الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء0%

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 236

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد منذر الحكيم
تصنيف: الصفحات: 236
المشاهدات: 142784
تحميل: 5180

توضيحات:

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142784 / تحميل: 5180
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

منزله، والاُخرى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله):(( إنّ الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن )) (١) .

الغدر بمسلم بن عقيل

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السّياسي، والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الاُموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين (عليه السّلام)، وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه، وأن يعلم بمقرّه(٢) ، فكانت بداية تخاذل النّاس عن الصّمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين (عليه السّلام) وأحسن ضيافته، واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلا القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله، فاستولى الخوف والتخاذل على النّاس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه(٣) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانئ، ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه، ونادى مناديه في النّاس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتدّ الحصار على ابن زياد، وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع(*)

____________________

(١) الأخبار الطوال / ١٨٧، ومقاتل الطالبيّين / ٩٨، وإعلام الورى ١ / ٤٢٨.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٤٠، والأخبار الطوال / ١٧٨، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩١، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٦٩، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٧١، وأنساب الأشراف / ٧٩.

(٣) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٣، وإعلام الورى ١ / ٤٤١.

(*) هكذا وردت العبارة في الأصل، ولا يخفى ما فيها من سقط وقطع واضحين مع ما بعدها.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٦١

لقد دسّ ابن زياد في أوساط النّاس أشخاصاً يُخَذِّلونهم، ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار، وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشّام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار.

واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمَنْ بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر، ولا مَنْ يَدُلُّه على الطريق، وأقفل النّاس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصّباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً.

وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصّبح يتنفّس حتّى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمّد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، وفور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(٢) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتّى أدرك أنّ القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع إنّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً، وحُمل على بلغة

____________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني / ٦٣، وإعلام الورى ١ / ٤٤١، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٢، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١.

(٢) جاء في « الإرشاد » أنّهم كانوا سبعين رجلاً.

١٦٢

وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه، وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش، منطلقاً في بيانه، قويّ الحجّة، حتّى أعياه أمرُه، وانتفخت أوداجه، وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثمّ أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلا القصر ويقتلوه، ويرموا جسده إلى النّاس، ويسحبوه في شوارع الكوفة، ثمّ يصلبوه إلى جانب هانئ بن عروة. هذا وأهل الكوفة وقوف في الشّوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين (عليه السّلام) يخبره بما جرى في الكوفة، وينصحه بعدم الشّخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(١) .

المبحث الخامس: حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسين (عليه السّلام) ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السّير مع ركب الحسين (عليه السّلام) حتّى الطفّ حيث المأساة الكبرى.

قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل (رحمة الله عليه) بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقتلُه يوم

____________________

(١) يراجع في تفصيلاته أعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢، إعلام الورى ١ / ٤٤٢، والكامل في التأريخ ٤ / ٣٢، والفتوح ٥ / ٨٨، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٨٠، ومقاتل الطالبيّين / ٩٢.

١٦٣

الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين (صلوات الله عليه) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذي القعدة، وثماني ليال خلون من ذي الحجّة سنة ستين. وكان (عليه السّلام) قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز، ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين (عليه السّلام) التوجّه إلى العراق طاف بالبيت، وسعى بين الصّفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً؛ لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرج (عليه السّلام) مبادراً بأهله وولده ومَنْ انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(١) .

لماذا اختار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي، وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم، فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

١ - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ إنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلاميّة بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويّون في السّاحة السّياسية وحتى سقوطهم.

٢ - إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويّين وفسادهم، والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٧.

١٦٤

دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين (عليه السّلام) ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.

٣ - لم يكن أمام الحسين (عليه السّلام) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق؛ لأنّ بقيّة الأقطار إمّا إنّها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو إنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها ؛ ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

٤ - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصّالحة التي بناها الإمام عليّ(عليه السّلام)، والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام)؛ فأراد الإمام الحسين (عليه السّلام) أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت (عليهم السّلام) إلى العالم الإسلامي في السّنين اللاحقة.

٥ - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السّلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام) أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السّامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمام (عليه السّلام) إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية، وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين.

وحتى على فرض اختياره (عليه السّلام) بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه

١٦٥

دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

٦ - لما كان العراق يُصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين (عليه السّلام) وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشّرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لاسيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصّراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته، وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسّياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السّياسي الحاذق، والنّصائح التي قدّمها إليه عدد من الشّخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد ؛ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل النّاس، وتركهم نصرة إمامهم، ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

تصريحات الإمام (عليه السّلام) عند وداعه مكة

صدرت عن الإمام الحسين (عليه السّلام) عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته(عليه السّلام) على مَنْ أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

١ - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله (عليه السّلام):(( والله، لا يَدَعُونَنِي حتّى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط

١٦٦

عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة )) (١) .

٢ - كان محمّد بن الحنفيّة في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام (عليه السّلام) على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد (عليه السّلام) الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلاً: « يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَنْ مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعهم ».

فأجابه الإمام (عليه السّلام):(( خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تُستباح به حرمةُ هذا البيت )) .

فقال محمّد: « فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به، ولا يقدر عليك أحد ».

قال الحسين (عليه السّلام):(( أنظر فيما قلت )) .

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: « يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟ ».

قال الإمام (عليه السّلام):(( بلى، ولكنّي أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً )) .

فقال محمّد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟

فأجابه الإمام (عليه السّلام):(( قد شاء الله أن يراهن سبايا )) (٢) .

ولم يكن اصطحاب الحسين (عليه السّلام) لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب، وكذا فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام

____________________

(١) الكامل في التأريخ ٤ / ٣٩.

(٢) اللهوف على قتلى الطفوف / ٢٧، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٤.

١٦٧

الحسين (عليه السّلام) فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قويّة على المسلمين لنصرته، فمَنْ تولّى الحسين(عليه السّلام) ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين (عليه السّلام) فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، خاصّة إنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة؟

٣ - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه:(( خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله (عليهم السّلام) لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس؛ تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه.

مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا؛ فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى )) (١) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسين (عليه السّلام) في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد ؛ قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به مَنْ كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت (عليهم السّلام).

خلاصة الثورة في رسالة

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين (عليه السّلام) بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى

____________________

(١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٨، وكشف الغمة ٢ / ٢٠٤.

١٦٨

أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمام (عليه السّلام) إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام، والمبادئ والقيم الإلهية، والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب، والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء، والفوز في أعلا درجات الجّنة في الآخرة.

فقد جاء فيها بعد البسملة:(( من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمّد ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استشهد، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسّلام )) (١) .

ولمّا وردت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به؛ ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول الله(صلّى الله عليه وآله)(٢) .

ملاحقة السلطة للإمام (عليه السّلام)

ولم يبعُد الإمام (عليه السّلام) كثيراً عن مكة حتّى لاحقته مفرزة من الشّرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام (عليه السّلام) عن السّفر، وجرت بينهما مناوشات حتّى تدافع الفريقان، واضطربوا بالسّياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً(٣) .

في التنعيم

ومضى ركب الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(٤) صادفوا إبلاً قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشّام، وهي تحمل

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ / ٧٦، وبصائر الدرجات / ٤٨١، ودلائل الإمامة / ٧٧.

(٢) راجع تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام).

(٣) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٤) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ / ٤٩.

١٦٩

الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالاً لرحله وأصحابه، وقال لأصحابها:(( مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق )) . فمضى معه قوم وامتنع آخرون(١) .

في الصّفاح

وواصل الإمام مسيره حتّى وصل الصّفاح(٢) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر النّاس خلفه، فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسّيوف مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السّماء. فقال أبو عبد الله(عليه السّلام):(( صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشّكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَه )) (٣) .

ثمّ واصل الإمام (عليه السّلام) مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل النّاس عنه وتجاوبهم مع الاُمويّين.

كتاب الإمام (عليه السّلام) لأهل الكوفة

ولمّا وافى الإمام الحسين (عليه السّلام) الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكن (عليه السّلام) قد وصله خبر ابن عقيل،

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٢) الصّفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان ٣ / ٤١٢.

(٣) مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٠٣، البداية والنهاية - ابن كثير ٨ / ١٨٠، صفة مخرج الحسين (عليه السّلام) إلى العراق.

١٧٠

هذا نصّه:(( من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصّنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (١) في أمركم وجِدّوا؛ فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) (٢) .

وقد بعث (عليه السّلام) الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الاُمويّين

سرى نبأ مسير الإمام (عليه السّلام) نحو الكوفة بين النّاس فاضطرب الموقف الاُموي، وشعرت السّلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين (عليه السّلام)، والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام (عليه السّلام)، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

____________________

(١) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(٢) الإرشاد ٢ / ٧٠، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٩.

١٧١

اعتقال الصيداوي وقتله

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ.

فصعد قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه. ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(١) .

وروي أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يُقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن اُريحه.

مع زهير بن القين

وانتهت قافلة الإمام إلى « زرود » فأقام (عليه السّلام) فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السّنة، وكان يُساير الإمام في طريقه ولا يُحبّ أن ينزل معه؛ مخافةَ الاجتماع به إلاّ إنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمام (عليه السّلام) إليه رسولاً يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرّسول مقالة الحسين فذُعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير.

فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ.

فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧١، ومثير الأحزان / ٤٢، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١.

١٧٢

فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين (عليه السّلام)، ثمّ قال لامرأته: أنتِ طالق، الحقي بأهلك؛ فإنّي لا اُحبّ أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير.

وقال لأصحابه: مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي (رحمة الله عليه): أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثمّ - والله - ما زال في القوم مع الحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل (رحمة الله عليه)(١) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام (عليه السّلام)

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السّلطة الاُمويّة، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسين (عليه السّلام) المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطوّر الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل؛ ليستجلي الموقف، إلاّ إنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يُدعى « الثعلبية » بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنُقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسين (عليه السّلام) السّابق مثالاً للصلابة والجرأة والإخلاص.

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٢ - ٧٣، والكامل في التأريخ ٣ / ١٧٧، والأخبار الطوال / ٢٤٦.

١٧٣

ووصل خبر أسر الرّسول واستشهاده إلى الإمام (عليه السّلام) في موضع يُدعى « زُبالة »، وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق؛ ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم:(( بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع قتلُ مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمَنْ أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام )) .

فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّه (عليه السّلام) علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(١) . فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثمّ ساروا.

لقاء الإمام الحسين (عليه السّلام) مع الحرّ

وبينما كان الإمام (عليه السّلام) يسير بمَنْ بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين (عليه السّلام) وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين(عليه السّلام) سألهم عن المهمّة التي جاؤوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٥ - ٧٦، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٥.

١٧٤

اُمرنا أن نلازمكم، ونجعجع بكم حتّى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد(١) .

وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز، أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين (عليه السّلام) أن يستسلم ليزيد وابن زياد(٢) .

وكان ممّا قاله الحسين (عليه السّلام) وهو واقف بينهم خطيباً:(( أيّها النّاس، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم )) .

فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ:(( أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟ )) .

قال: لا، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين (عليه السّلام)(٣) .

وبعد أن صلّى الإمام (عليه السّلام) بهم العصر خاطبهم بقوله:(( أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليَّ

____________________

(١) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢٢٩، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٦، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥، مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ١ / ٢٢٩، البداية والنهاية ٨ / ١٨٦، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

(٣) الإرشاد ٢ / ٧٩، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٥٩٦.

١٧٥

رُسُلُكُم انصرفت عنكم )) (١) .

فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.

فقال الحسين (عليه السّلام) لبعض أصحابه:(( يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ )) .

فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.

فقال له الحسين (عليه السّلام):(( الموت أدنى إليك من ذلك )) . ثمّ قال لأَصحابه:(( قوموا فاركبوا )) . فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه:(( انصرفوا )) . فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (عليه السّلام) للحرّ:(( ثَكَلَتْكَ اُمُّك! ما تريد؟! )) .

قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمِّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه(٢) .

النزول في أرض الميعاد

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السّلطة الاُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتّى تلتحق به جيوش بني اُميّة، وتلتقي به بعيداً عن الكوفة؛ خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغلّ ابن زياد ظروف المنطقه الصّعبة للضغط على الإمام (عليه السّلام) واستسلامه.

____________________

(١) الفتوح - لابن أعثم ٥ / ٨٧، وتأريخ الطبري ٣ / ٢٠٦، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٣٣٢.

(٢) الإرشاد ٢ / ٨٠، تاريخ الطبري ٣ /٣٠٦.

١٧٦

وبغباء المنحرف السّاذج، وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين (عليه السّلام) - يزيد بن مهاجر - مدافعاً عمّا جاء به قائلاً: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) (١) .

وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين (عليه السّلام) دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد، وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام (عليه السّلام) نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة، فقال للحسين (عليه السّلام): « إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم »، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) رفض هذا الرأي؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الاُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال (عليه السّلام):(( ما كنت لأبدأهم بقتال )) .

وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستين(٢) ، ثمّ اقترح زهير على الإمام (عليه السّلام) أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.

وسأل الإمام (عليه السّلام) عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت

____________________

(١) سورة القصص / ٤١.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٩، ومعجم البلدان ٤ / ٤٤٤، وإعلام الورى ١ / ٤٥١، والأخبار الطوال / ٢٥٢، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٨٠.

١٧٧

عيناه وهو يقول:(( اللهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء )) .

ثمّ قال:(( ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمّد ينزلون ها هنا )) (١) .

وقبض الإمام الحسين (عليه السّلام) قبضةً من ترابها فشمّها وقال:(( هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني اُمّ سلمة )) (٢) .

فأمر الإمام (عليه السّلام) بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر، ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.

جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد

وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين، وتوعّد كلّ مَنْ يقدر على حمل السّلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السّجونُ بالشّيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين، وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد

____________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢، والأخبار الطوال / ٢٥٣، وحياة الحيوان - للدميري ١ / ٦٠.

(٢) تذكرة الخواص / ٢٦٠، ونفس المهموم / ٢٠٥، وناسخ التواريخ ٢ / ١٦٨، وينابيع المودّة / ٤٠٦.

١٧٨

أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميعاً لاحتياطات، وبخاصّة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور(١) .

وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين (عليه السّلام) وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم، وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين (عليه السّلام) أوضح فيها الإمام (عليه السّلام) لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كلّ الحجج في سبيل إظهار الحقّ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.

ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام (عليه السّلام) ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه(٢) ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي، بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(٣) .

____________________

(١) سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني / ٦٨.

(٢) الإرشاد - للمفيد ٢ / ٨٥، الفتوح ٥ / ٩٧، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤، إعلام الورى ١ / ٤٥١، البداية والنهاية ٨ / ١٨٩، مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ٢٤٥.

(٣) إعلام الورى ١ / ٤٥٢.

١٧٩

١٨٠