الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية66%

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 60

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية
  • البداية
  • السابق
  • 60 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29984 / تحميل: 6018
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كانت العقبة الكؤود أمام هذا المخطط الرهيب وجود الحسنعليه‌السلام ، ومحبة الناس له، والكوفة قلعة الولاء لعليعليه‌السلام ، والأحاديث النبويّة الصحيحة في حق علي وأهل بيته، وتاريخ بني اُميّة في حرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومخالفات الخلفاء السابقين لسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي انتشرت أخبارها بين المسلمين جميعاً.

كانت ركائز خطة معاوية هي:

١ - اغتيال الحسنعليه‌السلام بالسم.

٢ - المنع من رواية فضائل علي وأهل بيتهعليهم‌السلام .

٣ - وضع أحاديث تطعن بعليعليه‌السلام وتشوّه سيرته، وتسوّغ لعنه والبراءة منه، ثمّ وضع أحاديث تجعل من شخصيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شخصيّة اعتيادية.

٤ - وضع أحاديث في فضائل معاوية والخلفاء السابقين توجب الولاء لهم، والتقرب بهم إلى الله تعالى والطاعة المطلقة لهم.

٥ - قتل وجوه أصحاب عليعليه‌السلام باعتبارهم سيقفون معارضين لتلك السياسة، وتفريغ الكوفة من شيعة علي بإشغالهم بالفتوح، وتحويل الكوفة إلى بلد مطيع لبني اُميّة. وجَدَّ في ذلك معاوية كل الجِدّ، وصرف كل قدراته في تنفيذ تلك الخطوات.

شهد الحسينعليه‌السلام نقض معاوية لشروط الحسنعليه‌السلام بعد وفاته، وشهد فصول حركته التحريفيّة التي استهدفت (تفريغ) الإسلام من محتواه المحمدي الأصيل الذي يقوم على الولاء لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلي والأئمةعليهم‌السلام من ولده؛ بصفتهم أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيمعليه‌السلام ، و(استبداله) بمحتوى اُموي يقوم على البراءة من عليعليهم‌السلام ولعنه؛ بصفته ملحداً في الدين، ثمّ الولاء لبني اُميّة بصفتهم أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيمعليه‌السلام ، وأنهم أئمة هدى، وأنهم خلفاء الله وشفعاؤه في خلقه.

٢١

جدَّد وجوه الكوفيِّين العهد مع الحسينعليه‌السلام بعد وفاة الحسنعليه‌السلام ، وعرضوا عليه النهوض في وجه معاوية لنقضه الشروط، فأجابهم الحسينعليه‌السلام أن يكونوا أحلاس بيوتهم ريثما يموت معاوية(٥) ، وطلب منهم العمل سراً على مواصلة نشر الحديث النبوي الصحيح.

وتكررت لقاءاتهم مع الحسينعليه‌السلام لأخذ التوجيه منه، وكان آخر لقاء له معهم هو قبل موت معاوية بسنة؛ حيث جمعهم في مؤتمر سرّي تدارس فيه معهم الخطة بعد موت معاوية.

عيَّن معاوية ولده يزيد خليفة من بعده، وأخذ البيعة له من الناس، وحاول أخذ البيعة له من وجوه كان يخشى أن لا تبايعه بعد موته، منها الحسينعليه‌السلام ، وعبد الله بن الزبير وغيرهما، ولم ينجح معهم.

المعركة بين الطرفين حول الهداية

يتّضح من ذلك أنَّ المعركة الأساسيّة بين الحسينعليه‌السلام وبين ومعاوية وولده يزيد لم تكن معركة حول السلطة، بل كانت حول الهداية؛ فهي نظير المعركة بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش لمّا بُعث في مكة؛ حيث كانت قريش بعد وفاة عبد المطلبرضي‌الله‌عنه بعد أن ميَّزه الله تعالى بقصة الفيل، وإبرازه أولى بإبراهيم ودينه، قد عرضت نفسها على أنها أولى الناس بمقام إبراهيمعليه‌السلام وبدينه، ومن ثمّ يتعيّن على الناس أخذ أحكام الحج من قريش.

وخضعت الناس لقريش في ذلك حتّى بعث الله تعالى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وميَّز بني هاشم على غيرهم مرة اُخرى.

____________________

(٥) روى اليعقوبي في تاريخه قال: ولمّا توفي الحسن وبلغ الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزّونه على مصابه بالحسنعليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي ما أعظم ما اُصيب به هذه الاُمّة عامة، وأنت، وهذه الشيعة خاصة بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد، المرجو لإقامة الدين، وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله...؛ فإنّ فيك خلفاً ممّن كان قبلك، وإنّ الله يؤتي رشده من يهدى بهديك.

ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، وردّ عليك حقك.

٢٢

وهي أيضاً نظير المعركة بين موسى وفرعون في مصر، كانت معركة حول التوحيد وليست حول السلطة؛ فقد عرض فرعون نفسه على أنه خليفة الله وشفيعه، والهادي إلى دينه ورضاه في قبال آل يعقوب، واستضعف الأئمة من آل يعقوب بسب عدم خضوعهم له في ذلك. وبعث الله تعالى موسى ليميِّز آل يعقوب من جديد، ولينقذهم من العذاب المهين، ويفتح الطريق لإمامتهم الهادية.

وكذلك فإنَّ المعركة الأساسية بين عليعليه‌السلام والخلفاء القرشيِّين الثلاثة كانت حول الهداية وليس حول السلطة؛ عليعليه‌السلام يرفض بيعة أبي بكر، ولو وجد أربعين ذوي عزم لجاهدهم ليس لأجل الملك، بل لأجل حفظ رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تعبث بها قريش المسلمة، قريش التي جعلت من سيرة أبي بكر وعمر في عداد كتاب الله وسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد رفض عليعليه‌السلام أن يبايعه عبد الرحمن بن عوف على أساس ذلك، ولما وجد الأنصار نهض وقاتل كما فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانتشرت سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جديد في الجيل الذي حُرم منها، ولولا عليعليه‌السلام لم تنتشر.

وكذلك فإنّ المعركة بين معاوية والحسنعليه‌السلام لم تكن حول السلطة، بمعنى أن الحسنعليه‌السلام لم يصالح معاوية من أجل أن يرجع إليه الملك فحسب، وإن كان هذا الملك من حقه، ولكنّه صالَح حتّى تحفظ الرسالة من خطر التحريف المستلزم بعثة نبيّ وبطلان ختم النبوة. ولولا الصلح لتعددت القبلة، وتعدد الكتاب فضلاً عن ضياع الشريعة وأحكامها.

٢٣

وكذلك الأمر بين الحسينعليه‌السلام ومعاوية ويزيد، فلم يكن رفض البيعة من قبل الحسينعليه‌السلام ، ثمّ أخذ البيعة من أهل الكوفة لأجل الملك(٦) ، بل رفض البيعة ليزيد، وقال:« لو لم يكن لي ملجأ لما بايعت يزيد » ؛ لأنّ البيعة ليزيد ولو كرهاً تعني السكوت عن أخطر عملية تحريف للسنة النبويّة؛ لأنه تحريف يجعل من عليٍّعليه‌السلام رمزاً للإلحاد في الإسلام والانحراف عنه، ويكون لعنة من أفضل القربات عند الله، ويجعل من الخليفة الاُموي رمزاً للهداية تكون طاعته من أفضل الطاعات.

وبقي الحسينعليه‌السلام على موقفه حتّى حين حوصر وفُصِل بينه وبين أنصاره، وهذا النوع من الانحراف لم يكن حتّى زمن الخلفاء الثلاثة.

وفيما يلي تفصيل عن مفردات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحرّك فيه الحسينعليه‌السلام ، وكيف انحصر التغيير وفتح خط الهداية به، وكيف كانت خطة الحسينعليه‌السلام لذلك.

____________________

(٦) كما فعل ابن الزبير حين رفض بيعة يزيد، وأخذ البيعة من أهل مكّة لأجل الملك.

٢٤

مفردات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحرك فيه الحسينعليه‌السلام

المفردة الأولى: البراءة من عليعليه‌السلام أحد أركان الإسلام الذي تقدّمه دولة معاوية للناس

استطاع معاوية في حياة الحسنعليه‌السلام أن يكسر حِدَّة تحركات الخوارج، وأن يبني جيشاً قوياً يقابل به الروم، ويستأنف مشروع الخلافة في الفتوح الذي توقّف زمن عليعليه‌السلام ، وأن يبني جهاز الأمن الداخلي لينفّذ به ما يريد. ثمّ تخلّص من الحسنعليه‌السلام بطريقته المعهودة بأن دسّ السمَّ له عن طريق زوجته ابنة الأشعث بن قيس، ثمّ طالع الاُمّة بمنهجه الجديد في التربية والبناء من خلال ما يلي:

أ - تربية الاُمّة على لعن عليعليه‌السلام والبراءة منه

جهد معاوية على تربية الاُمّة على البغض لعليعليه‌السلام ولعنه على منابر المسلمين، وترويج الأحاديث الكاذبة في ذمه، والمنع من ذكر أيّة رواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضله، ومعاقبة المخالف بالقتل والتهجير والسجن، وقطع الأيدي والنفي والحرمان من العطاء.

قال أبو عثمان الجاحظ(١) : إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللهمَّ إنّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر.

قال أبو جعفر الأسكافي (ت٢٢٠)(٢) : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعَلاً يُرغب في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير(٣) .

____________________

(١) هو عمرو بن بحر الليثي البصري اللغوي النحوي، كان مائلاً إلى النصب، توفي (٢٥٦) هجـ.

(٢) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٥ / ٤١٦: محمّد بن عبد الله أبو جعفر الأسكافي، أحد المتكلّمين من معتزلة البغداديِّين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه ويناظره.

(٣) ومنهم أيضاً مرة الهمداني، والأسود بن يزيد، ومسروق الأجدع، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو عبد الرحمن السُّلمي القارئ، وقيس بن حازم، وسعيد بن المسيب، والزهري، ومكحول، وحريز بن عثمان وغيرهم (شرح النهج ٤ / ٦٧ - ١١٠).

٢٥

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليّيَ الله وصالح المؤمنين(٤) .

روى أبو الحسن على بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.

فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.

____________________

(٤) رواه البخاري ٥ / ٢٢٣٣ (الموسوعة الذهبية)، مسلم ١ / ١٩٧، مسند أحمد ٤ / ٢٠٣، وفيها (آل أبي فلان). قال في فتح الباري ١٠ / ٤٢٣: قال أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين: كان في أصل حديث عمرو بن العاص أنّ آل أبي طالب، فغيّر آل أبي فلان، كذا جزم به. وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع عليه، ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المُنكِر؛ فإنّ هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل بن الموفق، عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري، عن بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص رفعه أنّ لبني أبي طالب رحماً أبلّها ببلالها.وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضاً، لكن أبهم لفظ (طالب)، وكأن الحامل لمّن أبهم هذا الموضع ظنّهم أن ذلك يقتضي نقصاً في آل أبي طالب، وليس كما توهموه كما ساُوضّحه إن شاء الله تعالى. قوله: (ليسوا بأوليائي) كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذر (بأولياء)، فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي مَن لم يسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكلِّ وإرادة البعض، والمنفيُّ على هذا المجموعُ لا الجميع. وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول، وهو الراجح؛ فإنّ من جملة آل أبي طالب علياً وجعفراً، وهما من أخصِّ الناس بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين. وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث؛ لما نُسب إلى بعض رواته من النصب، وهو الانحراف عن علي وآل بيتهعليهم‌السلام . قال ابن حجر: أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة: تكلّم أصحابنا في قيس، فمنهم مَن رفع قدره وعظّمه، وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد، حتّى قال ابن معين: هو أوثق من الزهري. ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير. وأجاب من أطراه بأنها غرائب، وإفراده لا يقدح فيه. ومنهم مَن حمل عليه في مذهبه، وقال: كان يحمل على علي؛ ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيّين. وأجاب مَن أطراه بأنه كان يقدّم عثمان على علي فقط. قال ابن حجر: والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر، وهما كوفيان، ولم يُنسبا إلى النصب، لكن الراوي عن بيان - وهو عنبسة بن عبد الواحد - اُموي قد نسب إلى شيء من النصب.

وأمّا عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يُتّهم، وللحديث محمل صحيح لا يستلزم نقصاً في مؤمني آل أبي طالب، وهو أنّ المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويُحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه، وهو إطلاق سائغ. انتهى كلام ابن حجر.

٢٦

قال الباقرعليه‌السلام :« وكان عُظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام ؛ فقُتلت شيعتنا بكلِّ بلدة، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظِّنَّة، وكان من يذكِّر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين » (٥) .

ب - تربية الاُمّة على الولاء لمعاوية وابنه يزيد وذرّيته وتوصيف نفسه بخليفة الله

جدّ معاوية في تربية الاُمّة على أن طاعته هي من أعظم الطاعات الإلهيّة لله، وأن معصيته من أعظم المعاصي، وروَّج الأحاديث الكاذبة التي تحطّ من شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق هوى الحكّام وسيرتهم، وظهرت أحاديث موضوعة على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تمدح معاوية.

- روى الترمذي بسنده عن سعيد بن عبد العزيز (راوي شامي)، عن ربيعة بن يزيد (راوي شامي)، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة (صحابي سكن الشام)(٦) ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لمعاوية: اللهمّ اجعله هادياً مهدياً واهدِ به(٧) .

- ورووا أنه قال: ائتمن الله على وحيه ثلاثة؛ جبرئيل في السماء، ومحمّداً في الأرض، ومعاوية بن أبي سفيان(٨) !

وكان معاوية يكرم من يسايره من الرواة بالعطاء والتشفيع، والتولية والتوظيف في مرافق الدولة.

____________________

(٥) نهج البلاغة ١١ / ٤٤.

(٦) عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، قال أبو حاتم وابن السكن: له صحبة، ذكره البخاري وابن سعد وابن البرقي وابن حبان وعبد الصمد بن سعيد في الصحابة، وذكره أبو الحسن بن سميع في الطبقة الاُولى من الصحابة الذين نزلوا حمص، وكان اختارها. سكن الشام وحديثه عند أهلها.

وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما من طريق سعيد بن عبد العزيز (الشامي)، عن ربيعة بن يزيد (الشامي)، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، وكان من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لمعاوية: اللهمَّ علّمه الكتاب والحساب، وقِه العذاب. لفظ الطبراني ولفظ الترمذي (اللهمَّ اجعله هادياً مهدياً واهدِ به).

وأخرج ابن قانع من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز الشامي أنه سمعه يحدّث عن يونس بن ميسرة (الشامي)، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نحو اللفظ الثاني.

وأخرجه البخاري في التاريخ، قال: قال لي أبو مسهر، فذكره بالعنعنة ليس فيه وكان من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكره من طريق مروان عن سعيد، فقال فيه: سمع عبد الرحمن، سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (الإصابة لابن حجر).

(٧) جامع الترمذي ٥ / ٦٨٧، مسند أحمد ٤ / ٢١٦، مسند الشاميِّين ١ / ١٨١، الآحاد والمثاني ٢ / ٣٥٨، المعجم الأوسط للطبراني ١ / ٣٨٠، وقد رواه عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.

(٨) سير أعلام النبلاء - للذهبي، وتاريخ دمشق - لابن عساكر - ترجمة معاوية.

٢٧

ج - تربية الاُمّة على السكوت على الظلم

وجدّ معاوية أيضاً على تربية الاُمّة على السكوت على الظلم مهما بلغت شدته وقسوته، من خلال ترويج أحاديث كاذبة تدعو إلى ذلك:

- فرووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك(٩) .

- وأنه قال: فإن رأيت يومئذ لله (عزّ وجلّ) في الأرض خليفة فألزمه وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك(١٠) .

د - تربية الاُمّة على الطاعة المطلقة للخليفة

وجهد معاوية أيضاً في تربية الاُمّة على الطاعة المطلقة للخليفة واعتبارها رأس الطاعات.

- ورووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: مَن خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهليّة(١١) .

وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ثلاثة لا تسأل عنهم؛ رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً فلا تسأل عنه، وأمة أو عبد أبق من سيده، وامرأة غاب زوجها وكفاها مؤونة الدنيا فتبرجّت وتمرّجت بعده(١٢) .

أقول: المراد بالإمام في الرواية الحاكم الأعلى للمسلمين.

____________________

(٩) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.

(١٠) مسند أحمد ٥ / ٤٠٣.

(١١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.

(١٢) الأدب المفرد للبخاري / ٢٠٧، وفيه، قال: حدّثنا عثمان بن صالح، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدّثنا أبو هانئ الخولاني، عن أبي علي الجنبي، عن فضالة بن عبيد، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال...

أيضا مسند أحمد ٦ / ١٩، صحيح ابن حبان ١٠ / ٤٢٢، المستدرك على الصحيحين ١ / ٢٠٦، المعجم الكبير للطبراني ١٨ / ٣٠٦.

٢٨

المفردة الثانية: ظهور جيل مسلم جديد يتقرّب إلى الله تعالى بلعن عليعليه‌السلام

نشأ على أساس تلك التربية والمنهج جيل جديد في الاُمّة ما بين سن الخامسة عشر وسن الخامسة والعشرين، وقد كان هذا الجيل المادة الأساسية للجيش وقوى الشرطة وبقية المواقع الاجتماعية والإدارية.

أما معلموا هذا الجيل فهم جماعة من الصحابة الذين حاربوا علياًعليه‌السلام في الجمل وصفين، أو الذين أغراهم معاوية بالمال، وجماعة من التابعين الذين ساروا على منهجهم.

وكان من هؤلاء الصحابة مسلم بن عقبة المري(١٣) قائد جيش أهل الشام في واقعة الحرة في المدينة. قال في وصيته عند موته: اللهمّ إنك تعلم أني لم أعصِ خليفة قط. اللهمّ إني لم أعمل عملاً أرجو به النجاة قط إلاّ ما فعلتُ بأهل المدينة(١٤) .

وفي رواية اليعقوبي: اللهمّ إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة فإني إذاً لشقي(١٥) .

____________________

(١٣) قال ابن حجر في الإصابة: مسلم بن عقبة المري، أبو عقبة، الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرة، ذكره ابن عساكر وقال: أدرك النبي، وشهد صفّين مع معاوية، وكان على الرجّالة.

وعمدته في إدراكه أنه استند إلى ما أخرجه محمّد بن سعد في الطبقات عن الواقدي بأسانيده، قال: لما بلغ يزيد بن معاوية أنّ أهل المدينة أخرجوا عامله من المدينة وخلعوه، وجّه إليهم عسكراً أمر عليهم مسلم بن عقبة المري، وهو يومئذ شيخ ابن بضع وتسعين سنة. فهذا يدل على أنه كان في العهد النبوي كهلاً.

وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سمّوه مسرفاً، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون، ثمّ رفع القتل، وبايع مَن بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية.

وتوجّه بالعسكر إلى مكة ليحارب ابن الزبير؛ لتخلّفه عن البيعة ليزيد، فعوجل بالموت فمات بالطريق، وذاك سنة ثلاث وستين.

واستمر الجيش إلى مكة، فحاصروا ابن الزبير ونصبوا المنجنيق على أبي قبيس، فجاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، وانصرفوا. والقصة معروفة في التواريخ.

(١٤) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٠١.

(١٥) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١.

٢٩

ومن التابعين شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسينعليه‌السلام ، قال أبو إساحق: كان يصلي معنا، ثمّ يقول: اللهمَّ إنك تعلم أني شريف فاغفر لي.

قلت: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

قال: ويحك! فكيف نصنع؟! إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنّا شراً من هذه الحمر الشقاء(١٦) .

المفردة الثالثة: محاصرة شيعة عليعليه‌السلام واضطهادهم وتصفيتهم

شيعة عليعليه‌السلام هم طبقة من المحدِّثين، فيهم مئات من الصحابة وآلاف التابعين، لهم معتقد بعليعليه‌السلام قام على أساس أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته مع عليعليه‌السلام ، وكذلك قام هذا المعتقد على أساس أحاديث عليعليه‌السلام وسيرته في المجتمع خلال السنوات الخمس التي حكم فيها، وهي سيرة أحيت المعطّل من كتاب الله، والمكتوم من سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتذوَّق خلالها الناس كرامة الحياة التي يدعو إليها الأنبياء.

تركَّز شيعة عليعليه‌السلام في الكوفة بصفتها البلد الذي شهد حركة عليعليه‌السلام الفكرية والتربوية والسياسية. حمل شيعة عليعليه‌السلام كل ذكرياتهم عن عليعليه‌السلام وما تعلموه منه، وهو كل الإسلام الذي جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووعاه عليعليه‌السلام وعياً تاماً دون غيره من الصحابة، ونشروه في البلدان التي لم تعرف عن عليعليه‌السلام وسيرته، وبخاصة الشام أيام سنوات الصلح بين الحسنعليه‌السلام ومعاوية.

وصار الشيعة وبخاصة في العراق غرضاً لخطة معاوية في التصفية والإبادة والتطويق، بصفتهم العقبة الكؤود أمام منهجه التربوي والسياسي الجديد؛ ومن هنا سُجِّلت في الكوفة مظالم لم تسجّل في غيرها من بلاد المسلمين، منها:

____________________

(١٦) لسان الميزان - ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وفيه: شمر بن ذي الجوشن، أبو السابغة الضبابي، عن أبيه وعنه أبو إسحاق السبيعي، ليس بأهل للرواية؛ فإنه أحد قتلة الحسين (رضي الله تعالى عنه)، وقد قتله أعوان المختار.

أقول: إنّما صار ليس بأهل للرواية بعد قتله الحسينعليه‌السلام .

٣٠

- تهجير خمسين ألف بعيالاتهم من الكوفة والبصرة إلى خراسان سنة ٥٠ هجرية، كان فيهم الصحابي بريدة بن الحصيب، والصحابي أبو برزة الأسلمي وغيرهما ممّن عرف بولائه لعليعليه‌السلام (١٧) .

- قتل حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما بتلفيق تهمة الخروج على الدولة.

- نفي صعصعة بن صوحان العبدي(١٨) ، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق(١٩) ، وكان معاوية قد سجنها رهينة حتّى يسلّم زوجها نفسه، ولمّا قُتل نفاها إلى حمص وماتت بها، وغيرهما.

- قتل رشيد الهجري وميثم التمار وجويرية بن مسهر ونظرائهم.

- قطع أيدي ثمانين حصبوه بالحجارة على لعنه علياًعليه‌السلام (٢٠) .

قال سُلَيم: اشتد البلاء بالأمصار كلِّها على شيعة علي وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وكان أشدَّ الناس بلية أهلُ الكوفة؛ لكثرة مَن بها من الشيعة. واستعمل عليها زياداً، وجمع له العراقين(أي الكوفة والبصرة). كان يتتبع الشيعة … فقتلهم على التهم والظن والشُّبه تحت كلِّ كوكب، وتحت كلِّ حجر ومدر، وأحلأهم وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل منهم، وصلبهم على جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشرّدهم(٢١) .

____________________

(١٧) فتوح البلدان / ٥٠٧.

(١٨) الإصابة - ترجمة صعصعة، وفيه أن الذي نفاه هو المغيرة، ولكننا نرجّح أنّ الذي نفاه بأمر معاوية هو ابن زياد؛ لما ذكرناه من أنّ مرحلة القتل والنفي والتشريد بُدئ بها في عهد زياد لا المغيرة.

(١٩) أنساب الأشراف - القسم الرابع ١ / ٢٧٣.

(٢٠) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٤٦٢، الطبري ٥ / ٢٣٥.

(٢١) شرح النهج ١٥ / ٤٣.

٣١

وكان آخر ما عزم زياد على فعله في الكوفة سنة ثلاث وخمسين هو أن جمع الناس فملأ منهم المسجد والرُّحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من عليعليه‌السلام (٢٢) ، فمَن أبى ذلك عرضه على السيف(٢٣) . ولكن الله تعالى سلّط عليه الطاعون فأشغله عنهم ومات بعدها بأيام(٢٤) .

الواقع السياسي والاجتماعي الذي أسّسه معاوية

استطاع معاوية أن يُحْكِمَ قبضته على حركة المجتمع لتحقيق أربعة أهداف، هي:

١ - القضاء على شيعة عليعليه‌السلام المنتشرين في البلاد الإسلاميّة، وتحويل الكوفة بصفتها مركز التشيع لعليعليه‌السلام إلى سابق عهدها قبل هجرة عليعليه‌السلام إليها مدينة موالية للخليفة القرشي، سامعة مطيعة له.

٢ - تكوين أجيال جديدة توالي الاُمويِّين بصفتهم أئمة الدين وحماته، وتُبغض أهل البيتعليهم‌السلام وعلياً بصفتهم أعداء الله ورسوله، وتحفظ روايات كاذبة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمِّ عليٍّ وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وروايات كاذبة في الحطِّ من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق هوى الحكّام ومدح معاوية وأهل بيته.

٣ - حصر الملك في ذرّية معاوية واُسرته.

٤ - تحريف السنة النبويّة وتفسير القرآن بما ينسجم مع الأهداف الآنفة الذكر.

____________________

(٢٢) مختصر تاريخ دمشق ٩ / ٨٨ - ترجمة زياد.

(٢٣) مروج الذهب للمسعودي ٣ / ٢٦، قال عبد الرحمن بن السائب: فإني لَمَع نفر من الأنصار والناس في أمر عظيم، قال: فهوَّمتُ تهويمة (التهويم: أن يأخذ الرجل النعاس حتّى يهتز الرأس)، فرأيت شيئاً مثل عنق البعير، أهدب أهدل (الأهدل: الساقط الشفة، وبعير هدِل إذا كان طويل المشفر مسترخيه)، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا النقّاد ذو الرقبة، بُعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا. فأخبرتهم. قال: ويخرج علينا خارج من القصر فقال: إنّ الأمير يقول لكم: انصرفوا عنّي؛ فإني عنكم مشغول. وإذا الطاعون قد ضربه، فانشأ عبد الرحمن بن السائب يقول:

ما كان منتهياً عما أراد بنا

حتّى تناوله النقاد ذو الرقبهْ

فأثبت الشقَّ منه ضربةٌ ثبتتْ

كما تناول ظلماً صاحب الرحَبَهْ

قال المسعودي: يعني بصاحب الرحبة علي بن أبي طالبعليه‌السلام . (مروج الذهب ٣ / ٢٦).

(٢٤) قال البلاذري في أنساب الأشراف ق٤، ١ / ٢٧٨: كان زياد عند معاوية وقد وقع الطاعون بالعراق، فقال له: إنّي أخاف عليك يا أبا المغيرة الطاعون. فلما صار إلى العراق طُعن فمكث شهراً فمات.

٣٢

التغيير المطلوب تحقيقه في الاُمّة

ممّا لا شك فيه أنّ المطلوب إسلاميّاً في وضع سياسي واجتماعي كالذي عرضنا هو تحقيق ثلاثة اُمور، وهي:

أ - كسر الطوق السياسي والاجتماعي المفروض على الحديث النبوي الصحيح في أهل البيتعليهم‌السلام وعليعليه‌السلام خاصة، ليُعرض أهل البيت وعليعليهم‌السلام في الاُمّة من جديد امتداداً رسالياً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومحوراً للولاء، ومصدراً مطهراً للتثقيف بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ب - إنقاذ شيعة العراق بصفتهم حملة علم عليعليه‌السلام وسيرته من حالة التصفية والاختناق والحصار الاجتماعي والسياسي التي يعيشونها.

ج - تفهيم الاُمّة أنّ السكوت على ظلم بني اُميّة ليس من الدين في شيء، بل الدين يدعو إلى قتالهم والإطاحة بهم؛ بصفتهم قد بلغوا القمة في الظلم والانحراف، وإقامة حكومة إسلاميّة تستهدي تجربة عليعليه‌السلام وتجربة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الحسينعليه‌السلام هو الشخص الوحيد المعني بالتغيير المطلوب، والقادر عليه

وممّا لا شك فيه أنّ الشخص الوحيد المعني بالتغيير المطلوب، القادر عليه هو الحسين بن عليعليه‌السلام ؛ وذلك لأنه سيد بني هاشم الذين يعيشون المحنة بعميدهم عليعليه‌السلام ، وهو مرجع شيعة أبيه وأخيه الممتحنين في العراق، ولأنه يتبوأ في المجتمع الإسلامي أرفع مقام اجتماعي وديني؛ لكونه حفيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وقبل ذلك كلِّه لأنه الحجة المنصوب من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لحفظ الرسالة.

وفي قبال الحسينعليه‌السلام هناك الخوارج وعبد الله بن الزبير، وكلاهما معني بتغيير السلطة، أمّا فيما يرتبط بعلي وشيعته فهم والاُمويّون مدرسة واحدة وموقف واحد(١) .

____________________

(١) أمّا عبد الله بن الزبير فموقفه من عليعليه‌السلام معروف، بدءاً من حرب الجمل وانتهاءً بفترة حكمه؛ حيث أظهر بغض عليعليه‌السلام ، وتناوله في خطبه، وتصدّى له في بعضها محمّد بن الحنفيّة وابن عباس. وتذكر المصادر التاريخيّة أنه جمع الحطب ليحرقهم إن لم يبايعوه، ثمّ نفاهم إلى الطائف.

أمّا موقفه من شيعة عليعليه‌السلام فيكفي فيه ما صنعه بأصحاب المختار بعد قتل المختار؛ حيث قتل منهم سبعة آلاف صبراً، منهم زوجة المختار إذ رفضت أن تتبرأ من المختار، وسجنها مصعب، ثمّ استشار أخاه عبد الله في شأنها فأمره بقتلها. أما الخوارج فموقفهم من عليعليه‌السلام وشيعته لا يحتاج إلى بيان.

٣٣

الحسينعليه‌السلام عُدَّة إلهية لتحقيق التغير المطلوب

كان الانقلاب الفكري الذي قام به معاوية، والوضع الاجتماعي والفكري الذي أنتجه خطيراً جداً، وكان يشبه إلى حدٍّ كبير الوضع الذي صنعه فرعون مع بني إسرائيل والمجتمع المصري، ودين الله الذي جاء به يوسفعليه‌السلام من قبل.

الوضع الذي اقتضت الحكمة الإلهيّة معه أن يبعث موسىعليه‌السلام لينقذ بني إسرائيل، ويجدد دين يوسفعليه‌السلام ، ويقيم الحجة على المجتمع المصري ليحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

وكذلك الحال مع الوضع الذي صنعه معاوية مع أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمجتمع الإسلامي عامة وشيعة عليعليه‌السلام خاصة. ولما كانت النبوة قد خُتمت بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم أوصياؤه، وهم ليسوا بأنبياء، بما كان يقوم به أوصياء الأنبياء السابقين الذين كانوا في الغالب أنبياء أيضاً.

اقتضت الحكمة الإلهية أن يعرِّف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأوصيائه من بعده، ويعرِّف أيضاً بأبرز ما يقومون به، ويحدد الموقف منه من أجل أن تهتدي الاُمّة بهديه؛ ومن ذلك أمرُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمفسدين من بعده، وقوله للزبير:« ستقاتل علياً وأنت له ظالم » (٢) ، وقوله لعائشة:« تنبحها كلاب الحوأب » (٣) ، وقوله في الحسنعليه‌السلام : «إنّ ابني هذا سيّد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » .

____________________

(٢) فتح الباري ١٣ / ٥١ عن كتاب عمر بن شبة في أخبار البصرة، قال: أخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد السلام (ت١٤٥) رجل من حيَّه، قال: خلا علي بالزبير يوم الجمل، فقال:« أنشدك الله، هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول وأنت لاوي يدي: لتقاتلنّه وأنت ظالم له، ثمّ ليُنصرنّ عليك؟ » . قال: قد سمعت، لا جرم لا اُقاتلك.

(٣) روى أبو يعلى ٨ / ٢٨٢، حدّثنا عبد الرحمن بن صالح، حدّثنا محمّد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: مرّت عائشة بماء لبني عامر يقال له: الحوأب، فنبحت عليها الكلاب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ماء لبني عامر. فقالت: ردوني ردوني؛ سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« كيف بإحداكنّ إذا نبحت عليها كلاب الحوأب؟! » .

٣٤

وممّا لا شك فيه أنّ هذه الأقوال من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تفتح القلوب لفعل الوصي الذي يجيء في ظرف فتنة واختلاف، وتشوّش في الرؤية عند غالبية المسلمين.

ومن ذلك قوله في الحسينعليه‌السلام أنه يقتل مظلوماً. وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استقبل ولادته بذرف الدموع الساخنة عليه، وليس من شك فإنّ قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا وبكاءه يأتي تأييداً لموقف الحسينعليه‌السلام ، وتصويباً لموقفه الذي يتألّف من ركنين، هما: رفضه لبيعة يزيد، وخروجه بأهله إلى العراق.

ثمّ يُحاصر هناك ويُعرض عليه البيعة أو الموت، فيختار الموت على البيعة، في قبال مَن يحاول أن يضع اللوم على الحسينعليه‌السلام في عدم تقديره للظرف، وتعريضه لنفسه ولأهل بيته لنكبة ومأساة قلّ نظيرها في التاريخ(٤) .

____________________

(٤) يراجع كتاب أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ، وكتاب المنتقى للذهبي، وغيرهما.

٣٥

خطة الحسينعليه‌السلام العملية لتحقيق التغيير

قامت خطة الحسينعليه‌السلام لتحقيق التغيير عملياً على مرحلتين أساسيّتين، هما:

المرحلة الاُولى: اتخاذ موقف السكوت على عهد معاوية، والعمل سرّاً

احتفظ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه المرحلة مع أصحابه بعلاقات سرية كان يحثهم فيها على نشر أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل البيتعليهم‌السلام ريثما يموت معاوية. نعم تذكر المصادر التاريخيّة أنّ معاوية بعث برسالة تهديد إلى الحسينعليه‌السلام بعد قتل حجر وتردد العراقيِّين على بيته، فبعث الحسينعليه‌السلام برسالة يردّ فيها على معاوية.

وكان آخر نشاط سرّي نوعي في هذه المرحلة هو المؤتمر السري الذي عقده بحضور بني هاشم، وعدد من الصحابة والتابعين قبل موت معاوية بسنة.

كتب معاوية إلى الحسينعليه‌السلام :... فمتى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتقِ الله في شق عصا هذه الاُمّة، وأن تردهم إلى فتنة.

فكتب إليه الحسينعليه‌السلام :«... أمّا ما ذكرتَ أنه رُقِّيَ إليك عنّي فإنه إنما رقاه إليك الملاّقون، المشّاؤون بالنميمة... ما أردتُ لك حرباً ولا عليك خلافاً، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك، وإلى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستفضعون البِدَع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون [في] الله لومةَ لائم؟! ثمّ قتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتَهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة؛ جرأةً على الله واستخفافاً بعهده!

ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك. ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا. فأبشر يا معاوية بالقصاص وأيقن بالحساب... وليس الله بناسٍ لأخذك بالظِّنَّة، وقتلِك أولياءَه على التُّهَم، ونفيِك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة » (١) .

____________________

(١) رجال الكشي - ترجمة عمرو بن الحمق، طبقات ابن سعد - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، أنساب الأشراف - ترجمة معاوية، مختصر تاريخ دمشق - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

٣٦

قال سليم بن قيسرحمه‌الله : لمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجَّ الحسين بن عليعليهم‌السلام ، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن جعفر، فجمع الحسينُ بني هاشم، ثمّ رجالَهم ونساءَهم، ومواليهم ومَن حجّ من الأنصار ممّن يعرفه الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، ثمّ أرسل رسلاً وقال لهم:« لا تَدَعونَ أحداً حَجَّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمعوهم لي » .

فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل، وهم في سرادُقِه، عامَّتُهم من التابعين، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام فيهم خطيباً وقال:« أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية قد فعل ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم؛ فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا؛ فإني أتخوف أن يُدْرَسَ (٢) هذا الأمر، ويذهب الحق ويُغلب، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون ».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه واُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه... وكلّ ذلك يقول أصحابه: اللّهمَّ نعم، وقد سمعنا وشهدنا.

ويقول التابعي: اللّهمَّ قد حدّثني به مَن أثق به، وأأتمنه من الصحابة.

فقال:« أنشدكم الله إلاّ حَدَّثتُم به مَن تثقون به وبدينه » (٣) .

____________________

(٢) دروس الشيء: انمحاؤه.

(٣) كتاب سليم بن قيس.

٣٧

المرحلة الثانية: التحرك العلني بعد موت معاوية

وكانت الخطوات الأساسيّة للعمل في هذه المرحلة ثلاث، وهي:

الخطوة الاُولى: الإعلان عن عدم إعطاء بيعة ليزيد وإن كلّفه ذلك حياته

وذلك لأنّ بيعة الحسينعليه‌السلام ليزيد ليست في صالح الإسلام، ولا في صالح الاُمّة بأي حال من الأحوال، بل تعني - إن حصلت - أنّ الحسينعليه‌السلام أقرّ المنهج التحريفي للإسلام الذي نهض به بنو اُميّة، وانقطاع أثر الحديث الصحيح في أهل البيت وعليعليهم‌السلام في الاُمّة تماماً عند موت حامليه الذين حملوه في صدورهم، وكتموه خوفاً من السلطة.

قالعليه‌السلام :« لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد » (٤) .

وهو في ذلك نظير جدِّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال لعمّه أبي طالب (رضوان الله عليه):« يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك دونه » .

والقضية واحدة عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعند الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّ قريشاً كانت تريد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك دعوة التوحيد لتسود عبادة الأصنام، وبنو اُميّة يريدون من الحسينعليه‌السلام أن يترك أحاديث جدّه في أهل بيته الذين عيّنهم بأمر الله تعالى حججاً على الناس، تموت في الاُمّة وينقطع أثرها بموت حامليها، وتحلّ محلها أحاديث كاذبة قيلت على لسانه في بني اُميّة والخلفاء منهم على أنهم حجج الله وأئمة الهدى.

____________________

(٤) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٢، مقتل الخوارزمي.

٣٨

الخطوة الثانية: الانطلاق من مكّة لإعلان الحركة التبليغيّة

اختار الحسينعليه‌السلام مكّة مركزاً لإعلان رفضه لبيعة يزيد؛ لأنها المكان الوحيد الذي يقصده المسلمون من كلِّ الأقطار للعمرة والحج. والحسينعليه‌السلام بأمسِّ الحاجة إلى مكان عام كهذا من أجل نشر حديث جدّه في أهل البيتعليهم‌السلام ، هذا مضافاً إلى تحرّكه على أخيار الاُمّة القادمين من الآفاق لطلب نصرتهم.

وقد بقي في مكّة أربعة أشهر؛ شعبان ورمضان، وشوال وذو القعدة، وأيام من ذي الحجة. التفّ حوله المعتمرون والقادمون للحجّ، يسمعون منه حديثه عن جدّه في فضل أبيه، أو في فضله، أو في جهاد الظالمين، أو فيما سوف يُرتكب بحقّه، وقتله مظلوماً بشط الفرات.

قال الطبري: فأقبل الحسينعليه‌السلام حتّى نزل مكّة، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه، ومَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق.

وقال ابن كثير: فعكف الناس على الحسينعليه‌السلام يفِدون إليه ويقدِمون عليه، ويجلِسون حواليه ويستمعون كلامه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد. وأمّا ابن الزبير فإنه لزِم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردد في غُبون(٥) ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين؛ لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه(٦) .

أقول: بقي الحسينعليه‌السلام في مكّة شهر شعبان ورمضان، وشوال وذي القعدة، وثمانية أيام من ذي الحجة، وممّا لا شك فيه أن الحسينعليه‌السلام في هذه الفترة وفي حلقاته مع المعتمرين وأهل الآفاق كان قد كسر الطوق الذي فرضه معاوية على الحديث النبوي الصحيح في علي وأهل بيتهعليهم‌السلام ، أو في ذمِّ بني اُميّة، أو في بيان أحكام متعة الحج وغير ذلك.

____________________

(٥) غبن الرجل يغبنه غبناً: مرّ به وهو مائل، فلم يره ولم يفطن له. (لسان العرب - مادة غبن).

(٦) البداية والنهاية ٨ / ١٥١.

٣٩

وبدأ يذكِّر الناس ويُسْمِع مَن لم يَسمَع منهم أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير القرآن، وفي فضل أبيه عليعليه‌السلام ، وفي فضله وفضل أخيه الحسنعليهما‌السلام ، وفي ذمِّ بني اُميّة، وفي الموقف الصحيح عند ظهور الظلم والبدع وغير ذلك، من قبيل: حديث الغدير، وحديث الدار، وحديث المنزلة، وحديث الثقلين، وحديث الكساء، وحديث رؤيا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والشجرة الملعونة في القرآن، وغيرها.

ومن قبيل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » (٧) .

ثمَّ يذكِّرهم بجرائم بني اُميّة ومخالفاتهم لأحكام الله وسنة رسوله، وتعطيلهم الحدود، وقتلهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وغيرهما، ونفي الأخيار والنساء كصعصعة بن صوحان العبدي وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق بعد أن كانت رهينة الحبس لحين تسليم زوجها نفسه، وغيرها.

ويقول لهم:« ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غَيَّر » (٨) .

ويقول لهم:« ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاً برماً » (٩) .

ويقول لهم:« إنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقِّ وإماتة البدع » (١٠) .

ثمّ يذكِّرهم بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه:« حسين منّّي وأنا من حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً » ، وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أخيهعليهما‌السلام :« الحسن والحسين سبطان من الأسباط. الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة » .

____________________

(٧) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

(٨) المصدر نفسه.

(٩) تاريخ ابن عساكر١٤ / ٢١٧ عن الزبير بن بكّار، تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٤.

(١٠) الأخبار الطوال - للدينوري / ٣٢١.

٤٠

وأخرج الملاّ، كما في الصواعق(١) أيضاً: أنّ عليّاً مرّ بموضع قبر الحسينعليهما‌السلام ، فقال:« ها هُنا مناخُ ركابِهمْ، وها هُنا موضِعُ رحالِهمْ، وها هُنا مِهراق دِمائِهمْ؛ فتيةٌ مِن آلِ مُحمّدٍ يُقتلون بهذهِ العرصة، تبكِي عليهم السّماءُ والأرضُ » (٢) .

ومن حديث اُمّ سلمة، كما نصّ عليه ابن عبد ربّه المالكي(٣) ، حيث ذكر مقتل الحسينعليه‌السلام في الجزء الثاني من العقد الفريد، قالت: كان عندي النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعي الحسينعليه‌السلام ، فدنا من النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذته فبكى فتركته،

____________________

(١) الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٦.

(٢) وهذا الحديث رواه أصحابنا بكيفيّة مشجية عن الباقر (عليه الصلاة والسّلام)، ورووه عن هرثمة وعن ابن عبّاس، وإنْ أردت الوقوف عليه فدونك الخصائص الحسينيّة / ١٠٨ - ١١٢ ( المؤلّف ).

(٣) في سطر ١٥ من ص٢٤٣ من جزئه الثاني، المطبوع سنة ١٣٠٥ هـ، وفي هامشه زهر الآداب. ( المؤلّف ).

٤١

فدنا منهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذته فبكى فتركته، فقال له جبرئيل: أتحبّهُ يا محمّد؟ قال:« نَعَم » . قال: أما إنّ اُمّتك ستقتله، وإنْ شئتَ أريتك الأرض التي يُقتل بها. فبكى النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وروى الماوردي الشافعي - في باب إنذار النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيحدث بعده(٢) ، من كتابه أعلام النبوّة - عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل الحسينُ بن عليٍّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يوحى إليه، فقال جبرائيل: إنّ اُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك. ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يُقتل ابنك، اسمها الطفِّ. قال: فلمّا ذهب جبرائيل، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه والتربة بيده، وفيهم: أبو بكر وعمر، وعليٌّعليه‌السلام وحذيفة، وعثمان وأبو ذر، وهو يبكي، فقالوا: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال:« أخبَرني جِبرائيلُ: أنّ ابني الحسَينَ يُقتل بَعدي

____________________

(١) وأخرج البغوي في معجمه، وأبو حاتم في صحيحه من حديث أنس، كما في الصواعق، نحوه. ( المؤلّف ). راجع: الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٤ - ٥٦٥.

(٢) وهو الباب الثاني عشر في ص٢٣ من ذلك الكتاب. ( المؤلّف ).

٤٢

بأرضِ الطَّفِّ، وجاءني بِهذهِ التُّربةِ، فأخبَرَنِي أنّ فيها مَضجَعهُ » .

وأخرج الترمذي، كما في الصواعق وغيرها: أنّ اُمّ سلمة رأت النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما يراه النائم، باكياً وبرأسه ولحيته التراب، فسألته، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« قُتلَ الحُسينُ آنفاً » (١) .

قال في الصواعق: وكذلك رآه ابن عبّاس نصف النّهار أشعثاً أغبراً، بيده قارورة فيها دم يلتقطه، فسأله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دَمُ الحُسينِ وأصحابِهِ، لَم أزَلْ أتتبّعه مُنذُ اليومِ » (٢) . قال: فنظروا فوجدوه قد قُتل في ذلك اليوم(٣)(٤) .

____________________

(١) سنن الترمذي / ٣٧٧٤، الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٧، ذخائر العقبى / ١٤٨.

(٢) وأخرجه من حديث ابن عبّاس أحمد بن حنبل في المسند ١ / ٢٨٣، وابن عبد البر والعسقلاني في ترجمة الحسينعليه‌السلام من الاستيعاب والإصابة، وخلق كثير. ( المؤلّف ).

(٣) وراجع أيضاً: الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٧، المعجم الكبير / ٢٨٢٢، مختصر تاريخ ابن عساكر ٧ / ١٥٢، سِيَر أعلام النبلاء ٣ / ٣١٥، البداية والنّهاية ٨ / ٢٠٠، ذخائر العقبى / ١٤٨.

(٤) وللمزيد حول بكاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسينعليه‌السلام في مصادر أهل السُنّة راجع: مستدرك الحاكم ٣ / ١٧٦ و ٤ / ٣٩٨، تاريخ الخميس ١ / ٣٠٠، ٤١٨، الأمالي للشجري / ١٦٥، كنز العمال ١٣ / ١١١ و ٦ / ٢٢٣، مقتل الحسينعليه‌السلام ١ / ١٥٨، ١٥٩، ١٦٣، وسيلة المآل / ١٨٣، الفصول المهمّة / ١٥٤، ينابيع المودّة / ٣١٨ و ٣٢٠، الفتح الكبير ١ / ٥٥، روض الأزهر / ١٠٤، الكواكب الدرّيّة ١ / ٥٦، الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، تاريخ الخلفاء / ١٠، التاج الجامع ٣ / ٣١٨، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٠٣، ذخائر المواريث ٤ / ٣٠٠، تاريخ الإسلام ٢ / ٣٥٠، كفاية الطالب / ٢٨٦، مصابيح السنَّة / ٢٠٧، تاريخ الرقّة / ٧٥، نظم درر السّمطين / ٢١٥، الغُنية لطالبي طريق الحقِّ ٢ / ٥٦، لسان العرب ١١ / ٣٤٩، النّهاية ٢ / ٢١٢.

وراجع أيضاً: كتاب سيرتنا وسنّتنا للعلاّمة الأميني، وكتاب أنباء السّماء برزيّة كربلاء للمحقّق الطباطبائي، وكتاب إحقاق الحق - المجلّد الحادي عشر.

٤٣

بكاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسينعليه‌السلام في مصادر الشيعة:

وأمّا صحاحنا، فإنّها متواترة في بكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسينعليه‌السلام في مقامات عديدة: يوم ولادته وقبله، ويوم السّابع من مولده، وبعده في بيت فاطمة، وفي حجرته،

٤٤

وعلى منبره، وفي بعض أسفاره.

تارة يبكيه وحده، يُقبّله في نحره ويبكي، ويُقبّله في شفتَيه ويبكي، وإذا رآه فَرِحاً يبكي، وإذا رآه حَزِناً يبكي؛ بل صحّ أنّه قد بكاه: آدم ونوح، وإبراهيم وإسماعيل، وموسى وعيسى، وزكريّا ويحيى، والخضر وسليمانعليهم‌السلام . وتفصيل ذلك كلّه موكول إلى مظانّه من كتب الحديث(١) .

إقامة الأئمّةعليهم‌السلام المأتم على الحسينعليه‌السلام وحث أولياؤهم على ذلك

وأمّا أئمّة العترة الطاهرةعليهم‌السلام الذين هم كسفينة نوح، وباب حطّة،

____________________

(١) فراجع: الخصائص الحسينيّة / ١٠٥ - ٢٣٢، وإنْ شئتَ فراجع: جلاء العيون، أو البحار، أو غيرهما. ( المؤلّف ).

وراجع: أمالي الصدوق - المجلس ٩٢، كامل الزيارات / ٦٧ - ٦٨، ٨٣ - ٨٤، ٩٢، ١١٥، ١٩٢، علل الشرائع ١ / ١٥٤، الكافي ١ / ٢٨٣، ٥٣٤، مناقب آل أبي طالب ٤ / ٥٥، المحتضر / ١٤٦ - ١٤٧، بحار الأنوار ٤٥ / ٢٢٠ - ٢٢٩، الباب ٤١.

٤٥

وأمان أهل الأرض، وأحد الثقلين اللذين لا يضلّ مَن تمسّك بهما ولا يهتدي إلى الله من صدّ عنهما، فقد استمرّت سيرتهم على النّدب والعويل، وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن، جيلاً بعد جيل.

فعن الصادقعليه‌السلام ، فيما رواه ابن قولويه في الكامل، وابن شهر آشوب في المناقب وغيرهما:« إنَّ عليَّ بنَ الحسين عليهما‌السلام بكى على أبيهِ مُدّةَ حياتِهِ، وما وُضِعَ بَينَ يدَيهِ طعامٌ إلاّ بكى، ولا اُتِيَ بشرابٍ إلاّ بكى حتّى قال له أحدُ مواليه: جُعلتُ فِداك يابن رسولِ الله، إنّي أخافُ أنْ تكون مِنَ الهالكين » . قالعليه‌السلام :« إنّما أشكو بثِّي وحُزني إلى الله، وأعلمُ مِن اللهِ ما لا تَعلمونَ » .

وروى ابن قولويه وابن شهر آشوب أيضاً وغيرهما: أنّه لمّا كثر بكاؤه، قال له مولاه: أما آنَ لحُزنك أنْ ينقضي؟ فقال:« وَيحَك! إنّ يعقوبَ عليه‌السلام كانَ لَه اثنا عَشرَ وَلداً، فَغيّبَ اللهُ واحداً مِنهُمْ فابيضّتْ عَيناهُ مِنْ كثرةِ بُكائِهِ عليهِ، واحدَودَب ظهرُه مِن الغَمِّ، وابنُه حَيٌّ في الدُّنيا، وأنا نَظرتُ إلى أبي وأخي، وعمومَتي وسبعةَ عشرَ مِن أهلِ بَيتي

٤٦

مقتولين حَولي، فَكيف ينقَضي حُزني؟! » .

وعن الباقرعليه‌السلام (١) قال:« كانَ أبي عليُّ بنُ الحسينِ (صَلواتُ اللهِ عليهِ) يقول: أيّما مُؤمنٍ دَمعتْ عَيناه لِقتلِ الحسين بن عليٍّ عليه‌السلام دَمعةً حتّى تسيلُ على خَدّه، بوّأه اللهُ تعالى في الجنّةِ غُرفاً يسكنها أحقاباً.

وأيّما مُؤمنٍ دَمعتْ عَيناه حتّى تَسيلَ على خدِّه فينا، لأذىً مَسّنا مِن عدوِّنا في الدُّنيا، بوّأه الله في الجنَّة مبوّأ صِدقٍ، وأيّما مُؤمنٍ مَسّهُ أذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيلَ على خدِّه صرفَ اللهُ عن وجههِ الأذى، وآمنَهُ يومَ القيامةِ مِن سخطهِ والنّارِ » (٢) .

وقال الرضاعليه‌السلام (٣) ، وهو الثامن من أئمّة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم):« إنّ المُحرّمَ شهرٌ كان أهلُ الجاهليّة يُحرّمونَ فيه القتالَ، فاستُحلَّتْ فيه دِماؤنَا، وهُتكتْ فيه حُرمتُنَا،

____________________

(١) فيما أخرجه جماعة، منهم: ابن قولويه في كامله. ( المؤلّف ).

(٢) كامل الزيارات / ١٠٠. وراجع: تفسير القمّي / ٦١٦، ثواب الأعمال / ٤٧، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨١.

(٣) فيما أخرجه الصدوق في أماليه وغير واحد من أصحابنا. ( المؤلّف ).

٤٧

وسُبيتْ فيه ذرارينَا ونساؤنَا، واُضرِمتْ فيه النّارُ في مَضارِبنَا، وانتُهبَ ما فيها مِن ثقلِنا (١) ، ولَمْ ترعَ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حُرمةٌ في أمرِنا.

إنّ يومَ الحُسينِ أقرحَ جفونَنا، وأسبلَ دموعَنا، وأذلّ عزيزَنا.... فَعلى مثلِ الحسينِ فليبكِ الباكون؛ فإنّ البكاءَ عليه يحطّ الذنوبَ العِظام ». ثمّ قالعليه‌السلام :« كانَ أبي إذا دخلَ شهرُ المُحرّمِ، لا يُرى ضاحِكاً، وكانت الكآبةُ تغلبُ عليه حتّى يمضي منه عشرةُ أيّام، فإذا كانَ يوم العاشرِ كانَ ذلك اليوم يومَ مصيبتِهِ وحُزنِهِ وبُكائِهِ » (٢) . وقالعليه‌السلام (٣) :« مَنْ تذكَّرَ مُصابَنا وبكى لِما ارتُكِبَ منّا، كانَ معنا في درجتِنَا يومَ القيامةِ، ومَن ذكَر مُصابَنَا فَبكى

____________________

(١) الثقل: وزان سبب متاع المسافر، وكلّ شيء نفيس مصون. ( المؤلّف ).

(٢) أمالي الصدوق - المجلس السابع والعشرون - الرقم الثاني، وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٣.

(٣) فيما أخرجه الصدوق في أماليه. ( المؤلّف ).

٤٨

وأبكى، لَم تبكِ عينُهُ يومَ تبكي العيونُ، ومَنْ جَلَس مَجلِساً يُحيَى فيهِ أمرُنا، لَم يمُتْ قلبُهُ يومَ تموتُ القلوبُ » (١) .

وعن الريّان بن شبيب، فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون، قال: دخلتُ على الرِّضاعليه‌السلام في أوّل يوم من المُحرّم، فقال لي:« يابنَ شَبيب، إنّ المُحرّمَ هو الشّهرُ الذي كانَ أهلُ الجاهليّةِ فيما مَضى يُحرّمون فيهِ الظُّلمَ والقِتالَ لِحُرمَتِهِ، فَما عرفتْ هذه الاُمّةُ حُرمةَ شهرِها، ولا حُرمَةَ نبيِّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ; إذ قَتلوا في هذا الشَّهرِ ذُرِّيَّتهُ، وسَبَوا نساءَه، وانتهبُوا ثِقلَهُ... يابنَ شَبيب، إنْ كُنتَ باكِياً لِشيءٍ فابكِ لِلحسينِ عليه‌السلام ؛ فإنّه ذُبِحَ كما يُذبَحُ الكَبشُ (٢) ،وقُتِل معه مِن أهلِ بيتهِ

____________________

(١) أمالي الصدوق - المجلس السّابع عشر - الرقم الرابع، وراجع: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ / ٢٩٤، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨.

(٢) إنّ التعبير كهذا ممّا يدلّك على غاية همجيّة القوم، وشقائهم وبُعدهم عن العطف الإنساني، بالإضافة على قتلهم ريحانة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهتكهم حرمته في سبطه ( روحي فداه ).

وقد أجمل الإمام (عليه أفضل الصلاة والسّلام) لمّا أدى عن الفاجعة وأهمّيّتها بهذا الكلام القصير، وأشار به إلى معنى جسيم يُدركه الباحث المُتعمّق بعد التحليل والاختبار، ويندهش المجموع البشري لمثل هذه الرزيّة، عندما علم أنّه لَم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلاء مَن يردعهم عن موقفهم البغيض، ولا أقل من تسائل بعضهم: لماذا نُقاتل الحسين؟ وبأيّ عمل استحقّ ذلك منّا؟ أو هل كان دمُ الحسينعليه‌السلام مُباحاً إلى حدّ إباحة دم الكبش، ويُذبح - بأبي هو واُمّي! - بلا ملامةٍ لآثم، ومِنْ دون خشية محاسب؟! ( المؤلّف ).

٤٩

ثمانيةَ عشرَ رجلاً، ما لَهُمْ في الأرضِ مِنْ شَبيهٍ، ولَقد بَكتْ السّماواتُ السَّبع لِقتلِه... » .

إلى أنْ قال:« يابنَ شَبيب، إنْ سَرّكَ أنْ تكونَ معنا في الدَّرجاتِ العُلا من الجنانِ، فاحزَنْ لِحُزنِنا وافرَحْ لِفَرحِنا، وعليكَ بولايَتِنا... » (١) .

وقالعليه‌السلام ، فيما أخرجه الصدوق في أماليه:« مَن تَركَ السَّعيَ في حوائِجِهِ يومَ عاشوراء قضَى اللهُ لهُ حوائجَ الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن كانَ يومُ عاشوراء يومَ مُصيبَتِهِ وحُزنِهِ وبُكائِهِ،

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ / ٢٩٩، وراجع: أمالي الصدوق - المجلس ٢٧، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٥.

٥٠

جعلَ اللهُ عزّ وجل يومَ القيامةِ يومَ فَرحِهِ وسرورِهِ وقرّت بنا في الجنانِ عينُه... » (١) .

وبكى (صلوات الله عليه) إذ أنشده دعبل بن عليٍّ الخُزاعي قصيدته التائيّة السائرة، التي اُغمي عليه في أثنائها مرّتين، كما نصّ عليه الفاضل العبّاسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص، وغيره من أهل الأخبار.

وفي البحار وغيره: أنّهعليه‌السلام أمر - قبل إنشادها - بسترٍ فضُرب دون عقائله، فجلسنَ خلفه يسمعن الرثاء ويبكينَ على جدّهن سيد الشهداءعليه‌السلام ، وأنّه قال يومئذ:« يا دِعبلُ، مَن بَكى أو أبكَى على مُصابِنا ولَو واحداً كانَ أجرُهُ على اللهِ. يا دعبلُ، مَنْ ذرفتْ عَيناهُ على مُصابِنا حشرَه اللهُ مَعنا ».

وحدّث محمّد بن سهل، كما في ترجمة الكميت من معاهد التنصيص، قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله

____________________

(١) أمالي الصدوق - المجلس السّابع والعشرون - الرقم الرابع، وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤.

٥١

جعفر بن محمّد الصّادقعليه‌السلام في أيّام التشريق، فقال له: جُعلت فداك! ألا أنشدك؟ قال:« إنّها أيّامٌ عِظام » . قال: إنّها فيكم. قالعليه‌السلام :« هاتْ » . وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده، في رثاء الحسينعليه‌السلام ، فكثر البكاء حتّى أتى على هذا البيت:

يُصيبُ به الرَّامُونَ عَنْ قَوسِ غَيرِهِمْ

فَيَا آخِراً أسدَّى له الغَيَّ أوَّلُ

قال: فرفع أبو عبد اللهعليه‌السلام يدَيهِ، فقال:« اللهمّ، اغفِرْ للكُميتْ ما قدَّمَ وما أخّرَ، وما أسرَّ وما أعلنَ حتّى يَرضَى » (١) .

____________________

(١) بخٍ بخٍ، هنيئاً لمَن نال من أئمّة الهُدىعليهم‌السلام بعضَ ذلك، وأنت تعلم أنّهعليه‌السلام لَم يبتهل بالدُّعاء للكميت هذا الابتهال إلاّ لِما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال.

وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فنظمه المهيار في قصيدته اللاميّة، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي، فقال:

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ

فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

إلى آخر ما قال.

وكأنّ سيدة نساء عصرها زينبعليها‌السلام أشارت إلى هذا المعنى بقولها مخاطبة ليزيد: وسيعلمُ مَنْ سوّل لك، ومكّنكَ من رقابِ المُسلمين.

بل أشار إليه معاوية إذ كتبَ إليه محمّد بن أبي بكر يلومه في تمرّده على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويذكر له فضله وسابقته، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمّن الإشارة إلى المعنى الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب في كتاب: وقعة صفين لنصر بن مزاحم، أو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، أو مروج الذهب للمسعودي.

وقد اعترف بذلك المعنى يزيد بن معاوية، إذ كتب إليه ابن عمر يلومه على قتل الحسينعليه‌السلام ، فأجابه: أمّا بعد، فإنّا أقبلنا على فُرش مُمهّدة ونمارق مُنضّدة... إلى آخر الكتاب.

وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والأخبار، وفي كتابنا ( سبيل المؤمنين ) من هذا شيء كثير، فحقيق بالباحثين أنْ يقفوا عليه. ( المؤلّف ).

٥٢

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلى عبد الله بن غالب، قال: دخلتُ على أبي عبد اللهعليه‌السلام فأنشدتُه مرثيّة للحسينعليه‌السلام ، فلمّا انتهيتُ إلى قولي:

لبليّة تسقو حُسيناً

بمسقاةِ الثَّرى غير التُّرابِ

صاحت باكية من وراء الستر: يا أبتاه!(١) .

____________________

(١) كامل الزيارات / ١٠٥، وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٦.

٥٣

وروى الصدوق في الأمالي وثواب الأعمال، وابن قولَويه، بأسانيد معتبرة عن أبي عمارة، قال: قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :« يا أبا عُمارة، أنشِدْني في الحسين عليه‌السلام » . فأنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى. قال: فو الله. ما زِلتُ أنشده وهو يبكي حتّى سمعت البكاء من الدار. قال: فقال لي:« يا أبا عُمارة، مَن أنشدَ في الحسينِ بن عليٍّ عليهما‌السلام فأبكى خمسينَ فلَهُ الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فأبكى ثلاثينَ فلَه الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فأبكى عشرينَ فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فأبكى عشرةً فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فبكى فَلَهُ الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسينِ فتباكى فلَه الجنّة » (١) .

____________________

(١) أمالي الصدوق - المجلس ٢٩ - الرقم ٦، ثواب الأعمال / ٤٧، كامل الزيارات / ١٠٥.

وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٢.

٥٤

وروى الصدوق في ثواب الأعمال بالإسناد إلى هارون المكفوف، قال: دخلتُ على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، فقال لي:« يا أبا هارونَ، أنشِدْني في الحسين عليه‌السلام » . فأنشدته، فقال لي:« أنشِدْني كما تُنشدونَ » - يعني بالرقّة -. قال: فأنشدته:

اُمرُرْ على جَدثِ الحُسيـْ

ـنِ فقُلْ لأعظُمِهِ الزَّكيّهْ

قال: فبكى، ثمّ قال:« زدني » . فأنشدته القصيدة الاُخرى. قال: فبكى، وسمعتُ البكاء من خلف السّتر. قال: فلمّا فرغت، قال:« يا أبا هارونَ، مَن أنشدَ في الحُسينِ فبكَى وأبكَى عشرةً كُتبتْ لهُمْ الجنّة... إلى أنْ قال:ومَن ذُكر الحسينُ عندَه فخرجَ مِنْ عَينَيهِ مِنَ الدَّمعِ مقدارُ جناحِ ذبابةٍ، كانَ ثوابُهُ على اللهِ عزّ وجل، ولم يرضَ له بدونِ الجنّةِ » (١) .

____________________

(١) ثواب الأعمال / ٤٧، وراجع: كامل الزيارات / ١٠٠، ١٠٤، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٨.

٥٥

وروى الكشِّي بسند معتبر عن زيد الشحّام، قال: كنّا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فدخل عليه جعفر بن عثمان، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال:« يا جعفر » . قال: لبّيك، جعلني الله فداك. قال:« بلَغنِي أنّكَ تقولُ الشّعرَ في الحُسينِ عليه‌السلام وتُجيدُ » . فقال له: نعم، جعلني الله فداك. قال:« قُلْ » . فأنشدته، فبكى ومَن حوله حتّى صارت الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال:« يا جعفرُ، واللهِ، لقد شهَدتْ الملائكةُ المُقرَّبونَ ها هُنا يسمعون قولَك في الحسينِ عليه‌السلام ، ولقد بكَوا كَما بَكينا وأكثر ... إلى أنْ قال:ما مِن أحدٍ قالَ في الحُسينِ شعراً فبكَى وأبكَى بهِ إلاّ أوجب اللهُ لَه الجنّةَ، وغَفَرَ لَهُ » (١) .

وروى ابن قولويه في الكامل بسند معتبر حديثاً عن الصادقعليه‌السلام جاء فيه:« وكانَ جدّي عليُّ بنُ الحُسينِ عليهما‌السلام إذا ذكرَه ( يعني: الحسينعليه‌السلام )بَكى حتّى تملأ عيناه لحيته، وحتّى يبكي لِبكائِهِ - رَحمةً لَه - مَنْ رآه، وأنّ الملائِكَةَ

____________________

(١) رجال الكشّي / ١٨٧.

٥٦

الذين عند قبرِهِ لَيبكون فيبكي لِبكائِهمْ كُلُّ مَن في الهواء والسّماء. وما مِن باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصلَ فاطمةَ وأسعدَها، ووصلَ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدّى حقّنا... » .

وفي قرب الإسناد عن بكر بن محمّد الأزدي، قال: قال أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام لفضيل بن يسار:« أتجلسون وتُحدّثون؟ » . قال: نعم، جعلتُ فداك. قالعليه‌السلام :« إنّ تلكَ المجالِسَ اُحبُّها، فأحيوا أمرَنا؛ فرَحمَ اللهُ مَن أحيا أمرَنا. يا فُضيلُ، مَن ذَكَرَنا أو ذُكِرْنا عندهُ فخرجَ مِن عَينِهِ مثلُ جناحِ الذُّباب غفرَ اللهُ له ذنوبَه » .

وفي خصال الصدوق، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال:« إنّ اللهَ تبارَك وتعالى اطّلَعَ إلى الأرضِ فاختارَنا، واختارَ لَنا شيعةً يَنصرونَنا، ويفرحونَ لِفَرَحِنا، ويَحزَنونَ لِحُزنِنا، ويَبذلون أموالَهُمْ وأنفُسَهمْ فِينا، أُولئِكَ مِنّا وإلَينا » .

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلى أبي عمارة المنشد، قال: ما ذُكر الحسينُعليه‌السلام عند أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في يوم قط فرؤيَ مُتبسِّماً في ذلك اليوم إلى الليل.

٥٧

قال: وكان أبو عبد اللهعليه‌السلام يقول:« الحسينُ عليه‌السلام عَبرَةُ كُلِّ مُؤمنٍ » (١) .

وفيه بالإسناد إلى الصادقعليه‌السلام ، قال:« قال الحسينُ عليه‌السلام : أنا قتيلُ العَبرَة، لا يَذكُرنِي مُؤمِنٌ إلاّ استعبَرَ » (٢) .

إلى غير ذلك من صحاح الأخبار المتواترة عن الأئمّة الأبرارعليهم‌السلام (٣) .

حجّية أقوال الأئمّةعليهم‌السلام في رجحان إقامة المأتم

وناهيك بها حجّة على رجحان هذه المآتم، واستحبابها شرعاً؛ فإنّ أقوالَ أئمّة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام وأفعالَهم وتقريرَهم حجّةٌ بالغة؛ لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل، كما هو مُقرّر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا، والتفصيل في كتابنا ( سبيل المؤمنين ).

____________________

كامل الزيارات / ١٠٨، وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٠.

(٢) كامل الزيارات / ١٠٨، وراجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤.

(٣) راجع: بحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨ - ٢٩٦، الباب الرابع والثلاثون.

٥٨

على أنّ الاقتداء بهم في هذه المآتم وغيرها لا يتوقّف عند الخصم على عصمتهم، بل يكفينا فيه ما اتّفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوى، وأنّهم في أنفسهم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة والثوري والأوزاعي وأضرابهم علماً ولا عملاً.

وأنت تعلم أنّ هذه المآتم لَو ثبتت عن أبي حنيفة أو صاحبَيه أبي يوسف والشيباني مثلاً، لاستبق الخصم إليها وعكف أيّام حياته عليها، فلِمَ ينكرها علينا ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمّة أهل البيت يا منصفون؟!

أتراه يرى في أئمّة الثقلين أمراً يقتضي الإعراض عنهم، أو يجد فيهم شيئاً يستوجب الإنكار على الآخذين بمذهبهم، أو أنّ هناك أدلّة خاصّة تقصر الإمامة في الفتوى على أئمّة خصومنا ولا تبيح الرجوع إلى غيرهم، كلاّ إنّ واقع الأمر وحقيقة الحال بالعكس.

حديث الثقلين

هذا حديث الثقلين المجمع على صحّته واستفاضته،

٥٩

قد أنزل العترة منزلة الكتاب، وجعلها قدوةً لاُولي الألباب، فراجعه:

في باب فضائل عليعليه‌السلام من صحيح مسلم. أو في الجمع بين الصحيحين. أو الجمع بين الصحاح الستّة. أو في حديث أبي سعيد الخدري من مسند أحمد بن حنبل. أو خصائص عليعليه‌السلام للإمام النّسائي. أو في تفسيري الثعلبي والبيهقي. أو في حلية الحافظ الأصفهاني. أو كتب الحاكم والطبراني وغيرها من كتب الحديث(١) .

____________________

(١) حديث الثقلين حديث صحيح ثابت متواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أخرجه الحفّاظ وأئمّة الحديث في الصحاح والمسانيد والسّنن والمعاجم بطرق كثيرة صحيحة عن بضع وعشرين صحابيّاً، فالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أحسّ بقرب أجله أوصى اُمّته بأهمّ الاُمور لدَيه وأعزّها عليه، وهما ثقلاه وخليفتاه، وحثّ على التمسّك بهما

٦٠