الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال0%

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 161

  • البداية
  • السابق
  • 161 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53751 / تحميل: 7405
الحجم الحجم الحجم
الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

الإسلام دين الوسطيّة والاعتدال

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الرافد للمطبوعات
العربية

ولسان العرب(١) .

فعلى هذا لا يكون هناك فرق بين هذه الآية:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) وبين قوله تعالى:( قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ) (٢) ؛ لأنّهما بمعنى واحد، فإذا تمَّ الاستدلال بها، معناه تمَّ الاستدلال بالأخرى، ويأتي الحديث عنه في آخر هذا البحث.

هذا، إلاّ أنّ صاحب كتاب الفروق اللغويّة فرَّقَ بين العدل والقسط بما لا يرجع إلى محصّل في تأثيره على الاستدلال، حيث يقول: الفرق بين القسط والعدل: (إنّ القسط هو العدل البيّن الظاهر، ومنه سُمّي المكيال قسطاً والميزان قسطاً؛ لأنه يصوّر لك العدل في الوزن، حتى تراه ظاهراً، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قلنا: إنّ القسط هو النصيب )(٣) .

وكيف ما كان، فالعدل مفهوم واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما ذكرنا آنفاً.

وأمّا كلمات علماء التفسير - وهو المهم في المقام - فقد ذكروا أنّ العدل هو الإنصاف، كما عن غير واحد منهم، وإليك بعضها:

قال في مجمع البيان:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) وهو الإنصاف بين الخلق والتعامل بالاعتدال الذي ليس فيه ميل ولا عوج )(٤) .

____________________

(١) ابن منظور، لسان العرب، ج٧، ص٣٧٧.

(٢) الأعراف/ ٢٩.

(٣) أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، ص٤٢٨.

(٤) الطبرسي، مجمع البيان، ج٦، ص١٤٠.

٨١

وقال الجصّاص: (العدل هو الإنصاف، وهو واجب في نظر العقول قبل ورود السمع، وإنما ورد السمع بتأكيد وجوبه )(١) .

ومثلهما البغوي(٢) وابن العربي(٣) في تفسريهما.

وأوضح من الجميع ما ذكره في زبدة البيان، حيث يقول:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) وهو الإنصاف والتوسط في جميع الاعتقادات والأفعال والأقوال، وعدم التفريط والإفراط والميل إلى أحد الجانبين فلا يكون اعتقاده في حق الله ناقصاً ولا فرق في ما لا يجوز، بأن يعتقد الشركة والإفراط. والاتصاف بالصفات الناقصة واتصاف النبي بالألوهيّة، وكذا في الإمامة، وكذا في العبادات لا يجعلها ناقصة عن الوظيفة ولا يخترع فيها فوق ما عيّنه الشارع.

وبالجملة: لا يخرج من الشرع الشريف )(٤) .

وبالتدبّر في كلامه نعرف أنَّه (رحمه الله) يريد سلوك الصراط المستقيم، وعدم سلوك السبل الأخرى التي هي بين حدي الإفراط والتفريط، ولذا قال: (لا يخرج من الشرع الشريف ) ويؤيّده، بل يدلُّ عليه كلام السّيوطي حيثُ قال:

(( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) فإنَّ العدل هو الصراط المستقيم المتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط المشار به إلى جميع المخلوقات في الاعتقاد والأخلاق

____________________

(١) الجصّاص، أحكام القرآن، ج٣، ص٢٤٧.

(٢) اُنظر: البغوي، تفسير البغوي، ج٣، ص٨١.

(٣) اُنظر: ابن العربي، أحكام القرآن، ج٣، ص١٥٣.

(٤) المقدس الأردبيلي، زبدة البيان، ص٣٣٢.

٨٢

والعبودية )(١) .

وأصرح من كلام السيوطي كلام البيضاوي والشوكاني، حيث يقول الأول منهما:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) بالتوسّط في الأمور اعتقاداً كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسّط بين محض الجبر والقدر، وعملاً كالتعبّدية بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة والترهّب، وخلقاً كالجود المتوسّط بين البخل والتبذير )(٢) .

وقال الشوكاني - بعد ذكره لعدّة أقوال -: (والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو المتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسّطة ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغُلوّ المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين )(٣) .

ومثله مختصراً الآلوسي(٤) وابن كثير(٥) .

وأمّا تطبيقات العدل والقسط والإنصاف في حياتنا اليوميّة وأحكام الشريعة وآدابها - والذي هو محل الكلام - فقد ذكر صاحب كتاب التحفة السنيّة ما فيه الكفاية، حيث يقول: (إنَّ الجمال المُطلق هو الاستواء التام والخلوص عن الزيادة والنقصان، والاعتدال الحقيقي، ومن ثُمَّ ورد إنَّ الله جميل يحب الجمال ،

____________________

(١) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج٢، ص١٤٦ - ١٤٧.

(٢) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج٣، ص٤١٦.

(٣) الشوكاني، فتح القدير، ج٣، ص١٨٧.

(٤) اُنظر: الآلوسي، تفسير الآلوسي، ج١٤، ص٢١٧.

(٥) اُنظر: ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج٢، ص٦٠٣.

٨٣

فالأخلاق الحسنة هي الملكات المتوسّطة العادلة، وبأزانها الأخلاق السيئة هي الملكات المائلة عن الوسط والعدل الذي هو خير الأمور كما في الحديث النبوي المشهور، وقد وقع الأمر به في قوله عزّ وجلّ: ( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) .

ثُمَّ قال:الصّراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو وارتفع من التقصير واستقام. وميلها عنه إمّا إلى الإفراط كالشَرَه - بفتحتين - وهو غلبة الحرص بحيث لا يتعبّد بناموس الشرع في القوة الشهوية مُطلقاً، ويخص في الفرجية باسم الهتك والفجور كما تقدّم. والتهوّر وهو الهجم من غير مُبالاة في القوّة الغضبية، والجُربُزَة - بضم الجيم وسكون الراء وضم الباء وفتح الرّاء المعجمة - وهي الاسترسال في القوة العقليّة لاستنباط الحيل والمكايد إلى حد النكر أو الشيطنة، أو إلى التفريط كالخمود في مقابلة الشره، والجُبن في مقابلة التهوّر، والبله الاختياري وهو قلة الالتفات في مغامض الأمور أو تركه ...)(١) .

والكلام بمجموعه مُنصبّ على اتخاذ الوسطية في جميع الحالات انطلاقاً من قوله تعالى:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) ، أي بالتوسّط في جميع الحالات سواء العبادية منها أم الأخلاقية، وهذا ما نروم إليه من دلالة الآية على سلوك الشارع مسلك الوسطيّة في الأحكام والآداب.

وأيضاً ذكر السيّد الخوئي (رحمه الله) في البيان هذا المعنى، حيث يقول: (( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) ...نعم، قد أمر القرآن بالعدل، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة، فنهى عن الشح في عدّة مواضع، وعرّف الناس مفاسده وعواقبه. ( وَلاَ

____________________

(١) الجزائري، التحفة السنيّة، ص٤٠.

٨٤

يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ‏ِ مِيرَاثُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (١) .

بينما قد نهى عن الإسراف والتبذير ودلّ الناس على مفاسدهما:

( وَلاَ تُسْرِفُوا إِنّهُ لاَيُحِبّ الْمُسْرِفِينَ ) (٢) ، و( إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ ) (٣) ،( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) (٤) إلخ(٥) .

وقال العلاّمة الطباطبائي - بعد ذكره لكلام الراغب الأصفهاني -: (وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم: إنَّ العدل هو لزوم الوسط والاجتناب عن جانب الإفراط والتفريط في الأمور، وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى؛ فإنَّ حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يُعطى كل من السهم ما ينبغي أن يُعطاه، فيتساوى في أنَّ كلاً منها واقع موضعه الذي يستحقّه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق، والعدل في فعل الإنسان في نفسه أن يخلّ ما فيه سعادته ويتحرّز مما فيه شقاؤه باتّباع هوى النفس، والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف، فيثاب المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وينتصف المظلوم من الظالم، ولا يبغض في إقامة القانون ولا يستثني )(٦) .

____________________

(١) آل عمران/ ١٨٠.

(٢) الأنعام/ ١٤١.

(٣) الإسراء/ ٢٧.

(٤) الإسراء/ ٢٩.

(٥) السيّد الخوئي، أبو القاسم علي أكبر، البيان في تفسير القرآن، ص٦٠ - ٦١.

(٦) الطباطبائي، مُحمّد حسين، تفسير الميزان، ج١٢، ص٣٣١.

٨٥

وفي تفسير الأمثل:( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل مِنَ العدل؟! فالعدل هو القانون الّذي تدور حول محوره جميعُ أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض، فهي قائمة على أساس العدل (بالعدل قامت السماوات والأرض)، والمجتمع الإنساني الّذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصوّر مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك أن تستند أركان حياته على أُسس العدل في جميع المجالات، ولمّا كان المعنى الواقعي للعدل يتجسّد في جعل كلّ شيء في مكانه المناسب، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدّي على حقوق الآخرين ما هي إلاّ ضرر بخلاف أصل العدل. فالإنسان السليم هو ذلك الّذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أي زيادة أو نقصان)، ويحل المرض فيه بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد، فإنّه سيمرض ويعتل إن لم يراع فيه العدل )(١) .

والحاصل:

إنّ الآية تامّة الدلالة على إرادة الشارع من العباد أن يسلكوا الوسطيّة في جميع مجالات الحياة: العبادية، العقائدية، بل وحتى الاجتماعية، وإرادته لنا هذا المسلك معناه تشريعه (عزّ وجلّ) له في حقنا وسلوكه (تبارك وتعالى) هذا المسلك معنا؛ لأنه لا يطلب منّا إلا ما شرعه هو لنا.

وقد تقدّم أنّ الآية لو تمّت دلالتها، فهي تغني عن البحث في قوله تعالى:

____________________

(١) الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، ج٨، ص٢٩٦ - ٢٩٧.

٨٦

( قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ) (١) ؛ وذلك لأنّ القسط والعدل بمعنى واحد وإن تقدّم أنّ صاحب الفروق اللغوية فرّق بينهما بما لا يؤثر على الاستدلال، ويرشدك إلى هذا المعنى - مضافاً إلى كلام أهل اللغة المتقدّم - كلامُ المفسّرين لهذه الآية، كما جاء عن القُمّي في تفسيره(٢) ، والطبرسي في جوامع الجامع(٣) ، والكاشاني في التفسير الأصفى(٤) ، والصافي(٥) ، والطبري في جامع البيان(٦) ، والنّحاس(٧) ، والسمرقندي(٨) ، وغيرهم الكثير أنَّ القسط هو العدل، فكل ما جاء هناك من الاستدلال يأتي هنا حذو القذّة بالقذّة، فالبحث فيها ونقل أقوال العلماء والمفسرين لا يكون إلاّ تكراراً.

ومثل هذا الكلام يأتي في قوله تعالى:( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) (٩) .

بل يمكن القول بأنه يأتي في الآيات المشابهة لها المشتملة على أمرٍ من هذا القبيل مثل قوله تعالى:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (١٠) ، وقوله عزّ

____________________

(١) الأعراف/ ٢٩.

(٢) اُنظر: القُمّي، تفسير القُمّي، ج١، ص٢٢٦.

(٣) اُنظر: الطبرسي، جوامع الجامع، ج١، ص٦٥٠.

(٤) اُنظر: الفيض الكاشاني، التفسير الأصفى، ج١، ص٣٦٧.

(٥) اُنظر: الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، ج٢، ص١٨٨.

(٦) اُنظر: الطبري، جامع البيان، ج٨، ص٢٠٣.

(٧) اُنظر: النّحاس، معاني القرآن، نج٣، ص٢٥.

(٨) اُنظر: السمرقندي، تفسير السمرقندي، ج١، ص٥٢٦.

(٩) النساء/ ١٣٥.

(١٠) المائدة/ ٤٢.

٨٧

وجلّ:( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) (١) ، وقوله تبارك وتعالى:( لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) (٢) .

وغيرها من الآيات الشريفة.

وبهذا تمَّ الاستدلال ببعض الآيات المباركة على سلوك الشارع مسلك الوسطية، وهناك آيات اُخر تركناها لتقاربها في كيفية الاستدلال.

الدليل الثاني: السُنة الشريفة

تقدّم الاستدلال بمجموعة من الآيات الشريفة على أنَّ الشارع سلك مسلك الوسطيّة في أحكامه وآدابه، ويأتي الدور الآن للاستدلال بعدل القرآن الكريم وهو السُنّة الشّريفة، وذلك بروايات، منها:

الأول: الحديث المشهور المروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله)(٣) تارة، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)(٤) أخرى، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) ثالثة(٥) وهو: (خير الأمور أوسطها )، أو (أوساطها )(٦) ، أو (خيار الأمور أوساطها )، أو (خيار الأمور أوسطها ). فَصِيغُه أربع والمعنى واحد.

____________________

(١) الأنعام/ ١٥٢.

(٢) يونس/ ٤.

(٣) اُنظر: العجلوني، كشف الخفاء، ج١، ص٣٩١.

(٤) اُنظر: الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص٢٤٠.

(٥) اُنظر: الشيخ المفيد، الإرشاد، ج٢، ص٢٣٤.

(٦) الكاشاني، أبو بكر بدائع الصنائع، ج١، ص٩٤.

٨٨

وما روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، وجدته في بعض المجامع الحديثيّة أنَّ الإمام (عليه السلام) استشهد به ناسباً إيّاه لجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما في جامع أحاديث الشّيعة أنَّه: لمّا حجَّ الرشيد استقبله موسى بن جعفر (عليه السلام) بالمدينة على بغلٍ، فقال له الرشيد: يا أبا الحسن عزّت بك الخيل حتى ركبت بغلاً! فقال له موسى (عليه السلام):أنّه يتّضع عن خيلاء الخيل، ويرتفع عن ذلة العسير، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (خيار الأمور أوسطها )(١) .

والحديث واضح الدلالة، بل أنَّ كلمات أهل اللغة لم تتجاوز فيه حد الشرح بالمصاديق. قال في مجمع البحرين: (وفي الحديث (خير الأمور أوسطها) قال بعض الأعلام: كُلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، كالسخاء مثلاً فإنّه وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة فإنها وسط بين الجبن والتهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنّب كل وصفٍ مذموم ويتعرى عنه، وكُلّما ازداد بعداً ازداد تعرّياً، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان في الوسط فقد بَعُدَ عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان )(٢) .

وقال ابن الأثير: ((خير الأمور أوساطها): كُلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان؛ فإنَّ السخاء وسط... )(٣) .

وكلامه وكلام صاحب مجمع البحرين واحد لم يختلف إلاّ ببعض الحروف، بل قوله - أي صاحب مجمع البحرين - (قال بعض الأعلام) معناه

____________________

(١) السيّد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج١٦، ص٨٥٥.

(٢) اُنظر: الطريحي، مجمع البحرين، ج٤، ص٤٩٨.

(٣) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج٥، ص١٨٤.

٨٩

بأنّه أخذه منه.

وقال ابن منظور في شرح (فرط):الفارط، المتقدّم السابق، فرط يفرط فروطاً. قال أعرابي للحسن: يا أبا سعيد، علّمني ديناً وسطاً لا ذاهباً فروطاً، ولا ساقطاً سقوطاً، أي ديناً متوسّطاً لا متقدّماً بالغلوّ ولا متأخراً بالغلو، قال له الحسن، أحسنت يا أعرابي: (خير الأمور أوسطها )وفرط غيره .

وقال في موضع آخر - بعد أن ذكر الحديث نفسه -:فإنَّ الأوسط هاهنا المتوسّط بين الغالي والتالي، ألا تراه قال: لا ذاهباً فروطاً؟ أي: ليس ينال وهو أحسن الأديان، ألا ترى قول عليٍّ (عليه السلام): (خير الناس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي ))(١) .

وقال الزمخشري: (قال مطرف (رحمه الله)لابنه لمّا اجتهد في العبادة: خير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين، وشر السير الحقحقة، السيئتان: الغلو والتقصير، والحسنة بينهما هي الاقتصاد (الحقحقة، أرفع السير وأتعبه للظهر، وذلك أن يلحَّ في شدّة حتى لا تقوم عليه راحلته فيبقى منقطعاً به )(٢) .

والحاصل:

فمفردات الحديث واضحة.

وقبل الشروع في ذكر كلمات الأعلام في الحديث وتطبيقاته لا بدّ من طرح هذا السؤال التالي:

____________________

(١) ابن منظور، لسان العرب، ج٧، ص٣٦٦ وص٤٣٠ - ٤٣١.

(٢) اُنظر: الزمخشري، جار الله، الفايق في غريب الحديث، ج٢، ص١٧.

٩٠

أليس من الإنصاف أن يُبحث أولاً عن إثبات صدور الحديث، ثُمَّ البحث عن دلالته؟

أليس أنّ البحث في دلالة الحديث وظهوره فرع ثبوت طريقه إلى الشارع؟ والحال أنّه لم نرَ لذلك عيناً ولا أثراً مع أنّ ذلك هو مقتضى صناعة أهل الفن.

ويمكن الجواب عنه:

أوّلاً: إنّ شهرة الحديث هي التي جعلتنا نطوي صفحاً عن البحث السندي، حتى أنّ مجموعة من العلماء أسندوه للنبي (صلّى الله عليه وآله) على نحو: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، المشعر بثبوت صدوره، منهم: أبو بكر الكاشاني(١) ، والعلاّمة المجلسي(٢) ، وابن حجر(٣) . وغيرهم.

وثانياً: إنّ الحديث موافق جدّاً لمضامين الآيات القرآنية؛ ولذا ترى مجموعة من العلماء استدلوا به جنباً إلى جنب مع الآيات المباركة التي تقدّم الاستدلال بها، مثل قوله تعالى:( وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وسطاً ) (٤) ، وهذا التوافق يكفي في صحة مثل هكذا حديث؛ لأنّه يوجد المقتضي لإثبات صدوره ولا مقتضي لعدم الصدور، فمن هنا أغنانا لهذا التوافق من البحث

____________________

(١) اُنظر: أبو بكر الكاشاني، بدائع الصنائع، ج١، ص٢٣.

(٢) اُنظر: العلاّمة المجلسي، مُحمّد باقر، بحار الأنوار، ج٧، ص٢٧٠.

(٣) اُنظر: ابن حجر، فتح الباري، ج١١، ص٢٣٤.

(٤) البقرة/ ١٤٣.

٩١

في إثبات صدوره.

قال السّيوطي: (قال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن فضل فقلت: إنك تُخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، تجد في كتاب الله: (خير الأمور أوسطها )؟ قال: نعم، في أربعة مواضع: قوله تعالى: ( لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانُ بَيْنَ ذلِكَ ) (١) ،وقوله تعالى: ( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) (٢) ،وقوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) (٣) ، وقوله تعالى:( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) (٤) ،(٥) .

إذن فمضمون الحديث تام الموافقة لآيات القرآن الكريم التي ضربت الأمثال لحقيقة الوسطيّة.

وأمّا من جمعها - أعني الحديث إلى جانب الآيات - فمجموعة من العلماء، منهم:

الثعلبي في تفسيره، حيث يقول: (ووسط الشيء خيره وأعدله؛ لأن خير الأمور أوسطها، قال الله تعالى: ( وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وسطاً ) )(٦) ، ومعنى هذا أنّ مضمون

____________________

(١) البقرة/ ٦٨.

(٢) الفرقان/ ٦٧.

(٣) الإسراء/ ٢٩.

(٤) الإسراء/ ١١٠.

(٥) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج٢، ص٣٤٦.

(٦) الثعلبي، تفسير الثعلبي، ج٢، ص١٩٤ - ١٩٥.

٩٢

الحديث لا يختلف عن مضمون الآية والشاهد على ذلك أنَّ الثعلبي جاء بالآية كتعليل لإثبات حقيقة ومضمون الحديث كما هو واضح.

ومثله القُرطبي في هذا الجمع، فإنَّه بعد أن استدلَّ بالآية ذكر الحديث، فإنه وإن عكس، لكن ما نروم إليه موجود وهو أنَّ المضمون واحد.

وقال صاحب كتاب الشفاء الرّوحيّ: (والعدل يُقابله الظلم، وحقيقتُه هي إقامة المساواة والموازنة في الأمور، وإعطاء كلّ ذي حق حقّه بقدر ما يستحق، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً... فالعدل عبارة عن تعديل جميع الصفات والأقوال الصادرة عن الإنسان، وردّ الزائد والناقص والكثير والقليل إلى الوسط كما يُقال: لا إفراط ولا تفريط، ويقال: خير الأمور أوسطها. ويقول تعالى: ( وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وسطاً ) ،وهذا أمر واجب الرعاية على الإنسان في أداء الحقوق الواجبة عليه بحيث لا يتصف الإنسان بالعدل والعدالة حقيقةً، إلا إذا قام بتأديةِ تلك الحقوق، وهي كثيرة تكاد أن لا تحصى ولا تحصر )(١) .

وعليه، فخلاصة الجواب الثاني أنَّ مضمون هذا الحديث موافق لمضامين الآيات التي استدل بها على مسلك الوسطيّة، والتي تقدّم الحديث عنها مفصّلاً في هذا الفصل فلاحظ.

وثالثاً: ولو تنزّلنا عن الجواب الأوّل والثاني، فيمكن القول: إنّنا نستطيع القول بصدور الحديث اعتماداً على القرائن الموجودة في المقام، من أمثال كثرة استشهاد العلماء به، وعدم وجود مَن خدش بسنده بضرس قاطع،

____________________

(١) البغدادي، عبد اللطيف، الشفاء الروحي، ص١٧٢.

٩٣

وموافقته لمضامين الآيات المبحوثة، بل ونقله من قبل العلماء في المجاميع الحديثيّة، كل ذلك يورث الاطمئنان في المقام بأنَّ هكذا حديث صادر عن الشارع، ولأجل هذه الأجوبة الكامنة في صقع النفس أعرضنا عن البحث في سند الحديث، ومن ثُمَّ بحثنا في الدلالة.

وأمّا دلالة الحديث على سلوك الشارع مسلك الوسطيّة في الأحكام والآداب، فقد استدل به مجموعة كبيرة من العلماء لذلك.

قال أبو بكر الكاشاني: (فصل في آداب الوضوء... ومنها: أن لا يسرف في الوضوء ولا يقتر، والأدب فيما بين الإسراف والتقتير؛ إذ الحقّ بين الغُلو والتقصير. قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (خير الأمور أوسطها )(١) .

وقال القُرطبي: (ولمّا كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي: هذه الأمة لم تغلُ غلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم، وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها ).

وقال في موضع آخر: إنَّ الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا بمنزلة بين منزلتين، ونصفاً بين طرفين، ومنه الحديث: (خير الأمور أوسطها ))(٢) .

وقال الحر العاملي - في صدد ردّه على بدع الصوفية -: (اعلم أنَّ كل أمرٍ من أمور الدين له ثلاث مراتب؛ إفراط وتفريط وعدل بمعنى الزيادة والنقصان والتوسّط، ولا شكَّ أنَّ الأولين مذمومان قبيحان عقلاً وشرعاً، فهما محرمان في الأمور الدينية والأحكام الشرعيّة؛ لاستلزامهما مخالفة الشرع، وكذا في أمور الدنيا؛ لأنَّ لها

____________________

(١) أبو بكر الكاشاني، بدائع الصنائع، ج١، ص٢٣.

(٢) القرطبي، تفسير القرطبي، ج٢، ص١٥٤، وج٦٠، ص٢٧٦.

٩٤

أحكاماً شرعية، فإذا حصلت مخالفتها ثبت التحريم، والطرف الثالث - أعني التوسّط والعدل - هو الممدوح شرعاً المحمود عقلاً، بل هو الواجب وقد قال (عليه السلام): الجاهل: إمّا مُفرّط، وإمّا مفرط. وقال (عليه السلام): خير الأمور أوسطها. والشواهد على ذلك كثيرة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنَّ الصوفية قد خرجوا في جميع ما سلكوا واختصوا به إلى حد الإفراط أو التفريط، وفي هذا الباب قد خرجوا إلى الحدين معاً، فتارةً يرفعون أصواتهم بالذكر حتى يتجاوز حدَّ العلو لفرط المبالغة والغلو مع الوصول إلى حد الفناء، وتارةً يخفونه في أنفسهم على وجه لم يرد به شرع بل هو مخترع مبتدع )(١) .

وفي سُبُل السّلام: (العجلة: هي السرعة في المشي، وهي مذمومة فيما كان المطلوب فيه الأناءة، محمودة فيم يطلب تعجيله في المسارعة إلى الخيرات ونحوها، وقد يُقال: لا منافاة بين الإناءة والمسارعة؛ فإن سارع بتؤدة وكان فيم له الأمران، والضابط: أنَّ خيار الأمور أوسطها )(٢) .

وقال صاحب كتاب جامع السعادات - في بحث العفّة -: (قد عرفت أنَّ ضد الجنسين (العفّة) وهو انقياد قوة الشهوة للعقل في الإقدام على ما يأمرها به من المأكل والمنكح - كمّاً وكيفاً - والاجتناب عمّا ينهاها عنه، وهو الاعتدال الممدوح عقلاً وشرعاً، وطرفاً من الإفراط والتفريط مذمومان، فإنَّ المطلوب في جميع الأخلاق والأحوال هو الوسط؛ إذ خير الأمور أوسطها، وكل طرفيها ذميم.

فلا تظننّ مما ورد في فضيلة الجوع أنَّ الإفراط فيه ممدوح؛ فإنَّ الأمر ليس كذلك، بل أسرار حكمة الشريعة أن كُلّما يطلب الطبع فيه طرف الإفراط بالغ الشرع في المنع عنه على وجه يتوهم الجاهل منه أنَّ المطلوب طرف التفريط ،والعالم يدرك أنَّ

____________________

(١) الحر العاملي، الإثنا عشرية، ص١٤٨.

(٢) الكحلاني، سُبُل السلام، ج٤، ص٢٠١.

٩٥

المقصود هو الوسط، فإنَّ الطبع إذا طلب غاية الشبع، فالشرع ينبغي أن يطلب غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيقاومان ويحصل الاعتدال. ولما بلغ النبي (صلّى الله عليه وآله)في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثُمَّ علم من حال بعضهم أنَّه يقوم الليل كُلَّه ويصوم الدهر كله، فنهى عنه )(١) .

وتمام كلام جامع السعادات ما ذكره المولى المازندراني عند شرحه لقوله (عليه السلام): (لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة ) قال: (زجر بهذا الكلام المبالغين في الجد والاجتهاد وتحمل مشاق العبادات، فربما كرهت النفس العبادة وذهب أجرها، وندبهم إلى أخف العبادات على النفوس وأسهلها ليعملها بخفةٍ ونشاط وطواعية لا بعسر وكراهية، فيكون ذلك أنشط لها في عبادة الله، وأبلغ في حضور القلب مع الله، واجتماع الهم بين يديه، فيُقبل الله عليه ويوصله إليه.

وبالجملة: أحاديث الباب ظاهرة في الأمر بالرفق في العبادة وترك طلب النهاية فيها؛ إذ (خير الأمور أوسطها ).

فلا يستحسن قيام جميع الليالي وصيام جميع الأيام فإنَّ لنفسك عليك حقاً ولعينك عليك حقاً )(٢) .

وقال العلاّمة المجلسي: (وأمّا الاعتدال، فهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحميّة وينطفي حيث يحسن الحُلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله تعالى به عباده، وهو الوسط الّذي وصفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)حيث قال: (خير الأمور أوسطها )، فمن مال غضبه إلى العثور أحسّ من نفسه ضعف الغيرة وخسة النفس واحتمال الذّل والظيم في غير محلّه؛ فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى

____________________

(١) اُنظر: المحقق النراقي، جامع السعادات، ج٢، ص١٢.

(٢) المازندراني، شرح أصول الكافي، ج٨، ص٢٧٢.

٩٦

غضبه ومن ماله غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهوّر واقتحام الفواحش؛ فينبغي أن يعالج نفسه ليسكن من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين فهو الصراط المستقيم )(١) .

وقال صاحب كتاب رياض السالكين: (إنّ الفضائل كُلَّها ملكات متوسّطة بين طرفي إفراط وتفريط، فالمتوسط منها هو العدل، كالحكمة النظرية المتوسّطة بين الجُربُزة والعبادة، والعفة المتوسطة بين خمود الشهوة والفجور، والشجاعة المتوسطة بين الجبن والتهوّر، والسخاء بين التبذير والبخل، والحلم بين المهانة والبطش، والتواضع بين الكبر والذل، والاقتصاد بين الإسراف والتقصير، والإنصاف بين الظلم والانظلام، وقس على ذلك سائر الأخلاق الفاضلة، فالأوساط بين هذه الأطراف المتضادة هي الفضائل، ولكل منها طرفا تفريطٍ وإفراط وهما مذمومان، والخروج إلى أحدهما هو الجور الّذي هو ضد العدل، والأطراف المتضادة هي الرذائل، ومن هنا قيل: (خير الأمور أوسطها ). ثم هذا الحكم في العدل جارٍ في باب العقائد أيضاً، كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل والشرك، والتعويل على الأمرين بين الجبر والتعويض، وفي باب الأعمال، كأداء الواجبات والسنن المتوسط بين البطالة والترهب، وفي باب الأقوال، كالبلاغة المتوسّطة بين العيّ والقدر. فيتبين أنّه لا يخرج شيء من الفضائل عنه قولاً وعملاً واعتقاداً، ولذلك قالوا: هو ميزان الله المبتري من كل ذلة، وصراطه المستقيم المؤدي سالكه إليه، وبه ينسب أمر العالم )(٢) .

والكلام طويل يعدد فيه مصاديق كثيرة للوسط وتفسير ذلك، وكلامه قريب من كلام صاحب جامع السعادات المتقدم؛ ولذا تركناه.

____________________

(١) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج٧٠، ص٢٧٠.

(٢) المدني، علي خان، رياض السالكين، ج٣، ص٣٣٧ - ٣٣٨.

٩٧

وقريب منهما ما في حاشية عوالي اللئالي(١) ، فلا داعي لإعادته.

والمتحصّل من جميع ما تقدّم:

أنّ الحديث تام الدلالة على أنَّ الشارع المُقدّس شرّع الوسطيّة في الأحكام والآداب في حقّنا. مضافاً إلى ما تقدّم من الاستدلال بمجموعة من الآيات الشريفة.

ونحن اقتصرنا في استدلالنا بالحديث على بعض كلمات الأعلام، وإلاّ فهناك جملة من الكلمات المهمة في المقام وما ذكرته كان عصارتها، أو هو الأصل لمن تأخّر في ذكره لها، فيكون ذكر المتقدّم هو الأصل فيها.

وقد يُقال: إنّ الاستدلال بهذا الحديث تتوقف تماميته على عدم المعارضة بحديث آخر، والحال أنّ حديث (خير الأعمال أحمزها )، أو (أفضل الأعمال أحمزها )، أو (أفضل العبادة )، أو (العبادات ) يعارضه، ولا مرجّح في البين فيتساقطان حينئذٍ.

والجواب:

أولاً: أنّني لم أعثر على حديث بلفظ (الأمر) أو (الأمور)، أعني مثل: (خير الأمور أحمزها)، أو (أفضل الأمور أحمزها) ليكون معارضاً للحديث الّذي استدللنا به في المقام؛ فالحديث الّذي يُدّعى معارضته لاستدلالنا قد ورد بألفاظ أخرى كما ذكرناه آنفاً فهو تارةً مرويً بلفظ: (خير الأعمال

____________________

(١) اُنظر: الاحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج٤، ص١١٠.

٩٨

أحمزها ) كما في بدائع الصنائع(١) ، ولم أجده في غيره، وأخرى مروي بلفظ: (أفضل الأعمال )(٢) ، وثالثة بلفظ: (أفضل العبادة )(٣) ، ورابعة: (العبادات )(٤) .

أما اللفظ الثالث والرابع - أعني: العبادة أو العبادات - فهو لا يعارض حديثنا، وإنما يخصصه في خصوص العبادة، وبالجمع يكون المؤدى (خير الأمور أوسطها إلاّ العبادة فخيرها أحمزها)، فيكون معنى ذلك: أنَّ المكلف لو اختار في عبادته الكيفية التي فيها مشقة كأن يحج ماشياً بدل أن يركب دابة يكون قد اختار الأفضل، بشرط أن لا تكون هذه المشقة قد وصلت إلى درجة تتنافى وأدلة نفي العسر والحرج، وإلاّ فلا يحصل المراد.

وأمّا الأوّل والثاني، فإنّهما وإن جاءا بلفظ الأعمال إلاّ أنّه يمكن أن يراد بهما العبادات؛ فيرجع إلى الثالث والرابع، فيسقط عن المعارضة حينئذٍ ويرجع إلى التخصيص كما هو واضح. ولا أقل من الإجمال المسقط للاستدلال.

وثانياً: إننا ذكرنا في أثناء استدلالنا بحديث (خير الأمور أوسطها) أنّّ المقصود ليس هو المصاديق الخارجية بما هي هي، وإنّما المراد من ذلك هو نفس الشريعة، ونمطها وذوقها والخط العام لها، ومن المعلوم أنّ مثل هذا لا يُعارض بمثل الألفاظ الأربعة المذكورة؛ فنحن لا ندّعي عدم إمكان

____________________

(١) اُنظر: الكاشاني، أبو بكر، بدائع الصنائع، ج٢، ص٧٩.

(٢) اُنظر: الإيجي، المواقف، ج٣، ص٤٥٤.

(٣) اُنظر: الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج١، ص١٠٨.

(٤) اُنظر: الحلي، معارج الأصول، ص٢١٥.

٩٩

وجود تخصيص في الشريعة الإسلاميّة لكي يقال بوجود المعارض، وإنّما بنينا استدلالنا على أن المتصيّد من الآيات والروايات هو الوسطيّة دون حَدَّي الإفراط والتفريط.

وبهذا يتم الاستدلال في الحديث الأول.

ومنها:

الثاني: حديث النمرقة الوسطى، الوارد بأكثر من تعبير، منه ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله)، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: (يا معشر الشّيعة - شيعة آل مُحمّد - كونوا النُمرقة الوسطى؛ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي، فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: جُعلت فداك ما الغالي؟ قال: قوم يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا، فليس أولئك منّا ولسنا منهم )(١) ... الخبر.

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي، وإليها يرجع الغالي )(٢) .

وقبل الاستدلال بالحديث ينبغي الإشارة إلى معنى النُمرقة المأمور بها في الروايتين.

قال في مجمع البحرين: (وفي حديث الأئمة (عليهم السلام): (نحن النُمرقة الوسطى، بنا يلحق التالي وإلينا يرجع الغالي ). استعار (عليه السلام)لفظ النمرقة بصفة الوسطى له ولأهل بيته باعتبار كونهم أئمة العدل، يستند الخلق إليهم في تدبير معاشهم ومعادهم، ومن حقِّ

____________________

(١) الكليني، الكافي، ج٢، ص٧٥، ح٦.

(٢) الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة، ج٤، ص٢٦، خط١٠٩.

١٠٠