مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)0%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

مقتل العباس (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
تصنيف: الصفحات: 394
المشاهدات: 68159
تحميل: 9413

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68159 / تحميل: 9413
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وليس لقبور إخوته وأهله الذين سمّيناهم أثرٌ، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسينعليه‌السلام ، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليهِ بالسّلام، وعلي بن الحسين في جملتهم، ويُقال: إنّه أقربهم دفناً إلى الحسينعليه‌السلام . فأمّا أصحاب الحسينعليه‌السلام الذين قُتلوا معه، فإنّهم دُفنوا حوله، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق، إلاّ أنّا لا نشكّ أنّ الحائر محيطٌ بهم(١) .

وعلى هذا مشى العلماء المـُحقّقون والمـُنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف، قريباً من شطّ الفرات، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص١٤٧، والسيّد الجزائري في الأنوار النّعمانيّة ص٣٤٤، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص٣٤٩، وحكاه في رياض الأحزان ص٣٩ عن كامل السّقيفة(٢) .

وهو الظاهر من ابن إدريس في السّرائر، والعلاّمة في المنتهى، والشهيد الأوّل في مزار الدروس، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ آقا رضا في مصباح الفقيه؛ فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(٣) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦.

(٣) السّرائر ١ / ٣٤٢، منتهى المطلب ١ / ٣٩٥، ذخيرة العباد / ٤١٣، غنائم الأيّام ٢ / ١٣٢، جواهر الكلام ١٤ / ٣٤٠، مصباح الفقيه ٢ / ٧٦١، كتاب الصلاة للشيخ الحائري / ٦٥٥، مُستمسك العروة الوثقى للحكيم ٨ / ١٨٨.

وفي مزار الدروس ٢ / ٢٥:... ثُمّ يزور الشُّهداء، ثمّ يأتي العبّاس بن عليٍّعليه‌السلام فيزوره...

٢٦١

ملاحظة:

تقدّم في نقل البحار أنّ الحُرَّ الرياحي حُمل من الميدان ووُضع أمام الحسينعليه‌السلام ، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر.

ولكن في الكبريت الأحمر ج٣ ص١٢٤ جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: إنّ السجّادعليه‌السلام دفنه في موضعه، مُنحازاً عن الشُّهداء. وفي ص٧٥ ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشُّهداء؛ لئلاّ يُوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويُقال: إنّ اُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشُّهداء.

وإذا صحّ حمل العشيرة إيّاه إلى حيث مشهده، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّادعليه‌السلام له؛ فإنّه من البعيد جداً أنْ تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش، بل لم يعهد ذلك في أي اُمّةٍ وملّة.

وعلى كُلٍّ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته؛ للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان، وفيهم العلماء والمـُتديّنون.

ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه؛ فإنّه قال في مزار الدروس: وإذا زار الحسينعليه‌السلام فليزر عليَّ بن الحسين، وهو الأكبر على الأصح، وليزر الشُّهداء وأخاه العبّاسَ والحُرَّ بنَ يزيد(١) .

____________________

(١) الدروس للشهيد الأوّل ٢ / ١١ والعبارة بالمعنى، الينابيع الفقهيّة ٣٠ / ٤٩٣.

٢٦٢

ووافقه العلاّمة النّوري في اللؤلؤ والمرجان ص١١٥، واعتماد السّلطنة محمّد حسن المراغي - من رجال العهد النّاصري - في حجّة السّعادة على حجّة الشهادة ص٥٦ طبع تبريز.

وقال المجلسي في مزار البحار عند قولهعليه‌السلام في زيارة الشُّهداء العامّة: فإنّ هناك حومة الشُّهداء. المراد منه معظمهم أو أكثرهم، لخروج العبّاس والحُرِّ عنهم(١) .

ويشهد له ما في الأنوار النّعمانية ص٣٤٥: إنّ الشاه إسماعيل لمـّا ملكَ بغداد، وزار قبر الحسينعليه‌السلام ، وبلغه طعن بعض العلماء على الحُرِّ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة، ولمـّا نبشوه رآه بهيئته لمـّا قُتل، ورأى على رأسه عصابة قيل له: إنّها للحسينعليه‌السلام ، فلمـّا حلّها نبع الدَّمُ كالميزاب، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن، فأعادها إلى محلّها، وتبيّنت الحقيقة، فبنى عليه قبَّةً وعيّن له خادماً، وأجرى لها وقفاً.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٦٥، و٩٨ / ٣٦٩، المزار للمشهدي / ٤٨٦، إقبال الأعمال ٣ / ٧٣.

٢٦٣

الحائر:

جاء في حديث الصادقعليه‌السلام لفظ الحَيْر، فإنّه قال:« وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » .

والحَيْر، بالفتح فالسّكون كالحائر: هو المكان المـُنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه. وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسمُ موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين(١) .

ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المـُقدّس حين اُجري عليه بأمر المـُتوكِّل العبّاسي؛ لأنّ لفظ الحائر والحَيْر وقع في لسان الصادق والكاظمعليهما‌السلام قبل استخلاف المـُتوكِّل.

نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حُجّته ووليَّه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جُعل شرعاً سواء لعامّة المخلوقات، باستدارة الماء حول قبره يوم اُجري عليه؛ لإعفاء أثره ومحو رسمه ( ولن يزداد أثره إلاّ علوّاً )(٢) .

____________________

(١) لسان العرب ٤ / ٢٢٣، تاج العروس ٦ / ٣٢١، مجمع البحرين ١ / ٦٠٥.

(٢) أقول: ( وأنا العبد الفقير إلى اللّه تعالى مُحقّق هذا الكتاب محمّد الحسّون ) من بعد غيبة طويلة وفراق مرير انجلت سُحب الآهات عن قلبي، وارتوى ضماي بمعين النّظر إلى قبرٍ ضمَّ خيرَ ناصرٍ لأبي الأحرار الحسينعليه‌السلام ، وشُفي غليلي بالنّزول بقعوةِ مُغيَّبهِ، فاستشممتُ عطرَ الملائكة الحافّين بتربته؛ حيث وفَّقني الباري تعالى أنْ أزور قبر قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، الواقع في السّرداب المـُقدّس الكائن تحت القبَّة الشريفة، فتغشّتني رحمةُ ربِّي تعالى بمُشاهدة الماء الذي يأتي في سَاقيةٍ من جهة قبر سيّد الشُّهداء أبي عبد اللّه الحسينعليه‌السلام - الذي لم يذقْ من بردِهِ شربةً، وقد مضى بقلبٍ حزّته أشفارُ الظما كما حزّ خنجرُ الضبابي منحَره الشريف - ثمّ يدور حول قبر السّقّاء الذي آثر ألم الظما على الرواء، وارتوى بروح الوفاء لأخيه وابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث الكلمة الخالدة:

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا حُسينٌ واردُ المنونِ

وتَشْرَبينَ باردَ المعينِ

واللهِ ما هذا فعالُ دينِي

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ومن بعد قرون متطاولةٍ يستمر دوران الماء دورةً كاملة حول قبر الشهيد الظامي، والأخ المواسي لأخيه، ثمّ يخرج من خلال ساقية إلى خارج كربلاء المـُقدّسة.

٢٦٤

ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقب والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المـُنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والشيخ المـُحقّق في الجواهر.

وكم لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من براهين كاثرت النّجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمّتهم؛ حقداً وحسداً: ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ) (١) .

مَنْ يُباريهمُ وفي الشَّمسِ معنىً

مُجهدٌ مُتعبٌ لِمَنْ باراهَا

ورثُوا من مُحمّدٍ سبقَ اُولا

هَا وحازُوا ما لَمْ تَحزْ اُخراهَا

قادةٌ علمُهُمْ ورأيُ حِجاهُمْ

مُسْمِعاً كُلَّ حكمةٍ منْظراهَا

علماءٌ أئمَّةٌ حُكماءٌ

يهتدي النّجمُ باتِّباعِ هُداهَا

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٢.

٢٦٥

يتحدّث اليافعي في مرآة الجنان ج٤ ص٢٧٣ عن كرامةٍ لأحمد بن حنبل، فيقول: زادت دجلة زيادة مفرطة حتّى خربت مقبرة أحمد بن حنبل، سوى البيت الذي فيه ضريحه؛ فإنّ الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن اللّه، وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر، صحّ الخبر.

هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويُصحّح الخبر، ولكنّه يتوقّف عن إثبات تلك الكرامة لسيّد شباب أهل الجنّة، وفلذة كبد الإسلام، وريحانة النّبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . وما أدري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتّى لم يُعرف له ضريح إلى اليوم(١) ؟!

وقد أجاد العلاّمة الشيخ محمّد السّماوي، إذ يقول:

ألا مِنْ عَذيرِي يا بَني العلْمِ والحِجَى

مِنَ اليافعيِّ الحنْبليِّ المـُجلّلِ

يُكذِّبُني إنْ قُلتُ قبرُ ابنِ فاطمٍ

عليهِ اسْتَدَارَ الماءُ للمُتوكِّلِ

ويَزْعُمُ حارَ الماْ ولَمْ تجلُ غبرةٌ

على حُصرٍ كانتْ بقبرِ ابنِ حَنبلِ

وإنّ لأمثال ذلك في كتبهم اُنشىء الكثير، أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النّبيِّ المعصومينعليهم‌السلام ، والإشارة إلى بعض ما أوقفنا البحث عليه وإنْ يُخرجنا عن وضع الرسالة، إلاّ أنّ الغرض تعريف القارئ بأنّ العداء كيف يأخذ بالشخص إلى إنكار البديهي، والتَّعامي عن النّيِّرات!

____________________

(١) بغداد في عهد العباسيِّين / ١٤٦.

٢٦٦

ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج٣ ص١١٣: إنّ أبا إسحاق الشيرازي المتوفّى سنة ٤٧٦ هجرية لمـّا ورد بلاد العجم، خرج أهلها إليه بنسائهم وأطفالهم للتبرّك به، فكانوا يمسحون أردانهم به، ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به.

وإذا صحّ مثل هذا، فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسينعليه‌السلام ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، بدعة وضلالة؟!

ثُمّ في ج٣ ص١٣٣ منه، يعدّ من فضائل أحمد وكراماته، وما حباه اللّه عن خدمته في الدِّين: إنّ إبراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة وفي كمّه شيءٌ، فسأله عنه، فقال: لمـّا قدم علينا روحُ أحمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطته!

أصحيح أنْ تُعدّ هذه الرؤيا من الكرامات، ويُعدّ من الباطل حديث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، ومَن هو منه بمنزلة هارون من موسى، ولولاه لما قام للدّين عمود، ولما أخضرّ له عود؛ وذلك لمـّا تزوّج أمير المؤمنين من سيّدة نساء العالمينعليهما‌السلام ، بأنّ اللّه تعالى أمر شجرة طوبى أنْ تحمل صكاكاً فيها براءة لمُحبّي علي وفاطمةعليهما‌السلام من النّار، وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم، يحفظونه إلى يوم القيامة؛ كرامة لعلي وفاطمةعليهما‌السلام ؟!

ثُمّ يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض، ويعدّ الحديث من الموضوعات(١) ، مع شهرة الحديث بين المـُحدّثين والمـُنقّبين في الآثار.

____________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ١ / ٣٦٤.

٢٦٧

وجاء السّبكي فعدَّ في طبقات الشافعيّة ج١ ص٢١٥ من فضائل أحمد بن نصر الخزاعي، الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن: تكلّم رأسه بالقرآن لمـّا قُطع، وبقي يقرأه إلى أنْ اُلحق بالجسد ودُفن.

وإذ سمعوا بأنّ رأس الحسينعليه‌السلام الذي قُتل في سبيل الدعوة الإلهيّة وإحياء الدِّين، يتكلّم بالقرآن؛ لإتمام الحجّة، وتعريفاً للاُمّة طغيان اُولئك الاُمراء، ولئلاّ تذهب تلك التضحية المـُقدّسة أدراج التمويهات، طعنوا في الحديث، ونسبوا راويه إلى الرفض والجهالة، مع أنّ الحسينعليه‌السلام لم يخرج عن كونه ابن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شهد الصادق الأمين له ولأخيه المجتبى ( صلوات الله عليهم) بأنّهما إماما هذه الاُمّة إنْ قاما وإنْ قعدا، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، ولم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً للعباد، ولا غاصباً للحقوق.

ولم يقتنع بذلك حتّى ادّعى كرامة لإسماعيل الحضرمي، وأنّها من المستفيض، قال في ج٥ ص٥١ من طبقات الشافعيّة: إنّ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه، فأشرفت الشمس على الغروب، فقال لخادمه: قُلْ للشمس تقف حتّى نَصل المنزل ونُصلّي! فقال الخادم: إنّ الفقيه إسماعيل يقول لكِ: قفي. فوقفت حتّى بلغ المنزل وصلّى، ثُمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس؟! فأمرها الخادم بالغروب، فغابت وأظلم الليل في الحال!!

هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيّل فيه أنّه أحد الأولياء، وينكر حديث ردّ الشمس لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان من أعلام النّبوَّة!

٢٦٨

ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج٤ ص٤٢٣ إلى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنّوح في أربعة أصناف من النّاس: المسلمين، واليهود، والنّصارى، والمجوس، يوم وفاة أحمد بن حنبل(١) ، ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن أخلاق المؤمنين! كما تحاملوا بذلك على الشيعة في إقامتهم المآتم والنّياحة على سليل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته حتّى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص١٨٧: إيّاك أنْ تشتغل ببدع الرافضة من النّدب والنّياحة والحزن؛ فإنّ ذلك ليس من أخلاق المؤمنين!! وضرب على وتره غير واحد من المؤرّخين.

وما ذنب الشيعة والمـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على ولده الحسينعليه‌السلام وهو حيٌّ يُرزق لمُجرّد تذكّر ما يجري عليه، فيخرج إلى المسجد ودموعه جارية، فتبكي الصحابة لبكائه، وفيهم: أبو بكر وعمر، وأبو ذر وعمّار، ويُسأل عن سبب بكائه، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الآن حدّثني جبرائيلُ بما يجري على الحسين » (٢) .

ويمرّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته، ويقول:« هذا مناخُ ركابِهمْ، ومهراقُ دمائِهمْ، طوبى لكِ منْ تُربةٍ تُراقُ عليك دماءُ الأحبّة! » (٣) .

____________________

(١) تاريخ بغداد ٥ / ١٨٨، الجرح والتعديل للرازي ١ / ٣١٣، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٥ / ٣٣٣، تهذيب الكمال للمزّي ١ / ٤٦٨.

(٢) الخصائص الكبرى للسيوطي ٢ / ١٢٥.

(٣) قرب الإسناد / ٢٦، كامل الزيارات / ٤٥٣، ذخائر العقبى / ٩٧، بحار الأنوار ٤١ / ٢٩٥، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٢٢، الخصائص الكبرى للنسائي ٢ / ١٢٦، الفصول المـُهمّة لابن الصباغ المالكي / ٧٦١، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليٍّ للدمشقي / ٢٦٣، باختلاف الألفاظ.

٢٦٩

إذاً، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المـُقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النّهضة المـُقدّسة، واللّه عزّ وجل يقول:( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ؟!

على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمّتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم؛ من الدعوة إلى سبيل الدِّين، وإظهار الجزع والبكاء والنّوح على سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في دعائه الطويل وهو ساجد:« اللهمّ، ارحَمْ تلكَ الصَّرخةَ الّتِي كانتْ لنا. اللهمّ، إنّ أعداءَنا عابُوا عليهمْ خُروجَهُمْ إلينا فلَمْ يَنهَهمْ ذلك عنْ الشخوصِ إلينا؛ رغبةً في برِّنا، وصلةً لرسولِكَ، وخلافاً منهُمْ على ما خالفنا. اللهمّ، أعطِهمْ أفضلَ ما يأمَلونَ في غربتِهمْ عنْ أوطانِهمْ، وما أثرُونَا بهِ على أبنائِهمْ » (٢) .

ويقولعليه‌السلام لحمّاد الكوفي:« بلغني أنّ اُناساً من الكوفةِ وغيرِهمْ مِنْ نواحِيها يأتونَ قبرَ الحُسينِ في النّصفِ مِنْ شعبان؛ فبين قارئٍ يقرأ، وقاصٍّ يقصُّ، ومادحٍ يمدحُ، ونساءٍ يندبنَهُ؟ » . فقال حمّاد: قد شهدتُ بعضَ ما تصف. فقالعليه‌السلام :« الحمدُ للّهِ الذِي جعلَ في شيعَتِنا مَنْ يَفدُ إلينَا ويمدَحُنا ويرثي لنَا، وجعلَ في عدوِّنا مَنْ يُقبِّح ما يصنَعُون » (٣) .

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢١.

(٢) كامل الزيارات / ٢٢٨، والدعاء فيه تقديمٌ وتأخير.

(٣) كامل الزيارات / ٥٣٩، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٩٩، بتقديمٍ وتأخير.

٢٧٠

ولمـّا قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرتُ فضل زيارة الحسينعليه‌السلام لقومي وبنيَّ كذَّبوني! فقالعليه‌السلام :« دَعْ النّاسَ يذهبونَ حيثُ شاؤوا وكُنْ مَعَنا » (١) .

فإذا كان هذا وأمثاله الكثير ممّا أوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر، فلماذا يُطعن عليهم عند إيمانهم بها؟! وما ذنبهم؟! أفلا يتأوّل عملهم - والحال هذا - كما أوّلوا عمل خالد وغيره؟! أين المـُنصفون؟!

نعم، ليس السّرُّ فيما حكموا به على الشيعة من الرياء والتصنّع، والشنعة والبدعة إلاّ قيامهم بهذه الشعائر التي فيها إظهار مظلوميّة أهل البيت العلوي، وتفظيع أعمال المناوئين لهم، وإعلام الملأ بما نشروه من الجور، واسترداد الجاهليّة الاُولى، كما اعترف به ابن كثير في البداية والنّهاية ج٨ ص٢٠٢، قال: إنّ الشيعة لمْ يُريدوا بهذه الأعمال إلاّ أنْ يُشنّعوا على دولة بني اُميّة؛ لأنّه قُتلَ في دولتهم(٢) .

وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الاُمّة بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة، وتلاعبهم بالدِّين الحنيف تلاعب الصبيان بالإكر؛ مُقرّباً للمولى زلفة، ورضىً لربِّ العالمين.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٧٢، بحار الأنوار ٩٨ / ٧٥.

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٢٠.

٢٧١

نهرُ العلقمي:

لم يذكر أصحاب المعاجم هذا الوصف، وأهمله المؤرّخون، كما لم يصفه حديث الصادقعليه‌السلام في الزيارة المـُتقدّمة؛ فإنّ فيها:« وهو مدفونٌ بشطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » (١) .

لكنّ شيخنا الطُّريحي ذكر في المـُنتخب ص٩١: أنّ رجلاً من أهل الكوفة حدّاداً قال: خرجت في البعث الذي سار إلى كربلاء، فخيّمنا على شاطئ العلقمي، وحموا الماء عن الحسين ومَن معه حتّى قُتِلوا وأهله وأنصاره عِطاشى، ثُمّ رجعنا إلى الكوفة، وبعد أنْ سيّر ابن زياد السّبايا إلى الشام رأيت في المنام كأنّ القيامة قامت، والنّاس يموجون وقد أخذهم العطش، وأنا أعتقد بأنّي أشدّهم عطشاً، مع شدّة حرارة الشمس والأرض تغلي كالقار، إذ رأيت رجلاً عمَّ الموقف نوره، وفي إثره فارسٌ وجهه أنور من البدر، وبينا أنا واقفٌ إذ أتاني رجلٌ وقادني بسلسلة إليه، فقلتُ له: اُقسم عليك بمَن أمَرَك، مَن تكون؟

قال: أنا من الملائكة.

قلتُ: ومَن هذا الفارس؟

قال: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين.

قلتُ: ومَن ذلك الرجل؟

قال: محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤٠، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٧٧، والعبارة:« إذا أردتَ زيارةَ قبرِ العبّاس عليه‌السلام ، وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاءِ الحائر... » .

٢٧٢

ثُمّ رأيت عمرَ بن سعد وقوماً لم أعرفهم في أعناقهم سلاسل من حديد، والنّار تخرج من أعينهم وآذانهم، ورأيت النّبيّين والصّدّيقين قد أحدقوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ:« ما صنعتَ؟ » . قال:« لمْ أتركْ أحداً مِن قاتلِي الحسينِ إلاّ جئتُ بهِ » . فقدَّموهم أمام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسألهم عمّا صنعوا بولده يوم كربلاء، فواحدٌ يقول: أنا حميت الماء عنه، والآخر يقول: أنا رميته، والثالث يقول: أنا وطأت صدره، ورابع يقول: أنا قتلت ولده.

وهو يبكي حتّى بكى مَن حوله لبكائه، ثمّ أمر بهم إلى النّار.

وجيء برجلٍ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله له:« ما صنعت؟ » . قال كنتُ نجّاراً، وما حاربتُ ولا [ قاتلتُ ]. فقال:« لقد كثّرتَ السّوادَ على وَلدِي » . فأمر به إلى النّار، ثُمّ قدّموني إليه، فحكيت له فِعلي، فأمر بي إلى النّار.

فلمـّا قصّ الرؤيا على مَن حضر عنده، يبس لسانُه ومات نصفُه، وهلك بأسوأ حال، وقد تبرّأ منه كُلُّ مَن سمع وشاهد.

وفي مدينة المعاجز ص٢٦٣ باب ١٢٧: روي عن رجل أسدي قال: كنتُ زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني اُميّة، فرأيت عجائباً لا أقدر أنْ أحكي إلاّ بعضاً منها: إذا هبّت الريح تمرّ علىّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وأرى نجوماً تنزل من السّماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيتُ عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد جلّلته الأنوار،

٢٧٣

فكان يُمرّغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عالٍ، ورأيت شموعاً مُعلّقة وأصواتاً عالية، وبكاءً وعويلاً، ولا أرى أحداً(١) .

وفي مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص١٩٠: روى جماعة من الثّقات: أنّه لمـّا أمر المـُتوكّل بحرث قبر الحسينعليه‌السلام ، وأنْ يجري عليه الماء من العلقمي، أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلاء ونظرا إلى القبر لم يتغيّر بما صنعوا(٢) .

وفي هذا دلالة على وصف النّهر بالعلقمي في تلك الأيّام، ويؤكّد ذلك ما في مزار البحار ص١٦١ عن مزارَي المفيد وابن المشهدي من ورود روايةٍ بزيارة العبّاسعليه‌السلام غير مُقيّدة بوقت، وفيها: إذا وردتَ أرض كربلاء فانزل منهما بشاطئ العلقمي، ثُمّ اخلع ثياب سفرك واغتسل غسل الزيارة مندوباً، وقل...(٣) .

وفي تحيّة الزائر ص١٣٥، ذكر عنهما وعن الشهيد الأوّل وابن طاووس ورود روايةٍ بزيارةٍ للحسينعليه‌السلام ، وقالوا: إذا وردت قنطرة العلقمي، فقُلْ: إليك اللهمّ قصد القاصد...(٤) .

والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء؛ خصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلاّ ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أنّ نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السّابقة على زمان ابن [ طاووس ] الذي هو في القرن السّابع.

____________________

(١) مدينة المعاجز ٤ / ٧٠، الباب ١٢٧، بحار الأنوار ٤٥ / ١٩٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٢١، وعنه بحار الأنوار ٤٥ / ٤٠١، والعوالم / ٧٢٧.

(٣) المزار للشيخ المفيد / ٩٩، المزار للمشهدي / ٣٧٠.

(٤) المزار للمشهدي / ٤١٨، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٣٢.

٢٧٤

وجاء في نصّ الشيخ الطوسي، ففي مصباح المتهجد ص٤٩٩: إنّ الصادقعليه‌السلام قال لصفوان الجمّال:« إذا أتيتَ الفُراتَ ( أعني شرعة الصادق بالعلقمي )، فقُلْ: اللهمّ، أنتَ خيرُ مَنْ وفدَ... » (١) .

وعلى هذا يكون قول الفاضل السيّد جعفر الحلّي على الحقيقة:

وَهوَى بِجَنبِ العلْقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العلقمُ

نعم، لم يُعرف السّبب في التسمية به، وما قيل في وجهه: ( إنّ الحافر للنَّهر رجلٌ من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارمٍ جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس ) لا يُعتمد عليه؛ لعدم الشاهد الواضح.

ومثله في ذكر السّبب: كثرة العلقم حول حافَتَي النّهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النّهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة؛ فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة.

وحُكي في الكبريت الأحمر ج٢ ص١١٢ عن السيّد مجد الدِّين محمّد المعروف بمجدي - من معاصري الشيخ البهائي - في كتابه زينة المجالس، المـُؤلَّف سنة ١٠٠٤: أنّ الوزير السّعيد ابن العلقمي لمـّا بلغه خطاب الصادقعليه‌السلام للنهر:« إلى الآنَ تجري وقدْ حُرمَ جدِّي منك! » . أمر بسدّ النّهر وتخريبه، ومنْ أجله حصل خراب الكوفة؛ لأنّ ضياعها كانت تُسقى منه.

____________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ٧١٨، المزار للشهيد الأوّل / ١١٨.

٢٧٥

مشهدُ الرأس:

 ذكر أربابُ المقاتل: أنّ عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقُطعت، فكانت ثمانية وسبعين رأساً، أخذت كندة ثلاثة عشر [ رأساً ]، وأقبلت هوازن باثني عشر [ رأساً ]، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وأقبلت بنو أسد بستّة عشر رأساً، واختصَّت مذحج بسبعة، ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(١) .

 وساروا بها إلى الكوفة، ثُمّ سيّر ابن زياد رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه من أهله وصحبه مع السّبايا إلى يزيد بالشام(٢) .

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٨٥، لواعج الأشجان / ١٩٧.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٨٣ الثقات لابن حبّان ٢ / ٣١٣، ينابيع المودَّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٢٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٢٨٠، بلاغات النّساء لابن طيفور / ٢١، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٠٩.

وقد تعصّب ابن تيمية فأنكر بعث ابن زياد للسبايا والرؤوس إلى يزيد، وهو إنكارٌ باطلٌ ردّه كثيرٌ من المـُحدّثين والمؤرِّخين.

قال الذهبي في السّير ٣ / ٣١٩: أحمد بن محمّد بن حمزة: حدّثني أبي عن أبيه، قال: أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي، قال: رأيت امرأة من أجمل النّساء وأعقلهنَّ، يُقال لها: ( ريّا )، حاضنة يزيد - يُقال: بلغت مئة سنة -، قالت: دخل رجلٌ على يزيد، فقال: أبشر، فقد أمكنك اللّه من الحسين، وجيء برأسه. قالت: فوضع في طست، فأمر الغلام فكشف، فحين رآه خمر وجهه كأنه شمّ منه. فقلتُ لها: أقرعَ ثناياه بقضيبٍ؟ قالتْ: أي واللّه. وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام، وحدّثتني ريّا أنّ الرأس مكث في خزائن السّلاح حتّى ولي سلمان، فبعث فجيء به، وقد بقي عظاماً أبيضَ، فجعله في سفط وطيَّبه وكفّنه ودفنه في مقابر المسلمين، فلمـّا دخلت ( المـُسوِّدة ) سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه، فاللّه أعلم ما صُنع به.

وذكر باقي الحكاية، وهي قوية الإسناد. يحيى بن بكير، حدّثني الليث قال: أبى الحُسينعليه‌السلام أنْ يستأسر حتّى قُتل بالطَّفِّ، وانطلقوا ببنيه عليٍّ وفاطمة وسُكينة إلى يزيد، فجعل سكينة خلف سريره لئلاّ ترى رأس أبيها، وعليَّاً في غلٍّ، فضرب على ثنيَّتي الحسين وتمثّل بذلك البيت... وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٥ رواية الليث المـُتقدّمة، وقال عقبها: رواه الطبراني ورجاله ثقات. والرواية في المـُعجم الكبير للطبراني ٣ / ١٠٤، وكذلك في تاريخ الإسلام للذهبي ٧ / ٤٤٢، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٧٠/١٥، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٤/٨٦.

وفي الإصابة ٢ / ٧١: كان آخر ذلك أنْ قُتل واُتي برأسه إلى عبيد اللّه، فأرسله ومَن بقي من أهل بيته إلى يزيد، ومنهم عليّ بن الحسين وكان مريضاً، ومنهم عمَّته زينب، فلمـّا قدموا على يزيد أدخلهم على عياله.

وكذلك في تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نطقت بهذا الأمر، فالتعلّل بعدم إرسالهم إليه تعلّلٌ باطلٌ لمْ يُستند إلى دليل بعدما أثبت المـُحدّثون والمؤرّخون ذلك.

٢٧٦

ولم يترك سيّد الشُّهداءعليه‌السلام الدعوة إلى الدِّين، وتفنيد عمل الظالمين حتّى في هذا الحال، وهو مرفوع على القناة، فكان مُتمّماً لنهضته المـُقدّسة التي أراق فيها دمه الطاهر، وقد استضاء خلق كثير من إشراقات رأسه الأزهر.

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القَنَا

يكسوهُ مِنْ أنوارِهِ جلْبابَا

يتلُو الكتَابَ على السِّنانِ وإنّمَا

رفعُوا به فوقَ السِّنانِ كتابَا

٢٧٧

ولا غرابة بعد أنْ كان سيّد الشُّهداءعليه‌السلام دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه، وعنه يأخذ تعاليمه ومنه يتلقَّى معارفه، وهو صراطه المستقيم ومنهجه القويم، دونه كانت مفاداته، وفي سبيله سبقت تضحيته، فهو حليف القرآن منذ اُنشئ كيانه؛ لأنّهما ثقلا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخليفتاه على اُمّته، وقد نصّ المـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهما لنْ يفترقا حتّى يردا عليه الحوض؛ فبذلك كان سلام اللّه عليه غير مبارح تلاوته طول حياته؛ في تهذيبه وإرشاده، في دعوته وتبليغه، في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطَّفِّ - ذلك المأزق الحرج بين ظهراني اُولئك الطغاة المـُتجمهرين عليه - ليتمّ عليهم الحجّة، ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان يسير إلى غايته المـُقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآنَ رأسُهُ الكريم فوق عامل السّنان، عسى أنْ يحصل مَن يُكهربه نورُ الحقّ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لمْ يُصادف إلاّ قصراً في الإدراك، وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان:( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) (١) .

 وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضّلال أنْ أمر بالرأس الشريف فطيفَ به في شوارع الكوفة وسككها(٢) .

 يقول زيد بن أرقم: كنتُ في غرفة لي، فمرّوا بالرأس على رمح، فسمعته يقرأ:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٣) . فوقف شعري، وقلتُ: رأسك أعجب وأعجب(٤) !

____________________

 (١) سورة البقرة / ٧.

 (٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٨.

 (٣) سورة الكهف / ٩.

 (٤) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١١٧، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي / ٤٧٣، الدّر النّظيم / ٥٦١.

٢٧٨

 ولمـّا صُلب في سوق الصّيارفة، وهناك ضوضاء، فأرادعليه‌السلام لفت الأنظار نحوه، تنحنح تنحنحاً عالياً، فاتَّجه النّاس نحوه، وأبهرهم الحال، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى:( اِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (١)(٢) . وعجب الحاضرون؛ إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوعٍ، وبقي النّاس واجمون لا يدرون ما يصنعون.

 ولمـّا صُلب على شجرة بالكوفة، سُمع يقرأ قوله تعالى:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٣) .

 قال هلال بن معاوية: سمعت رأس الحسينعليه‌السلام يخاطب حامله، ويقول:« فرّقتَ رأسِي وبَدني، أفرقَ اللّهُ بينَ لحمِكَ وعظمِكَ، وجعلكَ آيةً ونكالاً للعالمين » . فرفع اللعينُ سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المـُطهّر(٤) .

 وحدّث سلمة بن الكهيل: أنّه سمع رأس الحسينعليه‌السلام بالكوفة يقرأ، وهو مرفوع على الرمح:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥)(٦) .

____________________

 (١) سورة الكهف / ١٣.

 (٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢١٨.

 (٣) سورة الشعراء / ٢٢٧.

 (٤) مدينة المعاجز للبحراني ٤ / ١٠٠.

 (٥) سورة البقرة / ١٣٧.

 (٦) نهاية الدراية للصدر / ٢١٧، الوافي بالوفيات للصفدي ١٥ / ٢٠١، نَفَس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي / ٣٦٢، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٣٣ / ٦٩٤.

٢٧٩

 كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته؛ حيث لم يعهد مثله يتكلّم، فإذا الإمامعليه‌السلام يخاطبه:« يابنَ وكيدة، أما علمتّ أنَّ معاشرَ الأئمّة أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون » . فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أنْ يسرق الرأس ويدفنُه، فنهاه الإمامعليه‌السلام وقال:« يابنَ وكيدة، ليس إلى ذلك سبيلٌ، إنّ سفكَهمْ دَمي أعظمُ عندَ اللّه مِن إشهارهم رأسي، فذرهم : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ) » (١) .

وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب، وفي الليل أشرف عليهم الراهب فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً، وقائلاً يقول: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه. فتعجّب الراهب ولم يعرف الحال، حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس، فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، واُمّه فاطمة، وجدّه محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلب الرأسَ من خولي الأصبحي، فأبى عليه، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى، وقال: تباً لكم أيَّتها الجماعة، لقد صدقت الأخبار في قوله: إذا قُتل هذا الرجل تمطر السّماءُ دماً.

ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر، وبعد أنْ ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

____________________

 (١) مدينة المعاجز للبحراني ٣ / ٤٦٢، [ والآية هي من سورة غافر/٧٠ - ٧١ ].

 (٢) مدينة المعاجز ٤ / ١٠٤.

٢٨٠