الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال0%

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 161

  • البداية
  • السابق
  • 161 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53310 / تحميل: 7247
الحجم الحجم الحجم
الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
العربية

الإمام العادل أن يلحق به التالي المفرط المقصّر في الدين ويرجع إليه الغالي المفرّط المتجاوز في طلبه حدَّ الاعتدال، كما يستند إلى النمرقة المتوسطة مَن على جانبيها )(١) .

ويتّضح من كلامه (رحمه الله) أن النمرقة شيء يستند إليه، فإذا كانت وسطاً صح الاستناد إليها من الجانبين.

فهي تحتاج إلى بيان لغوي أصرح كمثل الذي وضّح به الشيخ مُحمّد عبده في شرحه على نهج البلاغة حيث قال: (النُمرقة - بضمٍ فسكون فضم ففتح -: الوسادة، وآل البيت أشبه بها؛ للاستناد إليهم في أمور الدين، كما يستند إلى الوسادة لراحة الظهر، واطمئنان الأعضاء. ووصفها بالوسطى لاتصال سائر النمارق بها، فكأنّ الكُلَّ يعتمد عليها إمّا مُباشرةً أو بواسطة ما بجانبه. وآل البيت على الصراط الوسط العدل، يلحق بهم من قصّر ويرجع إليهم من غلا وتجاوز )(٢) .

وقريب منه في شرح أُصول الكافي حيث يقول: (النُمْرُقة وسادة، وهي بضم النون والراء وبكسرها وبغيرها، وجمعها نمارق، ولعلَّ المراد: كونوا بين الناس كالنمرقة الوسطى بين النمارق في الشرف والحسن؛ لأنَّ النُمْرُقة الوسطى أشرف النمارق وأحسنها ).

ثم قال: (فأمر (عليه السلام)بالوسطى؛ لأنَّ من استقرَّ عليها وتمسّك بها اطمأنّ على الحقّ واستقر دينه على الهُدى وأمن من الضلال والردى، كما أنَّ من اتكأ على النمرقة الوسطى استقر بها ووثق بالراحة مطمئناً آمناً من التعب )(٣) .

____________________

(١) الطريحي، مجمع البحرين، ج٤، ص٣٧٥.

(٢) مُحمّد عبده، شرح نهج البلاغة (في هامش النهج) ج٤، ص٢٦.

(٣) المازندراني، شرح أصول الكافي، ح٨، ص٢٤١.

١٠١

وفي شرح نهج البلاغة: (والمعنى: أنَّ كُلّ فضيلة فإنها مجنّحة بطرفين معدودين من الرذائل... والمراد: أنَّ آل مُحمّد (عليهم السلام)هم الأمر المتوسّط بين الطرفين المذمومين، فكل من جاوزهم فالواجب أن يلحق بهم. ثُمَّ قال:ويجوز أيضاً أن تكون لفظة (الوسطى) يراد بها الفضلى، يقال، هذه هي الطريقة الوسطى، والخليفة الوسطى أي: الفضلى، ومنه قوله تعالى: (قال أوسطهم )أي: أفضلهم. ومنه (جعلناكم أُمّةً وسطاً )(١) .

والحديثان واضحا الدلالة جدّاً، فهما يأمران الناس كافة والشيعة على نحو الخصوص بأن يكونوا كالوسادة الوسطى، والمثال الّذي يقتدى به ويُحذى حذوه.

وقد يقال: إنَّ الأمر في حديث الإمام الباقر (عليه السلام)، موجّه لخصوص الشّيعة، فكيف يمكن الاستدلال به على أن هذا الطلب لعموم المسلمين؟

والجواب:

أوّلاً: إنّ من عقائد الشّيعة - والتي شاركهم فيها الكثير من المنصفين من غيرهم - أنّ اللازم على المسلمين الاقتداء بأهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله)، فلذا الإمام عبّر بهذه الطريقة؛ لأنّه من المعلوم أنَّ غير الشّيعة أو قل غير المنصفين من المسلمين لا يعتبرون أهل البيت (عليهم السلام) قدوة لهم ولا حجة عليهم، فلا معنى لأن يُخاطب الإمام عموم المسلمين، فاكتفى بخطابه للشيعة الّذي يدخل معهم كل من اعتقد بعقيدتهم وسار على نهجهم.

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج١٨، ص٢٧٣.

١٠٢

وثانياً: إنّ هَمَّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو إصلاح المجتمع الإسلامي بكل طوائفه، إلا أنّ هذا المشروع لا يمكن القيام به إلاّ عن طريق الأقرب فالأقرب، فلذا لا يمكن لصاحب العيال أن ينصح الآخرين أن يقتدوا به وعياله على غير الصراط المستقيم، فلابد أوّلاً من وضع الإمام شيعته على النمرقة الوسطى، وهم بدورهم يضعون الناس عليها.

ويُؤيّد هذا المعنى - وهو عموم الأمر بالكون على النمرقة الوسطى لا لخصوص الشيعة - ما رواه الشيخ الطوسي: عن الإمام الصّادق (عليه السلام)، عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام): أنَّ عليّاً (عليه السلام) وفد إليه رجل من أشراف العرب، فقال له عليٌّ (عليه السلام)...: (فهل في بلادك قوم يجترحون السيئات ويكتسبون الحسنات؟ قال: نعم. قال: تلك خيار أمة مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)، تلك النمرقة الوسطى، يرجع إليهم الغالي، وينتهي إليهم المقصّر )(١) .

فيصير شيعة أهل البيت (عليهم السلام) القدوة المعتدلة للحياة الدنيا والآخرة، ولا شكَّ أنَّ من يتقدّمهم عصى أو ظلم، ومن تأخّر عنهم هوى، حيث لا ينفع الندم( وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ، وأما من اقتدى بهم فقد اهتدى وسلم(٢) .

(فالضلال العقائدي الّذي وقع فيه المسلمون كلّه قد جاءهم من الطرق الخاطئة التي تصوّروا أنَّها تحقق التنزيه أو الإثبات، فهم بين جانح في التنزيه متجه نحو التعطيل...، أو جانح في الإثبات يتجه نحو التشبيه، ولا نجاة لهم إلاّ بالتمسك بالثقلين - كما

____________________

(١) الطوسي، الأمالي، ص٦٤٨، ح٨.

(٢) اُنظر: الخليلي، الإمام علي (عليه السلام)، ص٢١٠.

١٠٣

أمرهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله)- فأهل البيت هم المفسّرون الشرعيون للكتاب، وطريقتهم في التنزيه والإثبات هي الوحيدة الصحيحة والحمد لله، وهذا معنى قوله (صلّى الله عليه وآله): نحن الصراط، ونحن النمرقة الوسطى )(١) .

فسيرتهم (عليهم السلام) هي الطريق السليم، والدين القويم، والصراط المستقيم، وهم سبيل المؤمنين، والحنيفيّة السمحاء التي يثبت الشرائع عليها، ونوديت كافة الناس باتّباعها، فهم الذين قاموا بخلوص الفطرة وأسّسوا تعاليمهم عليها، ولم يتأثّروا بأيّةِ عاطفة اعتياديّة أو تعليمات بشريّة وإن قلّ؛ فلذا من غلا في دينه وتجاوز بالإفراط حدود الجادة الإلهية فإنما نجاته بالرجوع إلى سيرتهم والتفيؤ في ظلالهم(٢) .

فأمْرُ الإمام (عليه السلام) للشيعة بالكون على النمرقة الوسطى لأجل أن يكونوا خطّاً بارزاً ومثلاً في الاستقامة والسير على المخطّط الإسلامي؛ ليرجع إليهم كل من فرّط أو أفرط، فيكون المستقيم من اتخّذ الجادّة الوسطى، والطريقة المثلى، وهي لا شكَّ في النُمرقة الوسطى(٣) .

قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله): (وكأنّ التشبيه بالنمرقة باعتبار أنها محل الاعتماد، والتقييد بالوسطى لكونهم واسطة بين الإفراط والتفريط، أو بالتشبيه بالنمرقة الوسطى باعتبار أنها في المجالس صدرٌ ومكان لصاحبه يلحق به ويتوجّه إليه مَن على الجانبين.

وقيل :المراد كونوا أهل النمرقة الوسطى، وقيل: المراد أنَّه كما كانت الوسادة التي

____________________

(١) الكوراني، الانتصار، ج٢، ص٢١٩ - ٢٢٠.

(٢) اُنظر: مركز المصطفى، علي (عليه السلام) إمام الثابتين على الفطرة، ص١١٦.

(٣) الحسني، هاشم معروف، دراسات في الحديث والمحدّثين، ص٣٠٤.

١٠٤

يتوسّد عليها الرجل إذا كانت دقيقة جدّاً أو خفيفة جدّاً لا تصلح للتوسّد بل لابدّ لها من حدٍّ من الارتفاع والانخفاض حتى يصلح لذلك، كذلك أنتم في دينكم وأئمتكم لا تكونوا غالين يتجاوزون بهم عن مرتبتهم التي أقامهم الله عليها أو جعلهم أهلاً لها، وهي الإمامة والوصاية النازلتان عن الألوهيّة والبنوّة، كالنصارى الغالين في المسيح المعتقدين فيه الألوهيّة أو البنوّة للإله، ولا تكونوا أيضاً مقصّرين فيهم تنزلونهم عن مرتبته، بل كونوا كالنمرقة الوسطى وهي المعتضدة للتوسد؛ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي )(١) .

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنَّ الحديث - بمضمونيه - تام الدلالة على أنَّ المراد من عموم المكلفين اتّخاذ الحدّ الأوسط في جميع أمور دينهم ودنياهم؛ لكي يحصلوا على ما أعدّه الله لهم من الثواب الجزيل، والخير الوفير، وأن يتّخذوا غير الاتكاء على النمرقة الوسطى.

____________________

(١) العلاّمة المجلسي، مُحمّد باقر، بحار الأنوار، ج٦٧، ص١٠١.

١٠٥

الدليل الثالث: الاستقراء

ويمكن لنا أن نستدل على أنَّ الشارع سلك مسلك الوسطية في الأحكام والآداب - مضافاً إلى استدلالنا بالكتاب والسُنّة - بدليل الاستقراء، وقبل أن نُبيّن كيفية الاستدلال به ينبغي أوّلاً بيان معنى الاستقراء.

فنقول: عُرّف الاستقراء في كلمات غير واحدٍ من العلماء بأنّه: (الاستدلال بحال الجزئيات على حالٍّ كلّي )(١) .

أو (استنتاج قانون عام من تتبع حالات جزئية كثيرة. ومثال ذلك: أن نلاحظ هذه القطعة من الحديد فنراها تتمدد بالحرارة، ونلاحظ تلك فنراها تتمدد بالحرارة، وهكذا الثالثة والرابعة؛ فنستنتج من تتبع هذه الحالات الجزئية قانوناً عامّاً، وهو أنَّ كُلَّ حديد يتمدّد بالحرارة... وكل حالة بمفردها تُعتبر قرينة إثبات ناقصة: أي أنَّها لا تؤدّي بنا إلى القطع بالقانون العام، ولكن حين نضيف إليها حالةً جُزئيةً أخرى مماثلة يقوى في ظننا أنَّ ظاهرة التمدد بالحرارة عامة، فإذا لاحظنا التمدد في حالة ثالثة مماثلةٍ أيضاً تأكّد ظننا بالتعميم نتيجةً لتجمّع ثلاث قرائن، وهكذا تزداد القرائن كلما ازدادت الحالات التي نستقرؤها، وبالتالي يزداد ظننا بالقانون العام حتى نصل إلى القطع به ونحن نسمي كل دليل يقوم على أساس القرائن الناقصة ويستمد قُوتَه من تجمع تلك القرائن دليلاً استقرائياً )(٢) .

____________________

(١) الأنصاري، علي، الموسوعة الفقهيّة الميسّرة، ج٣، ص٤٧٠.

(٢) الشهيد الصدر، مُحمّد باقر، المعالم الجديدة للأصول، ص١٦١.

١٠٦

وقد تقول: ما هو الفرق - إذن - بين الاستقراء والقياس؟ أليس الأمر فيهما واحداً؟

والجواب:

إنّ حقيقة الاستقراء تختلف تماماً عن القياس، بل الأمر في الاستقراء على عكس القياس؛ إذ الاستقراء هو الاستدلال بالخاص على العام، كما في مثال الحديدة التي تمددت بالحرارة، فاستطعنا أن نحصل على قانون عام عن طريق الجزئيات، أو قل الأمثلة الخاصّة الخارجية، وبالتتبع تشكّل عندنا القانون العام، بينما الأمر في القياس على عكس، ذلك فهو أن نستدل بالعام على الخاص؛ لأنَّ القياس لابدَّ أن يشتمل على مقدّمةٍ كلية، الغرض منها تطبيق حكمها العام على موضوع النتيجة(١) .

والاستقراء على قسمين: الاستقراء التام والاستقراء الناقص، أمّا الاستقراء التام، ففي المثال المتقدم لابدّ أن يتفحّص المستقرئ جميع جزئيات الكُلي، أعني جميع جزئيات الحديد ومصاديقه الخارجية، وبعد أن يتبيّن اشتراكها في أمرٍ واحدٍ وهو التمدّد في المثال يعطي عندئذٍ الحكم العام والقانون الكُليّ.

وأمّا الاستقراء الناقص، فهو أن يتتبعّ المستقرئ بعض أفراد الكُليّ ويُرتّب على الجميع حكماً عامّاً، وأمثلته كثيرة جدّاً، مثل أن يتفحّص الإنسان بعض

____________________

(١) اُنظر: المظفّر، مُحمّد رضا، المنطق، ص٣١٠.

١٠٧

أفراد القبيلة الكذائية، فيراهم زرق العيون ثم يحكم على الجميع بأنّهم كذلك(١) .

وأمّا كيّفيّة الاستدلال بالاستقراء لإثبات سلوك الشارع مسلك الوسطيّة في الأحكام والآداب، فذلك عن طريق تتبع الحالات الكثيرة(٢) ، التي وضعنا أيديَنا عليها فوجدنا أنَّ مسلك الوسط هو المتعيّن فيها إمّا على نحو اللزوم، أو على نحو الأفضلية، وكل حالة من الحالات شكّلت لدينا قرينةَ إثبات ناقصة، لكن بازدياد هذه الحالات وتكثّرها أصبح الاحتمال يزداد، وهكذا إلى أن يزداد ظننا بأنَّ الشارع سلك هذا المسلك حتّى تشكّل لدينا القطع بحصول قانون عام عن طريق تتبع واستقراء الحالات الخارجية التي سلك الشارع فيها مسلك الوسطية.

وحينئذٍ - وبعد القطع نتيجة لاستقراءِ الكثير من الحالات - نتمكّن أنْ نقولَ: إنّنا - وعن طريق الاستقراء - نقطع بأنَّ الشارع المقدّس سلك مسلك الوسطيّة في أحكامه وآدابه.

وقد تقول:

إنّك لم تَتَبعّ كُلَّ الحالات، حالةً بعد حالة حتى تُعطي هذا القانون العامّ؟!

____________________

(١) اُنظر: الأنصاري، علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج٣، ص٤٦٩ - ٤٧٠.

(٢) سنوافيك في الفصل اللاحق ببعض النماذج التطبيقية سلك فيها الشارع مسلك الوسطيّة.

١٠٨

والجواب:

قد ذكرنا - فيما تقدّم - أنَّ الاستقراء على قسمين: التام والناقص. وما سلكناه هو الاستقراء الناقص لكن كل حالة من الحالات تُشكّل - بحسب حساب الاحتمالات - قرينةَ إثباتٍ ناقصةٍ فإذا ازدادت الحالات يزداد الإثبات تبعاً لها، إلى أن يصل إلى درجة من الإثبات يمكننا أن نعطي قانوناً عامّاً لها، فاستدلالنا بالاستقراء الناقص لا التام لاستحالة أو عسر الاستقراء التام في هكذا موارد.

وبهذا قد وصلنا إلى تمام الكلام في هذا الفصل.

١٠٩

١١٠

الفصل الرابع: نماذج تطبيقيّة للوسطيّة

* النموذج الأول: الصلاة

* النموذج الثاني: الإنفاق

* النموذج الثالث: آداب المشي

* النموذج الرابع: المحبة والصداقة

* النموذج الخامس: الأكل والشرب

* النموذج السادس: طلب الدنيا وابتغاء الآخرة

١١١

١١٢

تمهيد:

بقي الكلام في التعرّض لبعض النماذج التطبيقية للوسطيّة على ضوء ما تقدّم ذكره وبيانه في الفصول السابقة، وسوف يرى المطالع أنَّ ما نذكره من نماذج ما هو إلاّ عبارة عن انتخاب عشوائي لأجل طمأنة القارئ الكريم بأنَّ حالة الوسطيّة هي حالة عامّة، ولم تختص بموردٍ دون آخر إلاّ ما خرج بالدليل.

النموذج الأوّل: الصلاة

قال الله تعالى في كتابه الكريم:( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) (١) .

وهذه الآية الشريفة في غاية الصراحة بالنهي عن الجهر بالصلاة وعن المخافتة فيها، وإنّما المطلوب هو السبيل، وهو شيءٌ بين الجهر الشديد والمخافتة كذلك، على ما سيأتي بيانه في الروايات وكلمات الأعلام.

ولو رجعنا إلى الروايات وكلمات الأعلام في كتبهم الحديثة والفقهية

____________________

(١) الإسراء/ ١١٠.

١١٣

لوجدنا هذا المعنى واضحاً.

ففي كتاب من لا يحضره الفقيه روى عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (واجهر بجميع القراءة في المغرب والعشاء الآخرة والغداة من غير أن تجهد نفسك، أو ترفع صوتك شديداً وليكن ذلك وسطاً لأنَّ الله عزّ وجلّ يقول: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) (١) .

فالإمام (عليه السلام) أمر الراوي بالجهر في الصلوات الثلاث: المغرب والعشاء والصبح، ثُمَّ بيّن له - انطلاقاً من الآية الشريفة - أن يتَّخذ في قراءته حدّاً وسطاً بين حدّي الجهر الشديد والاخفات المطبق، ثُمَّ أمره بأن يكون هذا الجهر على نحو الوسط.

وقريب منه ما رواه الطبّرسي عن الإمام الصّادق (عليه السلام) في بيان الآية، قال (عليه السلام): (الجهر بها رفع الصوت شديداً، والمخافتة ما لم تسمع أُذنيَك، واقرأ قراءة وسطاً ما بين ذلك، وابتغ بين ذلك سبيلاً، أي: بين الجهر والمخافتة )(٢) .

وقال المحقّق السبزواري - بعد ذكر الآية -: (إذ ليس المراد - والله تعالى أعلم -: النهي عن حقيقة الإجهار والإخفات؛ إذ لا واسطة بينهما، بل المراد بها النهي عن الجهر العالي والإخفات الشديد، والأخذ بالمتوسّط بينهما وهو شامل للجهر والإخفات بالمعنى الذي هو محل البحث )(٣) .

____________________

(١) الصدوق، مُحمّد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه، ج١، ص٣٠٨.

(٢) الطبرسي، مجمع البيان، ج٦، ص٣٠٤.

(٣) السبزواري، ذخيرة المعاد، ج٢، ص٢٧٤.

١١٤

وقال السيّد الخوئي (رحمه الله): (فالعمدة إذاً الروايات الواردة في المقام التي منها موثّقة سماعة قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ) ، قال:(المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً)، فكأنّه استصعب سماعة فَهْمَ المراد من الآية الشريفة، حيث إنّ الجهر والإخفات من الضدّين الذّين لا ثالث لهما، فكيف نهى سُبحانه عنهما وأمر باتخاذ الوسط بينهما بقوله تعالى: ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) ، فأجاب (عليه السلام):بأنَّ الخفت الممنوع ما كان دون السمع، والجهر كذلك ما تضمّن الصوت الشديد. وما بينهما هو الوسط المأمور به الذي ينقسم أيضاً إلى الجهر والإخفات حسب اختلاف الصلوات كما فصّل في الروايات )(١) .

وفي فتح الباري قال:( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) ،أي: طريقاً وسطاً )(٢) .

ومثله في تحفة الأحوذي بإضافة كلمة بين الجهر والإخفاء(٣) .

فتلخّص من جميع ما تقدّم:

أنّ الشارع المقدّس سلك مسلك الوسطيّة لحال القراءة في الصّلاة دون حدّي الإفراط والتفريط بحسب ما بينته الروايات الشريفة وفهمه علماء المسلمين.

____________________

(١) الخوئي، أبو القاسم علي أكبر، كتاب الصلاة، ج٣، ص١٣١.

(٢) ابن حجر، فتح الباري، ج٨، ص٣٠٧.

(٣) اُنظر: المباركفوري، تحفة الأحوذي، ج٨، ص٤٦٢.

١١٥

النموذج الثاني: الإنفاق

وذلك في آيات منها:

قوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (١) .

والمروي في تفسيره أنّه الوسط، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (وليكن نفقتك على نفسك وعلى عيالك قصداً فإنَّ الله يقول:

( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) والعفو الوسط (٢) .

وفي الكافي عن الإمام الصّادق (عليه السلام) قال في ذيل الآية المذكورة:

(العفو: الوسط )(٣) . ومثله في تفسير العيّاشي(٤) .

ومثل الروايات كلمات الأعلام في فتاواهم وتفاسيرهم للآية المباركة، ففي التذكرة قال: (والعفو الوسط )(٥) ، ومثله في عوائد الأيّام(٦) .

ونسب الجصّاص للحسن وعطاء أنّهما فسّرا العفو بـ (الوسط من غير إسرافٍ )(٧) .

____________________

(١) البقرة/ ٢١٩.

(٢) ابن بابوية، فقه الرضا (عليه السلام)، ص٢٥٥.

(٣) الكليني، الكافي، ج٤، ص٥٢، ح٣.

(٤) اُنظر: العيّاشي، تفسير العيّاشي، ج١، ص١٠٦، ح٣١٤.

(٥) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء، ح٢، ص٤٢٦.

(٦) النراقي، عوائد الأيام، ص٦٣١.

(٧) اُنظر: الجصّاص، أحكام القرآن، ج١، ص٣٨٨.

١١٦

وقريب منه قول ابن العربي(١) .

ومنها: قوله تعالى:( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) (٢) .

والمروي في تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال للإمام أبي عبد الله الصّادق (عليه السلام): (عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوها، قال: وكيف ذلك يا أبه؟ قال: مثل قوله الله :( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ) ،ولا تجهر بصلاتك سيئة، ولا تخافت بها سيئة، ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) حسنة. ومثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) ،فعليك بالحسنة بين السيئتين )(٣) .

والرواية صريحة بأنَّ كُلَّ طرفٍ من الطرفين المذكورين - أعني: غل اليد وبسطها - يُعدّان مثالاً حيّاً للسيئة، وعليه لابدَّ من اجتنابهما واختيار الوسط لأجل تلافي الوقوع في الحسرة والملامة.

قال المازندراني: (السادس في آدابه - أي: آداب المعروف - وهي: اختيار المتوسّط بين الإفراط والتفريط.

قال الله تعالى:( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) (٤) .

وأما تفسير الآية المباركة في كلمات الأعلام، فهو واضح جدّاً.

____________________

(١) اُنظر: ابن العربي، أحكام القرآن، ج١، ص٢١٤.

(٢) الإسراء/ ٢٩.

(٣) اُنظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج٨، ص٣٩٧ - ٣٩٨.

(٤) المازندراني، شرح أصول الكافي، ج١، ص٢٦٥.

١١٧

قال الرازي في تفسيره: (اعلم أنَّه تعالى لمّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدّمة علّمه في هذه الآية أدب الإنفاق، واعلم أنّه تعالى شرح وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان، فقال: ( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) ،فهاهُنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ ) أي: لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيّق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم، وسبيل الخيرات. والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ( وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) أي: ولا تتوسّع في الإنفاق توسّعاً مفّرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء.

وحاصل الكلام: أن الحكماء ذكروا في كتب (الأخلاق) أنَّ لكُلِّ خلقٍ طرفي إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط، كما قال تعالى: ( وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وسطاً ) )(١) .

وفي تفسير الآلوسي - بعد ذكره للآية المباركة - قال: (تمثيلان لمنع الشّحيح وإسراف المبذّر زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد والتوسّط بين الإفراط والتفريط، وذلك هو الجود الممدوح، فخير الأمور أوسطها )(٢) .

فاتّضح من خلال ما تقدّم أنَّ آداب الإنفاق وتوازنه هو الحسنة بين السيئتين، المشار إليه في الروايات الشريفة، وكل طرف من الطرفين يُعدُّ سيئة وفاقداً لتوازن الإنفاق الشرعي وآدابه.

____________________

(١) الفخر الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج٢، ص١١٤.

(٢) الآلوسي، روح المعاني، ج١٥، ص٦٥.

١١٨

قال في شرح رسالة الحقوق - بعد ذكره للآية الشريفة -: (فإنَّ التوازن هو القاعدة الكبرى في المنهج الإسلامي، والغلو - كالتفريط - يخل بالتوازن، والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير، فيرسم البخل يداً مغلولة إلى العنق، ويرسم الإسراف يداً مبسوطة كُلَّ البسط لا تملك شيئاً، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور.

والحسير في اللغة، الدّابة تعجز فتقف ضعفاً وعجزاً، فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير، ملوماً في الحالتين، على البخل وعلى السرف وخير الأمور الوسط .

وبتعبير أبسط وأوضح ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ ) أي: لا تجعل يدك في انقباضها وبخلها بالإنفاق كاليد المغلولة الممنوعة من الانبساط. ( وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) أي: ولا تتوسّع في الإنفاق توسعاً مفرطاً حتّى لا يبقى بيدك شيء. وقد بيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عاقبة الإفراط والتفريّط المذمومين بقوله: ( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) : تصير معنّفاً مُوبّخاً عند الله وعند الناس وعند نفسك بسبب البخل، نادماً على الإسراف ومنقطعاً من الخير بسبب الفقر )(١) .

ومنها: قوله تعالى:( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) (٢) .

والآية صريحة باختيار الإنفاق المتوسّط بين الإسراف والإقتار، والذي

____________________

(١) القبانچي، حسن، شرح رسالة الحقوق، ص١٨٩ - ١٩٠.

(٢) الفرقان/ ٦٧.

١١٩

عبّرت عنه بـ (القوام).

قال المقدّس الأردبيلي: (وكان بين ذلك قواما) أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار، لا إسرافاً فيدخلون في المبذر، ولا تضيّقاً فيصيرون به في المانع لما يجب، وهذا هو المحدود، والقوام من العيش: ما أقامك وأغناك ) -وقال أبو عبد الله (عليه السلام): (القوام هو الوسط )(١) .

وقال صدر المتألّهين في الأسفار: (حسن الخلق في جميع أنواعها الأربعة وفروعها، هو التوسّط بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، فخير الأمور أوسطها .

(وكلا طرفي قصد الأمور ذميمٌ )

ومهما انحرف بعض هذه الأمور عن الاستقامة إلى أحد الجانبين: فبعدُ لم تتم مكارم الأخلاق )(٢) .

وفي سُبُل السلام: (فخيار الأمور أوسطها )(٣) .

وفي تفسير الرازي قال: (إنَّ الله وصفهم بالقصد الّذي هو بين الغلو والتقصير )(٤) .

وفي تفسير البيضاوي قال: (وسطاً عدلاً سُمّي به لاستقامة الطرفين )(٥) .

____________________

(١) الأردبيلي، زبدة البيان، ص ٤١٠.

(٢) صدر المتألهين، الحكمة المتعالية، ج٥، ص٩١.

(٣) الكحلائي، سبل السلام، ج٤، ص١٨٥.

(٤) الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج٢٤، ص١٠٩.

(٥) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج٤، ص٢٢٨.

١٢٠