الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة0%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
تصنيف: الصفحات: 420
المشاهدات: 93196
تحميل: 4254

توضيحات:

الشهادة الثالثة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93196 / تحميل: 4254
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والحجّة أيضاً اتّفاق الطائفة المحقّة عليه، حتّى صار لها شعاراً لا يُدفع وعلماً لا يُجحد (1)، وقال في المستمسك: (ومجرّد الشهادة بكذب الراوي لا يمنع من احتمال الصدق الموجِب لاحتمال المطلوبيةّ، كما أنّه لا بأس بالإتيان به بقصد الاستحباب المطلق؛ لمَا في خبر الاحتجاج: (إذا قال أحدكم: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، فليقل: عليّ أمير المؤمنين)، بل ذلك في هذه الأعصار معدود من شعائر الإيمان ورمز إلى التشيّع، فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً لكن لا بعنوان الجزئيّة من الأذان، ومن ذلك يظهر وجه ما في البحار من أنّه لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة للأذان؛ لشهادة الشيخ، والعلاّمة، والشهيد وغيرهم...) (2).

وقال في المستند: (ولكنّ الذي يهوّن الخطبَ أنّنا في غنى من ورود النص، إذ لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة في نفسها بعد أن كانت الولاية من متمّمات الرسالة، ومقوّمات الإيمان، ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بل من الخَمس التي بُني عليها الإسلام، ولاسيّما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعائر، وأبرز رموز التشيّع وشعائر مذهب الفرقة الناجية، فهي إذاً أمر مرغوب فيه شرعاً وراجح قطعاً في الأذان وغيره) (3).

وقال السيّد الخوئي في معرض الجواب عن سؤالٍ وجّه إليه: (وقد جرت سيرة العلماء والأبرار على الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة،

____________________

(1) رسائل السيّد المرتضى: 1/ 219.

(2) مستمسك العروة الوثقى: ج5، ص545.

(3) مستند العروة: ج13، ص259 - 260.

٣٢١

لا يُقصد الجزئيّة منذ عهد بعيد من دون نكير من أحدهم، حتّى أصبح ذلك شعاراً للشيعة ومميّزاً لهم عن غيرهم، ولا ريبَ في أنّ لكلّ أمّة أن تأخذ ما هو سائغ في نفسه، بل راجح في الشريعة المقدّسة شعاراً لها...) (1).

أقول: قد ذَكر (قدِّس سرّه) الضابطة في قاعدة الشعاريّة موضوعاً ومورداً، فموضوعها: اتّخاذ شيء سائغ فضلاً عن الراجح علامة ومعلماً لباب من أبواب الدين، هذا بيان الموضوع على صعيد الكبرى الكليّة.

وأمّا على صعيد الصغرى وبيان المورد في المقام: فبيّنَ في صدر جوابه الإشارة إلى أنّ الشهادة بالولاية مكمّلة للشهادة بالرسالة، وأنّ الإيمان بها لا يتمّ إلاّ بالإيمان بالولاية، ثُمّ بيّن وقوع اتّخاذ الشهادة الثالثة في الأذان شعاراً للمذهب، كما هو الشأن في طبيعة اتّخاذ العلامات الوضعيّة أنّها تُتخذ للتباني والتواضع، فتشمل عموم القاعدة المورد في المقام، ونظير هذا الكلام ما ذكره الميرزا باقر الزنجاني في معرض جوابه عن هذا السؤال نفسه قال:

(.... وقد بَلَغنا عن أئمّتنا الهداة (صلوات الله عليهم) الأمر عقيب قول لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، أن يقول: عليٌّ أمير المؤمنين بنحو الإطلاق، وبه أخذ الإماميّة خَلَفاً عن سلف فجهروا بتلك الشهادة عقيب الشهادتين في الأذان على المآذن، وفي المساجد، وأوقات الصلاة حتى صار ذلك شعاراً لهم... فالإماميّة يعلمون أنّ هذه الشهادة كالصلاة على النبي وآله عقيب ذِكر اسمه الشريف في خروجها عن فصول الأذان،

____________________

(1) شرح رسالة الحقوق: ج2، ص127.

٣٢٢

وإنّما هما من الآداب المطلوبة المرغوب فيهما بمقتضى الأخبار،... فعلى أبناء الشيعة (ثبّتهم الله تعالى بالقول الثابت)، أن يقتفوا أثر أسلافهم التابعين لفتاوى علمائهم الأبرار، أن لا يتركوا هذا الشعار المشروع الذي لا مطعن فيه ولا مغمز، وليستقيموا كما أُمروا) (1).

شعاريّة ذِكرهم في الأذان

وقال العلاّمة في المنتهى: (ويستحبّ إذا فرغَ من التلبية أن يصلّي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)لقوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) قيل في التفسير: لا أُذكَر إلاّ وتُذكَر، يعني ولأنّ كلّ موضع شُرِّع فيه ذِكر الله تعالى شُرِّع فيه ذِكر نبيّه كالصلاة والأذان) (2).

أقول: وقد قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ له فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاّ تُلهيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله... ) (3).

فأمرَ في تعظيم تلك البيوت التي هي ليست من الحجر والمَدَر، بل هي رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع، بمقتضى عطف الآية الثانية على الآية الأولى، وأنّ نور الله المخلوق هو في تلك البيوت التي هي الرجال الذي لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وقد وردَ التنبيه على تفسير ظاهر هذه الآيات لهذا المفاد روايات عديدة من الفريقين، وأنّ بيت علي وفاطمة من أفاضلها.

ومن ذلك: ما روى السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية قال: (وأخرجَ ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال:

____________________

(1) شرح رسالة الحقوق: نقلاً عن كتاب سرّ الإيمان للسيّد عبد الرزاق المقرّم، ج2، ص125 - 126.

(2) منتهى المطلب: ج2، ص 681.

(3) النور: 36.

٣٢٣

قَرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ) فقامَ إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: (بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة؟ قال: نعم، من أفاضلها).

فكما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله تعالى ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، وقد فُسِّرت باقتران ذِكره بذكر الله تعالى في الأذان، كما ورد في بعض الروايات تأويلها بذلك، وكذلك ورد تأويل ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) بعلي صهرك.

وفي رواية الطبرسي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام)، في حديثه لليهودي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) في شرح قوله ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) : (فمَن هذا الذي يُشركه في هذا الاسم، إذ تمّ من الله به الشهادة فلا تتمّ الشهادة إلاّ أن يقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله ينادى على المنار، فلا يُرفع صوت لذكر الله عزّ وجل إلاّ رُفع بذكر محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معه)، وكذا ذُكر في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل نفس الآية.

فكذلك ورد فيهم (عليهم السلام): ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُسَبّحُ له فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ... ) (1) .

ومن ثُمّ ورد في الروايات المعتبرة التي تقدّمت أنّ ذكرهم من ذكر الله، كما في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: ما اجتمعَ في مجلس قوم لم يذكروا الله ولم يذكرونا، إلاّ كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة... ثُمّ قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إنّ ذِكرنا من ذكر الله، وذِكر عدوّنا من ذِكر الشيطان) (2).

____________________

(1) النور: 36.

(2) الوسائل: أبواب الذكر باب 36، ح1.

٣٢٤

فتقرّر من آية النور: أنّ إقامة ذِكرهم مقروناً بذكر الله وبذكر نبيّه، فكما أخبرَ تعالى بترفيع ذِكر النبي بذكره تعالى، كذلك أمرَ تعالى في آية النور - المعتضد مفادها بالنصوص - بترفيع ذِكرهم مع ذكره تعالى، فتكون الآية مع النصوص دليلاً خاصّاً على شعاريّة ذِكرهم في الأذان، بل عند التدبّر - وبضميمة ما في قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) وما وردَ في ذلك أنّه في الأذان، بالإضافة إلى عمومات الاقتران الدالّة على الحقيقة الشرعيّة في الشهادة - يُستَشعر الجزئيّة في الأذان.

وقد روى الفضل بن شاذان بإسناده إلى المقداد بن الأسود الكندي وقال: كنّا مع سيّدنا رسول الله وهو متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول: (اللهمّ اعضُدني، واشدُد أزري، واشرح صدري، وارفع ذكري، فنزلَ عليه جبرئيل (عليه السلام) وقال: اقرأ يا محمّد؟ قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ: ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) مع عليّ بن أبي طالب صهرك)، فقرأها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأثبَتها عبد الله بن مسعود في مصحفه، فأسقطها عثمان بن عفان حين وحّد المصاحف) (1).

أقول: والمراد بإثباتها في مصحف عبد الله بن مسعود: أنّه مشتمل على التنزيل والتأويل، وعلى أيّ تقدير تكون دلالة الرواية نصّاً في رفع ذِكر النبي ورفع ذِكر الوصي، وقد ورد في روايات الفريقين أنّ تفسير ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) هو جَعل اسمه الشريف في الأذان، فتكون هذه الرواية كالنص في جَعل الشهادة الثالثة في الأذان.

____________________

(1) الفضائل لابن شاذان: ص151.

٣٢٥

وهناك جملة من الروايات وردت في أنّ تلك البيوت هي بيوت آل محمّد، فقد روى علي بن إبراهيم بسنده المتصل عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله... ) قال: (هي بيوت الأنبياء وبيت علي منها) (1) .

وروى الكليني عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث في ذيل الآية -: (والتَمسوا البيوت التي أذِنَ الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه؛ فإنّه أخبَركم أنّهم ( رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ) (2) .

وفي صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، في حديث دخول قتادة بن دعامة البصري حيث قال له أبو جعفر (عليه السلام): (ويحك يا قتادة، إنّ الله عزّ وجل خلقَ خلقاً من خلقه، فجعلهم حُججاً على خلقه، منهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نُجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلةّ عن يمين عرشه، قال: فسكت قتادة طويلاً ثُمّ قال: أصلحكَ الله، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبّاس، فما اضطربَ قلبي قدّام واحد منهم ما اضطربَ قدّامك، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (ويحكَ أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ... ) فأنتَ ثَمّ، ونحن أولئك) فقال له قتادة: صدقتَ والله، جَعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين... (3) الحديث.

وغيرها من الروايات أوردها صاحب تفسير البرهان ونور الثقلين عن المصادر الحديثيّة، فلاحظ ما ذَكراه في ذيل الآية.

____________________

(1) تفسر القمّي: ج2، ص 79.

(2) الكافي: ج1، ص 139.

(3) الكافي: ج6، ص 256.

٣٢٦

ومن هذه الآيات والروايات يتبيّن: أنّ أبرز المصاديق التي ينصرف إليها الإطلاق في ترفيع الذكر هو الأذان والإقامة، ومنه تُستشعر الجزئيّة، ونحوهما تشهّد الصلاة، وأنّ الحال كذلك في العمومات الواردة التي تقدّمت الإشارة إليها في الفصل السابق، الدالّة على استحباب اقتران الشهادات الثلاث عموماً، وأنّ أبرز المصاديق المنصرف إليها هذه العمومات هو الأذان والإقامة، لاسيّما وأنّ طوائف روايات الاقتران دالّة بمجموعها على تقرير الحقيقة الشرعيّة للشهادة، وأنّ بدون الثلاث معاً لا يتقرّر ولا يتحقّق أصل التشهّد؛ لأنّ الثالثة بتبع الاثنتين ركن قوامي في حقيقة الإقرار والتشهّد أيضاً.

شعاريّةُ الأذان والشهادة الثالثة:

قال تعالى: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُوا ًوَلَعِباً ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ) (1).

وقوله تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى‏ ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (2) .

وقد ورد في نزول هذه الآية أنّ بعض المنافقين أو أهل الكتاب من الكفّار، إذا سمعوا المؤذّن يقول: (أشهد أن محمّداً رسول الله) شتمَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فدخَلَت خادمتهُ بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترقَ البيت، واحترق هو وأهله.

وقد قُرّر أنّ في الآية دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب، لا بالمنام لبعض الصحابة كما روته العامّة، وفي الآية دلالة على إطلاق عنوان النداء على الأذان،

____________________

(1) المائدة: آية 58.

(2) الجمعة: آية 9.

٣٢٧

وأنّ من قوام ماهيّته جهة الشعيرة فيه، حيث إنّ في الشعيرة إعلام وهو نتيجة النداء، والنداء نحو أعلام، وكذلك تقرير دلالة الآية الثانية، فإنّه أُطلقَ على أذان الظهيرة يوم الجمعة ِ ( إذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ... ) بأنّه أذان ونداء للصلاة، ثُمّ إنّ في الآية الأولى - مع ما تقدّم من مورد نزولها وسياق الآيات التي قبلها - دلالة واضحة على أنّ شعيريّة الأذان لا يقتصر على كونه إعلاماً للصلاة فقط، بل هو شعار ونداء للتوحيد والنبوّة والإسلام، وأنّ سبب استهزاء المنافقين والنصارى في مورد نزول الآية الأولى هو تضمّن الأذان للإقرار بالنبي والولاية له، ومن ثُمّ كان سياق الآيات في سورة المائدة قبل هذه الآية، هي كلّها في الموالاة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين (عليه السلام)، وذمّ الذين يتوّلون اليهود والنصارى والمنافقين، وقال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنّصَارَى‏ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلهم مِنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الّذِينَ أَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالهمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنّمَا وَلِيّكُمُ الله وَرَسُولهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلّ الله وَرَسُوله وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتّقُوا الله إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ) (1).

____________________

(1) المائدة: 52 - 58.

٣٢٨

فجملة هذه الآيات النازلة في تولّي الله، ورسوله، وعلي (عليه السلام) - الذي تصدّق وهو راكع - وحصرُ الولاية بهم، وأنّ تلك الولاية هي ولاية حزب الله، بخلاف الذين في قلوبهم مرض الذين اندّسوا في صفوف المسلمين منذ أوائل البعثة، كما تشير إلى ذلك سورة المدّثر (1) ، وهم الذين تنبّأ القرآن بسيطرتهم على مقاليد الأمور بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما أشارت إلى ذلك سورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فجملة الآيات في سياق التولّي والتبرّي، وجَعل حرمة الأذان من شعار التولّي ومقتضيات الولاية، وأنّ من مقتضيات التبرّي، التبرّي من أعداء الإسلام وأعداء الإيمان، والتبرّي من المستهزئين بحرمة الأذان.

وبعبارة جامعة: أنّ النداء إلى الصلاة - وهو الأذان - مظهر للتولّي والتبرّي ومن توابعه، ومن ثَمّ قد ورد أنّ مصحّح ابن أبي عمير عن أبي الحسن، أنّه علّة حذف حيّ على خير العمل من الثاني، هو لئلاّ يقع حث على الولاية، ولئلاّ يقع دعاء إليها (2) .

وممّا وردَ من الآيات المُعاضدة لكون النداء للإيمان أيضاً، قوله تعالى: ( رَبّنَا إِنّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبّكُمْ فَآمَنّا ) (3) .

وفي معتبرة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (بُنيَ الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم يُنادَ بشيء كما نوديَ بالولاية) (4).

____________________

(1) المدّثر: آية 31.

(2) أبواب الأذان والإقامة: ب19/ 16.

(3) آل عمران: 139.

(4) أبواب مقدّمات العبادات: الباب 1، ح10.

٣٢٩

وروى البرقي (1) في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي مثله، ورواه الكليني بطريق معتبر آخر عن الفضيل (2) .

وقد مرّ في معتبرة الفضل بن شاذان قوله في عِلل الأذان: (ويكون المؤذِّن... مجاهراً بالإيمان، مُعلناً بالإسلام) (3).

وفي صحيح ابن أبي عمير المتقدّم عن أبي الحسن (عليه السلام) (4)، أنّ خير العمل في الأذان هو الولاية، وأنّ الأذان حثٌ على الولاية ودعاء إليها، فتقرّر في جملة هذه الأدلّة عدّة أمور:

أولاً: تقرير النصوص القرآنيّة والروائيّة أنّ الأذان شعيرة وشعار أي: موضع للإعلام بأصول الدين.

الثاني: إنّ الأذان كما هو شعار للإسلام فهو شعار وشعيرة للإيمان أيضاً، والولاية للأئمّة (عليهم السلام) من أهل البيت، وقد تقدّم في المدخل في عنوان ماهيّة الأذان ما يُعاضد أدلّة المقام، فلاحظ.

الثالث: إنّ جملة هذه الأدلّة هي من الأدلّة الخاصّة، والدلالة بالخصوص على شعيريّة الأذان للإيمان والولاية، وبالتالي على جزئيّة الشهادة للثالثة في الأذان، فالشعيريّة على ذلك للشهادة الثالثة في الأذان يقرِّر عليها الدليل الخاص وأنّه تشعير خاص.

____________________

(1) المحاسن: ج1، ص286، ح429.

(2) الكافي للكليني: ج1، ص21، باب دعائم الإسلام، ح8، طبعة طهران.

(3) أبواب الأذان والإقامة: ح14، الباب 9.

(4) أبواب الأذان والإقامة: الباب 19، ح16.

٣٣٠

الرابع: إنّ هناك أدلّة عامّة أخرى تفيد شعيريّة الأذان للإيمان والولاية، ويتمّ تقريبها ببيان صغرى وموضوع قاعدة الشعائر، ومن ثُمّ كبرى القاعدة، هذا مع الغضّ عن الدلالة الخاصّة على الجزئيّة التي استشعرنا منها تشعير الشهادة الثالثة في الأذان من الآيات السابقة.

أمّا الموضوع: فهو أنّ الشعار والشعيرة الدينيّة لغةً: كلّ ما كان علامةً ورمزاً على حقيقة، أو حكم اعتقادي، أو فرعي من الدين، وهي تارةً تكون مخترعةً من الشارع المقدّس: كالحَرَم المكّي والمدني، والكعبة، والبيت الحرام، والمشاعر، والمقام، وبيت المسجد الأقصى، ومسجد الكوفة، وبيوت المشاهد المشرّفة للمعصومين (عليهم السلام)، وأخرى يتعارف على وضعها المتشرّعة في حدود تطبيق العمومات المشروعة ضمن مصاديق جزئيّة، كما في مراسم إحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، ومراسم إحياء التمسّك بالقرآن الكريم كعقد المسابقات لحفظه وتفسيره وعلومه وغير ذلك، والضابطة ورود الأذن الشرعي باتخاذ ذلك ولو كان مستفاداً من العمومات.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ الشعيرة في اللغة كلّ ما جُعلَ عَلَماً لطاعة الله، ومَعلماً على معنى من الدين وهو الإعلام من طريق الحس، ومن ثُمّ فهو الإعلام للمعاني الشرعيّة بآلات ووسائل حسيّة.

نعم، يظهر من بعض أدلّة قاعدة الشعائر: أنّ حيثيّة الإعلاء مأخوذة في موضوع القاعدة، وعلى ضوء تقرّر المعنى اللغوي - وعدم ورود الدليل التعبّدي الناقل عن المعنى اللغوي إلى الحقيقة الشرعيّة - يصحّ التمسّك بإطلاق أدلّة قاعدة الشعائر لكلّ وسيلة وآلة مباحة، تُتخذ من قِبَل العرف لإعلام معنى شرعي وديني، فدلالة الوسيلة والآلة على المعنى بالوضع والجَعل والاتّخاذ، فالشعيرة كما هي آلة إعلام، هي أداة إعلاء، وإحياء، وتجديد عهد،

٣٣١

ومن ثَمّ يُتمسّك بإطلاق قوله تعالى: ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وقوله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2).

ومفادهُ: الحثّ على نشر نور الله في مقابل الإطفاء، وقوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (3)، أي: رَفع لتلك البيوت، ولكلمة الله ونشر حكمه، وقوله تعالى: ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى‏ وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا ) (4).

مُتعلّق موضوع القاعدة

أمّا مورد الشعيرة: فموضوعه هو الفعل المحلّل بالمعنى الأعم في نفسه، لا بلحاظ الطواري التي تُتخذ دالاًّ وعلامة على معنىً ديني، سواء كان مباحاً أو مستحبّاً في نفسه، والوجه في ذلك: أنّ الشعار والشعيرة - المتّخذة من العمومات لا من الدليل الخاص على خصوصيّتها - حالها حال العناوين الثانويّة: كالنذر، واليمين، والشروط، وطاعة الوالدين وغيرها من العناوين المثبتة لأحكام ثانويّة، من أنّها إنّما تَعرض على الفعل المحلّل في نفسه، ولا تُعارِض العناوين الأوّليّة الإلزاميّة، بخلاف العناوين الثانويّة الرافعة: كالضرر، والحرج، والجهل، والنسيان ونحوها.

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) التوبة: 32.

(3) النور: 36.

(4) البراءة: 40.

٣٣٢

محمولُ القاعدة

أمّا أدلّة كبرى المحمول فهي: عموم تعظيم الشعائر وأنّها من تقوى القلوب، وغير ذلك بعد فرض وجود الإذن الشرعي من عموم رجحان الإقرار بالولاية باللسان لعلي والأئمّة (عليهم السلام)، وكفى في ذلك قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ، فإنّ كمال الدين بها، وإتمام النعمة والهداية بها، وهي شرط الرضا والقبول للدين والأعمال، مضافاً إلى العمومات الأخرى المتواترة بين الفريقين في الأمر بالتسليم لهم (عليهم السلام) بالولاية، وقوله تعالى: ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ الله وَرَسُوله وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) وغيرها من آيات الولاية.

ومن أبرز مظاهر التسليم لولايتهم الإقرار باللسان بها، كما صنعَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمسلمين في غدير خم بالتسليم والإقرار والشهادة لعلي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين والولاية، فكثرة الإقرار باللسان بالولاية مطلوبيّته من الضروريّات البديهيّة.

فإذا اتّضحت هذه المقدّمات الثلاثة، ففي ما نحن فيه المقدّمات تامّة الحصول، أمّا الأولى: فقد شاعَ وذاع شعار الطائفة بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة علامةً ورمزاً للعقيدة الحقّة، وهي إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، التي هي سفارة إلهيّة غير النبوّة والرسالة وخلافة لله في أرضه، التي بيّنها في كتابه بقوله تعالى: ( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّها ) ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) عِلماً لدُنيّاً من عنده وإقراراً بالإيمان بها.

٣٣٣

ثُمّ إنّ المشهور المنصور بين الأصحاب إباحة التكلّم في الأذان والإقامة؛ لورود النصوص الصحيحة السند بذلك، ولاسيّما قبل الفصل (قد قامت الصلاة) وإن كان مكروهاً محلاً، إلاّ أنّك عرفتَ الرجحان الذاتي للذكر نفسه، وهو الإقرار بالشهادة بالولاية، بل الصحيح المتعيّن عدم شمول عدم الكراهة للتكلّم في أثناء الأذانين للشهادة الثالثة، كما لا يشتمل الصلوات على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند ذكره، كما عرفتَ في تنصيص صحيح زرارة المتقدّم بذلك، حيث إنّها من المستحبّات للشهادة الثانية، وأفضل أفرادها المتشخّص بتعقّب الصلوات والشهادة الثالثة له.

أمّا عموم الآيات الآمرة بالولاية لهم (عليهم السلام)، والروايات المتواترة الآذنة والآمرة بكثرة الإقرار اللساني بولايتهم، فكلاهما محقّقة للإذن والطلب فيكون ما أُخذ شعاراً من الطائفة المحقّة الإماميّة، تطبيقاً لتلك العمومات، واتّخاذاً للشعيرة منها فيعمّه ( وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

والذي يتناول الواجب والمستحبّ، كما في تناول وطرو عنوان النذر وغيره من العناوين الثانويّة اللازمة لكلّ من المستحبّ والواجب، والتي هي معالم وإعلام للدين في قبال الاستخفاف والاستهانة بها - والعياذ بالله تعالى - وأيّ شعيرة بمثل أهميّة المكمّلة للدين والشرط في الرضا والقبول للدين والعمل، فهي قد تمّ اتّخاذها شعيرة بالخصوص في الأذان لا في غيره، وإن كان رجحانها لولا طرو عنوان التشعير بنحو العموم، ومنه يظهر وجه مَن مالَ للوجوب مضافاً للعناوين الأخرى الطارئة المُعاضدة لذلك،

٣٣٤

هذا، فضلاً عمّا ذكرناهُ أوّلاً من تقريب تشعيرها في الأذان من قِبَل الشارع نفسه، في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه... ) ، ونظير قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) فلاحظ.

هذا كلّه فيما عليه جمهور فقهاء الإماميّة.

٣٣٥

الجهةُ الثانية

الأقوالُ النادرة في حُكم الشهادة الثالثة

قال في المستند: (وكرّهها بعضهم مع عدم الاعتقاد بمشروعيّتها وحرّمها معه، ومنهم مَن حرّمها مطلقاً لخلوّ كيفيّتهما المنقولة) (1).

هذا بعد أن حكى قول المشهور بالمشروعيّة، وقول البعض كالمجلسي بنفي البعد عن كونها من الأجزاء المستحبّة، والظاهر أنّ القول الذي حكاه بالتفصيل بالكراهة والحرمة، إشارة إلى الفيض الكاشاني في المفاتيح، حيث قال في مفتاح ما يُكره في الأذان والإقامة:

(وكذا غير ذلك من الكلام وإن كان حقّاً، بل كان من أحكام الإيمان؛ لأنّ ذلك كلّه مخالف للسُنّة، فإن اعتقدهُ شرعاً فهو حرام) (2).

ويشير القول الثاني (قول التحريم) لصاحب الذخيرة السبزواري حيث قال: (وأمّا إضافة أنّ عليّاً وليّ الله، وآل محمّد خير البريّة وأمثال ذلك، فقد صرّح الأصحاب بأنّها بِدعة وإن كان حقّاً صحيحاً، إذ الكلام في دخولها في الأذان، وهو موقوف على التوقيف الشرعي، ولم يثبت) (3).

____________________

(1) المستند للنراقي: ج4، ص486.

(2) مفاتيح الشرائع1: 118.

(3) الذخيرة للسبزواري: ص254.

٣٣٦

وردّ عليهما في المستند قال: (أمّا القول بالتحريم مطلقاً، فممّا لا وجه له أصلاً، والأصل ينفيه، وعمومات الحثّ على الشهادة تردّه، وليس من كيفيّتهما اشتراط التوالي وعدم الفصل بين فصولهما حتى يخالفها الشهادة، كيف؟ ولا يحرم الكلام اللغو بينها فضلاً عن الحقّ، وتوهّم الجاهل الجزئيّة غير صالح لإثبات الحرمة، كما في سائر ما يتخلّل بينها من الدعاء، بل التقصير على الجاهل حيث لم يتعلّم، بل وكذا التحريم مع اعتقاد المشروعيّة، إذ لا يُتصوّر اعتقاد إلاّ مع دليل، ومعه لا إثمَ إذ لا تكليف فوق العلم، ولو سُلِّم تحقّق الاعتقاد وحرمته فلا يوجب حرمة القول، ولا يكون ذلك القول تشريعاً وبدعة، كما حقّقنا في موضعه.

وأمّا القول بكراهتها: فإن أُريد بخصوصها فلا وجه له أيضاً، وإن أُريد دخولها في التكلّم المنهي عنه في خلالهما فله وجه لولا المُعارض، ولكن تعارضهُ عمومات الحثّ بالشهادة مطلقاً، والأمر بها بعد ذِكر التوحيد والرسالة بخصوصه كما في المقام) (1) ، ثُمّ ذكرَ رواية الاحتجاج المتقدّمة.

ثُمّ استَظهرَ من كلام الشيخ، والعلاّمة، والشهيد، وصريح المجلسي، بورود الأخبار بها في الأذان بخصوصه.

ويمكن تلخيص أدلّة الحرمة كالتالي:

1- بأنّها بدعة وزيادة في العبادة التوقيفيّة الموظّفة من قِبَل الشارع.

2- الإيهام بالجزئيّة وهو تغيير لرسم الأحكام الدينيّة؛ وذلك بسبب تشاكل وتماثل صورة التكرار عدداً لفصول الأذان.

____________________

(1) المستند: ج4، ص 486 - 487.

٣٣٧

3- لزوم جواز الشهادة الثالثة في الصلاة أيضاً، وحيث يُعلم انتفاء ذلك فالمقدّم والملزوم مثله.

* ويُردّ عليه:

بعد غضّ النظر عن ورود الأدلّة الحاصلة على الجزئيّة، ولو الأعم من الواجب أو الندبيّة، وغضّ النظر عن الأدلّة العامّة التي أشار إلى بعض نماذجها المحقّق النراقي (قدِّس سرّه)، وقد عقدَ هذا الكتاب كلّه إشارة إلى الأقسام الثلاثة من الأدلّة في الفصول السابقة، مع غضّ النظر عن ذلك كلّه.

* يَرد عليه:

أوّلاً: أنّ الإذن باتّخاذ الشعائر والأمر بتعظيمها، ليس من الإحداث في الدين، ولو بُنيَ على عدم المشروعيّة من الأوامر العامّة لعُطّلت معظم أدلّة الشريعة، ممّا كانت بصيغة العموم والإطلاق ولانحسرَ التشريع؛ لأنّ الأدلّة الخاصّة لا تستوعب كلّ الجزئيات وما لا يتناهى من الجزئيات والصغريات المترامية، فمن الغريب مَن يرفع هذه الراية والمنهج في الاستدلال، فهو أشبه باستدلال الجماعة التي تَحكم ببدعيّة الاحتفال بالمواليد والمناسبات الدينيّة، وبدعيّة الاحتفاء بالأماكن الشريفة والمشاهد المشرّفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته، والأماكن الجغرافيّة التي شهدت أحداثاً تاريخيّة ووقائع للرسول وأهل بيته، تحت ذريعة أنّ كلّ ذلك لم يرد فيه نصّ خاص فهو بدعة ومُحدث فهو رد، وكلّ ذلك بسبب الضعف في صناعة الاستدلال، وعدم التفطّن إلى تحليل قاعدة الشعائر الدينيّة والتعمّق في مفادها، وحقيقة موضوع قاعدة الشعائر وحقيقة المحمول فيها، فإنّ قاعدة الشعائر شأنها شأن بقيّة الأدلّة الشرعيّة التي يؤخذ في موضوعها ومتعلّقها بعض العناوين المعيّنة،

٣٣٨

وكلّ عنوان وارد في الأدلّة الشرعيّة إذا لم يَجعل الشارع لمعناه حقيقة شرعيّة، فيؤخذ بمعناه اللغوي وحقيقتهُ العرفيّة أو التكوينيّة، أمّا لو أخذَ الشارع في معناه حقيقة شرعيّة ما، فإنّه يُقتصر على المقدار الذي تصرّف فيه الشارع، ويبقى الباقي على حقيقته اللغويّة، وهذا أمر مُطرّد في صناعة الاستنباط، فكذا الحال في قاعدة الشعائر كقوله تعالى: ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1).

وغيرها من الآيات الدالّة على معنى الإعلام والنشر لمعالم الدين، ممّا هو بمضمون الشعيرة كقوله تعالى: ( يُرِيدُونَ ليُطفِئوُا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا ) (3).

حيث إنّه من خاصّة الشعيرة الإعلاء لمعالم الدين وترويجها، والشعيرة في أصل الوضع اللغوي هي العلامة، ومنها الشعار الذي هو رمز لمعنى، فهي في مقام التحقّق تتوقّف على الاعتبار الحاصل من الوضع، واتّخاذ شيء علامة ودلالة على شيء آخر، فهي في الأصل تحقّقها بالدلالة الوضعيّة، والمفروض أنّ في هذا العنوان ليس هناك حقيقة شرعيّة فيبقى على المعنى اللغوي، وليس اتخاذ الشارع لبعض الأمور شعيرة في بعض الأبواب أنّ معنى الشعيرة حقيقة شرعيّة وسقطت عن الحقيقة اللغويّة.

بل غاية ذلك اعتبار بعض الأفراد والعلامات شعيرة على معانٍ ومعالم خاصّة كقوله تعالى: ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِر الله ) (4)، وقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ الله ) .

____________________

(1) الصف: 8.

(2) البراءة: 40.

(3) الحج: 32.

(4) الحج: 36.

٣٣٩

وكما في اتخاذ الأذان شعيرة للصلاة، لكنّ ذلك لا يعني أنّ المعنى العام الكلّي قد نُقل عمّا هو عليه، ويتّضح من ذلك: أنّ أيّ علامة مباحة فضلاً عمّا كانت راجحة إذا اتُّخذت من قِبَل المتشرّعة علامة على معنى ومَعلم ديني، فإنّها بالاتّخاذ والتباني على العلاميّة والتواضع فيما بينهم، تصبح شعيرة ومَعلماً للدين، ويكون إحياءً لذلك المَعلَم الديني وإقامة لرُكنه.

ومن ذلك يظهر وجه آخر لبقاء لفظ الشعيرة على معناه اللغوي، وهو ما دلّ ووردَ من أوامر على إقامة معالم الدين وتشييد أركانه في كلّ باب من أبواب الدين الحنيف، وكما ورد أيضاً الأمر بإحياء أمرهم (عليهم السلام)، حيث إنّ الإحياء كالإقامة والتشييد؛ إنّما يتمّ بالإعلام والنشر والإعلاء والتذكير، وهذه الأمور كلّها من خاصيّة معنى الشعيرة، إذ مقتضاها الإعلام والنشر والإعلاء والتذكير.

ومن ذلك يظهر الاستدلال ممّا ورد في المستفيض: (مَن سَنّ سُنّة حَسَنة كان لهُ أجرها وأجرَ مَن عَمَل بها إلى يوم القيامة)، وغيرها من أدلّة قاعدة الشعائر لا يسع المقام ذكرها (1) .

هذا كلّه من حيث كبرى قاعدة الشعائر محمولاً واقتضاءً، وأمّا من جهة الموضوع: فموردها وموضوعها، أي الآية التي تُتخذ علامة ومَعلماً شرعيّاً، فهو ما كان مباحاً أو راجحاً أي ممّا هو غير محرّم، وقد عرفتَ تضافر الأدلّة لاستحباب واقتران الشهادات الثلاث، واستحباب اقتران ذكرهم بذكره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكرهم بذكر الله تعالى.

____________________

(1) ذكرناها مفصّلاً والجهات المتعدّدة في قاعدة الشعائر في كتابَي: الشعائر الحسينيّة، والشعائر الدينيّة.

٣٤٠