فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247712
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247712 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي حديث عمر بن ميمون الأودي قال: كنت عند عمر بن الخطاب حين وليَ الستة الأمر، فلمّا جازوا أتبعهم بصره، ثمّ قال: لئن ولّوها الأجيلح ليركبن بهم الطريق، يريد عليّاً(١) .

وفي حديث أبي مجلز في مثل ذلك: قال عمر: مَنْ تستخلفون بعدي؟... فقال رجل من القوم: نستخلف عليّاً. فقال: إنّكم لعمري لا تستخلفونه. والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ وإن كرهتم...(٢) .

كما يعلمون أنّه (عليه السّلام) لو وليَ الخلافة لوسعه أن يظهر الحقيقة، ثمّ لم تخرج الخلافة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم).

وإذا كان مقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) مجهولاً عند عامّة المسلمين نتيجة ما سبق، فالمفترض أن لا يخفى عليهم مقام الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وانحصار المرجعية في العلم والعمل بهما، لولا الذهول والاندفاع في تمجيد الحكّام والتبعية لهم في الدين، الأمر الذي سبق الكلام فيه في المبحث الأوّل.

واكتفى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بالامتناع عن قبول الشرط المذكور - وإن أدّى ذلك إلى إقصائه عن الخلافة - التزاماً منه بمبادئه، وإقامة للحجّة على عدم شرعية هذا الشرط.

ولم يكن في وسعه (عليه السّلام) حينئذ أن يشنّع على ذلك الشرط، ويحمل العامّة

____________________

١ - المصنّف - لعبد الرزاق ٥/٤٤٦ - ٤٤٧ كتاب المغازي، بيعة أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) في سقيفة بني ساعدة، واللفظ له، أنساب الأشراف ٢/٣٥٣ وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، تاريخ دمشق ٤٢/٤٢٧ - ٤٢٨ في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الكامل في التاريخ ٣/٣٩٩ أحداث سنة أربعين من الهجرة، ذكر بعض سيرته (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام»، شرح نهج البلاغة ١٢/١٠٨، وغيرها من المصادر.

٢ - كنز العمّال ٥/٧٣٥ - ٧٣٦ ح ١٤٢٥٨.

٢٦١

على الإنكار والتغيير؛ لعدم وجود الأرضية الصالحة لذلك، بعدما سبق من اندفاع الناس مع أولياء الأمور، مع إنّه ربما كان لا يرى الصلاح في أن يبدأ هو بشقّ كلمة المسلمين، وزرع بذور الخلاف بينهم على ما أشرنا إليه آنفاً.

مدى اندفاع العامّة مع السلطة في تلك الفترة

ويمكن أن نعرف مدى اندفاع الناس مع أولياء الأمور في ذلك الوقت، وعدم اهتمامهم بمعرفة الحقيقة والدفاع عنها، ممّا تقدّم في قصّة صبيغ بن عسل(١) من امتناع الناس عن مجالسته لمنع عمر عن ذلك من دون أن يذكروا جرمه أو يقيموه.

وما رواه جندب بن عبد الله الأزدي عند تعرّضه للمشادّة بين المقداد وعبد الرحمن بن عوف من أجل إقصاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تلك الشورى، وما تقدّم من قول المقداد: أما والله، لو أنّ لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيّاهم ببدر وأُحد(٢) .

قال جندب: فأتبعته، وقلت له: يا عبد الله، أنا من أعوانك. فقال: رحمك الله، إنّ هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة.

قال: فدخلت من فوري ذلك على علي (عليه السّلام) فقلت: يا أبا الحسن، والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك. فقال: «صبر جميل، والله المستعان». فقلت: والله إنّك لصبور. قال: «فإن لم أصبر فماذا أصنع؟»... فقلت: تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنّك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مئة شددت بهم على الباقين.

____________________

١ - تقدّم في ص: ١٧٧.

٢ - تقدّم في ص: ١٩٣.

٢٦٢

فإن دانوا لك فذاك، وإلاّ قاتلتهم وكنت أولى بالعذر قُتلت أو بقيت، وكنت أعلى عند الله حجّة.

فقال: «أترجو يا جندب أن يبايعني من كلّ عشرة واحداً؟». قلت: أرجو ذلك. قال: «لكنّي لا أرجو ذلك. لا والله، ولا من المئة واحداً...».

هذا في المدينة المنوّرة التي هي موطن المهاجرين والأنصار، والتي يعرف الكثير من أهلها أو جميعهم مقام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وحقّه، وما حصل من الظلم عليه خاصة وعلى أهل البيت عموماً نتيجة الانحراف.

أمّا في غيرها من أمصار المسلمين فمن الطبيعي أن يكون الحال أشدّ، والناس أبعد عن معرفة الحقيقة والاهتمام بأمره.

قال جندب بعد أن ذكر حديث أمير المؤمنين (عليه السّلام) السابق حول موقف الناس معه: فقلت: جُعلت فداك يابن عمّ رسول الله! لقد صدعت قلبي بهذا القول، أفلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك، وأدعو الناس إليك؟ فقال: «يا جندب، ليس هذا زمان ذاك». قال: فانصرفت إلى العراق، فكنت أذكر فضل علي على الناس فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره، وأحسن ما أسمعه قول مَنْ يقول: دع عنك هذا، وخذ فيما ينفعك، فأقول: إنّ هذا ممّا ينفعني، فيقوم عنّي ويدعني(١) .

وعن أبي الطفيل قال: خرجت أنا وعمرو بن صليع المحاربي حتى دخلنا على حذيفة... فقال: حدّثنا يا حذيفة. فقال: عمّا أحدّثكم؟ فقال: لو أنّي أحدّثكم بكلّ ما أعلم قتلتموني، أو قال: لم تصدّقوني. قالوا: وحقّ ذلك؟ قال: نعم. قالوا: فلا حاجة لنا في حقّ تحدّثناه فنقتلك عليه، ولكن حدّثنا بما ينفعنا ولا يضرّك. فقال: أرأيتم لو حدّثتكم أن أُمّكم تغزوكم إذاً صدّقتموني؟

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٩/٥٨.

٢٦٣

قالوا: وحقّ ذلك؟!(١) . وقريب منه حديث خيثمة بن عبد الرحمن عن حذيفة(٢) .

وهي تدل على أنّ عامّة المسلمين قد تمسّكوا بثقافة خاصّة لا يقبلون بغيرها حتى إنّ حذيفة - مع ما له من مقام رفيع - لو حدّثهم بخلافها لكذّبوه، بل قد يقتلونه.

اختلاف عثمان عن عمر في الحزم والسلوك

ولكنّ تداعيات الانحراف في أمر السلطة بدأت تظهر للناس؛ لأنّ عثمان يختلف عن عمر بأمرين:

الأوّل : ضعف الإدارة وفقد الحزم، وسوء التعامل مع الأحداث.

الثاني : إنّه توسّع في إنفاق المال، وظهرت عليه وعلى زمرته مظاهر التسامح والترف، وقرّب بني أُميّة ومكّنهم في البلاد، وولاّهم الأمصار مع ما عرف عنهم من العداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإسلام، والكيد لهما في بدء الدعوة، ثمّ النفاق بعد أن اضطروا للدخول في الإسلام، ولم يمنعه ذلك من تقريبهم وتحكيمهم فاتّخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وانتهكوا حرماتهم وحرمات دينهم بتخالع واستهتار بنحو لم يعهده عامّة المسلمين من قبل.

ظهور الإنكار على عثمان من عامّة المسلمين

وقد أضرّ ذلك بمصالح الخاصّة والعامّة؛ فأثار حفيظتهم كما أثار حفيظة أهل الدين، وكلّ مَنْ يهمّه الصالح العام.

____________________

١ - المصنّف - لعبد الرزاق ١١/٥٢ - ٥٣ باب القبائل.

٢ - المستدرك على الصحيحين ٤/٤٧١ كتاب الفتن والملاحم، وقال بعد إيراد الحديث: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

٢٦٤

وبذلك بدأ الإنكار على عثمان والتشنيع عليه، وإثارة مشاعر الناس ضدّه، وتهييج الرأي العام عليه، وظهرت بوادر التغيير.

تحقّق الجو المناسب لإظهار مقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبيان ظلامته

وحينئذ تحقّقت الأرضية الصالحة لتعريف العامّة بمقام الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ونشر فضائله، وهو الذي كان في الشورى الطرف الوحيد المقابل لعثمان، والذي أقصته المصالح الضيّقة، وقدّمت عليه عثمان؛ تجاهلاً لمصلحة الإسلام العلي، وتجاوزاً عليه.

وهو (عليه السّلام) يحظى بأعظم رصيد من الفضائل والمناقب، وبالمؤهّلات المميّزة في قيادة الأُمّة، والسير بها على الطريق الواضح والصراط المستقيم.

ولاسيما أنّ خاصّة شيعته المتفانين في الدعوة له قد كانت لهم المكانة السامية من بين الصحابة والتابعين بحيث يسمع منهم جمهور المسلمين، ويتفاعل بتوجيهاتهم وإرشاداتهم في خضمّ الهيجان والصراع.

جهود الخاصة في التعريف بمقامه (عليه السّلام) وكشف الحقيقة

وهنا جاء دورهم ليقوموا بمهمّتهم الكبرى التي أعدّوا لها، وذلك ببيان الحقيقة والدعوة له من أجل أن يكون التغيير المتوقّع لصالحه، لا للأسوأ، أو من أجل إقامة الحجّة على الناس لو لم يتقبّلوه، ويؤدّوا وظيفتهم إزاءها.

ولا يتيسّر لنا فعلاً الاطّلاع الكافي على مفردات ما حصل، إلّا إنّ خير شاهد على ما ذكرنا هو هتاف الجماهير باسم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أواخر أيّام عثمان عند ظهور النقمة عليه مع إنّه (عليه السّلام) كان أخفّ النفر على عثمان.

نعم، من المظنون قويّاً أنّ الأمر مع عامّة الناس لم يكن يتجاوز بيان الفضائل

٢٦٥

التي تقتضي تقديمه على غيره من الموجودين، بل ربما على جميع المسلمين حتى على الشيخين، لكن من دون تركيز على النصّ القاضي باختصاص الحقّ به وبذرّيته، وعدم شرعية خلافة مَنْ سبق كما هو مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم)؛ لعدم تهيؤ عامّة المسلمين نفسيّاً لذلك، وعدم تقبّلهم له.

ولاسيما أنّ سيرة عثمان، وتدهور الأوضاع في عهده، وظهور الخلاف والشقاق في الكيان الإسلامي بعد استقراره، قد أكّدت في نفوسهم ما سبق من احترام الشيخين أو تقديسهم؛ نتيجة انتشار الإسلام في عهدهم، وما استتبعه من الغنائم التي لم تكن العرب تحلم بها، وألقاب التمجيد والأحاديث التي وضعت في تلك الفترة كما سبق.

مضافاً إلى أنّ في المعارضة لعثمان عناصر مهمّة هي على خلاف خطّ أهل البيت، والاعتراف بالنصّ يفوّت عليها أطماعها، كما أنّها تهتم بالتركيز على سيرة الشيخين وتمجيدهم؛ من أجل التنفير من عثمان والتهريج عليه.

وإذا كان النصّ قد ذكر وركّز عليه فمن الغريب أن يكون ذلك مقتصراً على القليل من ذوي التعقّل والدين، ممّن يهمّه معرفة الحقيقة والوصول إليها.

وعلى كلّ حال فقد أدّت الخاصة من شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) - فيما يظهر - دورها الذي أعدّت له، وحقّقت خدمة كبرى للحقيقة المضطهدة التي عُتّم عليها في الفترة السابقة.

وبالمناسبة يقول ابن قتيبة عند عرض أحداث واقعة الجمل: فلمّا قدم علي طيء أقبل شيخ من طيء قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه فنظر إلى علي، فقال له: أنت ابن أبي طالب؟ قال: «نعم».

قال: مرحباً وأهلاً... لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك؛ لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيّامك الصالحة، ولئن كان ما يُقال فيك من الخير حقّاً إنّ في

٢٦٦

أمرك وأمر قريش لعجب؛ إذ أخرجوك وقدّموا غيرك...(١) .

وبذلك ظهرت ثمرة الصبر والموادعة من أجل الحفاظ على هذه الثلّة الصالحة، وعدم التفريط بها في مبدأ الانحراف في السلطة عند ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى.

توجّهات المعارضة لعثمان

هذا ويبدو أنّ المعارضين لعثمان على قسمين:

الأوّل : النفعيون والانتهازيون الذين يريدون القضاء على عثمان؛ لتضرّر مصالحهم، أو بأمل الحصول على مكاسب مادية، أو تبوّء مراكز قيادية من دون رؤية واضحة للنتائج المترتّبة على ذلك، أو لعدم الاهتمام بها من أجل أهدافهم.

وقد كشفتهم الأحداث بعد مقتل عثمان، والتداعيات التي ترتّبت عليه، ممّا يسهّل التعرّف عليه بالرجوع لتاريخ تلك الفترة.

الثاني : الناقمون من سوء الأوضاع الذين يريدون تحسّنها، وتحقيق السلطة للعدالة والتزامها بها من دون أن يكون لهم مشروع خاصّ لحلّ المشكلة، وهم الأكثرية.

مقتل عثمان بعد فشل مساعي أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحلّ الأزمة

أمّا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقد بذل جهده من أجل إصلاح الأمور، وحلّ المشكلة بين عثمان والناس؛ تجنّباً للفتنة حيث يعلم (عليه السّلام) بما يترتّب عليها من تداعيات وسلبيات على الإسلام والمسلمين.

ويشير إلى ذلك كلامه (عليه السّلام) مع عثمان حينما دخل عليه بعد أن شكاه الناس

____________________

١ - الإمامة والسياسة ١/٥٢ استنفار عدي بن حاتم قومه لنصرة علي (رضي الله عنه).

٢٦٧

له، حيث قال في جملته: «وإنّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول؛ فإنّه كان يُقال: يُقتل في هذه الأُمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن عليها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً»(١) .

وقد كاد أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) يستوعب الخلاف، ويحلّ الأزمة بسلام، لولا سوء إدارة عثمان، وفساد بطانته، وضعف شخصيته، وتأرجح موقفه.

وانتهى الأمر بحصار عثمان ثمّ قتله، بل المنع من دفنه لولا استنجاد ذويه بأمير المؤمنين (عليه السّلام)(٢) .

مطالبة الجماهير ببيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام)

واندفعت بعد ذلك الجماهير من خاصة المسلمين وعامّتهم تريد بيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ لأنّه الشخصية الأولى - ولو في عصره - بنظرهم، ولما يتميّز به من مؤهّلات - وعمدتها عندهم العلم، والاستقامة، والسابقة، والأثر الحميد في الإسلام، والقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمل تحقّق الإصلاح على يديه، وسير عجلة الإسلام في الطريق الصحيح وفي مأمن من الاستئثار والفساد.

____________________

١ - نهج البلاغة ٢/٦٩، واللفظ له، تاريخ الطبري ٣/٣٧٦ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة، ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة، الكامل في التاريخ ٣/١٥١ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة، ذكر ابتداء قتل عثمان، البداية والنهاية ٧/١٨٨ - ١٨٩ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة، إمتاع الأسماع ١٣/٢٠٨، وغيرها من المصادر.

٢ - شرح نهج البلاغة ٢/١٥٨، و١٠/٦، تاريخ الطبري ٣/٤٣٨ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه عثمان (رضي الله عنه)، الكامل في التاريخ ٣/١٨٠ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ذكر الموضع الذي دُفن فيه ومَنْ صلّى عليه، وغيرها من المصادر.

٢٦٨

وربما كان هدف كثير ممّن يعرف حق أهل البيت (صلوات الله عليهم) تعديل مسار السلطة في الإسلام بذلك، ورجوع الحقّ إلى أهله في مأمن من الزيغ والانحراف.

إباء أمير المؤمنين (عليه السّلام) البيعة تنبئه بالمستقبل القاتم

وكيف كان فقد امتنع (صلوات الله عليه) من القبول بالبيعة؛ لعلمه بأنّه لا يتم لهم ما أرادوا؛ لأنّ الناس - ولاسيما الخاصة - لا تطيق عدله، والتزامه بنصوص الدين بعد أن تعودّت على التسامح، وفتحت عيونها على الدنيا، وراقهم زبرجها.

وكان فيما قال إيضاحاً للحال، وكبحاً لجماح التفاؤل والآمال: «دعوني والتمسوا غيري؛ فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت عليه العقول»(١) . وقد أشار (عليه أفضل الصلاة والسّلام) إلى ما توقّعته الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في كلامها السابق، وهما يأخذان من أصل واحد.

ولمّا أصرّوا عليه قال (عليه السّلام) إقامة للحجّة: «قد أجبتكم، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، إلّا أنّي أسمعكم وأطوعكم لِمَنْ ولّيتموه»(٢) .

____________________

١ - نهج البلاغة ١/١٨١، واللفظ له، تاريخ الطبري ٣/٤٥٦ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الكامل في التاريخ ٣/١٩٣ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الفتوح - لابن أعثم ٢/٤٣١ ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وغيرها من المصادر.

٢ - الكامل في التاريخ ٣/١٩٣ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واللفظ له، تاريخ الطبري ٣/٤٥٦ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، خلافة أمير =

٢٦٩

بيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) وما استتبعها من تداعيات

وأخيراً تمّت البيعة، وتوالت الفتن والأحداث على النحو المعلوم تاريخياً، وكان آخرها مقتل أمير المؤمنين، وصلح الإمام الحسن (صلوات الله عليهما)، واستيلاء معاوية على السلطة، والقضاء على مشروع الإصلاح، حيث لم يُكتب له الاستمرار ست سنين، رغم الجهود الجبّارة والتضحيات الكبرى من أجل المحافظة عليه وتنفيذه.

قد يبدو فشل أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تسلّمه للسلطة

وبذلك يبدو لأوّل وهلة فشل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في تسلّمه السلطة، وأنّه لم يحقّق نجاحاً، بل زادت الأمور سوءاً؛ لأنّه (عليه السّلام) اضطر لمباشرة حروب ثلاثة ذهب ضحيّتها كثير من المسلمين، وزادت بسببها مشاكلهم وخلافاتهم، ثمّ تسنّم السلطة معاوية ومَنْ بعده من الأمويين وغيرهم، وكانت عهودهم أسوأ بكثير بحسب المنظور العام من عهد عثمان ومَنْ قبله.

علمه (عليه السّلام) بفشل مشروع الإصلاح الجذري

لكنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان يعلم من أوّل الأمر بفشل مشروع الإصلاح الذي طلبوا منه البيعة من أجله، كما يشير إلى ذلك ما تقدّم من قوله (عليه السّلام): «فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت عليه العقول»، وما يأتي من خطبته حين بويع.

وقد عهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم - بل للأُمّة عامّة - بخروج الناكثين والقاسطين والمارقين عليه(١) ، وبكثير من تفاصيل ذلك، ومنها إرغامه على

____________________

= المؤمنين علي بن أبي طالب، نهج البلاغة ١/١٨٢، وغيرها من المصادر.

١ - المستدرك على الصحيحين ٣/١٣٩،١٤٠ كتاب معرفة الصحابة، فضائل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): =

٢٧٠

التحكيم(١) ، وما استتبعه من فتنة الخوارج(٢) ، ثمّ قتله (عليه السّلام) بعد أن يتجرّع الغيظ(٣) ، وبقيام دولة بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن(٤) .

____________________

= إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل علي، مجمع الزوائد ٥/١٨٦ كتاب الخلافة، باب الخلفاء الأربعة، و٦/٢٣٥ كتاب قتال أهل البغي، باب ما جاء في ذي الثدية وأهل النهروان، و٧/٢٣٨ كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم في صفين، السُنّة - لعمرو بن أبي عاصم/٤٢٥، مسند أبي يعلى ١/٣٩٧ مسند علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، و٣/١٩٤ - ١٩٥ مسند عمار بن ياسر، المعجم الكبير ٤/١٧٢ فيما رواه محنف بن سليم عن أبي أيوب، و١٠/٩١ - ٩٢ باب من روى عن ابن مسعود، المعجم الأوسط ٨/٢١٣، و٩/١٦٥، الاستيعاب ٣/١١١٧ في ترجمة علي بن أبي طالب، وغيرها من المصادر الكثيرة.

١ - السنن الكبرى - للنسائي ٥/١٦٧ كتاب الخصائص، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ذكر ما خصّ به علي من قتال المارقين، ذكر الأخبار المؤيدة لما تقدّم وصفه، فتح الباري ٧/٣٨٦، شرح نهج البلاغة ٢/٢٣٢، تاريخ الإسلام ٢/٣٩١ قصّة غزوة الحديبية، السيرة الحلبية ٢/٧٠٧ غزوة الحديبية، مجمع البيان - للطبرسي ٩/١٩٩، وغيرها من المصادر.

٢ - مجمع الزوائد ٦/٢٤١ كتاب قتال أهل البغي، باب منه في الخوارج، فتح الباري ١٢/٢٦٤ - ٢٦٥، مسند أبي يعلى ١/٣٧٠ - ٣٧١ مسند علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، المصنّف - لعبد الرزاق ٣/٣٥٨ كتاب فضائل القرآن، باب سجود الرجل شكر، السُنّة - لعمرو بن أبي عاصم/٥٨٥، السنن الكبرى ٥/١٦٣ كتاب الخصائص، ثواب من قاتلهم (الخوارج)، المعجم الأوسط ٤/٢٢٤، تاريخ بغداد ١٢/٤٤٨ في ترجمة قيس بن أبي حازم، و١٣/٩٧ في ترجمة مسلم بن أبي مسلم، وص ٢٢٣ في ترجمة ميسرة أبي صالح، كنز العمّال ١١/٢٨٩ - ٢٩٠ ح ٣١٥٤٨، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٣ - المستدرك على الصحيحين ٣/١٣٩ كتاب معرفة الصحابة، ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ممّا لم يخرجاه، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)، تاريخ دمشق ٤٢/٤٢٢، ٥٣٦ في ترجمة علي بن أبي طالب، الكامل في التاريخ ٣/٣٨٨ أحداث سنة أربعن من الهجرة، ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، ذكر أخبار أصبهان ٢/١٤٧ في ترجمة عطاء بن السائب، كنز العمّال ١١/٦١٨ ح ٣٢٩٩٩، الفصول المهمّة ١/٦٠٩ الفصل الأوّل في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، فصل في مقتله ومدّة عمره وخلافته (عليه السّلام)، وغيرها من المصادر.

٤ - سنن الترمذي ٥/١١٥ كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باب سورة القدر، المستدرك على الصحيحين ٣/١٧٠ - ١٧١ كتاب معرفة الصحابة، ومن فضائل الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم) وذكر مولده ومقتله، سير أعلام النبلاء ٣/٢٧٢ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب. =

٢٧١

وهو القائل: «أتاني عبد الله بن سلام، وقد وضعت رجلي في الغرز، وأنا أريد العراق، فقال: لا تأتي [كذا في المصدر] العراق؛ فإنّك إن أتيته أصابك به ذباب السيف». قال أبو الأسود الدؤلي: قال علي: «وأيم الله، لقد قالها لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك»(١) .

والقائل في حرب صفين، وهو في أوج قوّته العسكرية: «ما اختلفت أُمّة قطّ بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها»(٢) ، والقائل في الكوفة: «إنّي أُقاتل على حقّ؛ ليقوم، ولن يقوم، والأمر لهم»(٣) .

كما قال (عليه السّلام) أيضاً: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد فاقتلوه، ولن تقتلوه، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي...»(٤) ، إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ تلك الحقبة وما يتعلّق بها، ولاسيما ما ورد في أخبار أهل البيت (صلوات الله عليهم).

____________________

= المعجم الكبير ٣/٨٩ - ٩٠ فيما رواه يوسف بن مازن الراسبي عن الحسن بن علي (رضي الله عنه)، مسند الشاميين ٢/١٥٢، فضائل الأوقات - للبيهقي/٢١١ باب فضل ليلة القدر، تاريخ دمشق ١٣/٢٧٨ - ٢٧٩ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، أُسد الغابة ٢/١٤ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، وغيرها من المصادر الكثيرة.

١ - المستدرك على الصحيحين ٣/١٤٠ كتاب معرفة الصحابة، ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ممّا لم يخرجاه، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)، واللفظ له، صحيح ابن حبان ١٥/١٢٧ باب إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عمّا يكون في أُمّته من الفتن والحوادث، ذكر الإخبار عن خروج علي بن أبي طالب (رضوان الله عليه) إلى العراق، مسند الحميدي ١/٣٠، الآحاد والمثاني ١/١٤٤، موارد الظمآن ٧/١٤٨، تاريخ دمشق ٤٢/٥٤٥ في ترجمة علي بن أبي طالب، أُسد الغابة ٤/٣٤ في ترجمة علي بن أبي طالب، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٢ - وقعة صفين/٢٢٤، شرح نهج البلاغة ٥/١٨١، الأمالي - للمفيد/٢٣٥، الأمالي - للطوسي/١١.

٣ - الفتن - لابن حماد/٧٠ ما يذكر في ملك بني أُميّة وتسمية أسمائهم بعد عمر (رضي الله عنه)، واللفظ له، إمتاع الأسماع ١٢/٢١١ إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بملك معاوية، الملاحم والفتن - لابن طاووس/٣٣٩ ب ٣٧.

٤ - نهج البلاغة ١/١٠٥ - ١٠٦.

٢٧٢

أهداف أمير المؤمنين (عليه السّلام) من تسلّمه للسلطة

ومن هنا لا بدّ أن يكون هدفه (صلوات الله عليه) من تسنّم السلطة ليس هو ما اندفعت الجماهير له وتخيّلته ممكن من إصلاح الأوضاع العامّة، أو تعديل مسار السلطة في الإسلام، وإنّما الدافع المهم له عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالقيام بالأمر إذا وجد أنصاراً حيث يأتي منه (عليه السّلام) التصريح حين بويع بأنّه قد نُبئ بهذا المقام وهذا اليوم.

وهو (عليه السّلام) القائل في الخطبة الشقشقية: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنز»(١) ... إلى غير ذلك ممّا يشهد بأنّه (عليه السّلام) ينفذ عهداً عُهِد له وأمراً فرض عليه، وربما يأتي بعض كلامه (عليه السّلام) في ذلك.

وعلم الله تعالى ما هي المصالح والأهداف التي ألزمته (عليه السّلام) بذلك، لكنّ الذي يظهر لنا أمران مهمّان جدّاً في صالح الإسلام بعد تحقّق الانحراف في مسيرته، وفرضه عليه كواقع لا يمكن التخلّص منه.

سعيه (عليه السّلام) لإيضاح الحقائق الدينية

الأمر الأوّل : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ جمهور المسلمين كانوا في غفلة عن انحراف مسار السلطة في الإسلام، وتحكّمها في الدين بحيث كان معرضاً للضياع والتشويه، فإبقاؤهم على غفلتهم يضيّع عليهم معالم الحقّ، ويعرّض

____________________

١ - نهج البلاغة ١/٣٦ - ٣٧، واللفظ له، علل الشرائع ١/١٥١، الإفصاح - للمفيد/٤٦، ينابيع المودّة ١/٤٣٨، وغيرها من المصادر.

٢٧٣

الدين للتحريف التدريجي بتعاقب السلطات غير المشروعة حتى يُمسخ كما مُسخت بقيّة الأديان؛ نتيجة تحكّم غير المعصوم فيه.

فكان الهدف من تسنمه (صلوات الله عليه) للسلطة أن يُفسح المجال له ولمَنْ يعرف حقّه من الصحابة لكشف حقيقة الحال، وتنبيه الأُمّة من غفلتها، وتعريفها بدعوة الحقّ، وإيضاح معالمه؛ ليحملها - بل قد يدعو لها - مَنْ يوفّقه الله تعالى لذلك.

وذلك من أجل أن تظهر هذه الدعوة الشريفة في المجتمع الإسلامي والإنساني على الصعيد العام بحيث يسمع صوته؛ لتقوم الحجّة على الناس حتى لو عاد مسار السلطة للانحراف كما هو المتوقّع له (عليه السّلام) والذي حصل فعلاً.

وقد يشير إلى ذلك ما ورد عنه (صلوات الله عليه) في بيان ما دعاه لقبول الخلافة من قوله: «والله، ما تقدّمت عليها إلّا خوفاً من أن ينزو على الأمر تيس من بني أُميّة فيلعب بكتاب الله عزّ وجلّ»(١) .

إصحاره (عليه السّلام) بالحقيقة وبحقّه في الخلافة وبظلامته

وعلى كلّ حال فقد تحقّق له ذلك؛ حيث وجد الأرضية الصالحة، خصوصاً في الكوفة، فأصحر (عليه السّلام) هو ومَنْ يعرف حقّه من الصحابة بالحقيقة، وبمقامه ومقام أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والتأكيد على استحقاقهم الخلافة، واختصاص الإمامة الحقّة بهم، وأنّهم (عليهم السّلام) المرجع للأُمّة في دينها يعصمونها من الزيغ والضلال مع الاستدلال على ذلك بالكتاب المجيد، والنصوص النبويّة الشريفة التي هي أكثر من أن تُحصى.

____________________

١ - أنساب الأشراف ٢/٣٥٣ في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، ونحوه في بحار الأنوار ٣٤/٣٥٨.

٢٧٤

ثمّ أصحر بالشكوى من الانحراف الذي حصل، وسلْب الشرعية عنه، وشجْب مَنْ قام به وغير ذلك ممّا سجّله التاريخ واستوعبته كتب الكلام، واشتمل على كثير منه كتاب نهج البلاغة.

إيضاحه للمراد من الجماعة التي يجب لزومها

كما إنّه (عليه أفضل الصلاة والسّلام) أوضح أنّ المراد بالجماعة التي لا يجوز الخروج عنها هي جماعة الحقّ التي تُعتصم بأئمّة الحقّ (صلوات الله عليهم)، وهو (عليه السّلام) أوّلهم.

ففي حديث عبد الله بن الحسن قال: كان علي يخطب، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني مَنْ أهل الجماعة؟ ومَنْ أهل الفرقة؟ ومَنْ أهل السُنّة؟ ومَنْ أهل البدعة؟ فقال: «ويحك! أمّا إذ سألتني فافهم عنّي، ولا عليك أن تسأل عنها أحداً بعدي؛ فأمّا أهل الجماعة: فأنا ومَنْ اتّبعني وإن قلّوا؛ وذلك الحقّ عن أمر الله وأمر رسوله، فأمّا أهل الفرقة: فالمخالفون لي ومَنْ اتّبعهم وإن كثروا...»(١) .

وهو كالصريح من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما خطب في مسجد الخيف: «ثلاث لا يغلُ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمّة المسلمين، واللزوم لجماعتهم؛ فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم...»(٢) . إذ بعد أن

____________________

١ - كنز العمّال ١٦/١٨٣ - ١٨٤ ح ٤٤٢١٦، واللفظ له، الاحتجاج ١/٢٤٦.

٢ - تقدمت مصادره في ص: ١٥٧. ويحسن إثبات ما رواه في الكافي ١/٤٠٣:

قال: «محمد بن الحسن عن بعض أصحابنا عن علي بن الحكم عن الحكم بن مسكين عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد. قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف... قال: فنزل، فقال له سفيان: مر لي =

٢٧٥

كانت الإمامة الحقّة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) - على ما ثبت في محلّه -؛ فجماعة أئمّة المسلمين هم جماعة أئمّة أهل البيت دون غيرهم من الفرق.

ويناسبه ما عن الثعلبي بسنده عن عبد الله البجلي قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ مات على حبّ آل محمد مات شهيداً...، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمد مات على السُنّة والجماعة...»(١) .

____________________

= بداوة وقرطاس، حتى أثبته، فدعا به، ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف: «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم تبلغه ...: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...» فكتبه سفيان، ثم عرضه عليه، وركب أبو عبد الله عليه السلام.

وجئت أنا وسفيان، فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث. فقلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً. فقال: وأي شيء ذلك؟

فقلت له: ثلاث لا يغل عليهن قبل امرئ مسلم: إخلاص العمل لله قد عرفناه، والنصيحة لأئمة المسلمين. من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم؟! معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وكل من لا تجوز شهادته عندنا، ولا تجوز الصلاة خلفهم؟!

وقوله: واللزوم لجماعتهم. فأي الجماعة؟! مرجئ يقول: من لم يصلّ ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟! أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل، ويكون ما شاء إبليس؟! أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب وشهد عليه بالكفر؟! أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شيء غيرها؟! قال: ويحك وأي شيء يقولون؟ قلت: يقولون إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي يجب علينا نصيحته، ولزوم جماعتهم أهل بيته. قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لا تخبر بها أحداً».

١ - العمدة لابن البطريق/٥٤، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ٣/٢٣٨، تفسير الكشّاف ٣/٤٦٧ في تفسير قوله تعالى:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى ) ، تفسير الرازي =

٢٧٦

كما إنّه الأنسب بما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سأله رجل عن جماعة أُمّته، فأجابه بقوله: «جماعة أُمّتي أهل الحقّ وإن قلّوا»(١) .

وما عن عمرو بن ميمون قال: صحبت معاذاً باليمن...، ثمّ صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإنّ يد الله على الجماعة، ويرغّب في الجماعة، ثمّ سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخّرون الصلاة عن مواقيتها، فصلّوا الصلاة لميقاتها؛ فهو الفريضة، وصلّوا معهم؛ فإنّها لكم نافلة. قال: قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدّثوا. قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضّني عليها، ثمّ تقول لي: صلِّ الصلاة وحدك... قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنّك أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قال: قلت: لا. قال: إنّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة؛ الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك. وفي طريق للحديث آخر: الجماعة ما وافق طاعة وإن كنت وحدك(٢) .

وبالجملة: قد أوضح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أيام حكمه القليلة كثيراً من الحقائق الدينية التي كان عامّة المسلمين في غفلة عنها.

مميّزاته الشخصية ساعدت على تأثيره وسماع دعوته

وقد ساعد على تأثيره (عليه السّلام) في رفع غفلتهم مميّزاته الشخصية؛ من السبق

____________________

= ٢٧/١٦٦ في تفسير الآية المتقدّمة، تفسير القرطبي ١٦/٢٣ في تفسير الآية المتقدّمة، ينابيع المودّة ١/٩١، و٢/٣٣٣، و٣/١٤٠، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف/١٥٩ - ١٦٠، سعد السعود/١٤١، وغيرها من المصادر الكثيرة.

١ - المحاسن - للبرقي ١/٢٢٠، معاني الأخبار/١٥٤، تحف العقول عن آل الرسول/٣٤ مواعظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه.

٢ - تاريخ دمشق ٤٦/٤٠٩ في ترجمة عمرو بن ميمون، واللفظ له، تهذيب الكمال ٢٢/٢٦٤ - ٢٦٥ في ترجمة عمرو بن ميمون، النصائح الكافية/٢١٩.

٢٧٧

للإيمان، والقرابة القريبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعظيم الأثر في رفع منار الإسلام بجهاده الفريد في سبيل الله تعالى، والعدل بين الرعية، والفناء في ذات الله تعالى، والشجاعة الخارقة، والتحبّب للعامّة أخلاقاً وسلوكاً، وما ظهر منه (صلوات الله عليه) من فنون العلم والمعرفة، والكرامات الباهرة، والأخبار الغيبية الصادقة... إلى غير ذلك ممّا يشهد بتميّزه عن عامّة الناس بنحو يناسب اختياره (عليه السّلام) واختيار أهل بيته لخلافة النبوّة من قبل الله (عزّ وجلّ).

كما إنّ ذلك من شأنه أن يوجب إعجاب كثير من الناس به وانشدادهم له عاطفيّاً، وتعلّقهم به، وموالاتهم له، وحبهّم إيّاه حبّاً قد يبلغ العشق.

وبعبارة أُخرى: إنّ شجرة التشيّع التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقام الحجّة عليها، وثبت عليها الخاصة من أصحابه (رضي الله عنهم)، قد استطاع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في فترة حكمه القصيرة المليئة بالمتاعب والمشاكل أن يسقيها وينميها، ويعمق جذورها، وينشر فروعها، بعد أن ذبلت وكادت تموت؛ نتيجة جهود الأوّلين، وسياستهم التي سبق التعرّض لها.

وإنّ النظر في كتاب نهج البلاغة - الواسع الانتشار - بتروٍّ واستيعاب ومقارنة، وبموضوعية بعيدة عن التكلّف والتعسّف، يكفي في استيضاح ذلك؛ فهو يصلح لأن يكون أطروحة مستوفية لأبعاد العقيدة الشيعيّة التي توارثتها الأجيال حتى عصرنا الحاضر، أمّا التراث والجهود الواردة عنه (عليه السّلام) في غير نهج البلاغة فالأمر فيها أظهر.

إيمان ثلّة من الخاصّة بدعوته (عليه السّلام) وتضحيتهم في سبيلها

ووجد (صلوات الله عليه) من ذوي المقام الرفيع في العقل والدين وقوّة الشخصية، والذين فرضوا احترامهم على المسلمين - بورعهم وأثرهم الحميد

٢٧٨

في الإسلام - من تقبّلها بتفّهم وتبصّر وإخلاص وإصرار، وتبّنى حمل رايتها والدعوة لها متحدّياً قوى الشرّ والطغيان.

وتحمّل في سبيل ذلك ضروب المصائب والمحن، ومختلف أنواع التنكيل من السجن والتشريد، والقتل والتمثيل، والصلب وتشويه السمعة والتشنيع غير المسؤول، وانتهاك الحرمات العظام بوحشيّة مسرفة.

ثمّ تعاهد شجرتها من بعده بقيّة الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم). ودعمها الإمداد والتسديد الإلهي على طول الخطّ.

وبذلك بقيت هذه الدعوة الشريفة وانتشرت بين المسلمين، بل في جميع أنحاء العالم، وتوارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل، مرفوعة الراية، مسموعة الصوت على طول المدّة، وشدّة المحنة، وتتابع الفتن.

بل لم يشهد التاريخ - فيما نعلم - دعوة حافظت على أصالتها ونقائها، واستمرت في مسيرتها وتوسّعها وانتشارها - رغم المعوّقات الكثيرة - كهذه الدعوة الشريفة.

العقبة الكؤود في طريق الدعوة احترام الأوّلين

نعم، كانت العقبة الكؤود التي تقف في طريقه (عليه السّلام) وطريق دعوته هذه هي إعجاب كثير من المسلمين بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، وحبّهم لهما حبّاً قد يبلغ حدّ التقديس؛ نتيجة العوامل التي سبق التعرّض لها، بحيث اضطر (صلوات الله عليه) إلى ترك بعض ما سنّاه في الدين على حاله مداراة لهم.

حتى إنّه ربما اتّخذ البعض ذلك شاهداً على إقراره لها وشرعيتها عنده (عليه السّلام)، وهو يجهل أو يتجاهل الظروف الحرجة التي كان (صلوات الله عليه) يمرّ بها ويعيشها، والتصريحات الكثيرة منه ومن الأئمّة من ولده (صلوات الله

٢٧٩

عليهم) بعدم شرعيتها، والحديث في ذلك طويل لا يسعنا استيعابه.

خطبة له (عليه السّلام) يستعرض فيها كثيراً من البدع

إلاّ إنّه يحسن بنا أن نذكر خطبة له (صلوات الله عليه) رواها الكليني بطريق معتبر قال (عليه السّلام) فيها:

«وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تُتبع وأحكام تُبتدع يُخالَف فيها حكم الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، ألا إنّ الحقّ لو خلُص لم يكن اختلاف، ولو أنّ الباطل خلُص لم يخفَ على ذي حِجا، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيُمزجان فيُجللان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

إنّي سمعت رسول الله يقول صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها، ويتّخذونها سُنّة، فإذا غُيّر منها شيء قيل: قد غُيّرت السُنّة، وقد أتى الناس منكراً، ثمّ تشتدّ البلية، وتُسبى الذريّة(١) ، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثفالها، ويتفقّهون لغير الله، ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة».

ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال:

«قد عمل الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسُنّته، ولو حملت الناس على تركه، وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض إمامتي من كتاب الله

____________________

١- لعله إشارة إلى ما حدث بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) من سبي عوائل وذراري أهل البيت (صلوات الله عليهم).

٢٨٠