العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)13%

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 432

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192596 / تحميل: 8344
الحجم الحجم الحجم
العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

العدل عند مذهب

أهل البيت (عليهم السلام)

علاء الحسون

١

٢

العدل عند مذهب

أهل البيت (عليهم السلام)

علاء الحسون

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

٥

٦

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

كلمة المجمع

إنّ تراث أهل البيت(عليهم السلام) الذي اختزنته مدرستهم وحفظه من الضياع أتباعهم يعبّر عن مدرسة جامعة لشتى فروع المعرفة الإسلامية. وقد استطاعت هذه المدرسة أن تربّي النفوس المستعدة للاغتراف من هذا المعين، وتقدّم للاُمة الإسلامية كبار العلماء المحتذين لخُطى أهل البيت(عليهم السلام)الرسالية، مستوعبين إثارات وأسئلة شتى المذاهب والاتجاهات الفكرية من داخل الحاضرة الإسلامية وخارجها، مقدّمين لها أمتن الأجوبة والحلول على مدى القرون المتتالية.

وقد بادر المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) - منطلقاً من مسؤولياته التي أخذها على عاتقه - للدفاع عن حريم الرسالة وحقائقها التي ضبّب عليها أرباب الفرق والمذاهب وأصحاب الاتجاهات المناوءة للإسلام، مقتفياً خطى أهل البيت(عليهم السلام)وأتباع مدرستهم الرشيدة التي حرصت في الرد على التحديات المستمرة، وحاولت أن تبقى على الدوام في خطّ المواجهة وبالمستوى المطلوب في كلّ عصر.

إنّ التجارب التي تختزنها كتب علماء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)في هذا المضمار فريدة في نوعها; لأنها ذات رصيد علمي يحتكم إلى العقل والبرهان ويتجنّب الهوى والتعصب المذموم، ويخاطب العلماء والمفكرين من ذوي الاختصاص خطاباً يستسيغه العقل وتتقبله الفطرة السليمة.

وقد حاول المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)أن يقدم لطلاّب الحقيقة مرحلة جديدة من هذه التجارب الغنيّة من خلال مجموعة من البحوث والمؤلفات التي يقوم بتصنيفها مؤلفون معاصرون من المنتمين لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، أو من الذين أنعم الله عليهم بالالتحاق بهذه المدرسة الشريفة، فضلاً عن قيام

٧

المجمع بنشر وتحقيق ما يتوخى فيه الفائدة من مؤلفات علماء الشيعة الأعلام من القدامى أيضاً; لتكون هذه المؤلفات منهلاً عذباً للنفوس الطالبة للحق، لتنفتح على الحقائق التي تقدّمها مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)الرسالية للعالم أجمع، في عصر تتكامل فيه العقول وتتواصل النفوس والأرواح بشكل سريع وفريد.

ونتقدم بالشكر الجزيل لسماحة الشيخ علاء الحسّون لتأليفه هذا الكتاب، ولكل الإخوة الذين ساهموا في إخراجه.

وكلّنا أمل ورجاء بأن نكون قد قدّمنا ما استطعنا من جهد أداءً لبعض ما علينا تجاه رسالة ربّنا العظيم الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً.

المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)

المعاونية الثقافية

٨

المقدمة

مقدّمة المؤلف:

يمتاز موضوع العدل الإلهي بأهمية فائقة نتيجة تأثيره البالغ في بلورة رؤيتنا حول التعامل الإلهي معنا وتحديده العلاقة فيما بيننا وبين اللّه تعالى، وتركه الآثار الواضحة في مختلف جوانب حياتنا الفردية والاجتماعية.

وقد تعرّض موضوع العدل الإلهي - للأسف الشديد - إلى هجمات مغرضة من قبل بعض السلطات الجائرة التي هيمنت على العالم الإسلامي في العصور السابقة، وقد تركت هذه الهجمات الآثار السيئة في عقول ونفوس المسلمين نتيجة وقوعهم في التفسيرات الخاطئة لكيفية التعامل الإلهي مع الإنسان.

وقد وقف أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بوجه هذه التيارات المنحرفة التي استهدفت العدل الإلهي وأشاعت مفهوم الجبر بين الناس، واهتم أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) - اقتداءً بسيرة أئمتهم الهداة، واعتماداً على كلماتهم النورانية - بمسألة إصلاح الرؤية الخاطئة حول العدل الإلهي، وأكّدوا على تنزيه اللّه تعالى عما لا يليق بشأنه حتّى أصبح موضوع العدل الإلهي - بمرور الزمان - أصلا من أصول الدين عندهم.

وقد اهتم علماء مذهب أهل البيت(عليهم السلام) - على مرّ العصور - بهذا الموضوع في مصنّفاتهم، وتناولوه من جميع الجوانب، وحاولوا تأسيس الإيمان باللّه على ضوء قواعد معرفية متينة وإشاعة الفهم الصحيح لموضوع العدل الإلهي من أجل صيانة أبناء المجتمع من العقائد الضالّة والاختراقات الفكرية المنحرفة، ولتكون علاقتهم مع ربّهم قائمة على أسس عقائدية مبتنية على أدلة وبراهين ساطعة.

ولكن المشكلة التي نعاني منها - في يومنا هذا - هي أنّ المفاهيم المطروحة حول موضوع العدل الإلهي في كتب هؤلاء العلماء على رغم امتلاكها القيمة العلمية الكبيرة، فإنّها مؤلّفة بلغة زمانها ومدوّنة وفق المناهج السائدة في عصرها.

ولهذا تطلّب الأمر - في مرحلتنا الراهنة - القيام بإعادة صياغة هذه المفاهيم

٩

وتبيينها وفق عرض جديد ومحاولة تطويرها بقدر الإمكان لتكون غذاءً فكرياً مناسباً لمتطلّبات واحتياجات العصر، ولتكون زاداً علمياً منسجماً مع أجواء الساحة العلمية والفكرية المعاصرة.

ولهذا الغرض تمّ تأليف هذا الكتاب، فهو محاولة لعرض المواضيع العقائدية المرتبطة بمفهوم العدل الإلهي بلغة واضحة وسهلة وميسّرة وبعيدة عن الالتواء والتعقيد، وعلى شكل فقرات موجزة وتقسيمات واضحة تساعد القارئ على فهم المواضيع المطروحة بسهولة، وتشوّقه لمتابعة البحث، وتأخذ بيده ليندمج مع التفاصيل من دون تكلّف.

وقد تضمّن هذا الكتاب أهم المواضيع العقائدية المرتبطة بالعدل الإلهي.

وهي حسب ترتيب عرضها في هذا الكتاب:

الفصل الأوّل: العدل في أفعال اللّه تعالى.

الفصل الثاني: الحسن والقبح العقليّان.

الفصل الثالث: وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى.

الفصل الرابع: الشرور والآلام.

الفصل الخامس: العوض.

الفصل السادس: القضاء والقدر.

الفصل السابع: الجبر والتفويض.

الفصل الثامن: التكليف.

الفصل التاسع: الثواب والعقاب.

الفصل العاشر: اللطف.

الفصل الحادى عشر: الأصلح.

الفصل الثاني عشر: الهداية والإضلال.

الفصل الثالث عشر: الأجل.

الفصل الرابع عشر: الرزق.

١٠

وسيشعر القارئ خلال نظرته الأُولى إلى المواضيع المطروحة في هذا الكتاب بأنّ رغبته لمطالعة بعض الفصول أكثر من غيرها، بل قد تكون رغبته في الفصل الواحد متّجهة لبعض المباحث دون غيرها، ولهذا أقول لكلّ من يقع هذا الكتاب بيده: لا يوجد أي داع للمواظبة على مراعاة التسلسل في مطالعة مواضيع هذا الكتاب، بل تستطيع - أيها القارئ العزيز - أن تصفّح هذا الكتاب أو تلاحظ الفهرس فتختار الموضوع المثير لاهتمامك وتقرأ ما تتجه إليه رغبتك.

وفي الختام آمل أن تكون المنهجية الجديدة المتّبعة في هذا الكتاب مؤثّرة في سهولة إلمام القارئ بالمفاهيم الدينية المرتبطة بالعدل الإلهي، كما آمل أن تكون هذه المنهجية المتمثّلة بعرض البحوث على شكل فقرات مقسّمة ومقاطع موجزة نموذجاً لعرض بقية المواضيع العلمية بهذه الطريقة المؤدّية إلى وصول القارئ بسهولة إلى معرفة المفاهيم المطروحة.

علاء الحسّون

١١

١٢

الفصل الأوّل

العدل في أفعال اللّه تعالى

معنى العدل

أدلة عدم فعله تعالى للقبيح

مناقشة رأي الأشاعرة حول فعله تعالى للقبيح

قدرة اللّه تعالى على فعل القبيح

عدم فعله تعالى للظلم

١٣

١٤

المبحث الأوّل

معنى العدل

معنى العدل (في اللغة):

ورد في "لسان العرب": العَدْل: ما قام في النفوس أ نّه مستقيم، وهو ضدّ الجور.

والعدل في أسماء اللّه تعالى يعني الحكم بالحق. والعدل في الناس يعني المرضي قوله وحُكمه(١) .

تنبيه:

"العَدْل" من أسماء اللّه تعالى، وهو مصدر أُقيم مقام الاسم، والمقصود منه المبالغة في وصفه تعالى بأ نّه عادل، أي: كثير العدل(٢) .

معنى العدل (في الاصطلاح العقائدي):

العدل يعني تنزيه اللّه تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب(٣) .

معنى التنزيه:

التنزيه يعني البُعد، ويُقال: اللّه منزّه عن القبيح، أي: بعيد عنه(٤) .

____________________

١- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (عدل).

٢- انظر: مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي: ٣/١٣٣.

٣- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الثاني، ص٣٢.

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، ص ٨٣.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الأوّل، البحث الخامس، ص١١١.

نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، مبحث أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح، ص٨٥.

شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني، الفصل الثاني، ص ٣٠١.

٤- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (نزه).

١٥

معنى الفعل القبيح:

الفعل القبيح هو الفعل الذي يستحق فاعله الذم، ويستحق تاركه المدح(١) .

معنى الفعل الواجب:

الفعل الواجب هو الفعل الذي يستحق فاعله المدح، ويستحق تاركه الذم(٢) (٣) .

معنى الوجوب على اللّه تعالى:

إنّ قولنا "الوجوب على اللّه تعالى" لا يعني أ نّه تعالى محكوم بأوامر غيره، بل يعني أنّنا نكتشف عن طريق التدبّر في صفاته تعالى أ نّه حكيم، وتقتضي حكمته أن يفعل كذا، لأنّ عدم فعله له يؤدّي إلى الإخلال بحكمته(٤) .

الآيات القرآنية المتضمّنة لمعنى الوجوب على اللّه تعالى:

١ -( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام: ٥٤]

أي: أوجب اللّه تعالى على نفسه الرحمة(٥) .

٢ -( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) [النحل: ٩]

أي: يجب على اللّه تعالى بيان الطريق المستقيم للعباد(٦) .

٣ -( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) [الليل: ١٢]

أي: يجب علينا بمقتضى العدل أن نهدي العباد إلى الحقّ ببعث الرسل ونصب الدلائل(٧) .

٤ -( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى ) [النجم: ٤٧]

____________________

١ و ٢) انظر المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في العدل، ص١٥٢.

الاعتماد، مقداد السيوري: الركن الثاني، ص ٧٥.

٣- ينبغي تقييد المدح والذم في هذا المجال بمرتبة خاصة لئلاّ يشمل المستحب.

انظر: صراط الحقّ، محمّد آصف المحسني: ج٢، المقصد الخامس، القاعدة الاُولى، ص ١٦٧.

٤- للمزيد راجع: تلخيص المحصّل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث، ص٣٤٢.

٥- انظر: الميزان، محمّد حسين الطباطبائي: ج٧، تفسير آية ١٢ و ٥٤ من سورة الأنعام، ص ٢٧ و ١٠٥.

٦- انظر: تفسير القرآن الكريم، عبد اللّه شبّر: تفسير آية ٩ من سورة النحل.

٧- انظر: المصدر السابق: تفسير آية ١٢ من سورة الليل.

١٦

أي: يجب على اللّه تعالى أن يجعل داراً أُخرى إضافة إلى دار الدنيا ليقع فيها الجزاء والانتصاف(١) .

دليل عدم إخلاله تعالى بالواجب:

إنّ اللّه تعالى لا يخل بالواجب، لأنّ الإخلال به قبيح(٢) . وسنبيّن لاحقاً أدلة عدم فعله تعالى للقبيح.

معنى العدل الإلهي في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام):

١ - قال الإمام علي(عليه السلام): "العدل أن لا تتهمه"(٣) .

٢ - قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "أمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه"(٤) .

تنبيهات:

١ - إنّ "العدل" من صفات اللّه "الفعلية"، وليس من صفاته "الذاتية"(٥) ، لأنّ "العدل" عبارة عن تنزيه اللّه تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، وهذا الأمر منتزع من مقام الفعل.

____________________

١- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج٩، تفسير آية ٤٧ من سورة النجم، ص ٢٧٦.

٢- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الأوّل، البحث الخامس، ص ١١١.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، الفصل الخامس، البحث الثالث، ص٢٦٠.

الاعتماد، مقداد السيوري: الركن الثاني، ص ٧٥

٣- نهج البلاغة، الشريف الرضي: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة ٤٧٠، ص٧٥٥.

٤- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٥، ح١، ص٩٣.

٥- الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية:

الصفات الذاتية الصفات الفعلية

منتزعة من الذات الإلهية منتزعة من الأفعال الإلهية

قديمة بقدم الذات الإلهية حادثة بحدوث الأفعال الإلهية

لا يصح سلبها عنه تعالى أبداً يصلح سلبها عنه تعالى في بعض الأحيان

فلا يقال: اللّه غير عالم وغير قادر في فيقال: اللّه لا يخلق ولا يرزق في

بعض الأحيان بعض الأحيان

انظر: الكافي، الشيخ الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ص ١١١.

١٧

٢ - إنّ العدل الإلهي صفة لكيفية تعامل اللّه تعالى مع الكون بما فيه الإنسان، ولهذا اكتسبت هذه الصفة أهمية خاصة وموقعاً مميّزاً، لأنّ بها يتمّ تحديد نوعية موقف تعامل اللّه عزّ وجلّ مع الإنسان.

٣ - إنّ "العدل الإلهي" لا يتنافى مع "حرّية اللّه في أفعاله".

وليس "العدل" قيداً لأفعال اللّه عزّ وجلّ.

لأنّ "الحرية الإلهية" منزّهة عن النقص والظلم والقبائح.

ولا يفعل اللّه تعالى إلاّ الحسن.

ولا يضع الأُمور إلاّ في مواضعها اللائقة بها.

ولهذا لا يكون بين "حرية اللّه في أفعاله" و"العدل الإلهي" أيّ تضاد أو تناف.

الفرق بين "العدل" و "المساواة":

إنّ "المساواة" تعني مراعاة التساوي بين طرفين أو بين عدّة أطراف.

ولكن "العدل" يعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

والفرق بينهما:

إنّ أموراً من قبيل: "مراعاة الاستحقاق" و"أخذ الأولويات بنظر الاعتبار" و"إعطاء كلّ كائن نصيبه بموجب ما يستحق":

تُشترط في "العدل".

ولكنها لا تُشترط في "المساواة".

مثال:

لايعني مراعاة العدل بين تلاميذ الصف الواحد أن يُعطى الجميع درجات متساوية.

ولا يعني مراعاة العدل بين العمّال والموظفين أن يُعطى الجميع أُجوراً متساوية.

بل يعني مراعاة العدل في هذا المقام:

إعطاء كلّ تلميذ الدرجة التي تستحقها معلوماته ولياقته العلمية.

١٨

وإعطاء كلّ عامل أُجرته بحسب أهمية العمل الذي يقوم به.

تنبيه:

إنّ الحكمة في جعل اللّه الاختلاف والفوارق بين الناس وعدم المساواة بينهم في إعطاء المواهب والنعم هو لأ نّه تعالى جعل الحياة الدنيا داراً للبلاء والاختبار، فخلق نظاماً يؤدّي إلى رفع بعض الناس فوق البعض الآخر، ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، وليرى مستوى صبرهم وشكرهم ومدى نجاحهم في الاختبار الإلهي.

لماذا اعتبر العدل أصلا من أصول مذهب التشيّع؟

الدليل الأوّل:

بالعدل يتمّ التوحيد، ومن دون إثبات العدل لا يمكن إثبات النبوّة والإمامة والمعاد(١) .

قال العلاّمة الحلّي:

"اعلم أنّ هذا الأصل [العدل] عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية، بل الأحكام الدينية مطلقاً، وبدونه لا يتمّ شيء من الأديان"(٢) .

توضيح ذلك:

١ - الصلة بين "العدل" و"النبوّة":

إنّ العدل الإلهي هو الذي يقتضي:

أوّلا: إرسال اللّه الأنبياء بالهدى ودين الحقّ.

ثانياً: وثوق الناس بهؤلاء الأنبياء، واطمئنانهم بأنّ هؤلاء هم الذين أرسلهم اللّه وسدّدهم بالمعاجز، وأنّ هدفهم الخير والصلاح لهم.

ولولا العدل الإلهي لأمكن القول:

____________________

١- انظر: حقّ اليقين، عبد اللّه شبّر: كتاب العدل، الفصل الأوّل، ص ٨٣.

٢- نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر، ص ٧٢.

١٩

أوّلا: قد لا يرسل اللّه تعالى أحداً من رسله إلى العباد، فيترك الناس لشأنهم، ثمّ يفعل بهم كيفما يشاء، فيبطل أصل النبوّة.

ثانياً: قد يسدّد اللّه تعالى الكذّابين والدجّالين بالمعجزة، أو يرسل رسلا من أجل إغواء العباد وإلقائهم في التهلكة، فلا يمكن بعد ذلك الوثوق بالأنبياء.

٢ - الصلة بين "العدل" و "الإمامة":

إنّ العدل الإلهي هو الذي يقتضي اصطفاء اللّه تعالى الأئمة والأوصياء بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) للحفاظ على ما جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والتصدّي من بعده للقيام بالمسؤوليات التي كانت على عاتقه(صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا النبوّة.

ولولا العدل الإلهي لجاز له تعالى أن يترك الأُمة من بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سُدى، ويتركهم يتخبّطون في الضلال من دون وجود أحد يرشدهم إلى الحقّ والصواب.

٣ - الصلة بين "العدل" و "المعاد":

إنّ الاعتقاد بالعدل الإلهي هو الذي يستلزم الاطمئنان بالوعد الإلهي وتحقّق المعاد وإثابته تعالى للمحسن وعقوبته للمسيء في دار الآخرة.

ولولا ثبوت العدل الإلهي لم يمكن الوثوق بوعد اللّه تعالى، ولأمكن القول بأ نّه تعالى قد يلغي المعاد أو يقيمه ولكنه يتصرّف بالعباد كيفما يشاء، فيلقي الأنبياء في نار جهنم ويدخل الطغاة والمجرمين في جنّة النعيم! فيبطل بذلك أصل "المعاد".

الدليل الثاني:

إنّ الأشاعرة فسّروا "العدل الإلهي" بصورة تؤدّي إلى نفيه، فوقف أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بقوة أمام هذا التفسير، ودافعوا عن "العدل الإلهي" بحيث عُرفوا بالعدلية، واعتبر "العدل الإلهي" أصلا من أصول مذهبهم(١) .

____________________

١- اشتهر الخلاف حول مسألة العدل الإلهي بين المسلمين من بداية القرن الثاني للهجرة، واستمر هذا الخلاف بحيث أصبحت هذه المسألة علامة بارزة على أنّ المعتقد بها:

"شيعي" إذا كان من أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

"معتزلي" إذا كان من أتباع مذهب أهل السنة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

[هـ] ـ «والخَتل » : بفتح الخاء المعجمة ، والتاء المثناة من فوق : الخُدعة ، يقال : ختله يختله من باب ضرب إذا خدعه وراوغه(١) ، وختل الدنيا بالدين إذا طلبها بعمل الآخرة.

[و] ـ «وصنفٌ يطلبه للفقه والعقل » : يطلب العلم لتحصيل البصيرة الكاملة في الدين ، والتطلُّع إلى أحوال الآخرة ، وحقارة الدنيا ، ولتكمیل عقله الفطري.

ولمّا ذكر الأصناف الثلاثة وغاية مقاصدهم من طلب المال أراد أن يذكر جملة من أوصاف كل واحد منهم ليعرفوا بها فقالعليه‌السلام : «فصاحب الجهل والمِراء مؤذ ، ممار» ، أي : مؤذ لغيره لخبث باطنه ، وقدرته على التكلُّم بالأقوال الخشنة عند المباحثة ، والمحاورة في كيفية النزاع والجدل ، يريد بذلك الاستطالة والتفوّق على صاحبه ، أو لمجرد التذاذه بالغلبة كما هو دأب الأكثرين(٢) .

«والممار » اسم فاعل من (ماراه).

[ز] ـ «استطال عليه » : أي : تطاول وتفاخر.

[من أخلاق العلامة السيِّد رضا آل بحرالعلوم]

نقل جدّي العلّامة السيِّد آل بحر العلوم (طاب ثراه)(٣) : (أنَّ يوماً من الأيام كان هو مع أخيه جدّي السيِّد علي آل بحر العلوم صاحب البرهان القاطع (طاب ثراه)

__________________

(١) مجمع البحرين ١ : ٦٢١.

(٢) شرح اُصول الكافي ٢ : ١٨٢.

(٣) غفل مؤلف الكتاب السيِّد جعفر بن محمّد باقر بن علي بن السیِّد رضا آل بحر العلومرحمه‌الله عن ذكر اسم راوي الحكاية ، والراوي هو أحد أولاد السيِّد الرضارحمه‌الله ، غير السيِّد عليرحمه‌الله ، والسيد الرضارحمه‌الله انجب من الأولاد سبعة وهم : السيِّد جواد ، السيِّد حسين ، السيِّد عبد الحسين ، السيِّد علي ـ جدّ المؤلف المذكور في الحكاية ـ ، السيِّد كاظم ، السيِّد محمّد تقي ، السيِّد محمّد علي ، فيكون الراوي احد الستة الباقون.

٢٢١

بخدمة والدهما السيِّد رضا بحر العلوم (طاب ثراه) ، فأمرهما السيِّد والدهما المذكور بمصاحبتهما اله إلى عيادة شخص من أكابر بیوت العلم المعروفين بالنَّجف.

قال : وبالاتفاق لمّا دخلنا على صاحب الدار لم نجد في مجلسه من أهل العلم أحداً ، وكان الحاضرون كلهم من السواد السوقية ، فلمَّا استقر بنا الجلوس وأدّى كلٌّ منّا مع صاحبه الوظائف والرسوم العادية ، سأل الشيخ صاحب المنزل والدي عن مسألة فقهية وادّعى الاشتباه فيها على الأصحاب ، وأخذ يقرر إشكاله على الأصحاب لوالدي ، فلمَّا أتمّ كلامه أجابه والدي : بأنك مشتبه في فهم مرادهم ، وإن الإشكال غير وارد عليهم بعد فهم المراد ، وأخذ في بيان مرادهم بأحسن تقریر ، وأوفی بيان وتعبیر ، فلمَّا فرغ من الكلام لم يتقبل الشيخ منه ذلك وأخذ في التثبُّت بالمناقشات ، فكرَّر الوالد عليه الكلام بأوفى من المرة الأولى ، فلم يقنع الشيخ بذلك ، فکرَّر عليه الكلام ثالثاً وبالغ في الايضاح ، فلم يقنع الشيخ بذلك ، فسكت الوالد ولم يتكلَّم بعده بكلمة واحدة ، وحين رأي الشيخ من والدي ذلك قوي عزمه على الكلام وأخذ بإقامة ما عنده من البراهين على صحَّة ما ادّعاه من الغثّ والسمين ، والوالد ساكت لا يتكلَّم بحيث تحقَّق عند العام الحاضرين في ذلك المجلس تفوق الشيخ على السيِّد الوالد وإقحامه بما لا مزيد عليه.

قال : ونحن حاضرون وأدركنا ذلك المعنى من أهل المجلس ، وكنا نقدر على إعانة الوالد ومساعدته في الكلام وإقعاد كلمته على حسب الواقع والمرام ، ولكنّا تأدُّباً اللوالد ، وتوقيراً لصاحب المنزل سكتنا ، ولمّا قمنا وخرجنا من المنزل تقدم أخي السيِّد علي إلى جنب السيِّد الوالدرحمه‌الله وقال له : يا والدي ، ما الَّذي دعاك إلى السكوت عن إحقاق الحق وقمع الباطل حَتَّى فضحت نفسك ، وفضحت جدَّنا بحر العلوم ، بل وأسأت جعفر بن محمّدعليه‌السلام بهذا السكوت ، لِمَ سكتّ وأنت محقٌّ في کلامك؟ وبالغ في انزعاجه من تلك الحالة ، ولمّا سكن قال له والديرحمه‌الله : مع العلم

٢٢٢

بأن الطرف المقابل ـ يعني الشيخ ـ فهم كلامي ؛ لأنه ليس بتلك الدرجة من الغباوة بحيث لم يفهم ما قلته ، ولاسيَّما مع تكراري عليه ذلك مرّات ، فالمجادلة معه أكثر من ذلك ما هو إلا لأجل إقعاد الكلمة والالتذاذ بالغلبة ، وهو ممقوت عند صاحب الشرع).

(ولعمري) لتلك حالة لا توجد إلا عند الأوحدين من الناس ، ولاسيَّما بمحضر جماعة من العوام الَّذين هم كالأنعام ، ولا يعرفون الموازين العلمية للأشخاص إلّا بما يشاهدونه بأعينهم من المفاوضات والمكالمات ، ولكن ربَّما كان السكوت جواباً ، قال أبو العبَّاس الناشئ :

وإذا بُليتُ بِجاهلٍ مُتَحامِلٍ

حَسِبَ(١) المَحالَ من الأُمورِ صَوابا

أوليتُهُ منِّي السكوتَ ورُبَّما

كانَ السُكوتُ عنِ القبیحِ(٢) جَوابا(٣)

وقيل لبعض : (ما لكم لا تعاتبون الجهّال ليعلموا؟ فقال : إنّا لا نكلّف العُمْيَ بأن يبصروا ، ولا الصُمَّ بأن يسمعوا )(٤) .

وقال آخر : (ليس على العالم شيء أصعب ولا أتعب من جاهل يغالطه بالجهل إذا لم يكن عندَهُ عالم يفقه کلامه )(٥) .

__________________

(١) في الوفيات : (يجد).

(٢) في الوفيات : (الجواب).

(٣) وفيات الأعيان ٣ : ٣٧١ ، وانشده الإمام الرضاعليه‌السلام كما في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ : ١٨٧ ويدل ذلك أنه لغير الناشئ الصغير المتوفی سنة ٣٦٦ هـ ، فلاحظ.

(٤) فيض القدير ٢ : ٢٢.

(٥) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

٢٢٣

(رجع)

[ح] ـ «متعرّض للمقال » : لأن غرض إظهار التفوُّق والغلبة والتفاخُر والجاه ، ولا يحصل إلا بجلاله ومقاله.

[ط] ـ «في أندية الرجال » : الأندية ، جمع النادي وهو : مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه فإذا تفرقوا فليس بناد(١) .

[ي] ـ «قد تسربل الخشوع » : السِّربال بالكسر : القميص ، وسربلته : أي ألبسته السربال ـ أعني القميص(٢) .

والخشوع : التذلُّل والخضوع ، يعني : أظهر الخشوع بالتشبُّه بالخاشعين ، والتزييّ بزيهم مع أنه خال من الورع اللازم للخشوع.

[مراتب الورع]

(واعلم أنّ الورع على مراتب :

الأول : ورع التائبين ، وهو ما يخرج به الإنسان عن الفسق ويوجب قبول شهادته.

الثاني : ورع الصالحين ، وهم ترك الشبهات خوفاً من سقوط المنزلة بارتكابها.

الثالثة : ورع المتَّقين ، وهم ترك الحلال الَّذي يُتخوَّف منه أن ينجرّ إلى الحرام ، كترك التكلُّم بأحوال الناس خوفاً من الوقوع في الغيبة.

الرابع : ورع السالكين ، وهم الإعراض عما سواه تعالی خوفاً من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه)(٣) .

[ك] ـ «فدقَّ الله من هذا » ، أي من أجل عمله هذا العمل.

__________________

(١) ينظر : لسان العرب ١٥ : ٣١٧ ، مادة (ن. د. ي).

(٢) الصحاح ٥ : ١٧٢٩.

(٣) بحار الأنوار ٦٧ : ١٠٠.

٢٢٤

[ل] ـ «خيشومه » : أي أعلى أنفه ، وهو كناية عن إذلاله وجعله خائباً خاسراً عمّا قصده من العمل.

[م] ـ «وقطع منه حيزومه » : الحَيزوم بفتح الحاء المهملة والياء المثناة من تحت ، والزاي المعجمة : وسط الصدر ، وفي القاموس : هو ما استدار من الظهر والبطن(١) .

وكيف كان فهو أيضاً كناية عن إهلاکه واستيصاله بالمرَّة ، لقطع ما هو مناط الحياة.

[ن] ـ «ذو خِبّ ومَلَق » : الخب بكسر الخاء المعجمة والباء الموحدة المشددة ، مصدر بمعنى : الخدعة والغش(٢) .

والملق بالتحريك : اللُّطف الشديد ، والتودُّد فوق ما ينبغي باللسان من غير أن يكون له أثر في القلب(٣) .

[س] ـ «يستطيل على مثله » : من أشباهه أي على من يشابهه في رتبة العلم

والفضل.

[ع] ـ «ويتواضع للأغنياء من دونه » : أي ممَّن هو دونه في الرتبة والمنزلة ، والاستطالة على المماثل ، والتواضع للأدون من أقبح الأفعال ، ودليل على ركاكة الذات وشناعة الصفات.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٩٦.

(٢) مجمع البحرين ١ : ٦١٦ ، والخب بالفتح : الخداع ، وهو الجريز الَّذي يسعى بين الناس بالفساد. (ينظر : النهاية في غريب الحديث ٢ : ٤).

(٣) ينظر : العين ٥ : ١٧٤ ، الصحاح ٤ : ١٥٥٦.

٢٢٥

[ف] ـ «فهو الحلوانهم هاضم » : الحلوان هو الرشوة ، فكأن ما يأخذه منهم اُجرة لما يعمله ، وفي بعض النسخ لحلوائهم بالهمزة وهي الأطعمة اللَّذيذة.

[ص] ـ «ولدينه » : بإفراد الضمير كما هو المتَّفق عليه في نسخ الكافي.

[ق] ـ «حاطم » : أي كاسر ؛ لأنه باع دينه بدنياه ، بل بلقمة من مائدتهم تبعاً لقوَّة الشهوة ، فهو معط لهم فوق ما يأخذ منهم ؛ لأنه يأخذ منهم ما يطعمون ، ومعط إياهم من دينه ، فلا جرم كان عادماً لإيمانه ويقينه ، أو لأنه يحلّ لهم بفتواه ما يشتهون ، ويحطم دينه بما يُدهن فيدهنون.

وبناءً على ما في المتن من ضمير الجمع فله وجه ، فإن فعله ذلك يوجب تجرّيهم على الحرام ، واعطاءهم إيّاه بالرشوة عند ما يتوقعون منه ما يوافق طباعهم ، فهو حاطم لدينهم ، ثُمَّ دعا عليه بالاستیصال بحيث لم يبق له خبر ولا أثر.

[ر] ـ «عمي عليه الخبر » : أي خفي ، كناية عن عمى البصر.

[ش] ـ «وقطع من آثار العلماء أثره » : أي ما بقی من أثار علمه بين الناس ، فلا يُذكر به كما يُذكر به غيره في الدهور ، وتوجب اشتهاره وحسن ذكره ، وإنما دعا على الصنفين للحوق ضررهما على العلماء المحقّين ، أكثر من ضرر الكفّار المتمرِّدين.

[ت] ـ «وصاحب الفقه والعقل » : وهو الصنف الَّذي يطلب العلم لتکميل القوَّة النظرية والقوَّة العلمية والتخلُّق بالأخلاق الحسنة.

[ث] ـ «قد تحنّك في برنسه » : التحنُّك إدارة طرف العمامة تحت حنکه ، أي ما تحت ذقنه ، وفيه استحباب التحنُّك.

٢٢٦

وقال المجلسيرحمه‌الله في (مرآة العقول) في شرح هذا الخبر (عند قوله : تحنُّك في برنسه) : (يومين إلى استحباب التحنُّك في الصلاة)(١) .

وفيه ما فيه ، نعم ، يدل على ذلك من النصوص ما رواه صاحب العوالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من صلّى بغير حنك فأصابه داء لا دواء له ، فلا يلومنّ إلّا نفسه »(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من صلّی مقتطعاً (٣) فأصابه داء لا دواء له ، فلا يلومنّ إلّا نفسه »(٤) .

وفي (شرح المفاتيح) : (أن الأوّل مروي في العوالي في مكانين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله )(٥) .

ورواه عنه أيضاً في (المستدرکات)(٦) .

والثاني رواه مستقلاً فخر الإسلام في (شرح الإرشاد)(٧) ، فلا دغدغة في ذلك.

(والبرنس) : قلنسوة طويلة ، كان يلبسها النُسَّاك في صدر الإسلام(٨) .

__________________

(١) مرآة العقول ١ : ١٦٢.

(٢) يأتي تخريج الحديث.

(٣) (مقتطعاً) هي تصحيف (مقتعطاً) كما في مجمع البحرين ٣ : ٥٣٣ وهو : شدّ العمامة على الرأس من غير إدارة على الحنك.

(٤) يأتي تخريج الحديث.

(٥) شرح المفاتيح مخطوط لم أقف عليه ، وفي العوالي الحديثان موجودان في مكانين وليس الأول منه ، فلاحظ (ينظر : عوالي اللئالي ٢ : ٢١٦ ح ٦ للأول ، و ٤ : ٣٧ ح ١٢٨ للثاني).

(٦) مستدرك الوسائل ٣ : ٢١٥ ح ٣٤٠٢ / ٢.

(٧) عنه کشف اللثام ٣ : ٢٦٢ في لباس المصلي.

(٨) الصحاح ٣ : ٩٠٨.

٢٢٧

أو كل ثوب رأسه منه [ملترق به ، من](١) درّاعة كان أوجبّة أو ممطر ، معرَّب یوناني(٢) .

ويكفي في كراهة ترك التحنُّك أو السدل مطلقاً ولو في غير الصلاة المرسل أن الطبقية عِمة إبليس ؛ ولذا لم يتوقَّف أحد في كراهة عدم التحنُّك مطلقاً ، كما صرّح به جدّي صاحب البرهان (طاب ثراه)(٣) .

[خ] ـ «وجِلاً ، خائفاً » : من عدم قبول عمله ؛ لعلمه بأن الله إنَّما يتقبل أعمال المتَّقين ، ولعلَّه لا يكون منهم ، أو لعلمه بأنَّ المقبول إنَّما هو العمل الصالح ولا يعلم صلاح عمله ، أو يخاف من سوء الخاتمة وانقلاب العاقبة وعدم الاستمرار كما انعكست حالة كثير من العُبَّاد في آخر عمره.

[ذ] ـ «داعياً لقبول » : عمله وحسن عاقبته ومغفرة ذنوبه.

[ض] ـ «مشفقاً » : من عدم استجابته ، فإنَّ الدعاء أيضاً من جملة الأعمال التي لا تقبل إلا الصالح منها ، أو من أن يكون قَدْ صدر منه ما يحبس دعاءه ، كما قالعليه‌السلام في دعاء كميل : «اللهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء »(٤) .

وكما في الحديث : «أعوذ بك من الذنوب التي تردّ الدعاء »(٥) .

وهي كما جاءت به الرواية عن الصادقعليه‌السلام : «سوءُ النيَّة والسريرة ، أو ترك التصديق بالإجابة ، والنفاق مع الإخوان ، وتأخير الصلاة عن وقتها »(٦) .

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) النهاية في غريب الحديث ١ : ١٢٢.

(٣) البرهان القاطع : مخطوط لم أقف عليه.

(٤) دعاء کميل ورد في العديد من كتب الدعاء والزيارة ، ولا حاجة لذكرها.

(٥) ورد بهذا النص في مجمع البحرين ٢ : ٣٨.

(٦) مجمع البحرين ٢ : ٣٨.

٢٢٨

[ظ] ـ «مقبلاً على شأنه » : أي على إصلاح نفسه ، وتهذيب باطنه بالتخلية من الرذائل ، والتحلية بالفضائل.

[غ] ـ «عارفاً » : بأهل زمانه وبحركاتهم ومقاصدهم بالمكاشفات القلبية والمشاهدات العينية.

[أب] ـ «مستوحشاً » : من أوثق إخوانه ؛ لعلمه بأن مخالطتهم تُميتُ القلب ، وتُفسد الدين ، فيختار الاعتزال عنهم ؛ لما فيه السلامة ، إذ قَدْ خُصّ بالبلاء من عرفته الناس ؛ ولذا ورد : «فُرَّ من الناس فرارَكَ مِنَ الأسدِ »(١) .

وفي الشعر الفارسي :

دلا خو کن بتنهائي

که از تنها بلا خيزد

سعادت آنکسي دارد

که از مردم ببرهيزد

وإن شئت توسيع المخاض بأكثر من ذلك ، فنقول : لمّا عرفت أنه ليس الغرض من بعث الأنبياء إلا تهذيب الأخلاق البشرية ، كما قال سيد الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّما بعثتُ لأتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق »(٢) .

فلا بد من مباشرة الأعمال الشرعية بصورة توجب التحلّي بالفضائل ، والتخلّي عن الرذائل ، وتسبِّب التحصّل للأخلاق الفاضلة ، وتبديل الملكات الرذيلة ، وهذا الأمر لا محال يتوقَّفُ على تنبُّهٍ کامل واطّلاع وافر على أحوال النفس ، والأُمور الباطنية ، وتقلُّبات القلب ، ودقائق آفات النفس ، ويحتاج إلى

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ١٨٧.

(٢) تقدم ذكره.

٢٢٩

اهتمام عظيم في إيقاع العبادات على وجه الإخلاص المحض ، وخلوص النيَّة من جميع الشوائب ، والاهتمام بذلك كلّه ، وملاحظة هذه المعاني مع المعاشرة والمخالطة ، وارتكاب اللوازم والرسوم والعادات ، ومباشرة الأُمور الدنيوية مطلقاً متعسِّرٌ جداً ، بل يتعذَّر على أكثر النفوس.

فلا جرم أنَّ كثيراً من السالكين ، وعلماء الشريعة ، وحكماء الملَّة في كلّ زمان من الأزمان اختاروا العزلة ، وتقليل الخلطة بعد تحصيل العلوم اليقينية ، وحصول الملكات العلمية ، وتكميل القوَّة النظرية ، وكانوا يحثُّون تلاميذهم عليها ، وفي صدر السلف أيضاً كان شعار خلّص الصحابة وكمّل التابعين هو الانقطاع إلى الله ، والانفراد لجهة العبادة من غير تزيّ بزيٍّ خاص ، ولا تسمّ باسم مخصوص ، ولا وضع اصطلاح جدید.

قال مالك بن دينار : (من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين ، فقد قلّ علمه ، وعَمِيَ قلمه ، وضاع عمره )(١) .

قيل لبعضهم : (من معك في الدار؟

قال : الله تعالى معي ، ولا يستوحش من أنس به)(٢) .

ووصف بعض العارفين صفة أهل المحبة الواصلين ، فقال : (جدّد لهم الودّ في كلّ طرفة بدوام الاتصال ، وآواهم (٣) في كنفة بحقائق السكون إليه حَتَّى أنّت قلوبهم ، وحنّت أرواحهم شوقاً ، وكان الحبُّ والشوق منهم إشارة من الحق إليهم عن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ : ٤٣.

(٢) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

(٣) في الأصل : (واوهم) وما في المتن من استظهارنا حَتَّى يستقيم النص.

٢٣٠

حقيقة التوحيد وهو الوجود بالله ، فذهبت مناهم ، وانقطعت آمالهم عنده ؛ لما بان منه لهم )(١) .

[أج] ـ «فشدّ الله من هذا أركانه » : المشار إليه بهذا هو العالم الَّذي هو صاحب الفقه والعقل ، أي : ثبّت الله تعالى ، وأحكم غاية الإحكام أركانه الظاهرة ، أعني جوارحه وأعضاءه الباطنة من عقله وفهمه ودينه.

__________________

(١) لم اهتد إلى مصدر هذا القول.

٢٣١

الحديث العاشر

منهومان لا يشبعان

[٧٦] ـ قالرحمه‌الله : عنه ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسی ، وعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عمر بن أذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس ، قال: سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : منهومان لا يشبعان : طالب دنيا وطالب علم ، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلّ الله له سلم ، ومن تناولها من غير حلّها هلك ، إلا أن يتوب أو يراجع ، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا ، ومن أراد به الدنيا فهي حظُّه »(١) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

فيما يتعلق برجال السند :

ومرجع الضمير كما عرفت.

[ترجمة عُمَر بن أذينة]

أمّا عُمَر بن أذينة : هو ابن محمّد بن عبد الرحمن بن اُذينة ، بضم الهمزة ، وفتح الذال المعجمة ، وسكون الياء المنقطة تحتها نقطتين ، وفتح النون.

ذكره النجاشي في (الفهرست) وعدّ نسبه إلى عدنان ، ثُمَّ قال : (شيخ أصحابنا البصريين ووجههم ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام بمكاتبة (٢) ، له كتاب (الفرائض) )(٣) .

وزاد في (الخلاصة) : (أنه كان ثقة صحيحاً ).

__________________

(١) معالم الدين : ١٥ ، الكافي ١ : ٤٦ ح ١.

(٢) في رجال النجاشي : (بمکاتبه) ، وفي الخلاصة : (مکاتبة) ولعله الأصح ، فلاحظ.

(٣) رجال النجاشي : ٢٨٣ رقم ٧٥٢.

٢٣٢

ثُمَّ قال : (قال الكَشِّي : قال حمدويه : سمعت أشياخي منهم العبيدي وغيره ، أنَّ ابن اُذينة كوفي ، وكان هرب من المهدي ، ومات باليمن ؛ فلذلك لم يروِ عنه كثير ، ويقال : اسمه محمّد بن عُمَر بن اُذينة ، غلب عليه اسم أبيه )(١) .

وفي (المشتركات) : (ابن اُذينة ، الثقة ، روى عنه ابن أبي عمير ، وصفوان ، والحسن بن محمّد بن سماعة ، وحريز ، وأحمد بن ميثم ، وأحمد بن محمّد بن عيسی ، وأبوه ، وعثمان بن عيسی ، وجميل بن درَّاج ، وحمّاد بن عيسی )(٢) .

[ترجمة أبان بن أبي عياش]

(وأمّا أبان : فهو ابن أبي عياش ـ بالعين المهملة ، والشين المعجمة ـ واسم أبي عياش : فيروز ـ بالفاء المفتوحة ، والياء المنقطة تحتها نقطتين الساكنة وبعدها راء ، وبعد الواو زاي ـ تابعي ضعيف ، روى عن أنس بن مالك ، وروي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، لا يُلتفت إليه ، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه )(٣) .

وفي (الخلاصة) : (الأقوى عندي التوقُّف فيما يرويه ؛ لشهادة ابن الغضائري عليه بالضعف )(٤) .

وقال الشيخ في رجاله : (إنه ضعيف )(٥) .

وحكم بتضعيفه خالنا المجلسيرحمه‌الله في (الوجيزة )(٦) .

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٢١١ رقم ٢ ، اختيار معرفة الرجال ٢ : ٦٢٦ رقم ٦١٢.

(٢) هداية المحدثين : ١٢٣.

(٣) خلاصة الأقوال : ٣٢٥ رقم ٢ ، شرح اُصول الكافي ٢ : ٣٠٧.

(٤) خلاصة الأقوال : ٣٢٥ رقم ٢ ، رجال ابن الغضائري : ٣٦ رقم ١.

(٥) رجال الطوسی : ١٣٦ رقم ١٢٦٤ / ٣٦.

(٦) الوجيزة في الرجال : ١١ رقم ٥.

٢٣٣

ولم يتعرَّض لذكره صاحب (البُلغة) ؛ بناءً على ما بنى عليه من إسقاط المجاهيل والضعفاء.

[ترجمة سليم بن قيس]

وأمّا سُلیم بن قيس : فقد صرّح السيِّد الداماد بأنه صاحب أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن خواصّه ، روی عن السبطين والسجاد والباقر والصادقعليهم‌السلام وهو من الأولياء ، والحقّ فيه ـ وفاقاً للعلّامة وغيره من وجوه الأصحاب ـ تعديلُهُ(١) .

وقال ابن شهر آشوب : (سُليم بن قيس الهلالي صاحب الأحاديث ، له كتاب )(٢) .

وقال ابن طاووس : (تضمّن الكتاب ما يشهد بشكره [وصحَّة كتابه] ) ، انتهى(٣) .

وقال المجلسي : (وكتاب سُليم بن قيس في غاية الاشتهار ، وقد طعن فيه جماعة ، والحق أنه من الأُصول المعتبرة )(٤) .

وفي موضع من البحار ـ أظنُّه في كتاب الغيبة ـ عدّه من الثقات العظام(٥) .

__________________

(١) نسبه أبو علي الحائري في منتهى المقال إلى السيِّد الداماد في رواشحه ، ولم أعثر عليه في الرواشح السماوية ، وذكره المازندراني في شرح اُصول الكافي ٢ : ٣٠٧ عن بعض المحدثين من أصحابنا ، ولم يصرّحرحمه‌الله بأنه للسيد الداماد ، فلاحظ.

وينظر : خلاصة الأقوال : ١٦١ رقم ١ ، منتهى المقال ٣ : ٣٨٢.

(٢) معالم العلماء : ٩٣ رقم ٣٩٠.

(٣) التحرير الطاووسي : ٢٥٢ رقم ١٨٠ وما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) بحار الأنوار ١ : ٣٢.

(٥) قال النعماني : (وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمّةعليهم‌السلام خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأُصول التي رواها أهل العلم ومن حملة حديث أهل البيتعليهم‌السلام وأقدمها ، لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل إنما هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممن عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام وسمع منهما ، وهو من الأُصول التي ترجع الشيعة إليها ويعول عليها). (غيبة النعماني : ١٠٣).

٢٣٤

وقال الشيخ أبو علي : (ولقد طعن فيه الغضائري ، ولو حَكَمْنا بالطَّمْنِ لِطَعنهِ ، لَمّا سَلِمَ جليلٌ مِنَ الطَّعن)(١) .

الموضع الثاني

في شرح المتن :

ذُكر هذا الحديث في الكافي في باب (المستأكل بعلمه والمباهي به)(٢) ، والمراد بالمستأكل من يتخذ علمه رأس مال يأكل منه ويتوسَّع به في معاشه ، يقال : فلان ذو أكل ، إذا كان ذا حظّ من الدنيا ورزق واسع ، والمأكل : الكسب.

قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : «ويحك يا أبا الربيع [لا تطلبنّ الرئاسة ، ولا تكن ذئباً ، و] لا تأكل بنا الناس ، فيفقرك الله »(٣) .

نهاه أن يجعل العلوم الشرعية التي أخذها منهمعليهم‌السلام آلة الأكل والأموال ، كما هو شأن قضاة الجور ، وأوعده بأن الله يفقره في الدنيا بتفويت المال ونقص العيش.

والحديث : مروي في التهذيب أيضاً(٤) .

[أ] ـ «والمنهوم » : من النَّهَم ، بالتحريك ، وهو إفراط الشهوة في الطعام(٥) .

__________________

وقال عنه في موضع من بحار الأنوار ٣٠ : ١٣٤ ما نصّه : (والحق أن بمثل هذا لا يمكن القدح في كتاب معروف بين المحدّثين اعتمد عليه الكليني والصدوق وغيرهما من القدماء ، وأكثر أخباره مطابقة لما رُوى بالأسانيد الصحيحة في الأُصول المعتبرة).

(١) منتهى المقال ٣ : ٣٨٢.

(٢) الكافي ١ : ٤٦ وفيه ستة أحاديث.

(٣) الكافي ٢ : ٣٩٨ ح ٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر

(٤) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٢٨ ح ٩٠٦ / ٢٧.

(٥) لسان العرب ١٢ : ٥٩٣.

٢٣٥

وليس فيه دلالة على ذمّ الحرص في تحصيل العلم حَتَّى يُحمل على أن المراد من العلم هو غير علم الآخرة ، بل المقصود أن (أنه ـ ظ) خاصية الدنيا والعلم(١) ذلك ، يعني : مَنْ ذاق طعم حلاوة العلم ، وحلاوة الدنيا لم يشبع منهما ، (أمّا الدنيا) فكلَّما تناول مرتبة من مراتبها حثَّهُ الحرص وطول الأمل إلى تناول ما فوق ذلك ، ولا يكاد يقنع بمرتبة من مراتب الدنيا ، فهو في ألم من تلك الأحوال حَتَّى يموت.

[ب] ـ «وأمّا طالب العلم » : فلأنَّ ساحة العلوم أوسع من أن يحوم حولها عقل أحد من أفراد البشر ، قال تعالى : ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(٢) .

[ج] ـ «فمَنِ اقتصَرَ مِنَ الدُّنيا على ما أحَلًّ اللهَ لَهُ سَلِم » : أي وإن كان كثيراً في غاية الكثرة ، وكان فيه شهوة وميل إليها كما هو مقتضى العموم المستفاد من الموصول ؛ ولأنَّ جمع الدنيا من مَمَرّ الحلال حلال لا عقوبة فيه وإن بلغ ما بلغ ، ما لم يؤدِّ إلى حد الغرور ، وقطع علائق التوكُّل على الله تعالى ، والاستيثاق بما عنده من المال.

[د] ـ «إلا أن يتوب » : إلى الله تعالى بأن يندم على ما فعل فيما سبق ، ويعزم على الترك فيما يأتي ، أو يراجع من ظلمه ويرضيه.

وظاهر الحديث : أن كلّا من التوبة والمراجعة ناج (منجٍ ـ ظ) من العقاب ، وهو مشکل مع اشتغال الذمَّة بمال الناس المتناول له من غير حلّه ، فأمّا أن يجعل

__________________

(١) كذا والجملة غير مستقيمة ، إلا إذا قلنا : (خاصية الدنيا بالعلم).

(٢) سورة يوسف : من آية ٧٦.

٢٣٦

(أو) : بمعنى الواو للتفسير ، كما هو مذهب الكوفيين ، وابن مالك ، والأخفش ، والجرمي ، واختاره ابن هشام في المغني(١) .

أو للإضراب كما قال ابن مالك :

خَيَّر ، أبِحُ ، قَسِّمْ بِأَوْ وأبْهِمِ

وَاشْكُكْ وإضرابٌ بِها أيضاً نُمِي

والفرق بين الإباحة والتخيير جواز الجمع في تلك دونه ، واحتجوا له بقول توبة :

وقد زَعَمَتْ ليلى بِأنِّيَ فاجِرٌ

نَفسي تُقاها أو عَلَيْها فُجُورها(٢)

وله شواهد أخر.

(أو) : يجعل التوبة علاجاً لما وقع منه من الظلم في حق نفسه من غير تعلُّق بحقّ الغير ، والمراجعة علاجاً لما وقع منه من الاغتصاب لحق الغير ، فإن ذلك لا يرفع إلا مع إرضاء صاحب الحقّ.

ويحتمل تخصيص التوبة بما إذا لم يقدر على رد المال الحرام إلى صاحبه والمراجعة بما قدر عليه.

[هـ] ـ «ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا » : أهل العلم هم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومون ، والعلماء التابعون لهم ، يعني : من أخذ العلم منهم وعمل بما يقتضيه علمه نجا من العقوبات الأُخروية ، ومن كل ما يمنعه عن

__________________

(١) لم يذکر ابن هشام معنى التفسير كما لم يذكره غيره ، وإنما قال : (والخامس ـ أي من معاني (أو) ـ : الجمع المطلق كالواو ، قاله الكوفيون والأخفش والجرمي ...) ثُمَّ استغرب بعدها من ذهاب ابن مالك إلى هذا الرأي أيضاً واعترض عليه. (ينظر : المغني ١ : ٦٣).

(٢) البيت لتوبة من الحمير. (ينظر : أمالي القالي ١ : ١٣١ ، خزانة الأدب ١١ : ٦٨).

٢٣٧

التقرُّب إلى الله تعالی ؛ إذ اللازم لطريقتهم لاحق بهم لا محالة ، بل منهم ، كما ورد : «إنَّ سلمان منَّا أهلَ البيت »(١) .

ولا شك أن طريقتهم هي الطريقة الحقَّة التي لا يشوبها أدنی رائحة الباطل ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحق مع علي وهو مع الحق ، أينما دار »(٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهُمَّ أدر الحق معه أينما دار »(٣) ، رواه العامَّة في صحاحهم ، وذكروا في ذلك خمسة عشر حديثاً ، ومن جملة من رواه ، إمام الحرمين في الجمع بين الصّحاح السَّتة) في الجزء الثالث منه ، والزمخشري في ربيع الأبرار(٤) .

وقال ابن أبي الحديد في شرحه عند قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إن الأئمّة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على من سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » :

(فإن قلت : إنَّك شرحت هذا الكتاب على مذهب المعتزلة ، فما قولك في هذا الكلام ، وهو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصَّة ، وليس ذلك بمذهب المعتزلة.

قلت : هذا الموضع مشکل ، ولي فيه نظر ، وإن صحّ أن علياًعليه‌السلام قال ذلك ، قلت : كما قال ؛ لأنه ثبت عندي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنه مع الحق وإن الحق يدور معه

__________________

(١) عیون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ : ٧٠.

(٢) ذكر المؤلفينرحمه‌الله الحديث بالمعنى ونصّه : «علي مع الحق والحق مع علي ، يدور معه حيثما دار ». (شرح نهج البلاغة ١٨ : ٧٢).

(٣) ذكر المؤلفرحمه‌الله الحديث بالمعنى ونصّه : «اللهمّ أدر الحق مع على حيث دار ». (خصائص الوحي المبین ٣١).

(٤) ينظر : مصادر هذا الحديث الشريف من كتب أهل السنة في كتاب الغدير ٣ : ١٧٦ ـ ١٧٩ ، فإن مؤلفهرحمه‌الله كفانا مؤونة ذلك ، فجزاه الله عن كتابه هذا وغيره ألف خير.

٢٣٨

حيثما دار » ، ويمكن أن يتأول ويطبّق على مذهب المعتزلة ، فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة ، كما حُمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » على نفي الكمال ، لا على نفي الصحَّة) ، انتهى(١) .

وأنت خير بأن نفي الصحَّة أقرب إلى المعنى الحقيقي من نفي الكمال كما حُقّق في محلّه ، ويدل على صحَّة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رواه ابن حجر في (الصواعق) أنه خرّج مسلم والترمذي وغيرهما عن وائلة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الله اصطفی كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم »(٢) .

وأصرح من ذلك كلّه ما نقله أبو العبَّاس القلقشندي المصري الشافعي في كتابه (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب) : (أنهم يعني أصحابه الشافعية نصّوا على أن الهاشمي أولى بالإمامة من غيره من قريش).

راجع الفصل الأول من مقدمة الكتاب المزبور(٣) .

[و] ـ «من أراد به الدنيا فهي حظه » : يعني من أراد بعلمه التوسل إلى زخارق الدنيا ، والتقرَّب إلى الملوك والسلاطين ، وجلب المال من الفاسقين ، والسوق على العالمين ، ذلك حظه وثمرة علمه وماله في الآخرة من نصيب ، قال الله تعالی : ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ : ٨٧.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٨٨ ح ٣١.

(٣) نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب : ٧.

(٤) سورة الشوری : ٢٠.

٢٣٩

الحديث الحادي عشر

الحديث لمنفعة الدنيا

[٧٧] ـ قالرحمه‌الله : عنه ، عن الحسين بن محمّد بن عامر ، عن معلّی بن محمّد ، عن الحسن بن علي الوشّاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله تعالى خير الدنيا والآخرة »(١) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في رجال السند :

ومرجع الضمير كما تقدّم.

[ترجمة معلی بن محمّد]

ومعلّی بن محمّد : هو أبو الحسن البصري.

قال في (الخلاصة) : (وهو مضطرب الحديث والمذهب ، ونقل عن ابن الغضائري : أنه يعرف حديثُه وينكر ، وأنه يروي عن الضعفاء ، وأنه يجوّز أن يخرج شاهداً )(٢) .

وقال في (التعليقة) : (قال جدّي رحمه‌الله : لم نطّلع على خبر يدلُّ على اضطرابه في الحديث والمذهب كما ذكره بعض الأصحاب ) ، انتهى(٣) .

ولم يذكره صاحب (البُلغة) ، وقال في حاشية له على هذا المقام ما لفظه : (لم نذكر معلّی بن محمّد البصري ؛ لأنه ضعيف مضطرب.

__________________

(١) معالم الدين : ١٦ ، الكافي ١ : ٤٦ ح ٢.

(٢) خلاصة الأقوال : ٤٠٩ رقم ٢ ، رجال ابن الغضائري : ٩٦ رقم ١٤١ / ٢٦.

(٣) تعليقة البهبهاني على منهج المقال : ٣٢٩.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432