب علي بن حسين الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 222
المشاهدات: 49171
تحميل: 5924


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 222 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49171 / تحميل: 5924
الحجم الحجم الحجم
الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والرهيمة(1) ، وعين جمل(2) ، وذواتها للموكّلين بمسالح الخندق(3) وغيرهم؛ وذلك إنّ سابور أقطعهم أرضاً فاعتملوها من غير أن يلزمهم لها خراجاً، فلمّا كان يوم ذي قار ونصر الله العرب بنبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله غلبت العرب على طائفة من تلك العيون، وبقي في أيدي الأعاجم بعضها.

ثمّ لمّا قدم المسلمون (الحيرة) هرب الأعاجم بعد أن طمت عامّة ما في أيديهم منها، وبقي الذي في أيدي العرب فأسلموا عليه، وصار ما عمروه من الأرضين عشريّاً. ولمّا مضى أمر القادسية والمدائن دفع ما جلا عنه أهلها من أراضي تلك العيون إلى المسلمين، فأقطعوه فصارت عشريّاً أيضاً.

وكذلك مجرى عيون الطفّ وأراضيها مجرى أعراض المدينة وقرى نجد، وكلّ صدقتها إلى أعمال المدينة، فلمّا ولّى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب السواد للمتوكّل على الله ضمّها إلى ما في يده، فتولّى عمالة عشرها وصيّرها سوادية، وهي على ذلك إلى اليوم، وقد استخرج عيوناً إسلاميّة مجرى ما سقت عيونها من الأرضين هذا المجرى.

قال الأقيشر الأسدي من قصيدة له:

إِنّي يُذَكِّرُني هِنداً وَجارَتَها

بِالطَفِّ صَوتُ حَماماتٍ عَلى نيقِ

بَناتُ ماءٍ مَعاً بيضٌ جآجِئُها

حُمرٌ مَناقيرُها صُفرُ الحَماليقِ

أبدى السقاةُ بهنَّ الدهرَ معلمة

كأنّما لونها رجعُ المخانيقِ

أَفنى تِلادي وَما جَمَّعتُ مِن نَشَبٍ

قَرعُ القَواقيزِ أَفواهَ الأَباريقِ

وذكر ابن بليهد(4) الطفّ قد ذكره ياقوت وحدّده، وأجاد في

____________________

(1) القطقطانة والرهيمة ذكرنا كلاّ منهما في محلّها من هذا الكتاب.

(2) عين جمل: قال البلاذري: وحدّثني بعض المشايخ أنّ جملاً مات عند عين الجمل فنُسبت إليه. وقال بعض أهل واسط: إنّ المستخرج لها كان يسمّى جملاً.

(3) الخندق: هو خندق سابور، المعروف عندنا اليوم (كرى سعده)، موقعه بين النجف والكوفة.

(4) انظر صحيح الأخبار - ابن بليهد 5 / 239.

١٤١

تحديده، ولكن هناك جهة يُطلق عليها هذا الاسم وهي ساحل الخليج الفارسي الذي يمتدّ من بلد الكويت إلى قطر.

وأنا ليس عندي دليل واضح بما ذكرت إلاّ ما سمعته من أفواه أعراب نجد وغيرهم، إذا جاءت قافلة ممتارة من عينين أو من القطيف، وسألناهم من أين امترتم؟ قالوا: من الطفّ. ثم نقول: من أي نواحيه أتيتم؟ ثم يخبرونك بالجهة التي أتوها.

وأمّا رواية ياقوت التي أوردها عن أبي سعيد حين قال: من أطفّ على الشيء بمعنى أطلّ، وهذه اللغة مستفيضة عند أهل نجد يطلقون على أعلى الجبل (طفته)، وعلى أعالي الجبال طفافها، وهذا هو المشهور عندهم.

(شفية ) : ومن كربلاء شفية. ذكرها ابن الأثير في الكامل، وسمّاها الدينوري (السقبة)، وسمّاها بعضهم (شفيته)، وفي الأخبار الطوال بعد أن ذكر ملاقاة الحسينعليه‌السلام والحرّ، وما جرى بينهما من الكلام، قال: انتهينا في مسايرتنا إلى نينوى، وجاء الراكب إلى الحرّ بكتاب من ابن زياد فانزل بهذا المكان، ولا تجعل للأمير عليّ علّة.

فقال الحسينعليه‌السلام : « تقدّم بنا قليلاً إلى هذه القرية التي منّا على غلوة، وهي الغاضرية، أو هذه الاُخرى التي تسمّى السقبة فننزل في أحدهما ». فقال الحرّ: إنّ الأمير كتب إليّ أن أحلك على غير ماء، ولا بدّ من الانتهاء إلى أمره.

فنزل الحسينعليه‌السلام بتلك الأرض، وهي كربلاء، يوم الأربعاء غرّة محرّم سنة 61 هجـ(1) ، أو يوم الخميس الثاني من المحرّم(2) .

____________________

(1) انظر الأخبار الطوال - الدينوري / 251.

(2) انظر الطبري 6 / 232؛ وابن الأثير 4 / 23.

١٤٢

قالَ انزلوا هنا أرى مجدّلاً

وها هنا أحبّتي تلقى الردى

وها هنا تُشبّ نيران الوغى

وها هنا يُنهب رحلي والخبا

أمر ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بالنزول في تلك البقعة القاحلة الماحلة، والتي تعرت من الكلا وعلى غير ماء، وصار يخبر أهل بيته وأصحابه أنّ هذه تربتي التي أُقتل وأُدفن فيها.

ذكر القرماني(1) ، عن الدميري: أنّه لمّا وصل الحسينعليه‌السلام بركبه إلى هذه البقعة سأل عن اسم المكان، فقيل له: كربلاء، فقال: « كرب وبلاء، لقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه، فوقف وسأل عن هذا المكان، وقال: ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك، فقال: نفر من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقتلون ها هنا ». ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان.

والأحاديث في ذلك مستفيضة، والتي سمعها من جدّه المصطفى بقتله في كربلاء أكّدت له ذلك؛ هذا جابر بن عبد الله الأنصاري سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، ومثله اُمّ سلمة (رضي‌الله‌عنه ا)، وهكذا أبوه عليعليه‌السلام سمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحدّث هو بقتله.

وتخبرنا اُمّ الفضل كما هو المروي عنها، قالت: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقصصت عليه حلماً منكراً في ليلتها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما هو يا اُمّ سلمة؟ ». قلت: إنّه شديد. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما هو؟ ». قالت: رأيت قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « خيراً رأيت، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك ».

قالت: فولدت فاطمة الحسينعليه‌السلام فكان في حجري كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله . قالت: فدخلت يوماً عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أحمل الحسينعليه‌السلام فوضعته في حجره، ثمّ حانت منّي التفاته فإذا عيناه تهرقان دموعاً، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت واُمّي! ما بالك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتاني جبرئيل فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا بالطفّ ». فقلت: هذا؟ قال: « نعم،

____________________

(1) انظر أخبار الدول - القرماني / 107، طبع بغداد.

١٤٣

وأتاني جبرئيل بتربة حمراء»(1) .

قال الراوي: وفي رواية اُمّ سلمة: « أخبرني جبرئيل أنّ هذا يُقتل بأرض العراق، فقلت: يا جبرئيل، أرني تربة الأرض التي يُقتل بها ». قال: « فهذه تربتها ».

وعن أبي سلمة، عن عائشة: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجلس حسيناً على فخذه، فجاء جبرئيل إليه، فقال: هذا ابنك؟ قال: « نعم ». قال: أما إنّ أمّتك ستقتله بعدك. فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال جبرئيل: إن شئت أريتك الأرض التي يُقتل فيها. قال: « نعم ». فأراه جبرئيل تراباً من تراب الطفّ.

وعن ابن عباس قال: ما كنّا نشكّ وأهل البيت وهم متوافرون أنّ الحسين بن عليعليه‌السلام يُقتل بالطفّ. وعن معاذ بن جبلة قال: خرج علينا رسول الله مصفرّ اللون، فقال: « أنا محمد اُوتيت جوامع الكلم؛ فواتحها وخواتيمها، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله (عزّ وجلّ)؛ أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. أتتكم الموتة، أتتكم بالروح والراحة، كتاب من الله سبق، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم كلّما ذهبت رسل جاءت رسل، تناسخت النبوّة فصارت ملكاً. رحم الله مَنْ أخذها بحقّها وخرج منها كما دخلها. أمسك يا معاذ، أحصِ ».

قال: فلمّا بلغت خمسة بالإحصاء، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يزيد، لا بارك الله في يزيد ». ثمّ ذرفت عيناه بالدموع، ثمّ قال: « نُعي إليّ الحسين، ثمّ اُوتيت بتربة وأُخبرت بقتله وقاتله. والذي نفسي بيده لا يُقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلاّ خالف الله بين صدورهم وقلوبهم، وسلّط عليهم شرارهم، وألبسهم الذلّ، وجعلهم شيعاً ».

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آه لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف، يقتل خَلفي وخلف الخلف. أمسك يا معاذ ». فلمّا بلغت عشرة قال: « الوليد، اسم فرعون هادم شرايع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته، يسلّ الله سيفه فلا غماد له، ويختلف الناس فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، ثمّ قال: وبعد العشرين والمئة موت سريع، وقتل ذريع فيه هلاكهم، ويلي عليهم رجل من ولد العباس ».

وعن اُمّ سلمة قالت: قال

____________________

(1) انظر أخبار الدول - القرماني / 107.

١٤٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يُقتل الحسين على رأس ستين من مهاجري »(1) . ولقد أخبر أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام بمقتله والموضع الذي يُقتل فيه.

ذكر ابن أبي الحديد(2) بحذف سنده، عن هرثمة بن سليم قال: غزونا مع عليعليه‌السلام صفين، فلمّا نزلنا بكربلاء صلّى بنا، فلمّا سلم رفع إليه من ترابها فشمها، ثمّ قال: « واهاً لك يا تربة! ليُحشرنَّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب ».

قال: فلمّا رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء بنت سمير، وكانت من شيعة عليعليه‌السلام ، حدّثها هرثمة فيما حدث، فقال لها: ألا أعجبك من صديقك أبي حسن؟ لمّا نزلنا كربلاء وقد أخذ حفنة من ترابها فشمّها، وقال: « واهاً لك أيتها التربة! ليُحشرنَّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب »، وما علمه بالغيب؟! فقالت المرأة: دعنا منك أيها الرجل؛ فإنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يقل إلاّ حقّاً.

قال: فلمّا بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسينعليه‌السلام كنت في الخيل التي بعث إليهم، فلمّا انتهيت إلى الحسينعليه‌السلام وأصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع عليعليه‌السلام ، والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتّى وقفت عندهعليه‌السلام فسلّمت عليه، وحدّثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل.

فقال الحسينعليه‌السلام : « أمعنا أم علينا؟ ». فقلت: يابن رسول الله، لا معك ولا عليك؛ تركت ولدي وعيالي بالكوفة وأخاف عليهم من ابن زياد. فقال الحسينعليه‌السلام : « إذاً، فولّي هارباً حتّى لا ترى مقتلنا؛ فوالذي نفس حسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد، ثمّ لا يعيننا إلاّ دخل النار ». قال: فأقبلت في الأرض أشتدّ هرباً حتّى خفي عليّ مقتلهم.

قال نصر: وحدّثنا مصعب قال: حدّثنا الأجلح بن عبد الله الكندي، عن أبي جحفة قال: جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله، فقال: حديث حدّثناه عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام . قال: نعم، بعثني محنف بن سليم إلى عليعليه‌السلام عند توجهه إلى صفين، فأتيته

____________________

(1) انظر مقتل الخوارزمي.

(2) انظر شرح النهج - عبد الحميد بن أبي الحديد 1 / 278.

١٤٥

بكربلاء فوجدته يشير بيده، ويقول: « ها هنا ها هنا ». فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: « ثقل لآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ينزل ها هنا، فويل لهم منكم، وويل لكم منهم ». فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: « ويل لهم منكم تقتلونهم، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار ».

قال نصر: وقد روي هذا الكلام على وجه آخر، أنّه قال: « فويل لكم منهم، وويل لهم عليكم ». فقال الرجل: أما ويل لنا منهم فقد عرفناه، فويل لنا عليهم ما معناه؟ فقال: « ترونهم يُقتلون لا تستطيعون لنصرتهم ».

قال نصر: وحدّثنا سعيد بن حكيم العبسي، عن الحسن بن كثير، عن أبيه: أنّ علياًعليه‌السلام أتى كربلاء فوقف بها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه كربلاء. فقال: « ذات كرب وبلاء ». ثمّ أومأ بيده إلى مكان، فقال: « ها هنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم ». ثمّ أومأ بيده إلى مكان آخر، فقال: « ها هنا مهراق دمائهم ». ثمّ مضى إلى ساباط.

فهذه الأحاديث وهذه الأخبار تروي عن جدّه وعن أبيه من قبل أن يأتي إلى العراق، ويحطّ رحله في كربلاء، فهو أدرى من غيره بما يجري عليه وعلى أصحابه؛ ولهذا صار يخبر أصحابه وأهل بيته وشيعته عن مقتله بهذه البقعة، وأمرهم فنزلوا وضربوا أخبيتهم امتثالاً لأمره، فضربوا خيامهم قبالة الشمال الشرقي أبوابها.

وأوّل خيمة نصبوها خيمة الحسينعليه‌السلام العظمى، حيث هي محلّ مجتمعهم وناديهم، ثمّ ضربوا أخبية عيالات الحسينعليه‌السلام بمسافة خمسين ذراعاً غربي الخيمة العظمى، وحجبوها بالزقاقات والأستار المزركشة بالإبريسم، ثمّ خيم أهل بيته خلف الخيمة العظمى، أي قبلتها متّصلة بخيم الهاشميات، ثمّ خيم الأنصار، ونصبوا خيامهم شرقي خيم الهاشميين، فكانت الخيم كلّها كنصف دائرة محيطة بخيمة الحسين العظمى (مجلسه)، ومن وراء الخيم مرابط الخيول ومعاطن الإبل.

ووقف أصحاب الحسينعليه‌السلام وإخوته، وأولاده وأولاد أعمامه جعفر وعقيل، متقلّدين صوارمهم، مشرعين رماحهم أمام الخيم حتّى بقيّة يومهم ذاك.

١٤٦

هم المغاوير إ ذا حُمّ القضا

هم المصاليت إذا اشتدّ الوغى

(المغاوير ) : مفردها مغوار، من الرجال الكثير الغارات. وحُمّ القضاء، وحم الأمر (بضم الحاء): أي قضى. وحم الله (بالفتح) له كذا: قدر وقضاه له. المصاليت من الرجال: الشجعان منهم. والوغى: الحرب.

وهذا الوصف اتّصفت به إخوة الحسين وأنصاره الذين أبلوا بلاء حسناً يوم كربلاء، وراحت البشرية تفخر بهم جيلاً بعد جيل.

ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر(1) ، راوياً عن الحسن البصري: إنّ الذين قُتلوا مع الحسينعليه‌السلام من أهل بيته رجال ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه.

وذكر ابن أبي الحديد(2) : أنّه قيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال: عضضت بالجندل(3) ! إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا؛ ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لآتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا اُمّ لك؟!

وهم الذين وصفهم عميدهم وسيّدهم الحسينعليه‌السلام بخطبته الشهيرة التي قال فيها بعدما جمعهم: « أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على ما أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً. ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا

____________________

(1) انظر الاستيعاب - عبد البر 1 / 147.

(2) انظر شرح النهج - عبد الحميد بن أبي الحديد 3 / 307 مصر.

(3) انظر ابن جرير الطبري 6 / 239.

١٤٧

الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ».

فقال له إخوته وأبناؤه، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العباس بن عليعليه‌السلام ، وتابعه الهاشميون.

والتفت الحسينعليه‌السلام إلى بني عقيل، وقال: « حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم ». فقالوا: إذاً ما يقول الناس وما نقول لهم؟ إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن برمح، ولم نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا. لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

وابتدر مسلم بن عوسجة الأسدي قائلاً: أنحن نخلي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! أما والله لا أفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله لا نخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. أما والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ أحيا، ثمّ أحرق ثمّ أحيا، ثمّ أحرق ثمّ أذرّى، يفعل بي هكذا سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟

ثمّ أعقبه زهير بن القين قائلاً: يا أبا عبد الله، وددت أنّي اُقتل، ثمّ اُنشر، ثمّ اُقتل، يفعل بي هكذا ألف مرّة وإنّ الله (عزّ وجلّ) يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم بقية أصحابه بما يشبه بعضه بعضاً، فجزاهم الحسينعليه‌السلام خيراً(1) ، وفي ذلك الحين قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد أُسر ابنك بثغر الري، فقال: ما أحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده حيّاً.

فقال له الحسينعليه‌السلام : « أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك ».

قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.

فقالعليه‌السلام : « إذاً

____________________

(1) انظر الإرشاد - الشيخ المفيد (ره).

١٤٨

أعطِ ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه ». وكان قيمتها ألف دينار(1) .

ولمّا تحقّق الحسين منهم الإخلاص، وعلم منهم التوطّن على المفادات دونه أوقفهم على حقيقة ما عنده، وأخبرهم بعزمه على منازلة القوم، ثمّ صار يوضّح لهم ما يجري عليه من القتل، فصاحوا بأجمعهم صيحة واحدة: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟

قال أرباب السير: فدعا لهم الحسين بالخير(2) ، وكشف لهم عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنة، وعرفهم منازلهم فيها(3) ، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب(4) ؛ فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النبي موسى منازلهم في الجنة، فهم كما وصفهم المرحوم كاشف الغطاء(5) بقوله:

وأتت بنو حربٍ ترومُ ودون ما

رامت تخرُّ من السما طبقاتُها

رامت بأن تعنو لها سفهاً وهل

تعنو لشرِّ عبيدها ساداتُها

وتسومها إمّا الخضوعَ أو الردى

عزّاً وهل غيرُ الإباءِ سماتُها

فأبوا وهل من عزّةٍ أو ذلّةٍ

إلاّ وهم آباؤها وأُباتُها

وتقحّموا ليلَ الحروبِ فأشرقت

بوجوهِهم وسيوفِهم ظلماتُها

وبدت علوجُ أميّةٍ فتعرّضتْ

للاُسدِ في يومِ الهياجِ شياتُها

تعدوا لها فتميتُها رعباً وذا

يومُ اللقا بعداتِها عاداتُها

فتخرُّ بعد قلوبِها أذقانُها

وتفرُّ قبلَ جسومِها هاماتُها

وباُسرتي من آلِ أحمدَ فتيةٌ

صينت ببذلِ نفوسِها فتيانُها

____________________

(1) انظر اللهوف - السيد علي بن طاووس / 53.

(2) انظر نفس المهموم - الشيخ عباس القمي.

(3) انظر الخرائج والجرائح - الراوندي.

(4) انظر أخبار الزمان - علي بن الحسين المسعودي / 247.

(5) هو المغفور له الحجّة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، من مجموعة بخطّه.

١٤٩

يتضاحكونَ إلى المنونِ كأنّ في

راحاتِها قد أترعت راحاتُها

وترى الصهيلَ مع الصليلِ كأنّه

فيهم قيانٌ رجّعت نغماتُها

وكأنّما سمر الرماحِ معاطفٌ

فتمايلت لعناقِها قاماتُها

وكأنّما بيض الظُّبا بيضُ الدُمى

ضمنت لمى رشفاتها شفراتُها

وكأنّما حمر النصولِ أناملٌ

قد خضّبتها عندها كاساتُها

ومذ الوغى شبتّ لظى وتقاعست

دونَ الشدائدِ نكّصاً شدّاتُها

وغدت تعومُ من الحديدِ بلجّةٍ

قد أنبتت شجرَ القنا حافاتُها

خلعوا لها جننَ الدروعِ ولاحَ من

نيرانِها لجنانِهم جنّاتُها

وتزاحفوا يتنافسونَ على لقى الـ

آجالِ تحسبُ أنّها غاداتُها

بأكفّها عوجُ الأسنةِ ركّعٌ

ولها الفوارسُ سجّدٌ هاماتُها

حتى إذا وافت حقوقَ وفائِها

وعلت بفردوسِ العُلا درجاتُها

شاء الإله فنُكّست أعلامُها

وجرى القضاءُ فنُكّصت راياتُها

وهوت كما انهالت على وجهِ الثرى

من شمِّ شاهقةِ الذُرى هضباتُها

وغدت تُقسّمُ بالظُّبا أشلاؤها

لكن تزيدُ طلاقةً قسماتُها

نكتفي بوصفهم عن أقوال الشعراء لهم بهذه القصيدة الرائعة؛ واختصاراً للموضوع لم نثبت أكثر ممّا ذكرناه في وصفهم من الأخبار، وما سجّله التاريخ عن يومهم الأغر، وهاك أسماؤهم:

آل أبي طالبعليهم‌السلام

1 - العباس بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام . 2 - أبو بكر بن عليعليه‌السلام .

3 - جعفر بن عليعليه‌السلام . 4 - عبد الله بن عليعليه‌السلام .

5 - عثمان بن عليعليه‌السلام . 6 - أبو بكر بن الحسن بن عليعليه‌السلام .

7 - عبد الله بن الحسنعليه‌السلام . 8 - القاسم بن الحسنعليه‌السلام .

9 - علي بن الحسين الأكبرعليه‌السلام . 10 - عبد الله بن الحسينعليه‌السلام .

11 - مسلم بن عقيلعليه‌السلام - قتيل الكوفة(10) . 12 - جعفر بن عقيلعليه‌السلام .

____________________

(1) قتل بالكوفة يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين، وكان يوم خروج الحسينعليه‌السلام من مكّة المكرّمة.

١٥٠

13 - عبد الرحمن بن عقيلعليه‌السلام . 14 - محمد بن سعيد بن عقيلعليه‌السلام .

15 - محمد بن مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

16 - عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام .

17 - محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام .

أسماء أنصار الحسينعليه‌السلام

1 - أبو الحتوف الأنصاري. 2 - الأدهم بن أميّة العبدي.

3 - أسلم مولى الحسين. 4 - اُميّة بن سعد الطائي.

5 - أنس بن حرث الكاهلي. 6 - برير بن خضير الهمداني.

7 - بشر بن عمرو الحضرمي. 8 - بكر بن حي التميمي.

9 - جابر بن حجّاج التميمي. 10 - جبلة بن علي الشيباني.

11 - جنادة بن حرث السلماني. 12 - جنادة بن كعب الأنصاري.

13 - جندب بن حجير الخولاني. 14 - جون مولى أبي ذر الغفاري.

15 - الحرث بن امرئ القيس الكندي. 16 - الحرث مولى حمزة.

17 - الحباب مولى عامر التميمي. 18 - حبشي بن قيس النهمي.

19 - حبيب بن مظهر الأسدي(1) . 20 - الحجّاج بن بدر السعدي.

21 - الحجّاج بن مسروق الجعفي. 22 - الحرّ بن يزيد الرياحي.

23 - الحلاس بن عمرو الراسبي. 24 - حنظلة بن أسعد الشبامي.

25 - رافع مولى مسلم الأزدي. 26 - زاهر بن عمر الكندي.

27 - زهير بن سليم العبدي. 28 - زهير بن القين البجلي.

29 - زياد بن عريب الصائدي. 30 - سالم مولى عامر العبدي.

31 - سالم مولى بني المدينة الكلبي. 32 - سعد بن الحرث الأنصاري.

____________________

(1) يجري على ألسن العوام حبيب بن مظاهر، وهو غلط صرف، وصحيحه مظهّر.

١٥١

33 - سعد مولى عليعليه‌السلام . 34 - سعد مولى عمر بن خالد.

35 - سعيد بن عبد الله الحنفي. 36 - سلمان بن مضارب البجلي.

37 - سليمان مولى الحسينعليه‌السلام . 38 - سوار بن منعم النهمي.

39 - سويد بن أبي المطاع الخثعمي. 40 - سيف بن الحرث الجابري.

41 - سيف بن مالك العبدي. 42 - شبيب مولى الحرث الجابري.

43 - شوذب الشاكري. 44 - ضرغام بن مالك الثعلبي.

47 - عامر بن مسلم العبدي. 48 - عباد بن المهاجر الجهيني.

49 - عبد الله بن بشر الخثعمي. 50 - عبد الله بن عمير الكلبي.

51 - عبد الله بن عروة الغفاري. 52 - عبد الله بن يقطر(1) .

53 - عبد الله بن يزيد العبدي. 54 - عبيد الله بن يزيد العبدي.

55 - عبد الأعلى بن يزيد الكلبي. 56 - عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري.

57 - عبد الرحمن بن عروة الغفاري. 58 - عبد الرحمن الأرحبي.

59 - عبد الرحمن بن مسعود التيمي. 60 - عقبة بن الصلت الجهيني.

61 - عمر بن جنادة الأنصاري. 62 - عمر بن ضبيعة الضبعي.

63 - عمرو بن خالد الصيداوي. 64 - عمرو بن عبد الله الجندعي.

65 - عمرو بن قرضة الأنصاري. 66 - عمرو بن كعب أبو ثمامة الصيداوي.

69 - عمّار بن صخلب الأزدي. 70 - قارب مولى الحسينعليه‌السلام .

71 - القاسم بن حبيب الأزدي. 72 - قاسط بن زهير التغلبي.

73 - قعنب النمري. 74 - قيس بن مسهر الصيداوي(2) .

75 - كردوس التغلبي. 76 - كنانة التغلبي.

____________________

(1) عبد الله بن يقطر هذا أخو الحسينعليه‌السلام من الرضاعة، ورسوله إلى أهل الكوفة. مرّت ترجمته.

(2) قيس بن مسهر الصيداوي هذا رسول الحسينعليه‌السلام الذي أرسله بكتابه إلى أهل الكوفة. مرّ ذكره.

١٥٢

77 - مالك بن سريع الجابري. 78 - مجمع العائذي.

79 - مجمع الجهني. 80 - مسلم بن عوسجة الأسدي.

81 - مسلم بن كثير الأزدي. 82 - مسعود بن الحجاج التيمي.

83 - مسقط بن زهير التغلبي. 84 - منجح مولى الحسينعليه‌السلام .

85 - الموقع بن ثمامة الأسدي. 86 - نافع بن هلال الجملي.

87 - نصر مولى عليعليه‌السلام . 88 - النعمان الراسبي.

89 - نعيم الأنصاري. 90 - واضح مولى الحرث السلماني.

91 - هاني بن عروة المرادي(1) . 92 - يزيد بن ثبيط العبدي.

93 - يزيد بن زياد الكندي. 94 - يزيد بن مغفل الجعفي.

فهؤلاء هم أصحاب الحسينعليه‌السلام الذين حضروا بالطفّ؛ سواء من استشهد منهم بالطفّ، أو بالكوفة وإن فارقه البعض منهم ليلة العاشرة من المحرّم لكنّهم حضروا الطفّ لمّا نزله.

وقد أحصى المؤرّخون الذين رزقوا الشهادة منهم اثنين وسبعين رجلاً، جاء ذكرهم بزيارة الناحية، وفي إبصار العين لشيخنا السماوي (ره).

(الغاضريات ) ، أو الغاضرية: نسبة إلى غاضرة، وهي امرأة من بني عامر، وهم بطن من بني أسد كانوا يسكنون هذه الأرض، وتقع اليوم شمالي (الهيابي) التي فيها مصانع الآجر، وتبعد عن بلدة كربلا كيلو متر تقريباً، وهي من أقربها إلى منزل الحسينعليه‌السلام بعد نينوى.

قال شيخنا المظفّري(2) : وقد يراها بعض المحققين إنّها أراضي الحسينية، أو على مقربة من خان العطيشي اليوم، مركز الشرطة الحالي. ويعرّفها البحاثة الشهرستاني بأراضي الحسينية، يعني بها المقاربة لخان العطيشي، لكنّني أجزم أنّها (الجنقنة) فما دونها إلى بلدة كربلاء.

وقد صرّح لي أبو حنيفة أحمد بن ثابت

____________________

(1) هاني بن عروة: زعيم مذحج، قُتل بالكوفة، وقد مرّ ذكره.

(2) انظر بطل العلقمي - الشيخ عبد الواحد المظفري ج3.

١٥٣

الدينوري، وهو من علماء الجغرافية: أنّها بمقدار غلوة من منزل الحسينعليه‌السلام .

ونحن نضمّ صوتنا إلى صوت العلاّمة المظفّري؛ إذ ما نقله هو عين الصواب، كما وقفنا على ذلك في مصادر وثيقة.

قال الدينوري(1) : حتّى انتهى الحسين إلى نينوى، فإذا هو براكب على نجيب مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ ولم يسلّم على الحسينعليه‌السلام ، ثمّ ناول الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد فقرأه فإذا فيه: أمّا بعد، فجعجع بالحسين بن علي وأصحابه بالمكان الذي يوافقك كتابي، ولا تحلّه إلا بالعراء، على غير خمر ولا ماء، وقد أمرت حامل كتابي هذا أن يخبرني بما يشاهده منك في ذلك، والسلام.

فقرأ الحرّ الكتاب، ثمّ ناوله الحسينعليه‌السلام ، وقال: لا بدّ من إنفاذ أمر الأمير عبيد الله بن زياد، فانزل بهذا المكان، ولا تجعل للأمير عليّ علّة. فقال الحسينعليه‌السلام : « تقدّم بنا قليلاً إلى هذه القرية التي هي على غلوة، وهي الغاضرية، أو هذه الاُخرى التي تسمّى (السقبة) فننزل في أحدهما ». فقال: إنّ الأمير كتب إليّ أن أحلّك على غير ماء، ولا بدّ من الانتهاء إلى أمره.

فقال زهير بن القين للحسين: بأبي واُمي يابن رسول الله! لو لم يأتنا غير هؤلاء لكان لنا بهم كفاية، فكيف بمَنْ سيأتينا من غيرهم؟ فقال الحسينعليه‌السلام : « فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال حتّى يبدؤونا ». فقال له زهير: فها هنا قرية بالقرب منّا على شطّ الفرات (وهي في عاقول) حصينة، والفرات يحدق بها إلاّ من وجه واحد.فقال الحسينعليه‌السلام : « وما اسم تلك القرية؟ ». فقال: العقر، فقال الحسينعليه‌السلام : نعوذ بالله من العقر.

فقال للحرّ: « سر بنا قليلاً ثمّ ننزل ». فسار معه حتّى أتوا إلى كربلاء، فوقف الحرّ وأصحابه أمام الحسينعليه‌السلام ومنعوهم من المسير، وقال: انزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب. فقال الحسينعليه‌السلام : « وما اسم هذا المكان؟ ». قالوا له: كربلاء. فقال: « ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا

____________________

(1) انظر الأخبار الطوال - أحمد بن ثابت الدينوري / 225.

١٥٤

معه، فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمها، فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم، فسُئل عن ذلك فقال: ثقل لآل محمد ينزلون ها هنا ».

(الحائر ) ، أو الحير: هي الأرض المنخفظة. والحائر الحسيني: موضع قبر الحسينعليه‌السلام ، وقد حار الماء حوله في عهد المتوكّل العباسي سنة 236 هـ.

ويذكرون أنّه اسم حادث سمّي بالحائر؛ لأنّ الماء حار على قبر الحسينعليه‌السلام عندما أراد المتوكّل العباسي درس آثاره.

وذكر ابن بليهد(1) ، قال الأصمعي: يُقال للموضع المطمئن الوسط المرتفع الحروف حائر. وجمعه: حيران وحوران، وأكثر الناس يسمّون الحائر الحير، كما يقولون لعائشة عيشة، والحائر قبل الحسين بن علي (رضي‌الله‌عنه ). وقيل: يجمع على حيران وحوران.

وهناك مواضع أسماؤها الحائر والحير والحوير، ويسمّون الحديقة حير كما يسمّون النخل حير.

وقال أبو القاسم: هو الحائر إلاّ إنّه لا جمع له؛ لأنّه اسم لموضع قبر الحسين بن علي (رضي‌الله‌عنه ).

ذكر المسعودي(2) في خلافة المنتصر بالله، قال: كان آل أبي طالب قبل خلافته في محنة عظيمة وخوف على دمائهم، قد منعموا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكّل سنة 236.

وفيها أمر (الديزج) بالمسير إلى قبر الحسين (رضي الله تعالى عنهما) وهدمه، ومحو أرضه وإزالة أثره، وأن يُعاقب مَنْ وجد به، فبذل لمَنْ تقدّم على هذا القبر، فكلّ خشى العقوبة وأحجم، فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسينعليه‌السلام ، فحينئذ أقدم الفعلة فيه.

وإنّهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللّحد فلم يروا فيه أثر رمّة ولا غيرها، ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمّن الناس، وتقدّم بالكفّ عن آل أبي طالبعليهم‌السلام ، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحداً زيارة الحير لقبر الحسين (رضي الله تعالى عنه)، ولا قبر غيره من آل أبي طالب، يعني مرقد أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وذكر شيخ

____________________

(1) انظر صحيح الأخبار - محمد بن عبد الله بن بليهد 4 / 145.

(2) انظر مروج الذهب - المسعودي ج2.

١٥٥

الطائفة في أماليه(1) ، عن محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدّثني أبي عن عمّه عمر بن فرج الرخجي قال: أنفذني المتوكّل في تخريب قبر الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمرّ بها على القبور فمرّت عليها كلّها، فلمّا بلغت إلى قبر الحسين فلم تمرّ عليه.

قال عمّي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فمازلت أضربها حتّى تكسّرت العصا في يدي، فوالله ما جازت على قبر الحسينعليه‌السلام ولا تخطّته، فقال لنا محمد بن جعفر: كان عمّي عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنا أبرأ إلى الله تعالى منه، وكان جدّي محمد بن فرج شديد المودّة لهم (رحمه الله ورضي عنه)، فأنا أتولاه لذلك، وأفرح بولادته.

وعن عبد الله بن أذينة الطهوي قال: حججت سنة سبع وأربعين ومئتين، فلمّا صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنينعليه‌السلام على خيفة من السلطان، ثمّ توجّهت إلى زيارة الحسينعليه‌السلام فإذا هو قد حُرث أرضه، ومُخر فيه الماء، واُرسلت الثيران تُساق في الأرض فتنساق لهم، حتّى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يمنة وشمالاً، فُتضرب العصا الضرب الشديد فلا ينفع ذلك، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب، فما أمكنتني الزيارة، فتوجّهت إلى بغداد وأنا أقول في ذلك:

تاللهِ إن كانت اُميّة قد أتتْ

قتلَ ابن بنتِ نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيهِ بمثلهِ

هذا لعمركَ قبرُهُ مهدوما(2)

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فتتبّعوه رميما(3)

فلمّا قدمت بغداد سمعت الهائعة، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكّل. فعجبت لذلك، وقلت: لهي ليلة بليلة.

وقال ابن الرومي في قصيدته

____________________

(1) انظر الأمالي - شيخنا الجليل محمد بن الحسن الطوسي / 206.

(2) هكذا ذكره ابن خلكان، ونسب الأبيات الثلاثة للشاعر البسامي.

(3) انظر ابن خلكان 1 / 388.

١٥٦

التي يرثي بها يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن أبي طالب، وقد ذكر حادثة الحرب لقبر الحسينعليه‌السلام منها:

ولم تقنَعوا حتّى استثارت قبورَهمُ

كلابُكُمُ منها بهيمٌ وديزجُ(1)

وقال شيخنا المظفّري(2) : فالمتوكّل شبيه أبرهة الأثرم صاحب جيش الفيل، وحبس الله بقر هذا الشقي كما حبس الله فيلة ذلك التعس عن الكعبة، وإنّ قبر الحسينعليه‌السلام يشبه الكعبة، والمتوكّل يشبه أبا كيسوم الأثرم، والبقر تشبه الفيلة؛ إذ كانت الفيلة تُضرب ضرباً شديداً فلا تنبعث للكعبة.

وذكر ابن خلكان بعد ذكر الأبيات الآنفة الذكر، قال: وكان المتوكّل كثير التحامل على عليعليه‌السلام وولديه الحسن والحسينعليهما‌السلام ، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره، وجميع ما يتعلّق به - يعني مرقد الحسين -، وأمر أن يُبذر ويُسقى موضع قبره، ومنع الناس من إتيانه، ولقد قتله الله على يد - باغر التركي -، فقلت في ذلك:

يا سيفَ (باغرَ) لا عرا

كَ تكهّمٌ أبدَ الدهورِ

وبحدّكَ المصقولِ تر

دي كلّ جبّارٍ كفورِ

لما لمعتَ أريتنا

قتلَ الخليفةِ والوزيرِ

في ليلةٍ حكمَ القضا

لهما بخاتمةِ السرورِ

سكرا وما صحَوَا معاً

إلاّ بملتهبِ السعيرِ

وقد انتقم الله تعالى من المتوكّل وهتك ستره، فقتله ابنه (المنتصر) في مجلس شرابه هو ووزيره الفتح بن خاقان.

قال المسعودي ما ملخصه: إنّ المتوكّل قُتل في سنة 247 هـ، وفي ليلة قتله سكر سكراً شديداً، وكان معه الفتح بن خاقان، فأقبل عليه (باغر) ومعه عشرة من الأتراك، فضربه (باغر) بالسيف فقتله، وقتل أحد العشرة الفتح بن خاقان، ولُفّا في البساط الذي قُتلا عليه، وطُرحا ناحية

____________________

(1) انظر فضل الخيل - الدمياطي / 42، الأخضر في كلام العجم: الديزج، وهو من الحمير الأدغم.

(2) انظر بطل العلقمي - الشيخ عبد الواحد المظفّري.

١٥٧

ليلتهما وعامة نهارهما.

وذكر سيّدنا الحجّة الشهرستاني(1) عند ذكره لمواقع كربلاء وما يليها، قال: ثمّ الحير، ويسمّي (الحائر) وهو موضع قبر الحسينعليه‌السلام إلى حدود رواق بقعته الشريفة، أو إلى حدود الصحن، وكان لهذا الحائر وهدة فسيحة بسلسلة تلال محدودة، وربوات تبدأ من الشمال الشرقي حيث منارة العبد(2) متّصلة بباب السدرة(3) في الشمال، وهكذا إلى موضع باب الزينبية(4) من جهة الغرب، ثمّ تنزل إلى باب القبلة من جهة الجنوب.

وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة على شاكلة نون، مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجّه منها الزائر إلى مثوى سيّدنا العباسعليه‌السلام ، ويجد المنقّبون حتّى يومنا في أثافي البيوت المحدقة بقبر الحسينعليه‌السلام آثار ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجبهة الشرقية سوى تربة رخوة واطئة؛ الأمر الذي يرشد العرفاء إلى أنّ وضعيّة هذه البقعة كانت منذ عصرها القديم واطئة من جهة الشرق، ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي. وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء في حربه حين قُتل.

وأورد فخر الدين الطريحي(5) في مجمعه ذكر الحائر، قال: وهو [في] الأصل

____________________

(1) انظر نهضة الحسين - هبة الدين الشهرستاني.

(2) منارة العبد: كانت أفخم وأجمل مأذنة بالعراق، وكان موقعها في الصحن الشريف على يمين الداخل من باب الشهداء، ولجدار الصحن أقرب من جدار الرواق.

وسبب هدمها: هو أنّ متصرّف اللواء وقتئذ كان فخامة (صالح جبر) أراد توسعة الصحن، فأخذ موافقة الحكومة ومديرية الأوقاف العامة فهدمها ووسّع الصحن الشريف من الجهة الشرقية سنة1354 هـ.

(3) إحدى أبواب الصحن الشريف من جهة الشمال، وكانت هناك سدرة داخل الصحن يستظل تحتها الزاور.

(4) إحدى أبواب الصحن الشريف، ونسبتها إلى التل المعروف حتّى اليوم بالتل الزينبي، نسبته إلى زينب بنت عليعليه‌السلام ، حيث وقفت عليه بعد قتل شقيقها وصارت تستنجد به لمّا هجم الجيش على المخيّم، وراح ينتهبها وأشعل النار بها، وعلى التل شباك ومزار يُتبرّك به حتّى اليوم.

(5) انظر مجمع البحرين - فخر الدين الطريحي.

١٥٨

مجمع الماء، ويُراد به حائر الحسينعليه‌السلام ، وهو ما حواه سور المشهد الحسيني (على مشرّفه السلام).

وهناك أسماء سمّي به هذا الموضع قديمة وحديثة؛ فالقديمة منها: (عمور)، (مارية)، (صفوراء)، (شفيته)، والحديثة منها: (مشهد الحسين)، (مدينة الحسين)، (البقعة المباركة)، (موضع الابتلاء)، (محلّ الوفاء)، (النوائح) وهي مشتقّة من النوح، ولعل هذه التسمية جاءت لكثرة النائحة والعويل الذي يُشاهد في ذلك المكان منذ أن نزل الحسينعليه‌السلام فيه حتّى قتله وبعد شهادته حتّى اليوم.

حتّى إذا ما حطّ رحله أتتْ

لحربهِ جيوشُهمْ تحكي الدّبى

(الدبى ): أوّل ما يكون الجراد، ثم يكون غوغاء إذا هاج بعضه في بعض، ثمّ يكون كتفاناً، ثمّ يصير خيفاناً إذا صارت فيه خطوط مختلفة، الواحدة (خيفانة)، ثمّ يكون جراداً(1) ، ويضرب المثل بالدبى لكثرته.

وقد اختلف المؤرّخون في عدد الجيش الذي زحف نحو الحسين؛ فقائل يقول: كان عدد الجيش سبعين ألفاً، وقيل: مئة ألف وعشرين ألف، وقيل: ثلاثين ألفاً.

والرواية التي نرويها عن الصادقينعليهما‌السلام إنّ جيش عمر بن سعد كان ثلاثين ألفاً، وهذا هو الصحيح.

وقد بالغ الشعراء في وصف هذا الجيش، قال الشيخ حمّادي نوح (رحمه الله)(2) :

جاءت وقائدُها العمى وإلى

حربِ الحسينِ يقودُها الجهلُ

بجحافلٍ بالطفِّ أوّلُها

وأخيرُها بالشامِ متّصلُ

ملَؤوا القفارَ على ابنِ فاطمة

جندٌ وملءُ صدورِهمْ دحلُ

وللسيّد حيدر الحلّي (ره) قال(3) :

____________________

(1) انظر فقه اللغة - للثعالبي.

(2) من ديوانه المخطوط في مكتبة الشيخ كاظم آل نوح الخطيب بالكاظميّة.

(3) ديوانه طبع عدّة طبعات.

١٥٩

بجمعٍ من الأرضِ سدّ الفرو

جَ وغطّى النجودَ وغيطانَها

وطى الوحش إذ لم يجد مهرباً

ولازمت الطيرُ أوكانَها

ولشيخنا المظفّري(1) قال:

إلى أن أناخت في النواويسِ عيسُهمْ

أتتهم جيوشٌ من اُميّةَ كالنملِ

وللمرحوم السيد رضا الهندي قال(2) :

هب أنّ جندكَ معدودٌ فجدّكَ قد

لاقى بسبعينَ جيشاً ما لهُ عددُ

وللفاضل الشيخ أحمد الشيخ محمد السماوي:

تردُ الجيوشُ الزاحفاتُ كأنّها

سحبٌ ملبّدةٌ وليلٌ مفعمُ

* * *

يا بأبي ضيفاً كريماً حلّ في

ساحتهم رمز الفخارِ والندى

سبق هذا المعنى لسيدنا الشريف الرضي (ره)، إذ قال من بعض مقصورته الشهيرة التي نظمها ارتجالاً وهو يطوف على ضريح جدّه الحسينعليه‌السلام :

وَضُيوفٍ لِفَلاةٍ قَفرَةٍ

نَزَلوا فيها عَلى غَيرِ قِرى

لَم يَذوقوا الماءَ حَتّى اِجتَمَعوا

بِحِدى السَيفِ عَلى وِردِ الرَدى

نعم، إنّ الحسينعليه‌السلام هو أكرم ضيف نزل بساحتهم، كريم الشيم والسجايا، ورث هذه الأخلاق من جدّه فهو ثاني السبطين، أمّا جدّه فسيّد البشر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبوه سيّد الأوصياء، وأمّه الصديقة الزهراء، وجدّته أمّ المؤمنين حقّاً خديجة بنت خويلد، أضف إلى ذلك إنّه خامس الخمسة من أصحاب العبا.

ولقد سجّل أرباب السير والتاريخ في أسفارهم ما يعجز الرواة عن حصر بعض ما كان يتزيّا به الحسينعليه‌السلام من الفضائل الجمّة، والأخلاق السامية.

وهناك تآليف لا تحصر في أخلاقه المحمدية والمثل العليا للفضائل، حتّى قيل فيه: جمع الحسين بن علي الفضائل

____________________

(1) هو العلاّمة الشيخ عبد الواحد آل مظفر نزيل النجف اليوم، صاحب المؤلّفات القيّمة، وله ديوان شعر لم يطبع.

(2) للمرحوم السيد رضا الهندي شعر رائق، ومن غرر الشعر، غير أنّه لم يجمع كديوان حتّى الآن.

١٦٠