الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة0%

الحسين في طريقه إلى الشهادة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 222

الحسين في طريقه إلى الشهادة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الخطيب علي بن حسين الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 222
المشاهدات: 49210
تحميل: 5926


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 222 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49210 / تحميل: 5926
الحجم الحجم الحجم
الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جمعاء؛ العلم وأسراره، وفصاحة اللسان وبيانه، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، والعدل والصبر، والحلم والعفاف، والمروءة والورع، والزهد ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. أضف إلى هذه المحامد كلّها كثرة العبادة، وأفعال الخير كالصلاة والصوم، والحجّ، والجهاد في سبيل الله، والإحسان للناس.

وكانعليه‌السلام سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، معظّماً عند الخلفاء، مواصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، وكان علم المهتدين، وهدى للمسترشدين بأنوار محاسنه وآثار فضله إلى غير ذلك الكثير من مزاياه وكرم أخلاقه.

(أمّا علمه): فإنّه كان يغر العلم غراً، وإنّه ورث العلم من جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أبيه علي عليه‌السلام . ومَنْ كان النبي معلّمه، ومَنْ كان أبوه علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمّه فاطمة الزهراء، وناشئاً في أصحاب جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلامذة أبيه فلا شك إنّه عليه‌السلام كان يغر العلم غراً، ومنه أُخذ علم الجفر والجامعة (1) الأئمّة التسعة (صلوات الله عليهم).

____________________

(1) الجفر لغة: هو الجلد المعمول، إذ كان الناس قبل هذا يعملون جلود الأنعام ويرققونها ليكتبوا عليها، ثمّ تقدّمت هذه الصناعة حتّى صاروا يرققون جلد الغزال.

أطلقوا عليه اسم (رقّ الغزال)، وإلى الآن نجد بعض الكتب والحروز مكتوبة على هذا النوع، والكتّاب يجلدون كتبهم ويذهّبونها، وربّما كانوا يُغالون في ثمنها.

والجفر: صار يعرفونه بعلم من العلوم (علم الجفر)، وهذا العلم كما ذكره المؤرّخون اختصّ به الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بادئ بدء كما اختصّ بغيره من العلوم، وربّما يكون هذا من العلوم التي لم يطّلع عليها أحد حتّى أيام الإمام الصادقعليه‌السلام أفضى بهعليه‌السلام على خواصّ أصحابه.

وقد ذكره كمال الدين محمد بن طلحة في (الدر المنظم في السرّ الأعظم) قال: جفر الإمام علي بن أبي طالب ألف وسبعمئة مصدر من مفاتيح العلوم ومصابيح النجوم، المعروف عند علماء الحروف بالجفر الجامع والنور اللامع، وهو عبارة عن لوح الفضاء والقدر عند الصوفية.

وقيل: العلم المكنون والسرّ المصون، وقيل باللغة الخفية عند السادة الحرفية، وهو عبارة عن أسرار الغيوب، وقيل: مفتاح اللوح والقلم.

وقال أهل الملاحم: هو عبارة عن سرّ حوادث الكون، وقيل: مفتاح العلم اللدني، وهما كتابان جليلان؛ أحدهما ذكره الإمام علي (رضي‌الله‌عنه ) على المنبر وهو قائم يخطب بالكوفة، والآخر أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابته في هذا العلم المكنون، وهو المشار إليه بقولهعليه‌السلام : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ». فكتبه الإمام علي (رضي‌الله‌عنه ) حروفاً =

١٦١

وكان الناس يقدمون على الحسينعليه‌السلام وينتفعون بما يُسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه من الأحاديث والفتيا.

وأمّا (فصاحته): فناهيك عن خطبته التي خطبها بالمدينة، وخطبته الشهيرة التي خطبها بمكّة قبيل خروجه منها، وخطبته يوم عاشوراء، وخطبته التي تُعرب عن نفسه الكريمة وإبائه العظيم التي قال فيها: « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي (1) قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ».

قال ابن أبي الحديد يصف الحسينعليه‌السلام : سيّد أهل الإباء الذي علّم الناس الحمية، والموت تحت ظلال السمهرية اختياراً له على الدنية. أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام عُرض عليه الأمان وأصحابه فأنف من الذلّ، وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان، مع أنّه لا يقتله، فاختار الموت على ذلك.

قال: وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كأنّ أبيات أبي تمّام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلاّ في الحسينعليه‌السلام :

وَضُيوفٍ لِفَلاةٍ قَفرَةٍ

نَزَلوا فيها عَلى غَيرِ قِرى

لَم يَذوقوا الماءَ حَتّى اِجتَمَعوا

بِحِدى السَيفِ عَلى وِردِ الرَدى

____________________

= مفرقة على طريقة سفر آدمعليه‌السلام إلخ.

وتوجد في مخازن الكتب نوادر مخطوطة في هذا العلم، فإنّ في دار الكتب المصرية كتاب مخطوط اسمه (الجفر الجامع والنور الساطع) للإمام العظيم ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجلدين ضخمين كما ذكر ذلك علي جلال الحسيني في كتابه (الحسين).

وأطلعني الدكتور حسين على محفوظ على كتاب من خزانة كتبه مخطوط اسمه (الدرّ المنظم في السرّ الأعظم) في الجفر الجامع والنور اللامع لمؤلفه كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة النصيبي الشافعي المتوفّى سنة 652 هـ، وتاريخ كتابة النسخة 1273 هـ.

وفي مكتبتي نسخة خطيّة، عنوان النسخة: الجفر الجامع؛ جفر علي وجفر جعفر الصادق، مؤلّفه العلاّمة محي الدين بن العربي. أوّله الحمد لله الذي أودع السرّ المكتوم في طي الحروف المرقوم إلخ.

(1) يريد بالدعي ابن الدعي عبيد الله بن زياد، ابن مرجانة. كان والياً على الكوفة من قبل يزيد حينذاك.

١٦٢

فأثبت في مستنقعِ الموتِ رجلَه

وقالَ لها من تحت أخمصكِ الحشرُ

تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما أَتى

لَها اللَيلُ إلاّ وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ

قال الشبراوي (1) : والحسين ( رضي‌الله‌عنه ) أقدم بقوّة الجنان إلى مقارعة الأبطال والشجعان، ومنازلة السيف والسنان، فكان ( رضي‌الله‌عنه ) في حرب أعدائه كرّاراً صباراً، يرى الفرار دناءة وعاراً، فلم يزل خائضاً غمرات الأهوال بنفس مطمئنة، وعزيمة مرجحنة، يرى مصافحة الصفاح غنيمة، ومراوحة الرماح فائدة جسيمة، وبذل المهج والأرواح في نيل العزّ ثمناً قيلاً، ويأبى الدنية وإن تركته قتيلاً.

يرى الموتَ أحلى من ركوب دنيةٍ

وليس بعيشٍ عيشُ مَنْ ركبَ الذلا

وللمغفور له السيّد حيدر الحلّي (ره):

كريمٌ أبى شمَّ الدنية أنفُهُ

فأشمّه شوكَ الوشيجِ المسددِ

وقال قفي يا نفسُ وقفةَ واردٍ

حياضَ الردى لا وقفةَ المتردّدِ

رأى أنّ ظهرَ الذلِّ أخشنَ مركباً

من الموتِ حيث الموتُ منه بمرصدِ

فآثر أن يسعى على جمرةِ الوغى

برجلٍ ولا يُعطي المقادةَ عن يدِ

وقال أيضاً:

وسامتهُ يركبُ إحدى اثنتينْ

وقد صرّت الحربُ أسنانَها

فإمّا يُرى مذعناً أو تموت

نفسٌ أبى العزُّ اذعانَها

فقالَ لها اعتصمي بالإبا

فنفسُ الأبي وما زانَها

إذا لم تجد غيرَ لبسِ الهوا

نِ فبالموتِ تنزعُ جثمانَها

رأى القتلَ صبراً شعارَ الكرام

وفخراً يزينُ لها شانَها

فشمّرَ للحربِ في معركٍ

بهِ عركَ الموتُ فرسانَها

وأضرمها لعنانِ السماء

حمراءَ تلفحُ أعنانَها

ركينٌ وللأرضِ تحتَ الكماة

رجيفٌ يزلزلُ ثهلانَها

____________________

(1) انظر الإتحاف بحبّ الأشراف - الشبراوي / 59 طبع الأردنية.

١٦٣

أقرّ على الأرضِ من ظهرها

إذا ململَ الرعبُ أقرانَها

تزيدُ الطلاقةُ في وجههِ

إذا غيّرَ الخوفُ ألوانَها

ولما قضى للعُلا حقّها

وشيّدَ بالسيفِ بنيانَها

ترجّلَ للموتِ عن سابحٍ

لهُ أخلتِ الخيلُ ميدانَها

ثوى زايدُ البشرِ في صرعةٍ

لهُ العزُّ حبّبَ لقيانَها

كأنَّ المنيّةَ كانت لديه

فتاةٌ تواصلُ خلصانَها

جلتَها لهُ البيضُ في موقفٍ

بهِ أنكلَ السمرُ خرصانَها

وأصبحَ مشتجراً للرماح

تُحلّي الدما منهُ مرّانَها

عفيراً متى عاينتهُ الكماة

يختطفُ الرعبُ ألوانَها

فما أجلت الحربُ عن مثلهِ

صريعاً يجبّنُ شجعانَها

تريبُ المحيّا تظنُّ السما

بأنَّ على الأرضِ كيوانَها

ذكر الحسيني (1) قال: ومَنْ يطلب ما طلبه الحسين عليه‌السلام ، ويجاهد لأمّته تقرّباً إلى الله وإعلاء لكلمته، يوطن النفس على الموت، والحسين أولى بعزّة النفس من سواه، وفي كلّ حال فالحسين مجتهد في دينه، مجاهد لأمّة جدّه، عاش سيّدا زكيّاً حميداً، ومات بأجله كريماً شهيداً، وإذا لم يصل إلى غرضه فقد قضى ما عليه.

وَمَبلَغُ نَفسٍ عُذرَها مِثلُ مَنجَحِ

ويغلب المقدار على التقديرِ!

كما قال أبوه (كرّم الله وجهه).

وللسيد ابن شهاب من قصيدة له يرثي الحسينعليه‌السلام بقوله:

أجلْ قدرةُ المولى تبارك أنفذت

إرادته طبقَ القضاءِ المحتّمِ

وإليك ما قاله في شجاعته صاحب (إسعاف الراغبين): كان الحسينعليه‌السلام شجاعاً مقداماً من حين كان طفلاً.

وذكر ابن أبي الحديد قال: فيما افتخرت

____________________

(1) انظر الحسين - علي جلال الحسيني 2 / 175.

لا تعرْ أهلَ كوفةَ الجندِ سمعاً

يابن مَنْ جاز في علاه السماءا

فاله عنهمْ ولا تعدهمْ بماءٍ

ودع القومَ يهلكون ظماءا

كيف تسقي يابن الجوادِ اُناساً

سقوا المرهفاتِ منكم دماءا

فحرامٌ عليهم الماءَ لمّا

منعوا جدّكَ الحسينَ الماءا

١٦٤

به بنو هاشم على بني اُميّة قولهم: مَنْ مثل الحسين بن علي عليهما‌السلام يوم الطفّ، ما رأينا مكثوراً قطّ قد فرّق من إخوته وأهله وأنصاره أشجع منه، كان كالليث الجائب (1) يحطم الفرسان حطماً، وما ظنّك برجل أبت نفسه الدنية أن يعطي بيده، فقاتل حتّى قُتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمّه بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالأيمان المغلّظة، وهو الذي سنّ للعرب الإباء، واقتدى به أبناء الزبير وبنو المهلّب وغيرهم.

قلت: شجاعته يوم الطفّ ذكّرتهم بصولات أبيه عليعليه‌السلام ، وكان المتنبي عناه بقوله:

واستعارَ الحديدَ لوناً فألقى

لونهُ في ذوائبِ الأطفالِ

أو كما قال أبو بكر الرصافي:

لو كنتَ شاهدهُ وقد غشى الوغى

يختالُ في درعِ الحديدِ المسبلِ

لرأيتَ منهُ والحسامُ بكفّهِ

بحراً يُريقُ دمَ الكماةِ بجدولِ

وللآشني مثله:

ما لاحَ في درعٍ يصولُ بسيفهِ

والوجهُ منهُ يُضيء تحتَ المغْفَرِ

إلاّ حسبتَ البحرَ مدّ بجدولٍ

والشمسُ تحتَ سحائبٍ من عثيرِ

____________________

(1) الجائب: الجافي.

١٦٥

(وأمّا سخاؤه وجوده ) : فإنّهعليه‌السلام كان يهبّ الألوف، بل وعشرات الألوف من الدنانير والدراهم حتّى عُدّ من سادات أجواد العرب. روى ابن عساكر في تاريخه، عن أبي هشام القباذ أنّه كان يحمل إلى الحسينعليه‌السلام بالمتاع من البصرة، ولعله لا يقوم حتّى يهب عامته. وقصّته مع أسامة بن زيد مدوّنة في كتب السير والتواريخ، إذ وفى عنه ستين ألف درهم. وناهيك عن عبادته وما جاء في الأثر عنه، كان كثير العبادة والصلاة، ولقد حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه، والنجائب تُقاد بين يديه. أمّا تواضعه: يكفيك ما ذكره ابن عساكر في تاريخه، قال: إنّ الحسينعليه‌السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغذاء. فنزلعليه‌السلام وقال: « إنّ الله لا يحبّ المتكبرين ». فتغدّى معهم، ثمّ قال لهم: « قد أجبتكم فأجيبوني ». قالوا: نعم. فمضى بهم إلى منزله، وقال للرباب خادمته: « أخرجي ما كنت تدّخرين »... إلخ.

وأيمُ الحقّ إنّ الحسينعليه‌السلام كان أكرم أهل زمانه شيماً وأخلاقاً كما قال الشريف الرضي (ره):

كَريمٌ لَهُ يَومانِ قَد كَفِلا لَهُ

بِنَيلِ العُلا مِن بَأسِهِ وَسَخائِهِ

فَيَومُ نِزالٍ مُشمِسٌ مِن سُيوفِهِ

وَيَومُ نَوالٍ ماطِرٌ مِن عَطائِهِ

* * *

فما رعت كوفان حرمةً له

ولا وعتْ بما أتى في هل أتى

المراد هنا: أهل كوفان، حذف المضاف للإيجاز والاختصار. قال الفخر الرازي(1) في تفسير قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا ) (2) : والمراد واسأل أهل القرية، إلاّ إنّه حذف المضاف للإيجاز والاختصار، وهذا نوع من المجاز مشهور في لغة العرب. قال أبو علي الفارسي: ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات، ومثله قول الشاعر:

أرى أَجَأٌ لم يُسلِمِ العامَ جارَه(3)

كأنّه يقول: إنّ أهل أجأ أو سكان جبل أجأ لم يسلموا جاره. وإنّ أجأ ذكره امرؤ القيس بشعره مؤنثاً بقوله:

أَبَت أَجَأٌ أَن تُسلِمَ العامَ جارَها

فَمَن شاءَ فَليَنهَض لَها مِن مُقاتِلِ

وهذا غلط صرف؛ فإنّ أجأ مذكّر، وهو اسم جبل طي. نعم، إنّ أهل الكوفة ما رعت للحسينعليه‌السلام حرمة حين أقدمت على قتله وقتل ذويه وأنصاره، وذبح أطفاله، ونهب رحله، وسبي عياله. ذكر الحسيني(4) قال: والحقيقة أنّ الذين أشاروا على الحسين بعدم الخروج أرادوا أن يصرفوه عن المسير إلى الكوفة؛ لعدم ثقتهم بأهل العراق، وترجيحهم عدم ثباتهم في تأييد إمامهم، وصدق ظنّ مَنْ وصفهم بالغدر، وعدم الثبات.

____________________

(1) انظر فخر الدين الرازي التفسير / 154. (2) سورة يوسف.

(3) أجأ وسلمى: جبلان عن يسار سميراء. المعجم لياقوت 1 / 113. (4) انظر الحسين - علي جلال الحسيني 2 / 173.

١٦٦

وصادف حدسهم الواقع فيمَنْ فشل من أهل العراق عن نصرة الحسين، حتّى كان من عجيب أمرهم أنّ ابن زياد يدخل الكوفة مع نفر من أهل البصرة، ثمّ يتحصّن من مسلم بن عقيل بالقصر ومعه خمسون رجلاً جلّهم من الشرط، وقد أحاط به منهم أربعة آلاف رجل فيتفرّقون عن مسلم ويتركونه وحده غريباً، ولا رموا عن قوس ولا ضربوا بعصا، ولم يبقَ معه من يدلّه على منزل، أو يرشده إلى طريق؛ فلاذ بامرأة لا تعرفه فكانت خيراً من رجالهم، وهي (طوعة) زوج أسيد الحضرمي (رحمها الله).

وغاية ما كان يخمّنه العاقل ويراه البصير أنّ أهل العراق يعدون فيخلفون، ويبايعون فينكثون؛ أما إنّهم قاتلوا أنفسهم دون الحسينعليه‌السلام فلا يكتفون بخذلانه وتركه يقاتل أخصامه، بل يكون منهم جيش يحيط به ويقاتله حتّى يقتله دون أن يحدث منه أمر ينكرونه، فلذلك غدر لم يسمع بمثله، ولم يخطر ببال إنسان؛ فضرب المثل بهم في الغدر، فقيل:(أغدر من كوفي) كما في كتاب البغدادي(1) ، وقيل:الكوفي لا يوفي ، من ذلك غدرهم بأمير المؤمنين والحسن والحسين، وشكايتهم للعمّال.

شكوا سعد بن أبي وقاص، فدعا عليهم ألاّ يرضيهم الله بوالٍ، ولا يرضى عليهم والٍ، وشكوا عمّار بن ياسر فقالوا: لا يعقل، وشكوا المغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص وأخرجوه من الكوفة، وغروا زيد بن علي، وخذلوا مسلم بن عقيل، وقتلوا المختار بن أبي عبيدة.

وقال عمر بن الخطاب: أعضل بي أهل الكوفة، لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير.

وقال قوم من أهل الكوفة للوليد بن عقبة لمّا عُزل عنهم: جزاك الله خيراً يا أبا وهب، فما رأينا بعدك خيراً منك. قال: لكنّي بحمد الله لم أرَ بعدكم شرّاً منكم، وإنّ بغضكم لتلف، وحبّكم لكلف.

وقال النجاشي:

إذا سقى الله أرضاً صوب غاديةٍ

فلا سقى الله أهلَ الكوفةِ المطرا

التاركينَ على طهرٍ نساءَهمُ

والنائكينَ بشاطي دجلةَ البقرا

____________________

(1) انظر الفرق بين الفرق - عبد القاهر بن طاهر البغدادي / 26.

١٦٧

والسارقينَ إذا ما جنّ ليلهمُ

والدارسينَ إذا ما أصبحوا السورا

ألقِ العداوةَ والبغضاءَ بينهم

حتّى يكونوا لمَنْ عاداهم جزرا

وقال أيضاً:

لعنَ اللهُ ولا يغفر لهمْ

ساكني الكوفةَ من حيّي مضرْ

واليمانيينَ فلا يحفل بهمْ

فهمُ من شرّ مَنْ فوق الغبرْ

جلدوني ثمّ قالوا قدرٌ

قدّر اللهُ بهم سوءَ القدرْ

وادّعى النبوّة من أهل الكوفة غير واحد، منهم المختار بن أبي عبيد(1) كتب إلى الأحنف بن قيس: بلغني أنّكم تكذّبونني، وقد كذّبت الأنبياء من قبلي، ولست خيراً من كثير منهم، وكان منهم أبو منصور الخناق، وكان يتولّى سبعة أنبياء من قريش، وسبعة من بني عجل، وكان منهم راشد الهجري(2) ، وكانت منهم هندة الأفّاكة. وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأهل الكوفة: « اللّهمّ كلّما نصحتهم فغشوني، وائتمنتهم فخانوني، فسلّط عليهم فتى ثقيف، الذيّال الميّال، يأكل خضرتها، ويحكم فيها بحكم الجاهليّة ». ولمّا قُتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة بنت الحسين بن علي، فقال لها أهل الكوفة: يا بنت رسول الله، أحسن الله صحابتك. فقالت: يا أهل الكوفة، لا أحسن الله صحابتكم؛ لقد قتلتم جدّي علياً، وعمّي الحسن كانت تنتقض جراحته حتّى مات، وقتلتم أبي الحسين، وقتلتم مصعباً، والله لقد أيتمتموني صغيرة، وأيتمتموني كبيرة، فلا أحسن الله عليكم الخلافة، ولا دفع عنكم السوء(3) .

وإليك البيتين الذين نظمهما الشيخ كاظم السوداني خاطب بهما سعادة الاُستاذ عباس البلداوي عندما كان حاكماً في النجف، ويحضر محكمة الكوفة في يوم السبت من كلّ أسبوع، وقد زاره السوداني في المحكمة بالنجف فأخبر أنّه مضى إلى الكوفة، فكتب له هذين البيتين:

____________________

(1) لا يمكن أن يصدر هذا منه؛ فهو الذي طلب بثأر الإمام الحسينعليه‌السلام كما أوضح ذلك الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، ولم تتحنَ امرأة من نساء أهل البيت، ولا أجالت في عينها مروداً، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد كما ورد ذلك عن بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام . كما إنّ حبر الأمة (عبد الله بن عباس) قد ترحّم عليه عندما أجاب على كتاب عبد الله بن الزبير وقد أخبره بقتل المختار. راجع كتاب الدعوات للراوندي / 162، أصدق الأخبار للسيد محسن الأمين / 91، الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي 6 / 294.

(2) لا نعلم بأيّ دليل أثبت صاحب الكتاب ما يدّعيه، خصوصاً على الصحابي الجليل لأمير المؤمنينعليه‌السلام راشد أو رشيد الهجري - على اختلاف النسخ - الذي قتله الدعي ابن زياد (لعنه الله) بعد أن طلب منه البراءة من أمير المؤمنينعليه‌السلام فأبى. =

١٦٨

زرتُ المقامَ فلم أجدكَ ممثّلاً

فيه وشوقاً قد أطلتُ وقوفي

فسألتُ عنكَ فقيلَ كوفيّاً غدا

كرمتَ عن سبتٍ ونسبةِ كوفي

فلمّا حضر وقرأها البلداوي طلب من الشيخ علي البازي الجواب؛ دفاعاً عن بلدته الكوفة، فقال:

يا هاجياً كوفانَ موطنَ حيدرٍ

هلاّ رعيتَ حفيظةَ الإيمانِ

تهجو بلا سببٍ ودونَ هدايةٍ

كيما تعدّ لنا من الأقرانِ

فبنا أتى عن جعفرِ بن محمدٍ

خبرٌ روتهُ نخبةُ الأعيانِ

أعلامُ شيعتنا وجلّ رواتُنا

ومنارنا الوضاءُ في كوفانِ

قدماً سبقتَ إلى الهجا وهجوتَ مَنْ

منها تنبّى في بني قحطانِ

شيخ القريضِ ابن الحسينِ ومَنْ بهِ

شهدت أقاصي يعربٍ والداني

أصبحتَ تخبطُ كالذي لا يرعوي

عن غيّهِ ويبوءُ بالخسرانِ

لقد ارتكبتَ جريمةً وجنايةً

سوّدت حتّى أوجهَ السودانِ

وذكر اليعقوبي(1) في تاريخه أنّ أهل الكوفة شكوا سعد بن أبي وقاص واليهم إلى عمر بن الخطاب، وقالوا: لا يحسن يصلّي. فعزله عمر عنهم وولّى عليهم عمّار بن ياسر. ثمّ قدم عليه أهل الكوفة، فقال: كيف خلفتم عمّار بن ياسر أميركم؟ فقالوا: مسلم ضعيف. فعزله ووجّه جبير بن مطعم، فمكر به المغيرة وحمل عنه خبراً إلى عمر، وقال له: ولّني يا أمير المؤمنين.

قال: أنت رجل فاسق. قال: وما عليك منّي؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاّه الكوفة، فسألهم عن المغيرة، قالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة؛ إن وليتكم مسلماً تقيّاً قلتم ضعيف، وإن وليتكم مجرماً قلتم هو فاسق.

ذكر سبط ابن الجوزي(2) ، قال عامر الشعبي: لمّا بلغ عبد الله بن الزبير قتل

____________________

= راجع الاختصاص للشيخ المفيد / 77 تحت عنوان (ما جاء في رشيد الهجري)، الأمالي للشيخ الصدوق / 165، ح28 تحت عنوان (كيفية شهادة رشيد الهجري)، أعيان الشيعة 7 / 6 تحت عنوان رشيد الهجري.(موقع معهد الإمامين الحسنين) .

(3) انظر ابن الفقيه - البلدان / 184 - 186، طبع ليدن.

(1) انظر أحمد بن أبي واضح، الكاتب الشهير باليعقوبي، المتوفّى سنة 292 هـ 2 / 133، مطبعة الغري.

(2) انظر تذكرة الخواص - سبط ابن الجوزي أبو المظفر يوسف بن قزغلي البغدادي، المتوفّى سنة 654 بدمشق، ودفن في جبل قاسيون / 152، طبع إيران.

١٦٩

الحسينعليه‌السلام خطب بمكة، وقال: ألا إنّ أهل العراق قوم غدر فجر، ألا وإنّ أهل الكوفة شرارهم؛ إنّهم دعوا الحسين ليولّوه عليهم، ليقيم أمورهم، وينصرهم على عدوهم، ويعيد معالم الإسلام، فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه يقتلوه، قالوا له: إن لم تضع يدك في يد الفاجر ابن زياد الملعون فيرى فيك رأيه، فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسيناً وأخزى قاتله، ولعن الله مَنْ أمر بذلك ورضي به.

أفبعد ما جرى على أبي عبد الله ما جرى يطمئن أحد إلى هؤلاء، أو يقبل عهود الفجرة الغدرة؟!

أما والله، لقد كان صوّاماً بالنهار، قوامّاً بالليل، وأولى بينهم من الفاجر ابن الفاجر. والله، ما كان يستبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الخمور، ولا بقيام الليل الزمور، ولا بمجالس الذكر الركض في طلب الصيود، واللعب بالقرود. قتلوه فسوف يلقون غيّاً، ألا لعنة الله على الظالمين، ثم نزل.

وذكر القزويني(1) ، ومثله محمد بن أبي طلحة(2) قال: وكان أكثر هؤلاء الخارجين لقتاله قد شايعوه وكاتبوه، وطاوعوه وعاهدوه وبايعوه، فلمّا جاءهم كذّبوه ما وعدوه، وأنكروه وجحدوه، ومالوا إلى السحت العاجل فعبدوه، وخرجوا إلى قتاله رغبة في عطاء ابن زياد فقصدوه.

قال الشاعر:

إذا ما سقى الله البلادَ فلا سقى

معاهدَ كوفانٍ بنوءِ المرازمِ

أتتْ كتبهم في طيّهنَّ كتائبٌ

وما رقمتْ إلاّ بسمِّ الأراقمِ

لخير إمامٍ قامَ في الأمرِ فانبرتْ

له نكباتٌ أقعدت كلّ قائمِ

إذا ذكرت للطفلِ حلّ برأسهِ

بياضٌ مشيبٌ قبل شدّ التمائمِ

أن اقدم إلينا يابن أكرم مَنْ مشى

على قدمٍ من عربِها والأعاجمِ

____________________

(1) انظر أثار البلاد - زكريا بن محمد القزويني / 167، طبع كوتنجن.

(2) انظر مطالب السؤول - محمد بن أبي طلحة الشافعي.

١٧٠

فودّعَ مأمونُ الرسالةِ وامتطى

متونَ الرماسي لا الهجانِ الرواسمِ

وجشّمها نحو العراقِ تحفّهُ

مصاليتُ حربٍ من ذؤابةِ هاشمِ

نعم، إنّ أهل الكوفة عُرفوا بالغدر والخيانة، ومَنْ سبر تاريخهم وقف على غدرهم آنفاً بخليفتهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وما ذكر عنهم في مشاهير خطبه ومطوّلات كتبه، وهكذا غدروا بأولاده وأحفاده بحيث منعوهم شرب الماء الذي لا يُصدّ عنه كلّ ذي روح.

ومن النوادر الطريفة التي جرت في الكوفة: احتفل أهل الكوفة بقائمقام النجف وقتئذ السيد حسن جواد الحسيني البغدادي، فألقى في ذلك الحفل صديقنا الخطيب الشيخ علي بازي قصيدة تكريماً للقائمقام، وقد طالب بقصيدته إنشاء إسالة ماء الكوفة، وبعد انتهاء الحفل وانفضاض الجمع إلاّ القليل من النجفيّين المدّعوين وأشراف أهل الكوفة ناول أستاذنا اليعقوبي رقعة للقائمقام، وقد كتب فيها بيتين على سبيل المداعبة والظرافة، والبيتان:

لا تُعر أهلَ الكوفةِ الجند سمعاً

ودع القومَ يهلكونَ ظماءا

كيف تسقي يابن الجواد اُناساً

منعوا جدّكَ الحسينَ الماءا

فقامت قيامة الشيخ البازي، وصار يزبد ويرعد، وراح يشطّرهما معارضاً، وإليك تشطيره:

لا تُعر أهلَ كوفةَ الجندَ سمعاً

عجباً منكَ يطلبونَ جفاءا

ويقولونَ لا تُجبهم بشيءٍ

ودع القومَ يهلكونَ ظماءا

كيف تسقي بابنَ الجواد اُناساً

وسواهم يكابدونَ العناءا

أو ترضى تُعدّ من حزبِ قومٍ

منعوا جدّكَ الحسينَ الماءا

ولقد شطّرها الأدباء، وخمّسها الشعراء، وإليك تشطيري(1) :

____________________

(1) لا يوجد تشطير صاحب الكتاب يرجى التحقّق من ذلك.

١٧١

وجاء في (كتاب البلدان)(1) ، قال قطرب: سمّيت الكوفة من قولهم: تكوف الرمل، أي ركب بعضه بعضاً. والكوفان: الاستدارة.

وقال أبو حاتم السجستاني: الكوفة رملة مستديرة، يقال: كأنّهم في كوفان. وقال المغيرة بن شعبة: أخبرنا الفرس الذين كانوا بالحيرة، قالوا: رأينا قبل الإسلام في موضع الكوفة فيما بين الحيرة إلى النخيلة ناراً تُأجّج، فإذا أتينا موضعها لم نرَ شيئاً، فكتب في ذلك صاحب الحيرة إلى كسرى، فكتب إليه: أن ابعث إليّ من تربتها.

قال: فأخذنا من حواليها ووسطها وبعثنا به إليه، فأراه علماءه وكهنته، فقالوا: يُبنى في هذا الموضع قرية يكون على يد أهلها هلاك الفرس. قال: فرأينا والله الكوفة في ذلك الموضع.

قالوا: أوّل مَنْ اختطّ مسجد الكوفة سعد بن أبي وقّاص، وقال غيره: اختطّ الكوفة السائب بن الأقرع، وأبو الهياج الأسدي، وكانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه في الريف فما كان يلي الفرات فهو (الملطاط)، وما كان يلي الطين فهو النجف.

ويروى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: « الكوفة كنز الإيمان، وجمجمة الإسلام، وسيف الله ورمحه يضعه حيث يشاء. والذي نفسي بيده لينصرنَّ اللهُ (جلّ وعزّ) بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز ».

وكانعليه‌السلام يقول: « إنّ موضع الكوفة اليوم كانت سورستان ».

وكان سلمان يقول: أهل الله، وهي قبة الإسلام يحنّ إليها كلّ مسلم.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ليأتينَّ على الكوفة زمان وما من مؤمن ولا مؤمنة إلاّ بها، أو قلبه يحنّ إليها ».

وقال ابن الكلبي: وفد الحجّاج على عبد الملك بن مروان ومعه أشراف العراق، فلمّا دخلوا عليه تذاكروا أمر الكوفة والبصرة، فقال محمد بن عمير العطاردي: إنّ أرض الكوفة أرض سفلت عن الشام وعملها ووبائها، وارتفعت عن البصرة وحرّها وعمقها، وجاورها الفرات فعذب ماؤها وطاب ثمرها، وهي مريئة مريعة.

فقال عبد الله بن الأهتم

____________________

(1) انظر كتاب البلدان - ابن الفقيه، من علماء أواخر القرن الثالث للهجرة / 163، طبع ليدن.

١٧٢

السعدي: نحن والله يا أمير المؤمنين أوسع منهم تربة، وأكثر منهم دربة، وأعظم منهم برية، وأغذ منهم في السرية، وأكثر منهم قنداً ونقداً. يأتينا ما يأتينا عفواً صفواً، ولا يخرج من عندنا إلاّ سائق أو قائد أو ناعق.

فقال الحجّاج: إنّ لي بالبلدين خبراً يا أمير المؤمنين. قال: هات، فأنت غير متّهم فيهم. قال: أمّا البصرة فعجوز شمطاء بخراء ذفراء، أوتيت من كلّ حليّ وزينة، وأمّا الكوفة فبكر عاطل لا حليّ لها ولا زينة.

فقال عبد الملك: ما أراك إلاّ وقد فضلّت الكوفة، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى سيّد الأمصار، وجمجمة العرب، يعني الكوفة.

وكان عبد الله بن عمر يقول: يا أهل الكوفة، أنتم أسعد الناس بالمهدي.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام للكوفة: « ويحك يا كوفة واُختك البصرة! كأنّي بكما تمدّان مدّ الأديم، وتعركان عرك العكاظي، ألا إنّي أعلم فيما أعلمني الله (عزّ وجلّ) أنّه ما أراد بكما جبّار سواءً إلاّ ابتلاه الله بشاغل ».

وكان محمد بن عمير بن عطارد يقول: الكوفة سفلت عن الشام ووبائها، وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مريئة مريعة، برية بحرية، إذا أتتنا الشمال هبّت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبّت الجنوب جاءتنا بريح السواد وورده وياسمينه، وخيريه وأترجه، ماؤنا عذب، ومحتشنا خصب.

وكتب إليهم عمر بن الخطاب: إنّي اختبرتكم فأحببت النزول بين أظهركم؛ لما أعرف من حكم لله ولرسوله، وقد بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود مؤذّناً ووزيراً، وهما من النجباء من أهل بدر، فخذوا عنهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي.

وكان زياد يقول: الكوفة جارية حسناء تضع لزوجها، فكلّما رآها يُسر بها.

قالوا: ولنا فتوح وأيام، فمن فتوحنا الحيرة، وبانقيا، والفلوجتين، وتستر، وبغداد، وعين التمر، ودومة، والأنبار. وما فتحوا مع خالد بن الوليد في مسيرهم إلى الشام: المضيح، وحصيد، وبشر، وقراقر، وسوى، وأراك، وتدمر، ثمّ شاركوا أهل الشام في بصرى ودمشق.

هذا كلّه في خلافة أبي بكر،

١٧٣

ثمّ كان من آثارهم في خلافة عمر يوم جسر أبي عبيد، ويوم مهران، ويوم القادسية، ويوم المدائن، وجلولاء وحلوان.

هذا كلّه قبل أن ينزلوا الكوفة، ثمّ نزلوها ففتحوا الموصل، وآذربايجان، وتستر، وما سبذان، ورامهرمز، وجرجان، والدينور. ولهم مع أهل البصرة نهاوند، ولهم بعض الري، وبعض إصبهان، ولهم طميس، ونامية من طبرستان.

ونزل الكوفة من الخلفاء والأئمّة علي والحسنعليهما‌السلام ، ومن الملوك والخلفاء معاوية وعبد الملك، وأبو العباس وأبو جعفر المنصور، والمهدي وهارون الرشيد، وكان بها عمّال العراق، والدعوة لهم في العطاء قبل أهل البصرة.

عدّة أهل الكوفة ثمانون ألفاً، ومقاتلتهم أربعون ألفاً، وكان زياد يقول: أهل الكوفة أكثر طعاماً، وأهل البصرة أكثر دراهم.

وقال الأحنف بن قيس: نزل أهل الكوفة في منازل كسرى بن هرمز بين الجنان اللتفة والمياه الغزيرة والأنهار المطّردة، تأتيهم ثمارهم غضّة لم تخضد ولم تفسد، ونزلنا أرضاً هشاشة في طرف فلاة، وطرف ملح أُجاج في سبخة نشاشة لا يجفّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، يأتينا ما يأتينا في مثل مرء النعامة.

قال: ولمّا ظهر أمير المؤمنينعليه‌السلام على أهل البصرة قال أعشى همدان:

أكسع البصريَّ إن لاقيته

إنّما يُكسع من قلّ وذلْ

واجعل الكوفيَّ في الخيلِ ولا

تجعل البصريَّ إلاّ في النفلْ

وإذا فاخرتمونا فاذكروا

ما فعلنا بكمُ يوم الجملْ

بينَ شيخٍ خاضبٍ عثنونه

وفتىً أبيضَ وضاحٍ رفلْ

جاءنا يخطر في سابغةٍ

فذبحناه ضحىً ذبح الحملْ

وعفونا فنسيتم عفونا

وكفرتم نعمة الله الأجلْ

وقال قطرب بن خليفة: نازعني قتادة في الكوفة والبصرة، فقلت: دخل الكوفة سبعون بدريّاً، ودخل البصرة عتبة بن غزوان. فسكت.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « قبّة الإسلام الكوفة، والهجرة بالمدينة، والأبدال بالشام، والنجباء بمصر وهم قليل ».

١٧٤

وقالوا: مَنْ نزل الكوفة فلم يقرّ بفضل ثلاث فليست له بدار؛ بفضل ماء الفرات، ورطب المشان، وفضل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام . ومَنْ نزل البصرة فلم يقرّ لهم بثلاث فليست له بدار؛ بفضل عثمان، وفضل الحسن البصري، ورطب الأزاذ.

قالوا: ومن أسخياء الكوفة هلال بن عتاب، وأسماء بن خارجة، وعكرمة بن ربعي الفيّاض. ومن فتيانها؛ خالد بن عتاب، وأبو سفيان بن عروة بن المغيرة بن شعبة، وعمرو بن محمد بن حمزة.

قال سعيد بن مسعود المازني لسليمان بن عبد الملك: منّا أحلم الناس الأحنف، وأحلمهم بحلمه أياس بن قتادة، وأسخاهم طلحة بن عبد الله بن خلف، وأشجعهم عبّاد بن حصين والحريش، وأعبدهم ابن قيس.

فقال نظّار الكوفة: منّا أشجع الناس الأشتر، وأسخاهم خالد بن عتاب، وأحلمهم عكرمة الفيّاض، وأعبدهم عمرو بن عتبة بن فرقد.

وقالوا: إذا كان علم الرجل حجازيّاً، وطاعته شاميّاً، وسخاؤه كوفيّاً فقد كمل.

افتخار الكوفيّين والبصريّين(1)

قال: اجتمع عند أبي العباس أمير المؤمنين عدّة من بني علي وعدّة من بني العباس، وفيهم بصريون وكوفيون. منهم أبو بكر الهذلي وكان بصريّاً، وابن عيّاش وكان كوفيّاً.

فقال أبو العباس: تناظروا حتّى نعرف لمَنْ الفضل منكم.

قال بعض بني علي: إنّ أهل البصرة قاتلوا عليّاً يوم الجمل، وشقّوا عصا المسلمين.

قال أبو العباس: ما تقول يا أبا بكر؟ قال: معاذ الله أن يُجهل أهل البصرة! إنّما كانت شرذمة منها شذّت عن سبل المنهج واستحوذ عليها الشيطان، وفي كلّ قوم صالح وطالح؛ فأمّا أهل البصرة فهم أكثر أموالاً وأولاداً، وأطوع للسلطان، وأعرف برسوم الإسلام.

قال ابن عياش: نحن أعلم بالفتوح منكم؛ نحن نفينا كسرى عن البلاد، وأبرنا جنوده، وأبحنا ملكه، وفتحنا الأقاليم، وإنّما البصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد ينتهي إليها الماء بعد تغييره وفساده؛ مضغوطة قبل ظهرها بأخشن أحجار وأقلّها خيراً، مضغوطة من فوقها ببطيحتها وإن

____________________

(1) انظر كتاب البلدان - ابن الفقيه / 167، طبع ليدن.

١٧٥

كانوا يستعذبون ماءهم، ولولا ذلك ما انتفعوا بالعيش، ومضغوطة بالبحر الأخضر من أسفلها، ونحن قللناهم على وجه المعزاء، وبعثنا إليهم من جندنا ما كان منه قوامهم.

وإنّما أهل البصرة بمنزلة الرسل لنا، ومحلّ الكوفة محلّ اللهوات واللسان من الجسد، وموضعها على صدور الأرضين، ينتهي إليها الماء ببرده وعذوبته، ويتفرّق في بلادنا، ويجوز بالعذبة الزكية الفرات ودجلة، والبصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد.

قال أبو بكر: أنتم مهما وصفت أكثر أنبياء، وما لنا إلاّ نبي واحد وهو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعامّة أنبيائكم الحاكة.

فضحك أبو العباس حتّى كاد يسقط عن السرير، ثم قال له: لله درّك يا أبا بكر! فقال أبو بكر: وما رأيت الأنبياء مصلوبين إلاّ ببلاد الكوفة.

فقال ابن عيّاش: عيّرت أهل الكوفة بثلثة مجانين من السفلة ادّعوا النبوّة بالجنون؛ فصلبهم الله بالكوفة، فمَنْ يعيّر به أهل البصرة من المدّعين للعقول والشرف؟ والروايات للحديث كثير كلّهم يزعم أنّه يهدي نفسه ويضلّها، والمتنبئ بالجنون أيسر خطباً من ادّعاء الصحيح هدى نفسه وضلالها، فلقد ادّعوا الربوبية في قول بعضهم.

فقال أبو العباس: هذه بتلك أو أشدّ يا أبا بكر، فاعترض عليهم بعض العلوية وهو الحسن بن زيد، فقال: يا أبا بكر، أما قتلتم عليّاً يوم الجمل؟ فقال: بلى، قاتله شرذمة وكفّ الله (عزّ وجلّ) أيدينا وسلاحنا عن قتله نظراً منه لنا، ثمّ رجع إلى الكوفة فقتلوه وولده، وولد ولده وبني عمّه، وأخرجوا الحسين بن علي بعد بيعتهم له حتّى هرب منهم.

فقال ابن عياش: بل قصّر الله أيديكم بطول أيدي الكوفة، وبنصرتهم عليكم، وكيف تعيّرنا بباطل رجل واحد منّا يبلغ بباطله ما عجز عنه عامّتكم، ولقد حدّثني أشياخ من النخع أنّ أهل الكوفة كانوا يوم الجمل تسعة آلاف رجل مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان عليه ثلاثون ألفاً مع طلحة والزبير وعائشة، فلمّا التقوا لم يكن أهل البصرة إلاّ كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

فقال أبو بكر: ومتى كان أهل البصرة ثلاثين ألفاً يقاتلون أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد اعتزلهم الأحنف بن قيس في سعد والرباب؟! وقد دخلنا بعد ذلك الكوفة فذبحنا بها ستة آلاف رجل من أصحاب نبيّهم المختار كما يذبح

١٧٦

الحملان، سوى من هرب بعد أن جاء أسماء بن خارجة الفزاري، ومحمد بن الأشعث الكندي، وشبث بن ربعي التميمي، واستعانوا بأهل البصرة، وشكا إليهم المختار وأصحابه، وما قتل من رجالهم واستباح من حريمهم، فخرجنا مع مصعب ابن الزبير حتّى قتلنا نبيّهم المختار، ومَنْ قدرنا عليه من أصحابه، واعتقناهم من الرق، فلنا الفضل على أهل الكوفة، ولنا المنّة عليهم، وعلى أعقابهم لو كانوا يشكرون.

قال ابن عياش: أتاكم أهل الكوفة يوم الجمل مع علي فقتلوكم، فأرى أهل الكوفة غالبين ومغلوبين على الحقّ، وأرى أهل البصرة غالبين ومغلوبين على الباطل.

فقال أبو العباس: يا أبا بكر، دونك فإنّي أرى ابن عيّاش مفوّهاً جدلاً.

قال أبو بكر: ما لهم بنا طاقة.

قال ابن عياش: لسنا في حرب فيرى مغالبنا، وإنّما نحن في كلام فأحسن الكلام أوضحه حجّة.

فقال الحسن بن زيد: يا أبا بكر، لا تغالب أهل الكوفة، ولا تفاخرهم؛ فإنّهم أكثر فقهاء وأشرافاً منكم.

فقال أبو بكر: معاذ الله، أنّى يكون هذا! وما كان فيهم شريف إلاّ وفينا أشرف منه، وما كان في تميم الكوفة مثل الأحنف في تميم البصرة، ولا في عبد القيس الكوفة مثل الحكم بن الجارود في عبد القيس البصرة، ولا كان في بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع في بكر البصرة، ولا كان في قيس الكوفة من قتيبة بن مسلم في قيس البصرة.

قال ابن عياش: زدنا يا أبا بكر إن وجدت مزيداً، فعندنا أضعاف ما ذكرت، ومن أنت ذاكره إن شاء الله.

قال أبو بكر: كفى بهذا فخراً وعزّاً وشرفاً.

فقال ابن عياش: قطع بك يا أبا بكر، إنّما أهل البصرة مثل نظام البعر المستوي واسطته درة فهي فيهم مشهورة، وأهل الكوفة مثل نظيم الدرّ فواسطته منه لها أشباه كثيرة؛ ذكرت الأحنف في تميم البصرة، وفي تميم الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس رهن قوسه عن جميع العرب، والنعمان بن مقرن صاحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المقدّم على جميع جيوش المسلمين أيام عمر بن الخطاب، وحسان بن المنذر بن ضرار من بيت ضبّة وسيّدها عتاب بن ورقاء جواد العرب.

وشبث بن ربعي التميمي قائد أهل البصرة وسائقهم مع

١٧٧

مصعب بن الزبير، وعكرمة بن ربعي التميمي الذي قيل فيه:

وعكرمة الفيّاض ربّ الفضائلِ

فهؤلاء سادة تميم الكوفة.

والعجب لفخرك بمالك بن مسمع في بكر بن وائل على مصقلة بن هبيرة وقد أقرّ بين يدي علي بن أبي طالب بشرفه وفضله، ومنهم خالد بن معمر وشقيق بن نثور السدوسي، وسويد بن منجوف وحريث بن جابر، والحضين بن منذر ومحدوج المخزومي، ويزيد بن رويم الشيباني والقعقاع بن شور الذهلي!

وأمّا فخرك بقتيبة بن مسلم فما أنت وذاك؟! إنّما هو رجل من باهلة صنعه الحجّاج، والشرف من قيس في عامر بن صعصعة من بني لبيد بن ربيعة الشاعر جاهليّاً وإسلاميّاً، وإنّما فخرت بواحد من مئة، ألا إنّي أجمل لك: أميرنا علي بن أبي طالب، ومؤذننا عبد الله بن مسعود، وقاضينا شريح، فهات في أهل البصرة واحداً من هؤلاء الثلاثة.

قال أبو بكر: أميرنا عبد الله بن عباس.

قال ابن عياش: نحن بطانة عبد الله وظهارته، وأنصاره وجنده عليكم، ونحن أحقّ به منكم.

فقال ابو بكر: فإن كان مؤذّنكم عبد الله بن مسعود فمنّا أنس بن مالك خادم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال ابن عياش: وأين أنس من ابن مسعود فتقيسه به؟! ولقد نزل الكوفة سوى من سمّيت لك سبعون رجلاً من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فنقيم لك واحداً بأنس، ثمّ نفتخر عليك بتسعة وستين باقين.

فقال أبو بكر: فإن كان شريح قاضيكم ففينا الحسن البصري سيّد التابعين، وابن سيرين في فضلهما وفقههما.

فقال ابن عياش: إن عددت هذين وباهيت بهما عددنا لك أويساً القرني الذي يشفع في مثل ربيعة ومضر، وربيع بن خيثم والأسود بن يزيد، وعلقمة ومسروقاً، وهبيرة بن يريم وأبا ميسرة، وسعيد بن جبير والحارث الأعور صاحب علي بن أبي طالب وراويته، وأين أنت عمّن لم ترَ عينك مثله في زمانه من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أحفظ لما سمع، ولا أفقه في الدين، ولا أصدق في الحديث، ولا أعرف بمغازي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأيّام العرب، وحدود الاسلام والفرائض، والغريب والشعر، ولا أوصف لكلّ أمر من عامر بن شراحيل الشعبي؟!

فقال: كلّ مَنْ حضر لقد كان كذلك، وبالكوفة بيوتات العرب الأربعة؛

١٧٨

فحاجب بن زرارة بيت تميم، وآل زيد بيت قيس، وآل ذي الجدين بيت ربيعة، وآل قيس بن معدي كرب الزبيدي بيت اليمن، وبالكوفة فرسان العرب الأربعة في الجاهلية والإسلام؛ عمرو بن معدي كرب، والعباس بن مرداس السلمي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وأبو محجن الثقفي.

وأهل الكوفة جند سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، وأصحاب الجمل وصفين، وخانقين وجلولاء ونهاوند، وفرسانهم المعدودون في الإسلام؛ مالك بن الحارث الأشتر النخعي، وسعد بن قيس الهمداني، وعروة بن زيد الطائي صاحب وقعة الديلم، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي.

فقال أبو بكر: هذا الذي سلب الحسين بن علي قطيفته فسمّاه أهل الكوفة عبد الرحمن قطيفة، فقد كان ينبغي أن لا تذكره.

فضحك أبو العباس من قول أبي بكر، فقال ابن عيّاش: والذي سار تحت لوائه أهل الكوفة والبصرة وجماعة أهل العراق، وبالكوفة من أحياء العرب بأسرهم ما ليس بالبصرة منهم إلاّ أهل بيت واحد، وهم الذين يقول فيهم علي بن أبي طالب:

فَلو كُنتَ بَوّاباً عَلى بابِ جَنَةٍ

لَقُلتُ لِهَمدانَ اِدخلوا بِسلامِ

فقال أبو بكر: فهل فيمَنْ سمّيت أحد إلاّ قاتل الحسين بن علي وأهل بيته، أو خذلهم أو سلبهم وأوطأ الخيل صدورهم.

فقال ابن عيّاش: تركت الفخر وأقبلت على التعبير، أنتم قتلتم أباه علي بن أبي طالب، فأمّا أهل الكوفة فكان منهم مع الحسين يوم قتل أربعون رجلاً، وإنّما كان معه سبعون رجلاً فماتوا كلّهم دونه، وقتل كلّ واحد منهم عدوّه قبل أن يُقتل.

فقال أبو بكر: إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم، ووصلوا المثانة؛ كتبوا إلى الحسين بن علي إنّا معك مئة ألف وغرّوه، حتّى إذا جاء خرجوا إليه فقتلوه وأهل بيته صغيرهم وكبيرهم، ثمّ ذهبوا يطلبون دمه، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟!

فقال ابن عيّاش. ومن أهل الكوفة أبو عبد الله الجدلي الذي صار ناصراً لبني هاشم حين حصرهم ابن الزبير، وكتب ابن الحنفيّة يستنصرهم، فسار في عدّة ممّن كان مع ابن الزبير حتّى صيّر الله بني هاشم حيث أحبّوا، فهل كان فيهم بصري؟!

فنهض أبو العباس وهو يقول: الكوفة

١٧٩

بلاد الأدب، ووجه العراق، ومبزغ أهله، وعليها الجحاش، وهي غاية الطالب، ومنزل خيار الصحابة وأهل الشرق، وإنّ أهل البصرة لأشبه الناس بهم، ثمّ قام.

ذكر ما جاء في مسجد الكوفة(1)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لقد صلّى في هذا البيت - يعني مسجد الكوفة - تسعون نبيّاً، وألف وصي، وفيه فار التنور، وخرجت منه السفينة، وفيه عصا موسى، وخاتم سليمان بن داود، والبركة منه على اثني عشر ميلاً، وهو أحد المساجد الأربعة التي تعظّم، ولأن أُصلّي فيه ركعتين أحبّ إليّ من أن أصلّي عشراً في غيره، إلاّ في المسجد الحرام ومسجد الرسول ».

وقال ليث بن أبي سليم: بلغني أنّ المكتوبة في مسجد الكوفة تعدل حجّة، والتطوّع يعدل عمرة.

ويقال: إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: « إنّ بالكوفة أربع بقاع قدس مقدّسة، فيها أربع مساجد ». قيل: سمّها يا أمير المؤمنين. قال: « أحدها: مسجد ظفر، وهو مسجد السهلة، إنّ أطنابها من الأرض لعلى ياقوته خضراء، ما بعث الله نبيّاً إلاّ صورة وجهه فيها. والثاني: مسجد جعفي، لا تذهب الأيّام والليالي حتّى تنبع منه عين. والثالث: مسجد غنى، لا تذهب الليالي والأيّام حتّى تنبع منه عين، وحوله جنينة. والرابع: مسجد الحمراء، وهو في موضع بستان، لا تذهب الليالي والأيّام حتّى تنبع منه عين تنطف ماء حواليه، وفيه قبر أخي يونس بن متّى ».

ويُقال: إنّ مسجد السهلة مناخ الخضر، وما أتاه مغموم إلاّ فرج الله عنه. قال: ونحن نسمّي مسجد السهلة مسجد القرى.

وقد نظم ثلاثة من الأفاضل الولائية هذه القصيدة، عنوانها (من وحي مسجد الكوفة ):

هنا تنشقُ النفسُ إيمانَها

فخلِّ الحياةَ وأشجانَها

هنا يعذبُ الشعرُ والعاطفات

تردّدُ بالاُفقِ ألحانَها

____________________

(1) انظر البلدان - ابن الفقيه / 173، طبع ليدن.

١٨٠