اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 214
المشاهدات: 58679
تحميل: 6034

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58679 / تحميل: 6034
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومثل هذا الإخبار من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدع الظالمين في راحة واطمئنان; لأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتبط بالوحي ومسدّد من السماء، ولا تكون إخباراته سُدىً. ومثل هذا الإخبار من منجّم عادي أو محترف يكفي لزعزعة الاستقرار النفسي الذي يبحث عنه الحكّام الظالمون فكيف وهم يسمعون هذا الإخبار من نبي مرسل يدّعون الانتساب إليه؟! ولا سيّما وهم يبحثون عن كلّ شيء لإحكام ملكهم ويحسبون لما يزعزعه ألف حساب، فكيف لا يتهيَّئون لدرء الخطر الداهم ؟

والعدد الذي ذكره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل بيته الطاهرين المسؤولين عن حمل مشعل الرسالة عدد مضبوط محدود، فهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ومن بني هاشم وهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأحد عشر من ولده الأبرار الأطهار.

وهاهو الرضاعليه‌السلام كان الثامن من الاثني عشر المنصوص علهيم من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الخامس من ولد الحسينعليه‌السلام فضلاً عن النصوص عليهم من سائر الأئمة الطاهرين.

ولا نستبعد وجود عناصر مرتبطة بالجهاز الحاكم كانت تحاول اختراق الجماعة الصالحة التي حرصت على حفظ تراث أهل البيتعليهم‌السلام وعلومهم الربّانية والتي استودعوها أسرارهم، وهي الأسرار التي لا يتحملها إلاّ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.

والحكّام العباسيّون إن لم يستطيعوا السيطرة على الجماعة الصالحة فلا أقل من اختراقها والحصول على المعلومات التي تخدمهم للتعرّف على الخط المناوئ لهم.

ومع شعورهم بقرب ولادة المهديعليه‌السلام مع جهلهم بزمان ولادته وظهوره، لابد وأنهم يحاولون صد أهل البيتعليهم‌السلام من إنجاب الإمام المهديعليه‌السلام قبل كل شيء كما حدث لفرعون مع موسى النبيعليه‌السلام .

ومن أجل تحقيق هذه المهمة والحيلولة دون ولادة من يقلقهم ذكره ووجوده شدّدوا المراقبة على أهل البيتعليهم‌السلام ودخلوا إلى أعماق حياتهم الشخصية فجعلوا الرقيب الخاص على تصرّفاتهم كما يبدو من إصرار المأمون لتزويج ابنته أم الفضل من الإمام الجوادعليه‌السلام بل حدّدوهم حتّى من حيث الزواج والإنجاب، ويشهد لذلك قلّة عدد أبناء الأئمةعليهم‌السلام بعد الإمام الرضاعليه‌السلام بشكل ملفت للنظر، إذا ما قسناهم مع من سبق الإمام الرضاعليه‌السلام من الأئمة من حيث الأبناء والأزواج.

كما حاولوا طرح البديل عن الإمام المهدي المنتظر للأمة الإسلامية بتسمية بعض أبنائهم بالمهدي والمهتدي تمويهاً وتغريراً لعامّة الناس بأنهم هم المقصودون بهذه النصوص النبوية. ولكن حبل الكذب

١٢١

قصير والحقيقة لابدّ أن تنجلي والطغاة لا يستطيعون أن يتظاهروا بمظهر الحق على مدى طويل فلا يطول التظاهر منهم ماداموا غير متلبسين حقيقةً بلباس الحق وما دامت شخصيتهم لم تنشأ في بيئة طاهرة تتّسم بالحق وبالقيم الربّانية الفريدة.

ومن هنا نجد أن هذا التمويه لم يستطيع أن يحقق الغرض الذي من أجله ارتكبوه وهو التغطية على حقيقة المهدي المنتظرعليه‌السلام .

وتبقى الخطوة الأخيرة الممكنة لهم وهي أنهم إن لم يستطيعوا أن يحولوا بين أهل البيتعليهم‌السلام وبين إنجاب الإمام المهديعليه‌السلام ولا التمويه على جمهور المسلمين فعليهم أن يكتشفوه، أي أنّ عليهم أن يترصّدوا ولادته ليقضوا عليه ويريحوا أنفسهم من هذا الكابوس الذي يُخيّم عليهم وهو كابوس المهدي المنتقم الذي يزعزع عروش الطغاة لا محالة.

نعم ، لا ضرورة للاعتقاد البات من قبل الخلفاء بهذه الحقيقة ، بل يكفي لديهم احتمالها ليبادروا لاتخاذ الإجراءات الصارمة أمام الخطر الداهم أو المحتمل الذي قد يحدق بهم عن قريب.

وهكذا كانت الساحة السياسية العامّة من جهة والحاجة العامة للمسلمين تتطلب بقاء الأمل كبيراً بانجلاء غياهب الجور والطغيان على يدي الإمام القائم بالسيف من أهل بيت النبوّة والذي بشّر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرون. وكان من الضروري استمرار شعلة هذا الأمل والحيلولة دون انطفائها لأنها تهزّ عروش الظالمين والمستكبرين وتسلب الأمان والحياة الرغيدة منهم إن هذه المفردة حاجة واقعية للأمة ومهمّة رسالية لأهل البيتعليهم‌السلام الذين لم تسمح لهم الظروف بالقيام بدور الإمام المهديعليه‌السلام المرتقب، غير أنهم يستطيعون التمهيد لولادته ومن ثم بقائه حيّاً ليدبّر شؤون المسلمين من وراء ستار كي ما تتهيأ له ظروف الثورة المباركة التي بشّر بها القرآن الكريم وأيّدتها نصوص الرسول العظيم.

وفي مقابل هذه الحاجة العامّة نجد محاولات العباسيين للحيلولة دون ولادة القائم المهدي من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبحت جادّة وقوية وسريعة، لأن الخطر بدأ يقترب منهم. فالإمام الجواد ومن سيأتي بعده من الأئمةعليهم‌السلام بين مهمّتين: مهمّة حفظ الأمل الكبير واستمرار شعلته، ومهمّة التعتيم على السلطة تجاه ولادة المهديعليه‌السلام والحيلولة بينهم وبين الاقتراب من المهديعليه‌السلام لئلاّ تناله أيديهم الأثيمة ولئلاّ يصادروا آخر قيادة ربّانية قد نذرت نفسها لله لتحمل لواء الحق وراية الإسلام المحمدي وتحقق كل آمال الأنبياء على مدى القرون والأعصار، كما صادروا قيادة آبائه من قبل وأحكموا الحصار على من تبقّى منهم.

١٢٢

وقد استطاع الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام فضح الحكّام المنحرفين من خلال سيرتهم المباركة التي شكّلت تحدّياً عملياً و علمياً وأخلاقياً صارخاً فاتّضحت للأمة جملة من الفواصل الكبيرة بين الخط الحاكم والخط الذي ينبغي له أن يتولّى شؤون الحكم والزعامة الإسلامية.

والأمة لازالت بحاجة للتعرّف على مزيد من الفواصل المعنوية بين الخطّين، كما أنها لابدّ أن تقف على حقيقة الأقنعة الزائفة التي يقبع تحتها الحكّام الظالمون.

واستطاع المأمون أن يقترب من الإمام الجوادعليه‌السلام ويتقرّب منه شيئاً ما بتقريبه له وتزويجه لابنته لترصد تحركات الإمام ولتستطيع أن تمنعه من الإنجاب منها(١) وممّن سواها، إذا كان ذلك مقصوداً للمأمون تحقيقاً لجملة من الأهداف التي لاحظناها في هذا البحث.

واستمرّ الحكّام من بعده على نفس هذا المنهج الدقيق لأنّهم لا يرون بديلاً له بعد ما فضح المأمون نفسه باغتيال الإمام الرضاعليه‌السلام حيث تخلّص من رقيب كبير كان يهدد ملكه ولكنه قد أُبتلي برقيب جديد يفوقه في التحدي وإرغام أنوف الظالمين.

ومن هنا كانت ظروف الإمام الجوادعليه‌السلام لا سيّما وهو في التاسعة من سني عمره، تشكل سؤالاً أساسياً للمأمون أوّلاً ولعامة الناس ثانياً، ولبعض شيعة أهل البيت ثالثاً، والسؤال هو مدى جدارة هذا الصبي للقيام بمهمة الإمامة والقيادة الربانية المفترضة الطاعة التي لابد لها أن تخترق كل الحجب السياسية والاجتماعية الموجودة.

وهكذا كان الإمام الجوادعليه‌السلام حين تسلّمه زمام القيادة الرسالية أمام تساؤل كبير قد طرح نفسه لأوّل مرة على مستويات ثلاثة، ولابدّ للإمام الجوادعليه‌السلام من

ـــــــــ

(١) إذا كان الإنجاب مقصوداً للمأمون فاحتواء ابن الإمام من قبل العباسيين يكون أمراً ممكناً بل متوقعاً ، وإذا لم يكن الإنجاب مطلوباً لهم فسوف تكون مهمة ابنة المأمون الحيلولة دون إنجاب الإمامعليه‌السلام من طرفها وممّن سواها كما تلاحظ ذلك في غيرتها وشكايتها لأبيها من الإمام الجواد الذي كان من الطبيعي في ذلك المجتمع أن يتزوج من أمة من الإماء بالرغم من وجود زوجة عنده مثل ابنة المأمون.

١٢٣

أن يثبت جدارته للجميع، وإن كان ذلك يكلّفه حياته فيما بعد; لأن بقاء هذا الخط الربّاني وإثبات حقّانية خط أهل البيت ورسالته الربانية هما فوق كل شيء. ومن هنا كان لابدّ للإمام الجوادعليه‌السلام أن يتصدّى للردّ على كل هذه الأسئلة ويتحدّى كل القوى السياسية والعلمية التي تنطوي عليها الساحة الإسلامية ليتسنى له القيام بسائر مهامّه الرسالية الأخرى في الحقلين العام والخاص معاً.

إذاً فقد كان إثبات الإمامة على المستويين العام والخاص أولى مهام الإمام الرسالية في مرحلته التي عاشها بعد استشهاد أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كان قد نصّ عليه وعرّفه لأصحابه وأتباعه ; لأنّ الإمام الرضاعليه‌السلام كان قد عاصر خطط المأمون وعرف عن كثب أهدافه الخفية من أطروحة ولاية العهد الخبيثة والتي استطاع الإمام أن يستثمرها لصالح الإسلام رغم قصر الفترة الزمنية ورغم ما كلّفته من حياته الغالية والتي قدمها رخيصة في ذات الله تعالى.

وتأتي إجابات الإمام الجوادعليه‌السلام في المجالس العامة للخلفاء على الأسئلة الموجّهة إليه خطوة موفّقة لإثبات أحقيّة خط أهل البيتعليهم‌السلام الرسالي وإثبات إمامة محمد الجوادعليه‌السلام وجدارته العلمية وشخصيته القيادية لعامّة المسلمين إتماماً للحجة عليهم وعلى الخلفاء والعلماء المحيطين بهم.

وهي في نفس الوقت تشكّل تحدّياً عملياً للخلفاء وعلمائهم الذين كانوا يشكّلون الرصيد العلمي والخلفية الثقافية والشرعية في منظار مجموعة من أبناء المجتمع الذين نشأوا في مجتمع منحرف عن خط الرسالة المحمدية الأصيلة ممّن اغترّوا بالمظاهر والشعارات ولم ينفذوا بعقولهم إلى عمق الأحداث والتيارات المتحكّمة في المجتمع الإسلامي آنذاك.

كما أنها كانت ردّاً على محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يستهدفها الحكّام بالنسبة لأهل البيتعليهم‌السلام الذين كانوا يشكّلون المعارضة الصامتة والخطّ المخالف للخلفاء المستبدين بالأمر والمتربّعين على كرسيّ الحكم دون إذن ونصّ الهي، كما هي عقيدة أهل البيتعليهم‌السلام بالنسبة للإمامة حيث إن الإمامعليه‌السلام لابد أن يكون معصوماً ومنصوصاً عليه من الله تعالى ورسوله.

١٢٤

٢ ـ الساحة الإسلامية وظاهرة الإمامة المبكّرة في مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام

يشكّل وجود الإمام الجوادعليه‌السلام ـ كما أشرنا ـ برهاناً على صحة عقيدة أهل البيتعليهم‌السلام في الإمامة ؛ وذلك لأن ظاهرة تولّي شخص في سنّ الطفولة لمنصب الإمامة وما رافقها من شؤون تستطيع أن تقدم لنا دليلاً قاطعاً على سلامة هذه العقيدة التي يتميز بها مذهب أهل البيتعليهم‌السلام عمّا سواه من المذاهب في قضية الإمامة باعتبارها منصباً ربّانياً لا يكون على أساس الانتخاب والترشيح البشري وإنما يكون على أساس التعيين والنصب الإلهي لشخص تجتمع في وجوده كل عناصر الكفاءة والقدرة الحقيقية لإدارة هذا المنصب الربّاني من قيادة فكرية علمية ودينية وعملية للمؤمنين بإمامته ، بل للمسلمين جميعاً.

لقد أجمع المؤرخون على أن الإمام الجوادعليه‌السلام قد توفّي أبوهعليه‌السلام وعمره لا يزيد على سبع سنين، وتولّى منصب الإمامة بعد أبيه وهو في هذه السن من سنيّ الطفولة بحسب ظاهر الحال.

وهذه الظاهرة هي أوّل ظاهرة من نوعها في حياة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

ولو درسنا هذه الظاهرة على أساس المعايير الإلهية من جانب والوقائع التاريخية، لوجدناها كافية لوحدها للاقتناع بحقّانية مدرسة الإمام الجواد وخط أهل البيتعليهم‌السلام الذي كان يمثّله الإمام الجوادعليه‌السلام .

إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعية الربّانية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويقوم فعلاً بقيادة وهداية هذه الطائفة في كل المجالات الروحية والفكرية والدينية الفقهية وغير الفقهية.

والفروض الأخرى التي لا يمكن افتراضها وقبولها هنا هي كما يلي:

الفرض الأول:

أن الطائفة الشيعية التي آمنت بإمامة هذا الشخص لم ينكشف لديها بوضوح أن هذا المدعي للإمامة هو صبي.

وهذا الفرض غير صحيح لأن زعامة الإمام من أهل البيتعليهم‌السلام لم تكن زعامة محاطة بالشرطة والجيش وأبهة الملك والسلطان بحيث يحجب الزعيم عن رعيّته. ولم تكن زعامة دعوة سرّية من قبيل الدعوات الصوفية وغيرها من الدعوات الباطنية كالفاطمية التي تحجب بين القمة والقاعدة بها.

١٢٥

إن الإمام الجواد مثل غيره من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كان مكشوفاً أمام الطائفة وكانت الطائفة بكل طبقاتها تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينية وفي قضاياها الروحية والأخلاقية. إن الإمام الجوادعليه‌السلام نفسه كان قد أصرّ على المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة وسمح له بالرجوع إلى المدينة فرجع وقضى بقية عمره أو أكثر عمره فيها.

وهكذا بقي الإمام الجوادعليه‌السلام مكشوفاً أمام مختلف طبقات المسلمين بما فيهم الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته.

فافتراض أنه لم يكن مكشوفاً أمام شيعته بالخصوص خلاف طبيعة العلاقة التي أنشئت منذ البداية بين أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وقواعدهم الشعبية هذا أوّلاً.

وثانياً أن الإمام الجوادعليه‌السلام كان قد سُلّطت عليه أضواء خاصة من قبل الخليفة العباسي كما لاحظنا في القصة المعروفة عن تزويجه بأم الفضل، وهكذا رصد العباسيين لهعليه‌السلام للرد على موقف المأمون منه، وهو شاهد آخر على بطلان احتمال عدم انكشافه أمام المسلمين.

الفرض الثاني:

أن المستوى الفكري والعلمي للطائفة الشيعية التي آمنت بالإمامعليه‌السلام وقتئذٍ لم يكن بالمستوى المطلوب الذي تستطيع من خلاله أن تميّز الخطأ من الصواب في مجال الإيمان بإمامة طفل يدّعي الإمامة وهو ليس بإمام.

وهذا الافتراض أيضاً مما يكذّبه الواقع التأريخي لهذه الطائفة مع ما وصلت إليه من مستوى علميّ وفقهيّ.

فإنّ هذه الطائفة قد تربت على أيدي الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وكان فيها أكبر مدرسة للفكر الإسلامي في العالم الإسلامي على الإطلاق وهذه المدرسة تتكوّن من جيلين متعاقبين: جيل تلامذة الإمام الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، وجيل تلامذة تلامذتهم. وكان هذان الجيلان على رأس هذه الطائفة متميزين في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق ، بل كل جوانب المعرفة الإسلامية.

إذاً فالمستوى الفكري والعلمي لهذه الطائفة ما كان ليمكن أن يُمرّر عليه مثل هذا الاعتقاد ما لم يكن له رصيد واقعي ودليل منطقي ومعقول ومُلزم لمعتنقيه بالإيمان بهذه الإمامة المبكّرة التي تشكل تحدّياً لكل الظروف والواقع المعاش الذي لا يستفيد معتنقيه من الإيمان به غير التحديد والضغط والمطاردة والقتل والتهديد.

١٢٦

وإن أمكن لشخص أن يتصوّر أنّ رجلاً عالماً كبيراً مُحيطاً مطّلعاً بلغ الخمسين أو الستّين يستطيع أن يقنع مجموعة من الناس بإمامته وهو ليس بإمام لمجرد أنه يتصف بدرجة كبيرة من العلم والمعرفة والذكاء والاطلاع فليس بالإمكان أن نفترض ذلك في شخص لم يبلغ العاشرة من عمره، إذ كيف يستطيع أن يقنع طائفة كبرى بإمامته كذباً وهو مكشوف أمامها وهذه الطائفة ذات مدرسة فكرية من أضخم المدارس الفكرية التي وجدت في العالم الإسلامي يومئذ. وهي مدرسة بعض عناصرها في الكوفة وبعضها في قم وبعضها في المدينة، فهي مدرسة موزّعة في حواضر العالم الإسلامي وكانت على صلة مباشرة بالإمام الجوادعليه‌السلام تستفتيه وتسأله وتنقل إليه الأموال من مختلف الأطراف من شيعته. فمثل هذه المدرسة لا يمكن أن نتصوّر أنّها تغفل عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.

الفرض الثالث:

إن مفهوم الإمام والإمامة لم يكن واضحاً عند الطائفة الشيعية ، بل إنها كانت تتصوّر أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي ووراثي ولم تكن تعرف ما هو الإمام وما هي قيمة الإمام وما هي شروط الإمام.

وهذا الافتراض يكذّبه واقع التراث المتواتر من أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الإمام الرضاعليه‌السلام عن شروط الإمامة وحقيقتها وعلامات الإمام عند هذه الطائفة بنحو يميّزها عما سواها من الطوائف والمذاهب التي تجعل الإمامة منصباً بشرياً لا يصعب لكثير من الناس التسلق إليه وانتحالها وادعائها.

بينما قام التشيّع على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة وهو من المفاهيم الأولى والبديهية للتشيّع، فإنّ الإمام في المفهوم الشيعي إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وأقواله وأعماله. وهذا المفهوم قد بشّرت به مجموعة كبيرة من عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عهد الإمام الرضاعليه‌السلام (١) .

وقد أصبحت كل التفاصيل والخصوصيات بالتدريج واضحة ومرتكزة عند الطائفة الشيعية.

يقول الراوي: دخلت المدينة بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضاعليه‌السلام . فقيل: إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة فخرجت إلى

ـــــــــ

(١) راجع في هذا الجانب بالخصوص الحديث التفصيلي الذي ورد عن الإمام الرضاعليه‌السلام حول الإمام والإمامة في (تحف العقول).

١٢٧

تلك القرية ودخلت القرية وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر انتقل إلى أولاده. فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام كان جالساً يتصدّر المجلس إلاّ أن الناس يقولون : إن هذا ليس هو الإمام بعد الرضاعليه‌السلام لأننا سمعنا من الأئمة أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين.

نعم ، كل هذه التفاصيل والخصوصيات النسبية والمعنوية كانت واضحة ومحدّدة عند الطائفة. إذاً فهذا الافتراض الثالث أيضاً يكذّبه واقع التراث الثابت والمتواتر عن الأئمة السابقين على الإمام الجوادعليه‌السلام .

الفرض الرابع:

أن يكون هناك بين أبناء الطائفة الشيعية نوع من التواطؤ على الزور والباطل.

وهذا الافتراض أيضاً يكذّبه الواقع. لا لإيماننا الشخصي فقط بورع هذه الطائفة وقدسيّتها، بل لأن الظرف الموضوعي لهذه الطائفة هو الذي يكذب هذا الافتراض. فإن التشيع لم يكن في يوم من الأيام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى الأمجاد وإلى المال والجاه والسلطان والمقامات العالية، بل التشيع طيلة هذه المدّة كان طريقاً إلى التعرض للتعذيب والسجون والحرمان والويل والدمار. لقد كان التشيع طريقاً شائكاً مزروعاً بالألغام، فالخوف والتقية والذل كانت هي مظاهر وثمار هذا الطريق فما الفائدة المادية في التواطؤ على هذا الزور والباطل في الإمامة ما دام التشيع ليس سبيلاً لتحقيق أي مطمع مادي أو مطمع دنيوي آنئذ.

فلماذا يتواطأ عقلاء الطائفة الشيعية ووجهاؤها وعلماؤها على إمامة باطلة مع أن ثباتهم عليها يكلفهم كثيراً من ألوان الحرمان والعذاب، وأيّ عقل يستسيغ مثل هذه التبعات إذا كان مجرّد تباني على أمر باطل.

إنّ هذه الظروف الموضوعية ألا تكون شاهداً ودليلاً على أن هذا الاعتقاد إنما كان ناشئاً عن حقيقة ثابتة وملزمة لأبناء الطائفة قد وعوها وآمنوا بها واستسلموا للوازمها وآثارها بالرغم من أنها كانت تكلّفهم حياتهم المادية على طول الخط.

١٢٨

إذن لا يبقى إلاّ القبولبالافتراض الأخير ، وهو : أن الإمام الجوادعليه‌السلام بدعواه الإمامة المبكرة وتحدّيه لكل من وقف أمامه، وصموده أمام كل الإثارات والتساؤلات والاختبارات شكّل دليلاً تاريخياً علمياً قاطعاً على حقّانية دعواه ومذهبه وخطّه ، وهو خط أهل البيتعليهم‌السلام الذي كان يمثّله الإمام الجوادعليه‌السلام في مجال إمامة المسلمين وزعامة الأمة الإسلامية التي بدأت بالقيادة النبوية تلك الأمة التي خلّفها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتتكامل وتؤسّس الحضارة الإسلامية على أسس إلهية وقيم ربّانية.

وإن التراث القيّم الذي تركه لنا هذا الإمام العظيم لدليل قاطع على عظمة الدور الذي قام به هذا الإمام في تبلور العقيدة الشيعية في مجال القيادة الإسلامية التي أكّدتها الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة(١) .

ـــــــــ

(١) اعتمدنا في هذا البحث على محاضرة للشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الصدرقدس‌سره حول الإمام الجوادعليه‌السلام وعرضناها بتصرّف.

١٢٩

٣ ـ الإمام الجواد عليه‌السلام والمفاهيم المنحرفة عند الأمة

لم يتخذ الغلو لوناً واحداً بل كانت ثمة ألوان متعددة، منها الغلو بالصحابة، وفي حوار مفتوح للإمام الجوادعليه‌السلام مع يحيى بن الأكثم أمام جماعة كبيرة من الناس منهم المأمون العبّاسي فنّد الإمام الجوادعليه‌السلام التوجهات المغالية في شأن الصحابة، وإليك نص الحديث:

(روي أن المأمون بعد ما زوّج ابنته أم الفضل أبا جعفرعليه‌السلام كان في مجلس وعنده أبو جعفرعليه‌السلام ويحيى بن الأكثم وجماعة كثيرة.

فقال له يحيى بن الأكثم: ما تقول يابن رسول الله في الخبر الذي روي: أنه نزل جبرئيلعليه‌السلام على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: يامحمد ! إن الله عَزَّ وجَلَّ يُقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عنّي راض فإني عنه راض.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع: (قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله عَزَّ وجَلَّ وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به) وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) . فالله عَزَّ وجَلَّ خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى يسأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول) .

ثم قال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء.

ـــــــــ

(١) سورة ق (٥٠): ١٦.

١٣٠

فقال عليه‌السلام : ( وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه; لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان لم يعصيا الله قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عَزَّ وجَلَّ وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله فمحال أن يشبّههما بهما) .

قال يحيى: وقد روي أيضاً: أنهما سيدا كهول أهل الجنة. فما تقول فيه ؟

فقال عليه‌السلام : (وهذا الخبر محال أيضاً ؛ لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبّاناً ولا يكون فيهم كهل وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحسن والحسين عليهما‌السلام بأنهما : (سيدا شباب أهل الجنة)) .

فقال يحيى بن الأكثم: وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة.

فقال عليه‌السلام : (وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجميع الأنبياء والمرسلين. لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر ؟!) .

فقال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن السكينة تنطق على لسان عمر.

فقال عليه‌السلام : (لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر فقال ـ على رأس المنبر ـ: إن لي شيطاناً يعتريني، فإذا ملت فسدّدوني) .

فقال يحيى: قد روي إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو لم أُبعث لبُعث عمر.

فقالعليه‌السلام :(كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) (١) ، فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكان الأنبياء عليهم‌السلام لم يشركوا بالله طرفة عين؟ فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟! وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نبّئت وآدم بين الروح والجسد)) .

ـــــــــ

(١) الأحزاب (٣٣): ٧.

١٣١

فقال يحيى بن الأكثم: وقد روي أيضاً أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما احتبس عنّي الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب.

فقال عليه‌السلام : (وهذا محال أيضاً، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نبوّته، قال الله تعالى: ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ) (١) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟!) .

قال يحيى: روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو نزل العذاب لما نجى منه إلاّ عمر.

فقال عليه‌السلام : (وهذا محال أيضاً ؛ لأن الله تعالى يقول: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٢) ، فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما داموا يستغفرون الله) (٣) .

وفي هذا النص شواهد كافية لمدى التحريف الذي سيطر على مجال الحديث والبدع التي أدخلت على السنّة النبوية الشريفة في عصر الخلافة الأموية والعباسية، ومدى نفوذها إلى واقع الأمة بالرغم من كونها تخالف النصوص الصريحة للقرآن الكريم. وهذا كاشف عن مدى هبوط مستوى الوعي والثقافة العامة عند علماء البلاط فضلاً عن عامة أتباعهم.

وهذا الحوار يكشف لنا عن مدى شجاعة الإمامعليه‌السلام وقوّة منطقه، ودوره الكبير في تصحيح هذه الانحرافات الخطيرة التي تشوّه حقائق الدين من أجل تصحيح أخطاء شخصيات استغلّت شرف الصحبة والصحابة، وقبع الحكام المنحرفون تحت هذه الأقنعة التي نسجت منهم شخصيات وهميّة على مدى التاريخ في أذهان عوامّ علماء المسلمين فضلاً عن أتباعهم.

ـــــــــ

(١) الحج: (٢٢): ٧٥.

(٢) الأنفال (٨): ٣٣.

(٣) الاحتجاج: ٢ / ٤٧٧ ـ ٤٨٠.

١٣٢

٤ ـ الإمام الجوادعليه‌السلام والتوجّه إلى هموم أبناء الأمة الإسلامية

اهتمّ الإمام الجوادعليه‌السلام بخدمة الناس وبدعوتهم إلى الإسلام المحمدي الأصيل وكسبهم إلى أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن أمثلة ذلك:

١ ـ لمّا انصرف أبو جعفر عليه‌السلام من عند المأمون ببغداد ومعه أم الفضل إلى المدينة، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيّعونه فانتهى إلى دار المسيّب عند مغيب الشمس، فنزل ودخل المسجد، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة وقام وصلّى بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الأولى (الحمد) و (إذا جاء نصر الله) وفي الثانية (الحمد) و (قل هو الله أحد) وقنت قبل الركوع، وجلس بعد التسليم هنيئة يذكر الله تعالى، وقام من غير تعقيب فصلّى النوافل أربع ركعات، وعقّب بعدها، وسجد سجدتي الشكر ثم خرج، فلمّا انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً كثيراً حسناً، فتعجبوا من ذلك، فأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عجم له، ومضى عليه‌السلام إلى المدينة (١) .

لقد قدّم الإمام الجوادعليه‌السلام للناس الدليل على إمامتهعليه‌السلام بالأمور المحسوسة.

علاوة على ذلك فإنّ اهتمام الإمامعليه‌السلام بخدمة الناس يعكس أهميّة هذا الأمر وفضله في الإسلام كما يكشف عن توجّههعليه‌السلام لكسبهم بطريقة عملية وهدايتهم لاختيار منهج أهل البيتعليهم‌السلام ، ونقتصر على بعض الأمثلة في هذا الصدد.

ـــــــــ

(١) إعلام الورى بأعلام الهدى: ٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

١٣٣

٢ ـ روي عن الشيخ أبي بكر بن إسماعيل أنه قال: (قلت لأبي جعفر ابن الرضاعليه‌السلام : إن لي جارية تشتكي من ريح بها، فقال:ائتني بها ، فأتيت بها فقال:ما تشتكين ياجارية ؟ قالت: ريحاً في ركبتي، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب فخرجت الجارية من عنده ولم تشتك وجعاً بعد ذلك)(١) .

٣ ـ وروي عن محمد بن عمير بن واقد الرازي أنه قال: (دخلت على أبي جعفر ابن الرضاعليه‌السلام ومعي أخي به بهر شديد فشكى إليه ذلك البهر(٢) ، فقالعليه‌السلام :عافاك الله ممّا تشكو ، فخرجنا من عنده وقد عوفي فما عاد إليه ذلك البهر إلى أن مات.

٤ ـ قال محمد بن عمير: (وكان يصيبني وجع في خاصرتي في كل أسبوع فيشتد ذلك الوجع بي أيّاماً وسألته أن يدعو لي بزواله عنّي، فقال:وأنت فعافاك الله فما عاد إلى هذه الغاية).(٣)

٥ ـ وروي عن علي بن جرير قال: (كنت عند أبي جعفر ابن الرضاعليه‌السلام جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون: أنتم سرقتم الشاة. فقال أبو جعفرعليه‌السلام :ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم، الشاة في دار فلان ، فاذهبوا فأخرجوها من داره فخرجوا فوجدوها في داره، وأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه، وهو يحلف أنه لم يسرق هذه الشاة، إلى أن صاروا إلى أبي جعفرعليه‌السلام فقال:ويحكم ظلمتم الرجل فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها .

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٤٦ ـ ٤٧.

(٢) البُهرة ـ بالضم ـ : تتابع النفس.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٥٠ / ٤٧.

١٣٤

فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه)(١) .

٦ ـ وروي عن القاسم بن الحسن، أنّه قال: (كنت فيما بين مكة والمدينة فمرّ بي أعرابي ضعيف الحال فسألني شيئاً فرحمته، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه فلمّا مضى عنّي هبّت ريح زوبعة، فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت ولا أين مرّت، فلمّا دخلت المدينة صرت إلى أبي جعفر ابن الرضاعليه‌السلام فقال لي:ياأبا القاسم ذهبت عمامتك في الطريق ؟ قلت: نعم، فقال:ياغلام أخرج إليه عمامته ، فأخرج إليَّ عمامتي بعينها، قلت: يا ابن رسول الله كيف صارت إليك ؟ قال:تصدّقتَ على أعرابي فشكره الله لك، فردّ إليك عمامتك، وإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين (٢) .

إنّ هذه الأعمال تدلّ على الأهمية الكبيرة التي كان يمنحها أهل البيتعليهم‌السلام لخدمة الناس. ولا يخفى على الناظر المتأمل ما تتركه مثل هذه الأعمال من أثر كبير على الناس باعتبار أنّ لغة العمل هي اللغة الأوضح عند الناس الإمام الجوادعليه‌السلام ومتطلّبات الجماعة الصالحة والأشد تأثيراً عليهم كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كلمته المعروفة عنه:(كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم) .

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٥٠ / ٤٧.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٤٧ ـ ٤٨.

١٣٥

الفصل الثاني: الإمام الجوادعليه‌السلام ومتطلّبات الجماعة الصالحة

١ ـ الإمام الجوادعليه‌السلام يعالج ظاهرة التشكيك بإمامته

نهض الإمام الجوادعليه‌السلام بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريمعليه‌السلام حيث أوتي النبوّة في المهد، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الإمامعليه‌السلام استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما أوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة.

إن حالة الصبا التي تزامنت مع اضطلاع الإمامعليه‌السلام بأعباء الخلافة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتصديه لإمامة المسلمين في ذلك الوقت المبكّر دفعت ببعض أتباع أهل البيتعليهم‌السلام إلى التساؤل والتشكيك.

وأما التساؤلات فقد تمّ حسمها بدرجة ما، من خلال الأحاديث والتوجيهات والإشارات التي صدرت عن والده الإمام عليّ الرضاعليه‌السلام وانتشرت بين مقرّبيه ورؤساء القوى الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام في البلدان كمصر والحجاز والعراق وبلاد فارس.

على أنّ الإمام الجوادعليه‌السلام نفسه قد قام بنشاط واسع لتبديد تلك الشكوك التي اُثيرت بشكل أو بآخر بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وهو ما نفهمه من خلال بعض الروايات الواردة بهذا الشأن، ومنها ما يلي:

أ ـ أورد السيد المرتضىرضي‌الله‌عنه فيعيون المعجزات أنّه: لما قبض الرضاعليه‌السلام كان سن أبي جعفرعليه‌السلام نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول، يبكون ويتوجّعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء ! مَن لهذا الأمر وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا ؟ يعني أبا جعفرعليه‌السلام .

فقام إليه الريّان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك إن كان أمره من الله جَلَّ وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة

١٣٦

الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه. فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه.

وكان وقت الموسم، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفرعليه‌السلام ، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادقعليه‌السلام لأنها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله.

فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم.

واضطرب الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفرعليه‌السلام يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدا لله ما كان، من الجواب بغير الواجب.

ففُتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل صلوات الله عليه، وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة، فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال:(لا اله إلا الله ، ياعمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك ؟ !) (١) .

ب ـ وروي أنّه جيئ بأبي جعفرعليه‌السلام إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موت أبيه، وهو طفل، وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق، فقال:(أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه، علم منحنا به قبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل، ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك، لقلت قولاً تعجّب منه الأوّلون والآخرون..) (٢) .

ج ـ وقال إسماعيل بن بزيع: سألته ـ يعني أبا جعفر الثانيعليه‌السلام ـ عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين ؟ فقال:(نعم ، وأقل من خمس سنين) (٣) .

د ـ قال علي بن أسباط: (رأيت أبا جعفرعليه‌السلام وقد خرج عليّ فأخذت

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) بحار الأنوار: ١٠٨.

(٣) حلية الأبرار: ٢ / ٣٩٨، نقلاً عن حياة الإمام محمّد بن علي الجواد عليه‌السلام : ٣٢ ـ ٣٣.

١٣٧

أنظر إليه وجعلت انظر إلى رأسه ورجليه، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال عليه‌السلام : ياعليّ ! إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، فقال: ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّاً ) (١) ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) (٢) ( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (٣) ، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة) (٤) .

إنّ تصدي الإمام الجوادعليه‌السلام لإمامة المسلمين وهو صبي كان معجزة بذاته.

وسنتطرق فيما بعد إلى ما أظهره من المعارف الإلهية، وقد ذكرنا نماذج من تحدّيه لكبار الفقهاء ومنهم قاضي قضاة الدولة العباسيّة مع ما كان عليه من كبر السن، ولاشك أنّ ذلك من مصاديق الصفة الإعجازية في الإمامعليه‌السلام ومن الأدلة التي تجسّد مدى علاقته وتؤكد عمق ارتباطه بالله تعالى وقربه منه وحجم الدعم الغيبي الذي كان يحظى به الإمامعليه‌السلام من عند الله عَزَّ وجَلَّ.

ـــــــــ

(١) مريم (١٩): ١٢.

(٢) القصص (٢٨): ١٤.

(٣) الأحقاف (٤٦): ١٥.

(٤) أصول الكافي: ١ / ٣١٤.

١٣٨

٢ ـ الإمام الجوادعليه‌السلام والبناء الثقافي للجماعة الصالحة

لقد توخى أئمة أهل البيتعليهم‌السلام تحقيق عزة الإسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي تضمن الوصول إلى الهدف المطلوب على أحسن وجه. وكان تحرك الإمام الجوادعليه‌السلام ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير إلى نماذج من تحرك الإمامعليه‌السلام في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد الأمة وطلائعها إعداداً رسالياً. ومن هذه الميادين:

أ ـ تعميق البناء الفكري:

كان اهتمام الإمام الجوادعليه‌السلام في بناء الجانب العقائدي في شخصية الإنسان المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات أساسية تتقوم بها العقيدة ومن ذلك:

الإمام والدعوة إلى التوحيد الخالص:

التوحيد أساس العقيدة الإسلامية، وسلامة تصورات المسلم عن الله تعالى هي الركيزة الجوهرية التي تستند عليها باقي المفردات العقيدية، من هنا كان الإمامعليه‌السلام يُعنى عناية شديدة بإيضاح هذا الأساس وتجليته، وفي المحاضرة التي ألقاها على داود بن القاسم الجعفري دليل على ما قلناه.

فقد قال الجعفري: (قلت لأبي جعفر الثانيعليه‌السلام :( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) ، ما معنى: الأحد ؟

١٣٩

قال:المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (١) ، ثم يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة .

فقلت: قوله:( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٢) .

قال:ياأبا هاشم ! أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند، والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار ؟!

وسئلعليه‌السلام : أيجوز أن يقال لله: إنه شيء ؟ فقال:نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل وحدّ التشبيه (٣) )(٤) .

وعن أبي هاشم الجعفري، قال: (كنت عند أبي جعفر الثانيعليه‌السلام فسأله رجل، فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه ؟ وأسماؤه وصفاته هي هو ؟ فقال أبو جعفرعليه‌السلام : (إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو، أي أنه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك. وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل، فإنّ (لم تزل) محتمل معنيين: فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها، فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره ، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل.

والأسماء والصفات مخلوقات، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ فلا يقال: الله مؤتلف، ولا الله قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته، لأن ما سوى الواحد متجزئ، والله واحد لا متجزئ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ او متوهم بالقلة والكثرة، فهو مخلوق دالّ على خالق له.

ـــــــــ

(١) العنكبوت (٢٩): ٦١.

(٢) الأنعام (٦): ١٠٣.

(٣) حد التعطيل هو عدم إثبات الوجود، والصفات الكمالية والفعلية والإضافية له تعالى، وحد التشبيه الحكم والاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

١٤٠