مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)0%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

مقتل العباس (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
تصنيف: الصفحات: 394
المشاهدات: 68177
تحميل: 9415

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68177 / تحميل: 9415
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فكان ذوو الألويات يحرصون على رفعها؛ لكونها معقد الجيش، وبها يتمّ نظامهم وتتطامن نفوسُهم، ولم ينكسر الجيش إلاّ بقتل صاحب الراية وسقوطها.

ومن هنا نعرف مكانة أبي الفضل من البسالة، وموقفه من الشهامة، ومحلّه من الشرف، ومبوءه من الدِّين، ومنزلته من الغيرة، ومرتقاه من السّؤدد يوم عبّأ الحسينعليه‌السلام أصحابه، فأعطى رايته أخاه ( العبّاس ) مع أنّ للعبّاس إخوة من اُمّه وأبيه، وهناك من أولاد أبيه مَن لا يُسلّم اللّواء، كما أنّ في الأصحاب مَن هو أكبر سنّاً منه، مع صدق المفادات، ولكن سيّد الشُّهداءعليه‌السلام وجد أخاه أبا الفضل أكفى ممّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً.

فكان ( صاحب الراية ) عند معتقد أخيه الإمامعليه‌السلام ، ثابت الجأش في ذلك الموقف الرهيب، ثبات الأسد الخادر، وهذا بيان مُطَّرد تلهج به الألسن، وإلاّ فما موقف الأسد منه! ومِن أين له طمأنينة هذا البطل المغوار الثابت فيما يفرُّ عنه الضّرغام؟!

وَلَولا اِحتِقارُ الاُسدِ شَبَّهتُها بِهِم

وَلَكِنَّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ

نعم، أنسب تشبيه يليق بمقامه: أنّه كان يصول ومعه صولةُ أبيه المرتضىعليه‌السلام .

وللعبّاس مزيّة على مَن حمل اللّواء وبارز الأبطال وتقدّم للطعان؛ فإنّهعليه‌السلام قد ألمّت به الكوارث والمحن من نواحي مُتعدّدة؛ من جروح وعطش، وفئة صرعى وحرائر ولهى، وأطفال أمضّ

٢٤١

بها الظمأ، والواحدة منها كافية في أنْ تهدي إلى البطل ضعفاً، وإلى الباسل فراراً، لكن ( صريخة بني هاشم ) بالرغم من كُلِّ هاتيك الرزايا كان يزحف بالراية في جحفل من بأسه، وصارم من عزمه، وكان في حدِّ حسامه الأجلُ المـُتاح، وملكُ الموت طوع يمينه، إذاً فليس من الغريب إذا ظهر في غصن الخلافة ما يبهر العقول!

قَسماً بِصارمِهِ الصَّقيلِ وإنَّني

في غَيرِ صاعقةِ السَّما لا اُقسمُ

لَولا القَضا لَمحى الوُجودَ بِسَيفِهِ

وَاللَهِ يَقضِي ما يَشاءُ وَيحكمُ

٢٤٢

موقفُهُ قبل الطَّفِّ:

يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطَّفِّ، فيُثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن، وبالغوا في ذلك حتّى حُكي عن ( المنتخب ) أنّه يقول: كان كالجبلِ العظيمِ، وقلبُهُ كالطّود الجسيم؛ لأنّه كان فارساً هُماماً، وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار.

ويُحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج٣ ص٢٤ عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها: أنّهعليه‌السلام كان عضداً لأخيه الحسينعليه‌السلام يوم حمل على الفرات، وأزاح عنه جيش معاوية ومَلَك الماء.

قال: وممّا يُروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام شابٌّ على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يُقدّر عمره بالسّبع عشرة سنة، يطلب المبارزة، فهابه النّاس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي - وكانوا سبعة - وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمـّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميِّين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولمـّا رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام وأزال النّقاب عنه، فإذا هو ( قمر بني هاشم ) ولده العبّاسعليه‌السلام .

٢٤٣

قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية: وليس ببعيد صحة الخبر؛ لأنّ عمره يقدر بالسّبع عشرة سنة، وقد قال الخوارزمي: كان تامّاً كاملاً.

وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص١٤٧: خرج من عسكر معاوية رجل يُقال له: كُريب، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته، فنادى: ليخرج إليّ عليٌّ. فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاّج الشيباني فقتله، فساء أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك، فدعا ولده العبّاسعليه‌السلام ، وكان تامّاً كاملاً من الرجال، وأمره أنْ ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، فلبس عليٌّعليه‌السلام ثياب ولده العبّاس وركب فرسه، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه؛ لئلا يجبن كُريب عن مبارزته إذا عرفه، فلمـّا برز إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ذكّره الآخرة، وحذّره بأس اللّه وسخطه.

فقال كُريب: لقد قتلتُ بسيفي هذا كثيراً من أمثالك، ثُمّ حمل على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاتّقاه بالدرقة وضربه عليٌّعليه‌السلام على رأسه فشقّه نصفين، ورجع أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال لولده محمّد بن الحنفيّة:« قفْ عندَ مصرعِ كُريب؛ فإنّ طالبَ وترِهِ يأتيك » . فامتثل محمّدٌ أمر أبيهعليه‌السلام ، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كُريب، قال محمّد: أنا مكانه. فتجاولا ثُمّ قتله محمّدٌ، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم(١) .

وفي ص١٠٥ من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن عبد المـُطّلب: وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٢٨، والنّقل بالمعنى.

٢٤٤

العبّاس، فبرز إليه أخوه حمزة - وكان شجاعاً قوياً - فنهاه أمير المؤمنينعليه‌السلام عن مبارزته، وقال له:« انزعْ ثيابَكَ وناولنِي سلاحَكَ وقفْ مكانَكَ، وأنا أخرجُ إليهِ » . فتنكّر أمير المؤمنينعليه‌السلام وبرز إليه وضربه على رأسه، فقطع نصف رأسه ووجهه وإبطه وكتفه، فتعجّب اليمانيُّون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث(١) .

هذا ما حدّث به في المناقب، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنينعليه‌السلام مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث؛ فإنكار شيخنا الجليل المـُحدّث النّوري في حضور العبّاس في صفّين، مُدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث، في غير محلّه؛ فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة؛ لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقوا الكُلَّ في الفضائل جميعها، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب، فليس من البِدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان وإنْ لم يبلغوا مبالغ الرجال.

فهذا القاسم بن الحسن السّبطعليه‌السلام لم يبلغ الحلم يوم الطَّفِّ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةً، وأهدى إلى قلوب المقارعين فَرَقاً، وإلى الفرائص ارتعاداً، وإلى النّفوس خَوراً، غير مبالٍ بالجحفل الجرّار، ولا بمكترثٍ بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً(٢) ، وبطبع الحال فيهم مَن هو أقوى منه، لكنّ البسالةَ وراثةٌ بين أشبال ( عليعليه‌السلام ) على حدٍّ سواء، فهم فيها كأسنان المشط،

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٣١، والنّقل بالمعنى.

(٢) لواعج الأشجان للأمين / ١٧٤، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٤، وفيه: فقَتلَ على صغر سنّه خمسة وثلاثين رجلاً. بدلَ فارسٍ.

٢٤٥

صغيرهم وكبيرهم، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشدُّ شسع نعله، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله، وقد أنف ( شبل الوصيِّ ) أنْ يحتفي في الميدان.

أهوى يشدُّ حذاءَهُ

والحربُ مُشرعةٌ لأجْلِهْ

ليَسُومَها ما إنْ غلتْ

هَيْجاؤهَا بِشراكِ نَعْلِهْ

مُتقلِّداً صمْصامَه

مُتفيِّئاً بظلالِ نصْلِهْ

لا تَعْجَبنَّ لفعِلهِ

فالفرعُ مُرتَهنٌ بأصلِهْ

السّحُب يَخلفُها الحَيا

والليّثُ مَنظورٌ بشبلِهْ

يُردِي الطَّليعةَ مِنهُمُ

ويُريهُمُ آياتَ فِعْلِهْ(١)

وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بارز يوم الطَّفِّ الاُلوف مع صغر سنِّه حتّى قتل منهم - على رواية محمّد بن أبي طالب - ثلاثةً وتسعين رجلاً، بثلاث حملات.

وهذا محمّد بن الحنفيّة، فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفِّين والنّهروان، وكانت الراية معه، فأبلى بلاءً حسناً سجَّله له التاريخ وشكره الإسلام، وكان صغير السّنِّ على ما يظهر من السّبط في تذكرة الخواصّ، وابن كثير في البداية ج٩ ص٣٨(٢) ، فإنّهما نصّا على وفاته سنة ٨١ عن خمسٍ وستّين، فتكون ولادته سنة ١٦ للهجرة، وله يوم البصرة الواقع سنة ٣٦ هـ عشرون سنة.

____________________

(١) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخرحمه‌الله .

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٩ / ٣٢، تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٩٨.

٢٤٦

وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضلعليه‌السلام وما أبداه من كرٍّ وإقدام؛ خصوصاً بعد ما أوقَفَنا النّص النّبوي الآتي على ما حواه وُلدُ أبي طالب من بسالة وبطولة.

وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبىعليه‌السلام فله أربع وعشرون سنة، وقد ذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص٨٤: أنّه لمـّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام تُرمى بالسّهام، عظمَ عليه الأمر، ولم يطقْ صبراً دون أنْ جرَّد سيفه وأراد البطش بأصحاب ( البغلة ) لولا كراهيةُ السّبط الشهيدعليه‌السلام الحرب؛ عملاً بوصية أخيهعليه‌السلام :« لا تُهرقْ في أمرِي مَحْجَمةً مِنْ دمٍ » (١) .

فصبر أبو الفضلعليه‌السلام على أحرِّ من جمر الغضا، ينتظرُ الفرصة ويترقَّبُ الوعدَ الإلهي، فأجهد النّفس، وبذل النّفس في مشهد ( النّواويس )، وحاز كلتا الحُسنيين.

____________________

(١) دلائل الإمامة / ١٦٢، الإرشاد للشيخ المفيد / ١٧، عمدة الطالب لابن عنبة / ٦٧ باختلاف الألفاظ.

٢٤٧

موقفُهُ في الطَّفِّ:

ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه، وربما أعقب الظهور خفاءً؛ فإنّ منْ أبرز الصفات الحميدة في الهاشميِّين الشجاعة، وقد جُبلوا عليها، وبالأخص الطالبيِّين، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النّبويّ:« لو ولدَ النّاسَ أبو طالبٍ كُلَّهمْ لكانوا شُجعاناً » (١) .

إذاً فما ظنّك بطالبيٍّ أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام قاتل عمر بن عبد ود، ومزهق مرحب، وقالع باب خيبر، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها، وعلّمه قراع الكتائب، فنشأ بين حروبٍ طاحنة وغارات شعواء، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية؟!

وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد، ومن هنا قالت العرب:( فلان مُعِمٌّ مُخْوِلٌ ) إذا كان كريمهم، وحوى المزايا الحميدة عنهما(٢) ، ولم يعقد أمير المؤمنينعليه‌السلام على اُمِّ البنين إلاّ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ / ٧٨، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٣٥ باختلاف ألفاظ الرواية بلفظ:« للّه درُّ أبي طالب! لو وَلد النّاسَ كلَّهم كانوا شُجعاناً » . كما في كشف الغُمَّة للأربلي، أو:« لو ولدَ أبو طالبٍ النّاسَ كُلَّهُمْ لكانُوا شُجعاناً » . كما في شرح النّهج.

(٢) لسان العرب ١١ / ٢٢٤، تاج العروس ١٤ / ٢١٦. وقد نظم هذه الخاصّة أبو بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي، المـُتوفّى سنة ٣٧٣، ففي مُعجم البلدان ١ / ٥٧ بمادة ( آمل ) إنّه قال:

بآملَ مولدِي وبنُو جريرِ

فأخوالِي ويحكِي المرءُ خالَهْ

فها أنا رافضيٌّ عنْ تُراثٍ

وغيرِي رافضيٌّ عنْ كَلالَهْ

عرّض بابن جرير صاحب التاريخ؛ فإنّه أخو اُمّه، وكان من أهل السُّنّة، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير، فتشيّعه ادّعائي، وهو المـُعبّر عنه بـ ( الكلالة )؛ فإنّها في اللغة: ما لمْ يكن من النّسب لحاً. فقول الحموي في المـُعجم: ( كذب الخوارزمي؛ لأنّ ابن جرير من أعلام السُّنّة ) مبنيٌّ على عدم فهمه الغرض من البيت، فالخوارزمي لمْ يعترف بتشيعهِ.

وقال الذهبي في تاريخه ٢٧ / ٦٨، وقال الحاكم في تاريخه: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يُذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يُحيّرني حفظه...

٢٤٨

لتلد له هذا الفارس المغوار والبطل المـُجرّب، فما أخطأت إرادته الغرض، ولا عدى سهمه المرمى.

فكان أبو الفضل رمز البطولة ومثال الصولات، يلوح البأس على أسارير جبهته، فإذا يَمّم كميّاً قصده الموت معه، أو التقى بمُقبل ولاّه دبره، ولم يبرح هكذا تشكره الحرب والضرب، وتشكوه الهامات والأعناق، ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر، ولم يلفَ في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المـُكفهر.

يُمثّلُ الكرّارَ في كرَّاتِه

بلْ في المعانِي الغُرِّ مِنْ صفاتِهِ

ليسَ يدُ اللّهِ سِوى أبيه

وقُدرةُ اللّهِ تَجلَّتْ فيهِ

فَهو يدُ اللّهِ وهذا ساعدُه

تُغنِيكَ عَنْ إثباتِهِ مشاهدُهْ

صَولتُهُ عندَ النّزالِ صولتُهْ

لولا الغُلوُّ قُلتُ جلَّتْ قُدرتُه

وهل في وسع الشاعر أنْ ينضد خياله، أو يتسنّى للكاتب أنْ يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدريّة، وجوهر الحقيقة قائمٌ بنفسه، ماثلٌ أمامَ الباحث بأجلى مِن كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطَّفِّ؟!

٢٤٩

ولَعمري، إنّ حديث كربلاء لم يُبقِ لسابقٍ في الشجاعة سبقاً، ولا للاحقٍ طريقاً إلاّ الالتحاق به، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد، وتوفّر العتاد، وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب، وفي الغالب إنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة.

يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهليّة والحالة كما وصفناها، واهتزّوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم، وهي: إنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين، خرج بالظعينة وفيها اُمّه اُمّ سنان من بني أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة، واُخته اُمّ عزَّة، وأخوه أبو القرعة، ورأى الظعينة دُريد بن الصمّة، فقال لرجل معه: صح بالرجل أنْ خَلِّ الظعينة وانجُ بنفسك. وهو لا يعرفه.

فلمـّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه، ألقى زمام النّاقة وحمل على الرجل فصرعه، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة، فبعث الثالث ليعلم خبر الأوَّلَين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه، فلمـّا وافاه دُريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً، قال له: يا فتى، مثلُكَ لا يُقتل، وهؤلاء يثأرون ولا رمح لك، ولكنْ خُذ رمحي وانجُ بنفسك والظعينة. ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم، وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه، وقد منع بالظعينة، فلا طمع لكم فيه(١) .

هذا الذي حفظته السّيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الظعائن حتّى انكسر رمحه، ولكنْ أين هو من ( حامى الظعينة ) يوم

____________________

(١) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٦ / ٣١٢.

٢٥٠

قاتل الاُلوف، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة، والكُلّ يرونه ويحذرونه؟!

وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضلعليه‌السلام ، فلقد كان جامع رأيهم، فلم يقدهم إلاّ إلى محلِّ الشرف، مُنكباً بهم عن خطَّة الخسف والضّعة، على حين أنّ الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت؟!

هذا وللسبط المـُقدّسعليه‌السلام طرف شاخص إلى صنوه البطل المـُقدام كيف يرسب ويطفو بين بُهمِ الرجال، ووجهُهُ مُتهلّلٌ لكرّاته، ولحرائر بيت النّبوَّة أملٌ موطَّد لحاميةِ الظعائن.

وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي، وهي لا تدعك إلاّ مُذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز، وطُمأنينة لدى الأهوال.

الأوّل: في اليوم السّابع من المـُحرَّم حُوصر سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود، ونفذ ما عندهم من الماء، فعاد كُلٌّ منهم يعالج لهب الأوام(١) ، وبطبع الحال كانوا بين أنّةٍ وحنّة، وتضوّرٍ ونشيج، ومُتطلّبٍ للماء إلى متحرٍّ ما يبلّ غلته، وكُلُّ ذلك بعين ( أبي عليعليه‌السلام ) والغيارى من آله، والأكارم من صحبه، وما عسى أنْ يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماحٌ مُشرعة وبوارقٌ مُرهفة في جمعٍ كثيف يرأسهم عمرو بن الحجّاج، لكنْ ( ساقي العِطاشى ) لمْ يتطامن على تحمّل تلك الحالة.

أَو تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَهُ

وَبصدرِ صعدَتِهِ الفراتُ المـُفعمُ

وَلو اِستَقَى نَهرَ المَجرَّةِ لارتَقَى

وَطَويلُ ذابلِهِ إِلَيها سُلمُ

____________________

(١) الأوام: العطش. راجع: لسانَ العرب ١٢ / ٣٨، القاموس المحيط ٤ / ٧٧، مجمع البحرين للطّريحي ١ / ١٣٥، تاج العروس ١٦ / ٣٨.

٢٥١

لَو سَدُّ ذي القَرنينِ دُونَ ورودِهِ

نَسَفتْهُ هِمَّتُهُ بِما هوَ أَعظَمُ

في كَفِّهِ اليُسرى السَّقاءُ يقلُّهُ

وَبِكَفِّهِ اليُمنَى الحسامُ المِخْذَمُ

مثل السَّحابةِ لِلفَواطمِ صَوبُهُ

ويُصيبُ حاصبُهُ العَدوَّ فَيُرجَمُ

هناك قيّض الحسينعليه‌السلام لهذه المـُهمّة أخاه العبّاس، في حين أنّ نفسه الكريمة تُنازعه إلى ذلك قبل الطلب، ويحدوه إليه حفاظه المـُرُّ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية وإنْ كان دونه شقّ المرائر وسفك المـُهج، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدّم نافع باللّواء، وصاح به عمرو بن الحجّاج: مَن الرجل؟ وما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال له: اشرب هنيئاً. قال نافع: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن ترى من آله وصحبه عِطاشى. فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، وإنّما وُضعنا هاهنا لنمنعهم الماء. ثُمّ صاح نافع بأصحابه: املأوا قربكم.

وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعضٌ يُقاتل، وحاميهم ( ابنُ بجدتها ) مُسدّد الكماة، المـُتربِّي في حجر البسالة الحيدريّة والمـُرتضع من لبانها ( أبو الفضل )، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين مَن تُحدّثه نفسه بالدنوِّ منهم؛ فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبُلّت غلّة الحرائر والصبية الطيِّبة من ذلك الماء، وابتهجت به النّفوس(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ٩٨.

٢٥٢

ولكنْ لا يفوت القارئ معرفة: إنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أنْ تُجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أو أنّهم ينيفون على المئتين على بعض الروايات؟! ومِنَ المقطوع به أنّه لم تروِ أكبادهم إلاّ مرّة واحدة، أو أنّها كمصّة الوشل، فسرعان أنْ عاد إليهم الظمأ، وإلى اللّه سبحانه المـُشتكى.

الثاني: كان أصحاب الحسينعليه‌السلام بعد الحملة الاُولى التي استشهد فيها خمسون، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة، وكُلٌّ يحمي الآخر من كيد عدوّه، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا، وخرج الغفّاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا، وقاتل الحُرُّ الرياحي ومعه زهير بن القَين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم، شدَّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحُرُّ(١) .

وفي تاريخ الطبري ج٦ ص٢٥٥: إنّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السّلماني، ومجمع بن عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلمـّا أوغلوا فيهم عطف عليهم النّاس من كُلِّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسينعليه‌السلام أخاه العبّاس، فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد، وفازوا بالسّعادة الخالدة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٦٠.

٢٥٣

الشهادة:

لم يفتأ لقمر بني هاشم دؤب على مناصرة الحقّ في شمم وإباء عن النّزول على حكم الدنيّة، منذ كان يرتضع لبان البسالة، وتربّى في حجر الإمامة، فترعرع ونُصبَ عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النّواميس الإلهيّة، لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال؛ فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة، فمن الصعب عنده النّزول على الضيم، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الاضطهاد، فكان لا يرى للبقاء قيمةً و( إمام الحقّ ) مكثور، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلَّ مبلغ.

ولكنْ لمـّا كان - سلام اللّه عليه - أنفس الذخائر عند السّبط الشهيدعليه‌السلام وأعزّ حامته لديه، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر، ولوائه الخفاق وبطولتِهِ المعلومة، لم يأذن له إلى النّفس الأخير من النّهضة المـُقدّسة، فلا الحسينعليه‌السلام يسمح به، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره، ولا الحالة تدعه لأنْ يُغادر وحرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.

هكذا كان أبو الفضل بين نزوعٍ إلى الكفاح بمقتضى غريزته، وتأخّرٍ عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمامعليه‌السلام ، حتّى بلغ الأمر نصابه، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة، ومن البلاء المـُقبل اُخرى، ( ومركز الإمامة ) دارت عليه الدوائر، وتقطّعت عنه خطوط المدد، وتفانى صحبه وذووه.

٢٥٤

هنالك هاج ( صاحب اللّواء ) - ولا يلحقه الليث عند الهياج - فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه، فلم يجد أبو عبد اللّهعليه‌السلام بُدّاً من الإذنْ، حيث وجد نفسه لَتسبق جسمه؛ إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث المـُلمّة من دون أنْ يأخذ ثأره من اُولئك المَرَدة، فعرّفه الحسينعليه‌السلام أنّه مهما ينظر اللّواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر مُتّصلاً والمدد مُتتابعاً، والأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه، وحرائر النّبوَّة مُطمئنة بوجوده، فقال له:« أنتَ صاحبُ لوائِي، ولكنْ اطلبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً مِن الماءِ » .

فذهب العبّاسعليه‌السلام إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع، فرجع إلى أخيه وأخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش، فنهضت بـ ( ساقي العِطاشى ) غيرته الشمّاء وأخذ القربة، وركب فرسه وقصد الفرات، فلم يرعه الجمع المـُتكاثر، وكشفَهم شبلُ عليٍّ عن الماء ومَلَك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسينعليه‌السلام ، فرأى من واجبه ترك الشرب؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام ومَن معه أضرّ بهم العطش، فرمى الماء من يده وأسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمامعليه‌السلام ولو في آن يسير، وقال(١) :

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا الحُسينُ واردُ المنونِ

وتشْرَبينَ باردَ المعينِ

تـاللّهِ مـا هـذا فعالُ دينِي

فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، فلم يُبالِ بهم، وجعل يضرب فيهم بسيفه، ويقول:

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٩، ينابيع المودّة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٧.

٢٥٥

لا أرْهبُ المَوتَ إذا الموتُ زقا

حتّى اُوارَى في المصاليتِ لَقَى

إنِّي أنَا العبّاسُ أغْدو بالسّقا

ولا أهابُ المَوتَ يومَ المـُلتَقَى

فكمنَ له زيد بن الرقّاد الجهني، وعاونه حكيم بن الطفيل السّنبسي، فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السّيف بشماله وجعل يضرب فيهم، ويقول:

واللّهِ إنْ قَطعتُمُ يَمينِي

إنّي اُحامِي أبداً عَنْ دِينِي

وعَنْ إمامٍ صادقِ اليَقينِ

نجلِ النَّبيِّ الطَّاهرِ الأمينِ

فكمنَ له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها، فضمّ اللّواء إلى صدره.

فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السّهام كالمطر؛ فأصاب القربة سهمٌ واُريق ماؤها، وسهمٌ أصاب صدره، وسهمٌ أصاب عينه، وحمل عليه رجلٌ بعمودٍ من حديد وضربه على رأسه المـُقدّس.

وَهوَى بِجَنبِ العَلقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العَلْقمُ

ونادى بصوت عالٍ: عليك منّي السّلام يا أبا عبد اللّه(١) . فأتاه الحسينعليه‌السلام ، ويا ليتني علمتُ بماذا أتاه، أبحياة مُستطارة منه بذلك الفادح الجلل، أو بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب!

نعم، حصل الحسينعليه‌السلام عنده وهو يُبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد، وقد غشيته الدِّماء السّائلة وجلّلته النّبال، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول، فلا يمينٌ تبطش ولا

____________________

(١) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٨.

٢٥٦

منطقٌ يرتجز، ولا صولةٌ ترهبُ ولا عينٌ تُبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّدٌ.

أصحيح أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه، أو عافية تنهض به؟ لا واللّه، لم يبقَ الحسينعليه‌السلام بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله:« الآن انكسرَ ظَهرِي، وقلَّتْ حِيلَتِي، وشمتَ بِي عدوِّي » .

وبانَ الانكسارُ فِي جبينِهِ

فاندكّتْ الجِبالُ مِنْ حَنينِهِ

كافلُ أهلِهِ وساقِي صبْيتِهْ

وحاملُ اللِّوا بعالِي همَّتِهْ

وكيفَ لا وهوَ جمالُ بهجتِهْ

وفي مُحيَّاهُ سرورُ مُهجَتِهْ

ورجع إلى المـُخيّم مُنكسراً حزيناً باكياً يُكفكف دموعه بكُمِّه كي لا تراه النّساء(١) ، وقد تدافعت الرِّجال على مخيمه، فنادى بصوت عالٍ:« أمَا مِنْ مُجيرٍ يُجيرُنا؟ أمَا مِنْ مُغيثٍ يُغيثُنا؟ أمَا مِنْ طالبِ حقٍّ يَنصُرُنا؟ أمَا مِنْ خائفٍ مِنَ النّارِ فيذبُّ عنّا؟ » .

كُلّ هذا لإبلاغ الحُجّة، وإقامة العذر حتّى لا يعتذر أحدٌ بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.

ولمـّا رأته سُكينة مُقبلاً أخذت بعنان جواده، وقالت: أينَ عمّي العبّاس، أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها:« إنَّ عمَّكِ قُتلْ » . فسمعته زينب فنادت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسينعليه‌السلام معهنّ، ونادى:« وا ضيْعَتَنا بعدَكَ أبا الفضلِ » .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢.

٢٥٧

المشهد المـُطهَّر:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّهعليه‌السلام لم يترك القتلى في حومة الميدان، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهذا وإنْ لم نجده صريحاً في كُلِّ واحد من المـُستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه، وإنّ طبع الحال يستدعيه، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحُرِّ حتّى وُضع بين يديّ الحسينعليه‌السلام ، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه أنْ يحملوه إلى الفسطاط الذي يُقاتلون دونه، وقد حمل القاسم بنفسه المـُقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر، وقتلى حوله من أهل بيتهعليهم‌السلام .

هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير، ومن البعيد جدّاً أنْ يحمل سيّد الشُّهداءعليه‌السلام أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك اُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم:« لا أعلمُ أصحاباً أولَى ولا خيراً مِنْ أصحابي » . ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما)، وإنّ كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم النّاس الشّمم والإباء والغيرة؟!

على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراءعليها‌السلام ص١١٨ عن غيبة النّعماني: أنّ أبا جعفر الباقرعليه‌السلام يقول:« كان الحسينُ يضع قتلاه بعضَهُمْ معَ بعضٍ، ويقول: قتلةٌ مثلُ قتلةِ النَّبيِّينَ وآلِ النَّبيِّين » (١) .

____________________

(١) الغيبة للنعماني / ٢١٩، والنّص:« كان الحسينُ بنُ عليٍّ يضعُ قتلاه بعضَهُمْ إلى بعضٍ، ويقول: قتلانا قتلَى النَّبيِّين » .

٢٥٨

نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّهعليه‌السلام ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطّع الأوصال، فلم يقدر على حمله؛ لأنّ في وسع الإمامعليه‌السلام أنْ يُحرّك ذلك الشلو المـُبضَّع إلى حيث أراد ومتى شاء؛ وإلاّ لِما قيل: من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه في مكانه؛ لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(١) ؛ لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.

بل إنّما تركه لسرّ دقيقٍ، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومَن له ذوق سليم، ولولاه لم يعجز الإمامعليه‌السلام عن حمله مهما يكن الحال، وقد كشفت الأيّام عن ذلك السّرّ المصون، وهو: أنْ يكون له مشهد يُقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السّماء رفعةً وسناءً؛ فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند اللّه؛ فتُقدّره حقّ قدره، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزورة المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى، وسبب الزلفى لديه.

فشاء المهيمن تعالى شأنه، وشاء وليُّه وحُجّته أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة، فكان كما شاءا وأحبّا.

____________________

(١) الدمعة السّاكبة ٤ / ٣٢٤، قال: أقول: وفي بعض الكتب المعتبرة: إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العبّاسعليه‌السلام لم يقدر الحسينعليه‌السلام أنْ يحملهُ إلى محل الشُّهداء، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام.

٢٥٩

ولو حمله سيّد الشُّهداءعليه‌السلام إلى حيث مجتمع الشُّهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحُجّج الطاهرينعليهم‌السلام ، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بإفراد زيارة مُختصّة به، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر كما شُرّع ذلك لأئمّة الهدىعليهم‌السلام ، غير ما يُزار به جميع الشُّهداء بلفظ واحد، وليس هو إلاّ لمزايا اختُصّت به.

وقد أرشدتنا آثار أهل البيتعليهم‌السلام على هذا الموضع من مرقده الطيّب، ففي كامل الزيارات لابن قولويه ص٢٥٦ بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي، عن الصادقعليه‌السلام قال:« إذا أردتَ زيارةَ العبّاسِ بنِ عليٍّ وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر، فقف على باب السّقيفة، وقل: سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ... » .

وحكى المجلسي - أعلى اللّه مقامه - في مزار البحار، عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارةً اُخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادقعليه‌السلام ، برواية غير مُقيّدة بوقت من الأوقات. وهكذا حُكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النّصف من رجب، وليلة القدر، ويومَي العيدين، ومثله العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر.

وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي؛ فإنّه قال عند ذكر مَن قُتل من آلِ الحسينعليه‌السلام : وكلُّهم مدفونون ممّا يلي رجلَي الحسينعليه‌السلام في مشهده، حُفر لهم حفيرة واُلقوا فيها جميعاً... إلاّ العبّاس بن عليٍّ رضوان اللّه عليه، فإنّه دُفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضريّة، وقبره ظاهرٌ،

٢٦٠