الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال0%

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 161

  • البداية
  • السابق
  • 161 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53260 / تحميل: 7240
الحجم الحجم الحجم
الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
العربية

وقال ابن منظور: (وسَط الشيء ما بين طرفيه. قال:

إذا رحلتُ فاجعلوني وسَطا

إنِّي كبيرٌ، لا أُطيق العندا

أي: اجعلوني وسَطاً لكم؛ ترفقون بي، وتحفظوني، فإنّي أخاف إذا كنت وحدي متقدماً لكم، أو متأخّراً عنكم أن تفرط دابتي أو ناقتي .

فإذا سُكّنت السّين من (وسْط) صار ظرفاً، وقول الفرزدق :

أتته بمجلومٍ كأنَّ جبينَه

صلاءةُ ورسٍ وسْطها قد تفلّقاً

وقول الهذلي :

ضَربٌ لهاماتِ الرّجال بسيفهِ

إذا عُجمت وسْط الشؤون شفارها)(١) .

إلى أن نقل كلاماً عن الجوهري قال فيه: (وكل موضعٍ صلح فيه (بين) فهو وسْط، وإن لم يصلح فيه(بين) فهو وسَط - بالتحريك - وقال: وربما سكن، وليس بالوجه، كقول أعصر بن سعد بن قيس عيلان:

وقالوا يالَ أشجع يوم هيجٍ

ووسْطَ الدار ضرباً واحتمايا

قال الشيخ أبو محمد بن بري (رحمه الله): هنا شَرْحٌ مفيد، قال: اعلم أنَّ الوسَط - بالتحريك - اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضتُ وسَط الحبلِ، وكسرتُ وسَط الرمح، وجليت وسَط الدار، ومنه المثل: يرتعي وسَطا .

____________________

(١) أبن منظور، لسان العرب، ج٧، ص٤٢٦.

٢١

ويربض حجرة، أي: يرتعي أوسط المرعى، وخيارُه ما دام القوم في خيرٍ، فإذا أصابهم شرّ اعتزلهم وربض حجرة أي: ناحية منعزلاً عنهم. وجاء الوسط - محرّكاً أوسطه - على وزان تقتضيه في المعنى وهو الطرف...، ثم قال: فبما كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفةً، وذلك في مثل قوله تعالى وتقدّس :( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً ) : عدلاً.

فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنّه اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه... وأما الوسْط - بسكون السين - فهو ظرف لا اسم جاء على وزان نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلستُ وسْط القوم، أي: بينهم )(١) .

أقول: لا يخفى أنَّ المؤدّى واحدٌ سواءً قلنا وسَط محركّة أم وسط ساكنة؛ لأنَّ الثاني وإن كان ظرفاً يأتي بمعنى (بين) لكن المعنى هو التوسّط بين شيءٍ وآخر كما تقدّمت الإشارة إليه عند ذكرنا لكلام صاحب الفروق اللغوية فلاحظ، ونحن هنا في كلامنا عن الوسطيّة نريد هذا المعنى، أعني: التوسّط وإن كان الوسَط بالتحريك هو الأنسب والأقرب لبحثنا؛ لدخوله في معظم الأبحاث الآتية، دون الوسْط بالسكون وسوف يتّضح ذلك جليّاً عند حديثنا عن وسطية الأحكام والآداب، وأَنّ المقصود في الغالب المعنى الاسمي الوسَط لا الظرفي الوسْط.

والخلاصة:

ما يهمنا هنا هو الحديث عن الوسط محرّكة وقد نتناول الوسْط الساكنة

____________________

(١) ابن منظور، لسان العرب، ج ٧، ص ٤٢٧ - ٤٢٨.

٢٢

إذا استلزم التمثيل ببعض ما يتوقف عليه في فصل النماذج التطبيقيّة.

ومن الملفت لنظر المطالع أنّه يجد هناك معانٍ متقاربة للوسط بالتحريك استعملت في بعض المعاجم اللغوية مثل: القدْر، والقصد، والسواء، وعدم الإفراط والتفريط، والمقتدر، والمنصف، والعدل، والعفو، وعدم الشطط، وعدم الضرر والإضرار، وغير ذلك.

قال في لسان العرب: (والقدر: الوسَط من الرّحال والسروج ونحوها، تقول: هذا سرجٌ قدر )(١) .

وقال ابن الأثير - في تفسير حديث (القصد القصد تبلغوا ): (أي: عليكم بالقصد في القول والفعل وهو الوسَط من الطرفين )(٢) .

ومثله في لسان العرب(٣) - في موضع آخر - وتاج العروس(٤) .

وقال الخليل: (الجور ترك القصد في السير )(٥) .

ولو ضممنا كلام الخليل إلى كلام من تقدّمه يتضح أنَّ الجور ضد القصد، وترك، له. ومعنى هذا أنَّ الجور هو ترك الوسَط؛ لأن القصد جاء بمعنى الوسَط كما تقدم آنفاً.

____________________

(١) ابن منظور، لسان العرب، ج ٥، ص ٧٩.

(٢) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج ٤، ص ٦٧.

(٣) ابن منظور، لسان العرب، ج ٣، ص ٣٥٣.

(٤) الزبيدي، تاج العروس، ج ٢، ص ٤٦٧.

(٥) الفراهيدي، العين، ج ٦، ص ١٧٦.

٢٣

وقريب منه في الصّحاح، حيث قال: الجور: الميل من القصد(١) .

وقال أيضاً - في موضع آخر - السرف: ضد القصد(٢) .

ومعنى هذا أنَّ السرف ضد القصد الذي هو معنى الوسَط، فيكون معنى هذا أنَّ السرف حالة خارجة عن الوسَط.

ووردت أيضاً كلمة المقتدر تعبيراً عن معنى الوسَط.

قال في كتاب العين: (المقتدر (الوسَط) الموائم المقارب: وهو الوسَط مِنَ الأمرين، والموائم: الموافق )(٣) .

وقال ابن منظور: (وكل شيء مقتدر فهو الوسَط، والمقتدر الوسَط من كل شيء، ورجلٌ مقتدر الخلق، أي: وسَط ليس بالطويل والقصير، كذلك الوعل والظبي، ونحوها )(٤) .

وفي القاموس المحيط: (الوسَط (محرَكَة) من كل شيءٍ أعدله )(٥) .

فجاءت بمعنى العدل والأعدل.

وفي العين: (مجاوزة القدر في كلِّ شيءٍ، يقال: أعطيته ثمناً لا وكساً ولا

____________________

(١) الجوهري، الصحاح، ج ٢، ص ٦١٧.

(٢) المصدر نفسه، ج ٤، ص ١٣٧٣.

(٣) الفراهيدي، العين، ج ٨، ص ٤٢٥.

(٤) ابن منظور، لسان العرب، ج ٥، ص ٧٩.

(٥) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج ٢، ص ١١٤.

٢٤

شططاً )(١) .

وفي غريب الحديث: (الشطط: مجاوزة القدر، وأشطَّ إشطاطاً إذا أجار في قضائه، قال الله تعالى: ( فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ ) (٢) .

وإذا لاحظنا هذه الكلمات لهؤلاء الأعلام يتّضح لنا المقصود، فإذا كان الشطط مجاوزة القدر، والقدر بمعنى الوسَط، يعني أنَّ الشطط ضد الوسَط.

وفي النهاية: (حتّى إذا كان بالمنصف)، قال: (أي الموضع الوسَط بين الموضعين )(٣) .

وقريب منه ما في لسان العرب مفسّراً الحديث الذي ذكره في النهاية قائلاً بعده: (ومنتصف الليل والنهار وسَطه )(٤) .

و قال في مجمع البحرين: (العفو: هو الوسط )(٥) .

وقال ابن السكيّت (رحمه الله): (السرف: ضد القصد )(٦) ، ومثله في الصحاح(٧) ،

____________________

(١) الفراهيدي، العين، ج ٦، ص ٢١٢.

(٢) الحربي، غريب الحديث، ج ٣، ص ١١٥٦.

(٣) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج ٥، ص ٦٦.

(٤) ابن منظور، لسان العرب، ج ٩، ص ٣٣١.

(٥) الطريحي، مجمع البحرين، ج ٣، ص ٢١٠.

(٦) ابن السكيت، ترتيب اصطلاح المنطق، ص ١٩٦.

(٧) الجوهري، الصحاح، ج ٤، ص ١٣٧٣.

٢٥

والقاموس(١) ، ومجمع البحرين(٢) .

وقال فخر الدين الطريحي (رحمه الله): (القصد في السّير كالقصد في غيره، وهو ما بين الحالتين، والقصد في الأمور ما بين الإفراط والتفريط، ومنه الدعاء (أسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغنا ).

وفي وصفه (صلّى الله عليه وآله): (كان أبيضَ مقصداً، وفسّر بالذي ليس بطويل ولا قصير، غير مائل إلى حدِّ الإفراط والتفريط، والاقتصاد في المعيشة: هو التوسط بين التبذير والتقتير )(٣) .

ثانياً: الوسطيّة اصطلاحاً

ثُمَّ إنّه قد جاءت الوسطيّة في الاصطلاح بنفس المعنى الذي جاءت به في اللغة، ومن هنا ترى أنَّ أصحاب المعاجم اللغوية يذكرون الوسط لغةً، ثم يُمثّلون له بالأمثلة الشرعيّة تارةً، والعرفية و العادية تارةً أخرى، ممّا يكشف عن أنَّ المعنى اللغوي والاصطلاحي للوسط واحد، وليس هذا بعزيز، فدونك كتب اللغة تجد ذلك جليّاً، وإن لم يكن كثيراً.

قال في النهاية - في حديث معاد -: (واتقَّ كرائم أموالهم، أي: تجنبها لا تأخذها في الصدقة؛ لأنها تكرم على أصحابها وتعزّ، فخذ الوسط، لا العالي ولا

____________________

(١) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج ٣، ص ١٥١.

(٢) الطريحي، مجمع البحرين، ج ٢، ص ٣٦٥.

(٣) الطريحي، مجمع البحرين، ج ٣، ص ٥٠٨-٥٠٩.

٢٦

النازل )(١) .

وفي لسان العرب قال: (وانطوا الثبجة، أي: أعطوا الوسَط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذائله )(٢) .

وقال أيضاً - مفسّراً قوله تعالى:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى‏ حَرْفٍ... ) أي: على شكٍ، فهو على طرفٍ من دينه، غير متوسّطٍ فيه، ولا متمكّن، فلمّا كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفةً، وذلك في قوله تعالى وتقدسّ: ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً ) أي: عدلاً، فهذا تعبير الوسط وحقيقة معناه )(٣) .

وقال ابن الأثير: (... ومنه الحديث: وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه. إنّما قال ذلك؛ لأن من أخلاقه وآدابه التي أمر بها القصد في الأمور )(٤) .

وفي مجمع البحرين عند ذكره لقوله تعالى:( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) : (بالكسر أي: أعدل، ولا تتجبّر فيه، ولا تدب دبيباً من القصد، وهو مشي الاعتدال.

ثم قال: (القصد يستعمل فيما بين الإسراف والتقتير، وفيه القصد من الكافور أربعة مثاقيل، قيل: أراد الوسط في ذلك )(٥) .

____________________

(١) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج ٥، ص ٢١٧.

(٢) ابن منظور، لسان العرب، ج ٢، ص ٢٢٠.

(٣) ابن منظور، لسان العرب، ج ٧، ص ٤٢٨.

(٤) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج ٣، ص ٣٨٢.

(٥) الطريحي، مجمع البحرين، ج ٣، ص ٥٠٨ - ٥٠٩.

٢٧

ضابطة الوسطيّة:

وأمّا الضابطة في الوسطيّة، فهي انتخاب الحد الذي يكون بين حدّي الإفراط والتفريط، من دون ميلٍ إلى جانبٍ منها، وهذا هو الأصل في المقام في العقائد والأحكام والآداب إلا إذا دلَّ دليل على عكس هذا، وأنَّ الحد الأعلى - مثلاً - في الحكم الكذائي هو الأفضل والأحسن من انتخاب الوسط، فحينئذٍ نحن والدليل، وهكذا لو دلَّ الدليل على العكس تماماً وأنَّ الحد الأدنى هو الأفضل فالأمر كذلك.

والحاصل: أنَّ الضابطة في الوسطيّة هي انتخاب الحد الوسط، المعتدل بين حدَّي الإفراط والتفريط.

ومن هنا روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لولده الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوها، قال: وكيف ذلك يا أبه؟

قال: مثل قول الله: ( ... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا... ) ، ولا تجهر بصلاتِك سيئة، ولا تخافت بها سيئة، (وابتغِ بين ذلك سبيلاً )حسنة، ومثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) ،ومثل قوله: ( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) ، فأسرفوا سيئة وأقتروا سيئة، (وكان بين ذلك قواماً )حسنة، فعليك بالحسنة بين السيئتين )(١) .

وبالتدبّر في الرواية نجد أنَّ الإمام (عليه السلام) في صدد إعطاء كبرى كلية عبَّر

____________________

(١) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج ٨، ص ٣٩٧- ٣٩٨، ح٧.

٢٨

عنها بالحسنة المتوسّطة بين السيئتين، ثم ذكر لها بعض التطبيقات.

وفي شرح أُصول الكافي قال: (التوسّط بين الطرفين في الأقوال والأفعال والعقائد، كالتوسّط في المشي بين الدبيب والإسراع، قال الله تعالى :( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ... ) والتوسّط في الإنفاق بين التبذير والتقتير، قال الله تعالى :( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) والتوسّط في العبادة، بحيث لا يلحق البدن مشقّة شديدة ينفر الطبع عنها ولا يتركها. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا عليُ إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفقٍ، ولا تُبغض نفسك عبادة ربِّك؛ فإنَّ المنبت (يعني المفرط) لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل مَن يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يخاف أن يموت غداً .

والتوسط في جميع الأخلاق بين الإفراط والتفريط، والتوسّط في معرفته تعالى بين التعطيل والتشبيه، والتوسّط في الكسب بين الكسالة والجد المانع من الراحة البدنية، والحقوق الدينية .

وبالجملة: التوسّط في جميع الأمور إلاّ الذنوب مطلوب وممدوح، والعدوان بمعنى التجاوز من الأوساط إلى طرف التفريط والإفراط، كما هو شأن الجاهل (الهارب) عن الصراط المستقيم مذموم )(١) انتهى كلامه.

وبالتدبر في كلامه (قدس سرّه) نجد أنّه يذكر الكبرى التي أشرنا إليها آنفاً، ولم يستثنِ من ذلك إلاّ الذنوب. فالتوسّط هو المطلوب دائماً وأبداً سواء كان ذلك في العقائد أو الأحكام أو الآداب كما سيجيءُ تفصيله في بحثٍ لاحق إنْ شاء الله تعالى.

____________________

(١) المازندراني، شرح أصول الكافي، ج ١، ص ٢٧١.

٢٩

فاتضح من جميع ما تقدّم أنَّ الكون في نقطة الاعتدال بين الحدين وسطيّة مرغوب بها فيما عدا السيئة والشّر والباطل، فإنَّ المرغوب فيها هو الابتعاد عنها، والكون في طرفٍ مقابلٍ بها.

البحث الثاني: في تعريف الحكم

أوّلاً: الحكم لغةً

قال في معجم مقاييس اللغة:(حُكم) الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع مِنَ الظلم، وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها، يُقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمتُ السفينة، وأحكمته: إذا أخذتَ على يديه )(١) .

وقد جاءت لفظة حكيم وحكم في القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ قال تعالى:( إِنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ:( ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٣) ، وقال:( فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٤) وهما - حكم وحكيم - بمعنى واحد وهو الحاكم.

قال ابن الأثير: ((حكم) في أسماء الله تعالى: (الحكم والحكيم) هُما بمعنى الحاكم وهو القاضي، والحكيم فعيل بمعنى: فاعل، أو هو الذي يُحكم الأشياء ويُتقنها، فهو فعيل...، والحكمة: عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن

____________________

(١) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج ٢، ص ٩١.

(٢) غافر/٤٨.

(٣) الممتحنة/ ١٠.

(٤) البقرة/٢٠٩.

٣٠

يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم )(١) .

وقد يأتي الحكم بمعنى القضاء ويستعمل في نفس ما يستعمل فيه القضاء كقوله تعالى:( وَقَضَى‏ رَبّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) (٢) حيث فسّرت بحكَمَ ربُّكَ(٣) .

قال الجوهري: (وقضى، أي: حكم، ومنه قوله تعالى :( وَقَضَى‏ رَبّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ) (٤) .

وقد يُفرّق بينهما (بأنَّ القضاء يقتضي فصل الأمر على التمام، من قولك: قضاه إذا أتمه وقطع عمله، ومنه قوله تعالى: ( ثُمّ قَضَى‏ أَجَلٌ ) أي: فصل الحكم به ( قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) أي: فصلّنا الأعلام به. وقال تعالى: ( قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) أي: فصلّنا أمر موتهِ ( فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) أي: فصل الأمر به، والحكم يقتضي المنع عن الخصومة من قولك: أحكمته، إذا منعته ).

هذا ما فرق به صاحب الفروق اللغوية، ثم قال: (ويستعمل الحكم في مواضع لا يستعمل فيها القضاء، كقولك: حُكمُ هذا كحُكمِ هذا، أي: هما متماثلان في السبب أو العلّة أو نحو ذلك، وأحكام الأشياء تنقسم قسمين: حكم يرد إلى أصلٍ، وحكم لا

____________________

(١) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج ١، ص ٤١٨- ٤١٩.

(٢) الإسراء/٢٣.

(٣) الشريف الرضي، حقائق التأويل، ص ٥٩.

(٤) الجوهري، الصحاح، ج ٦، ص ٢٤٦٣.

٣١

يرّد إلى أصلٍ؛ لأنَّه أوَّلٌ في بابه )(١) .

إذن هذا هو المعنى اللغوي للحكم.

ثانيا: الحكم اصطلاحاً

وأمَّا الحُكم اصطلاحاً، فهو التشريع الإلهي، فعندما يقال: الحكم في المسألة الكذائية الجواز، أو كذا، معناه: أنّه عزَّ وجلَّ شرّع هذا الحكم في هذا الموضع.

قال فخرُ المحقّقين (رحمه الله): (الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلّق بأفعال المكلّفين )(٢) .

وفي هداية المسترشدين: (الحكم الشرعي هو الحكم الثابت من الشرع للأفعال من غير مُلاحظةٍ لخصوصية الموضوعات، وأمّا التمييز بينها وإثبات الأحكام الخاصّة لها حسب ما يستكشف في، القضاء فما لا ينصرف إليه الإطلاق )(٣) .

يعني الحكم ينصب على الموضوع بملاحظة الفعل المتعلق به لا ملاحظة الموضوع بما هو وبمعزل عن الفعل كما هو واضحٌ.

ولا يخفى أن تعريف الحكم في الاصطلاح الشرعي يختلف باختلاف نظر العلماء والمحققين، فمنهم من ذهب إلى تخصيصه بالحكم التكليفي

____________________

(١) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص ٤٣١ - ٤٣٢.

(٢) فخر المحققين، إيضاح الفوائد، ج ١، ص ٨.

(٣) محمّد تقي الأصفهاني، هداية المسترشدين، ج ٣، ص ٦٢٢.

٣٢

دون الوضعي، فعرّفه البعض من المحقّقين ممن يرى اختصاصه بالحكم التكليفي:أنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتنجيز . والبعض الآخر ممن يرى شموله للوضعي كشموله للتكليفي عرّفه بما يعمّ الأمرين معاً، فقال:(الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلفين، من حيث الاقتضاء، والتنجيز، والصحة، والفساد) (١) .

فبإضافة قيد الصحة والفساد شمل التعريف الحكم الوضعي. وينقسم الحكم الشرعي - مضافاً إلى انقسامه للتكليفي والوضعي - إلى ظاهري وواقعي، والأوّل ما أخذ في موضوعه الشك في حكم شرعيٍّ سابق، والواقعي بخلافه. وينقسم إلى أقسام أخرى، بلحاظات أخرى، يكون الحديث عنها مخرجٌ لنا عن دائرة بحثنا؛ لأنَّ الحُكم الشرعي الذي يهمنا في بحثنا هذا هو الحكم الشرعي التكليفي، فلا بدَّ من تعريفه أوّلاً، ثُمَّ بيان أقسامه وما يرتبط بها ثانياً.

فنقول: الحكم الشرعي التكليفي هو: (الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير )(٢) ، أوهو التشريع الصادر من الله والمتعلق بأفعال الإنسان والموجّه لسلوكه مباشرةً في مختلف جوانب حياته الشخصيّة والعباديّة والعائليّة والاجتماعيّة التي عالجتها الشريعة ونظّمتها جميعاً، كحرمةِ شرب الخُمر ووجوب الصلاة ووجوب

____________________

(١) السبزواري، وسيلة الوصول إلى حقائق علم الأصول، ص ٧٤٠.

(٢) السيد الخوئي، مصباح الأصول، ج ٣، ص ٧٨.

٣٣

الإنفاق على بعض الأقارب، وإباحة إحياء الأرض، ووجوب العدل على الحاكم (١) .

وأما أقسامه، فهي خمسة أقسام، وهي كما يلي:

(١- الوجوب: وهو حُكم شرعي يبعث نحو الشيء الّذي تعلّق به بدرجة الإلزام، نحو وجوب الصلاة، ووجوب إعالة المعوزين على وليِّ الأمر.

٢ - الاستحباب: وهو حُكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة دون الإلزام، ولهذا توجد إلى جنبه دائماً رخصة من الشارع في مخالفة، كاستحباب صلاة اللّيل .

٣- الحرمة: وهي حكمٌ شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجة الإلزام، نحو حرمة الرّبا وحرمة الزنا وبيع الأسلحة من أعداء الإسلام .

٤- الكراهة: وهي حُكمٌ شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون الإلزام، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث، كما أنَّ الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث، ومثال المكروه خلف الوعد .

٥- الإباحة: وهي أن يفسح الشارع المجال للمكلّف لكي يختار الموقف الذي يريدهُ، ونتيجة ذلك أن يتمتّع المكلّف بالحرّية، فله أن يفعل وله أن يترك )(٢) .

____________________

(١) الشهيد الصدر، دروس في علم الأصول، ج ١، ص ٥٣.

(٢) الشهيد الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص ١٠٠.

٣٤

البحث الثالث: تعريف الأدب لُغةً واصطلاحاً

وأما الأدب في اللغة، فقد قال عنه ابن منظور: (الأدب، الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمَّي أدباً لأنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم من المقابح، وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للصنيع يدعى إليه الناس: مُدعاة ومأدبة...، وقال أبو زيد: أَدِبَ الرجل يأدب أدباً فهو أديب...، ثم قال:الأدب: أدب النفس والدرس والأدب الظرف وحسن التناول، وأُدِبَ - بالضم - فهو أديب من قومٍ أدباء وأُدبه فتأدب...، وفلان قد استأدب: بمعنى تأدّب، ويُقال للبعير إذا رُيّض وذللّ: أديب مؤدَّب )(١) .

ومثله في الصحاح(٢) والعين(٣) .

فعلى هذا يكون الأدب بمعناه اللغوي قريباً من المعنى الاصطلاحي، وقد يتحدّ مع الحكم الشرعي التكليفي كما لو كان الأدب في مسألةٍ معيّنة جاء بمعنى الاستحباب أو الكراهة، فيقال مثلاً: آداب الوضوء: الاستنشاق، والمضمضة. وآداب التخلي: عدم استقبال قرص الشمس حال التخلي، وهكذا... ويقصدون بذلك الاستحباب في الأوَّل والكراهة في الثاني. وأحياناً يكون الأدب قد جاء بمعنى العادات والأعراف الشرعية أو العادية، مثل آداب الكتابة والكاتب وغيرها.

____________________

(١) ابن منظور، لسان العرب، ج ١، ص ٢٠٦.

(٢) الجوهري، الصحاح، ج ١، ص ٨٦.

(٣) الفراهيدي، العين، ج ٨، ص ٨٥.

٣٥

قال في مجمع البحرين: (الأدب خمس الأخلاق، وقد جَمعتْ الأحاديث الفرض والسنة والأدب وظاهر العطف المغايرة )(١) .

والحاصل: أنَّ كلمات الأعلام ظاهرة في أن المعنى اللغوي للأدب والآداب إمّا أنَّه يختلف عن المعنى الاصطلاحي، أو هو قريبٌ منه كما لو فسّرناه بالمدعاة كما تقدّم في لسان العرب.

____________________

(١) الطريحي، مجمع البحرين، ج ١، ص ٥٢.

٣٦

الفصل الثاني: العلاقة بين الوسطيّة وكون الشريعة سهلة سمحاء

٣٧

٣٨

تمهيد:

العلاقة بين الوسط والعدل، والوسطية والإنصاف، والقسط وعدم الضرر والإضرار، وعدم الإفراط والتفريط - كما تقدمت الإشارة إلى تلك المعاني وترادفها - من جهةٍ، وكون الشريعة الإسلامية سهلة سمحاء من جهةٍ أخرى وثيقةٌ للغاية، حتّى أنَّه أصبح من الوضوح بمكان التعبير عن إنَّ العدل هو روح الإسلام وأساسه وميزانه الذي توزن الأعمال به، من دون الأخذ بجهةِ الإفراط والتفريط، قال صاحب كتاب النظام السياسي في الإسلام:

(إنَّ العدل روح الإسلام وجوهره، حتّى قيل بترادف اللفظين، وقد اتصلت بقاعدة العدل كثيرٌ مِنَ القواعد العامّة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي، كقاعدة نفي الضرر، وقاعدة نفي العسر والحرج. وقد استنبط الفقهاء منها كثيراً من الفروع الفقهيّة التي لم يرد فيها نصٌ من الشارع.

إنَّ السياسة الإسلاميّة بجميع مفاهيمها وألوانها قد تبنّت العدل في جميع مجالاته، وآمنت به إيماناً مطلقاً، فركّزت جميع أهدافها على أضوائه، ولا نحسب أنَّ هناك أيّ نظام دولي قد اعتنى بالعدل كما اعتنى به الإسلام، فقد اعتنى به في جميع أنظمته :

٣٩

السياسيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة )(١) .

إذن العلاقة وطيدة للغاية، ومترابطة إلى حد النهاية، وهذهِ من نِعَم الله تبارك وتعالى على هذهِ الأمّة الإسلامية، ببركة شخص النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الذي بعثه الله عزّ وجلّ رحمةً للعالمين( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (٢) ، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنَّ الله لم يبعثني بالرهبانية، وإنَّ خير الدين عند الله الحنفيّة السمحة )(٣) .

____________________

(١) القرشي، النظام السياسي في الإسلام، ص ٧٢.

(٢) الأنبياء/ ١٠٧.

(٣) المتقي الهنديّ، كنز العمال، ج ٣، ص ٤٧، ح ٥٤٢٢.

٤٠