فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247685
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247685 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وتثقيفهم على خلاف ثقافة السلطة.

ونتيجة لذلك يُستغفل الجمهور، ويألف مرجعية الدولة في الدين، وأخذه منه، وتأخذ الدولة حريتها فيما تريد، وتتمّ لها أهدافها.

وهناك محذوران آخران يترتبان على ذلك لا يقلان أهمّية عنه:

تبعية الدين للسلطة تخفف وقعه في نفوسهم

الأوّل : إنّ الناس إذا ألفت الدين الذي تأخذه من الدولة، وتعارفت عليه، ونسي الدين الحقّ، خفّ وقع الدين في نفوسهم، وضعفت حيويته وفاعليته، وبقي طقوساً وشعارات فارغة، وهو ما سعى إليه معاوية من تحكيم الترهيب والترغيب، وإثارة النعرات الجاهلية، وعزل المبادئ والمثل على ما سبق.

بل يتلوّث الدين على الأمد البعيد بجرائم السلطة، وتتشوّه صورته تبعاً له؛ فتتنكّر الناس له لشعورهم بأنّه جاء ليدعم الدولة، ويكون آلة بيدها تنفّذ عن طريقه مشاريعها الظالمة وأهدافها العدوانية، وحينئذ تبدأ الناس بالتحلل منه والخروج عنه تدريجاً، كما حصل في الأديان السابقة.

ومن المعلوم أنّ من أهم أسباب الموقف السلبي - الذي اتخذه الغرب الرأسمالي والشيوعية الشرقية في العصور القريبة - من الدين هو ردّ الفعل لاستغلال السلطة للدين في العصور المظلمة، وتنسيقها مع مؤسساته لخدمة أهدافها، واستعبادها للشعوب.

قد ينتهي التحريف بتحول الدين إلى أساطير وخرافات

الثاني : إنّ التحريف كثيراً ما ينتهي بالدين إلى أساطير وخرافات وتناقضات تتنافى مع الفطرة، ولا يتقبّلها العقل السليم؛ فإمّا أن يرفضه ذوو

٣٦١

المعرفة والعقول المتفتحة جملة وتفصيلاً، أو يكتفوا في اعتناقه بمحض الانتساب تأثراً بالبيئة، أو مع التبني تعصّباً وتثبيتاً لهويتهم التي توارثوها عن آبائهم من دون أن يأخذ موقعه المناسب من نفوسهم.

ويتّضح ذلك بالنظرة الفاحصة للتراث الذي ينسب للأديان السماوية السابقة على الإسلام، وتتبنّاه حتى الآن المؤسسات الدينية الناطقة باسمها.

وهكذا الحال في كثير من التراث الإسلامي المشوّه الذي كان لانحراف السلطة الأثر في إقحامه في تراث الإسلام الرفيع.

وقد استغلّه أعداء الإسلام - من المستشرقين وأمثالهم - للنيل من الإسلام والتهريج عليه، وهم يجهلون أو يتجاهلون براءة الإسلام منه، وأنّه دخيل فيه مكذوب عليه.

بل من القريب أن تكون كثير من الأديان الباطلة الوثنية وغيرها ترجع في أصولها إلى أديان سماوية حقّة قد مسختها يد التحريف والتشويه حتى أخرجتها عن حقيقتها، وإن بقيت تحمل بعض ملامحه، أو شيئاً من تعاليمها.

ويتّضح ذلك في العرب قبل الإسلام حيث بقيت فيهم كثير من ملامح دين إبراهيم (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسّلام) كالحج والعمرة، والختان وغسل الجنابة والميت، وكثير من محرّمات النكاح، وتعظيم البيت الحرام، واحترام إبراهيم نفسه، وغير ذلك.

ضرورة إحراج السلطة بموقف يلجئها لمغامرة سابقة لأوانها

وعلى ضوء ذلك لا علاج لمأساة الإسلام والمسلمين في تلك المرحلة الحساسة، إلّا بإحراج السلطة بموقف يستثيرها، ويفقدها توازنها، لتتخذ خطوة سابقة لأوانها، وتقوم بجريمة نكراء، تنكشف به على حقيقتها، تستفز جمهور

٣٦٢

المسلمين، وتذكّرهم بدينهم ومبادئهم السامية، وتثير غضبهم، وتفصلهم عن السلطة فتخسر ثقتهم بها.

وبذلك تفقد السلطة فاعليتها في التثقيف، وقدرتها على التحريف، ويكون تعامل الجمهور معها تعامل الضعيف مع القوي، والمقهور مع القاهر، لا تعامل الرعية مع الراعي، والأتباع مع القائد.

سنوح الفرصة لاتخاذ الموقف المذكور بعد معاوية

ومن الظاهر أنّ الفرصة قد سنحت بعد معاوية لاتخاذ الموقف المذكور للأسباب التالية:

الأوّل : التحوّل في مسار السلطة، وفي معيار اختيار الخليفة، وفي شخص الخليفة بالنحو غير المألوف للمسلمين، ولا المقبول عندهم في وقته.

حيث يصلح ذلك مبرّراً لإعلان عدم الشرعية، والامتناع من البيعة، ثمّ التذكير بجرائم الأمويين عموماً، والإنكار عليهم وفضحهم.

الثاني : طيش يزيد، واعتماده القوة والعنف في مواجهة الأزمات ومعالجة المشاكل من دون تدبّر في العواقب وحساب لها، على خلاف ما كان عليه الأمر في عهد معاوية.

الثالث : وجود جماعة كبيرة مندفعة مبدئياً وعاطفياً نحو التغيير، مقتنعة بإمكانه، واثقة بالقيادة المعصومة، وتدعوها للعمل على ذلك، وتَعِدُها النصرة. حيث تتحقّق بتلك الجماعة آلية العمل، واتخاذ الموقف المذكور.

الرابع: أنّ فاجعة الطفّ - بأبعادها الدينية والعاطفية والإلهية التي تقدّم تفصيل الكلام فيها - كانت هي الجريمة الأحرى باستفزاز جمهور المسلمين

٣٦٣

واستثارة غضبهم، وفصلهم عن السلطة وسلب ثقتهم بها.

كما إنّها الأحرى بأن تبقى عاراً على الأمويين ومَنْ يتبنّى خطّهم، ويتحمّلوا معرّتها ما بقيت الدنيا، كما صرّح بذلك الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في كتابه المتقدّم لابن زياد الذي قال فيه: أمّا بعد، فإنّ الحسين بن علي قد توجّه إلى العراق، وهو ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله، فاحذر يابن زياد أن تأتي إليه بسوء، فتهيج على نفسك وقومك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء، ولا تنساه الخاصّة والعامّة أبداً ما دامت الدنيا(١) .

وربما يفسّر ذلك ما تقدّم في حوار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع أخيه محمد بن الحنفية حينما سأله عن وجه تعجيله بالخروج، فقال (عليه السّلام): «أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً». فقال محمد: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال: «قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»(٢) .

وعلى كلّ حال فيتم بذلك الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام)، وصالح من أجله الإمام الحسن (صلوات الله عليه) - على ما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى - وصارع من أجل استمراره خواص الشيعة، وتحمّلوا في سبيله صنوف الأذى والتنكيل.

اقتحام السلطة له (عليه السّلام) يزيدها جرأة على انتهاك الحرمات

نعم، اقتحام السلطة للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وانتهاكها لحرمته

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/١٣٤.

٢ - تقدّمت مصادره في/٤٢.

٣٦٤

يزيد في جرأتها على الحرمات، ويهون عليها كلّ جريمة، كما توقّعه هو (عليه السّلام) وغيره على ما سبق، وقد حصل فعلاً.

إلاّ إنّ ذلك إنّما يكون مضرّاً بالدين إذا حافظت السلطة على شرعيته، كما هو المتوقّع لو بايع الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وكسبت السلطة الشرعية عند جمهور المسلمين، وصفت لها الأمور.

حيث تسعى لتحقيق أهدافها، بانتهاك الحرمات والتخلّص من المعارضة بصورة تدريجية متّزنة، يستغفل بها الجمهور، ولا تفقدها الشرعية بنظرهم، وبذلك تنطمس معالم الدين الحقّ، وتخنق دعوته، ولا يُسمع صوته، كما تقدم.

استهتار السلطة بعد سقوط شرعيتها لا يضرّ بالدين

أمّا إذا فقدت السلطة شرعيتها وانفصلت عن الدين بنظر الجمهور؛ نتيجة قيامها بمثل هذه الجريمة النكراء، فتكون للتضحية ثمرتها المهمّة لصالح الدين، بل تكون فتحاً عظيماً تهون دونه هذه النتائج والسلبيات.

بل كلّما زاد الحاكم إمعاناً في الجريمة تأكّد عند الناس بعده عن الشرعية، وكلّما شعر هو بأنّ الناس لا تقتنع بشرعيته زاد استخفافاً بالدين وتجاهراً بمخالفته؛ لشعوره بعدم الفائدة من مجاملة الناس وستر أمره عليهم.

وذلك مكسب عظيم جدّاً للإسلام في تلك الظروف التي كان يمرّ بها؛ حيث يؤكّد عدم شرعية السلطة التي تحاول أن تقنع الناس بأنّها هي الممثّل له.

أثر الفاجعة في حدّة الخلاف بين الشيعة وخصومهم

كما إنّ فاجعة الطفّ قد أوجبت حدّة الخلاف بين شيعة أهل البيت وخصومهم وتعمّقها ولو على الأمد البعيد؛ نتيجة تركيز السلطات المتعاقبة

٣٦٥

المخالفة لخطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) على احترام الأوّلين وموالاتهم والتديّن بشرعية خلافتهما، وشرعية نظام الخلافة الذي بدأ العمل عليه منهما، واهتزاز ذلك بسبب الفاجعة، على ما يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

دفع محاذير الاختلاف

لكن سبق منّا أن ذكرنا أنّه بعد أن تعذّر اتفاق المسلمين على الحقّ؛ نتيجة الانحراف الذي حصل، فاختلافهم في الحقّ خير من اتفاقهم على الباطل، ثمّ ضياع الحقّ عليهم وعلى غيرهم بحيث لا يمكن الوصول إليه(١) . ولاسيما إذا كان الاختلاف مشفوعاً بظهور معالم الدين الحقّ وسماع دعوته، وقوّة الحجّة عليه كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

مواقف الأنبياء والأوصياء وجميع المصلحين

وعلى هذا جرى جميع الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) وكلّ المصلحين، خصوصاً الأُمميين الذين تعمّ دعوتهم العالم أجمع، ولا تختص بمدينة خاصة أو قبيلة خاصة أو شعب خاص.

فإنّهم بدعوتهم وتحرّكهم قد خالفوا المحيط الذي عاشوا فيه، وشقّوا كلمة أهله، ولم يتيسّر لهم غالباً أو دائماً توحيد كلمة المعنيين بدعوتهم وحركتهم، وكسب اتفاقهم لصالحهم.

وأنجحهم من استطاع أن يوحّد جماعة صالحة تتمسّك بخطّه وتعاليمه وتدعوا إليها في مقابل دعوة الباطل التي كان يفترض لها أن تنفرّد في الساحة لولا نهضته وظهور دعوته.

____________________

(١) تقدم في ص: ٢١٧.

٣٦٦

ولا مبرّر لهم في ذلك إلّا تنبيه الغافل، وإيضاح معالم الحقّ الذي يدعون له، وإقامة الحجّة عليه؛ ليتيسّر لطالب الحقّ الوصول إليه، كما قال الله (عزّ وجلّ):( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُور ) (١) ، وقال سبحانه:( ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٢) .

المقارنة بين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاجعة الطفّ

وما الفرق بين دعوة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحركته التي تسببت عن اختلاف الناس عامّة في الدين الحقّ، ونهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي عمّقت الخلاف بين المسلمين في تعيين الإسلام الحقّ، وكان لها أعظم الأثر في إيضاح معالمه؟!

وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نجح في قيام أُمّة تعتنق الإسلام، وتستظل برايته، فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد كان له أعظم الأثر في نشاط الفرقة المحقّة التي تلتزم بالإسلام الحقّ المتمثل بخطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والتي تهتدي بهداهم، وتستضيء بنورهم، وفي قوّة هذه الفرقة وتماسكها كما يأتي توضيحه في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى.

لا بدّ من حصول الخلاف بين المسلمين بسبب الانحراف

على أنّه بعد أن لم يتفق المسلمون على التمسّك بأهل البيت (صلوات الله عليهم)؛ ليعتصموا بهم من الخلاف والضلال، وانحراف مسار السلطة، فالإسلام - كسائر الأديان - معرض للخلاف والانشقاق، تبعاً لاختلاف الاجتهادات والآراء والمصالح والمطامع التي لا تقف عن حدّ.

____________________

١ - سورة الدهر/٣.

٢ - سورة الأنفال/٤٢.

٣٦٧

ولأَن يكون الخلاف بين حق واضح المعالم، ظاهر الحجّة، وباطل مفضوح، يعتمد على السلطة والقوّة - كالذي حصل نتيجة جهود أهل البيت (عليهم السّلام) وشيعتهم وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي ختمت بفاجعة الطفّ - خير من أن تضيع معالم الحقّ، ثمّ يكون الصراع بين القوى المختلفة من أجل تثبيت مواقعها، وتحقيق أهدافها من دون هدى من الله (عزّ وجلّ)، ولا بصيرة في دينها، ومن دون مكسب للدين.

بل يأتي إن شاء الله تعالى أنّ لفاجعة الطفّ أعظم الأثر في بقاء معالم الدين حيث اتفق المسلمون بكيانهم العام على مشتركات كثيرة تحفظ للدين صورته ووحدته، ويكون الخارج عنها معزولاً عن الكيان الإسلامي العام بحيث قد يصل حدّ التكفير والخروج عن الدين، ولولا ذلك لانتشر الأمر، واتّسعت شقّة الخلاف من دون حدود ولا ضوابط.

محذور إضعاف الدولة العربية والإسلامية

ومثل ذلك ما قد يُقال من أنّ فاجعة الطفّ - بتداعياتها التي يأتي التعرّض لها - قد أضعفت الدولة العربية، أو الدولة الإسلامية؛ بسبب اهتزاز الكيان العربي والإسلامي، وظهور الانقسامات والشروخ فيها.

ولعلّ ذلك هو الذي يحمل كثيراً من الباحثين على التململ من نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أو نقدها أو التهجّم عليها.

فإنّه يندفع بوجهين:

الدولة بتركيبتها معرّضة للضعف والانهيار

الأوّل: إنّ مثل هذه الدولة المبنية على الاستغلال والظلم والجبروت

٣٦٨

والقهر، وعلى عدم الانضباط في نظام الحكم، معرّضة للصراع والضعف والانهيار، كما انهارت الدول بمرور الزمن مهما كانت قوّتها.

ولأن يكون الصراع داخل الدولة بين الحقّ والباطل، وتمتاز إحدى الفئتين عن الأخرى، خير من ضياع الحقّ وموته بمرور الزمن، ثمّ يكون الصراع بعد ذلك بين فئات الباطل المختلفة من أجل الاستيلاء على السلطة من دون هدف ديني أو إنساني نبيل.

لا أهمية للدولة العربية في منظور الإسلام

الثاني: إنّ كون الدولة عربية لا أهمية لها في منظور الدين الإسلامي العظيم، بل لا يخرج ذلك عن منظور جاهلي حاربه الإسلام، وشدّد في الإنكار عليه ونبذه.

وهو عدوان في حقيقته على الإسلام الذي قام عليه كيان الدولة، وسرقة منه؛ فإنّ كون العرب هم الحاكمين في تلك الفترة باسم الإسلام شيء، وكون الدولة عربية شيء آخر.

فهو نظير ما يُنسب لبعض الأمويين من قوله عن سواد العراق: إنّما هذا السواد بستان لأُغيلمة من قريش(١) . وما يُنسب للتعاليم اليهودية المحرّفة من أنّ الدين اليهودي مخصّص لصالح بني إسرائيل، ويقرّ امتيازاتهم على

____________________

١ - الطبقات الكبرى ٥/٣٢ في ترجمة سعيد بن العاص، واللفظ له، تاريخ دمشق ٢١/١١٤ - ١١٥ في ترجمة سعيد بن العاص، تاريخ الإسلام ٣/٤٣١ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة، مقتل عثمان (رضي الله عنه)، ونحوه في تاريخ الطبري ٣/٣٦٥ أحداث سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة، ذكر تسيير عثمان من سير من أهل الكوفة إلى الشام، والكامل في التاريخ ٣/١٣٩ أحداث سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة، ذكر تسيير عثمان من سير من أهل الكوفة إلى الشام، وتاريخ ابن خلدون ٢ ق ٢/١٤٠، وشرح نهج البلاغة ٣/٢١، وغيرها من المصادر.

٣٦٩

بقية الشعوب.

لو شكر العرب النعمة

نعم، لو أنّ العرب شكروا نعمة الله (عزّ وجلّ) ولم يخرجوا بالسلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه، ووفوا بعهد الله سبحانه الذي أخذه عليهم، لأبقى الله (جلّ شأنه) عزّهم فيهم، ولحملوا دعوة الله (عزّ وجلّ) للأمم، وانتشر الإسلام بحقّه وحقيقته، وعدله واستقامته، وخيره وبركته، بعيداً عن الانحراف والاستغلال والمحسوبيات.

ولعمّت لغة العرب الدنيا، لا لأنّها لغة العرب؛ لتتحسّس منها الشعوب الأخرى، بل لأنّها لغة الدين العظيم والقرآن المجيد والسُنّة الشريفة - بما في ذلك الأدعية والزيارات الكثيرة - وبقية التراث الإسلامي.

وبذلك تُهمل الفوارق تدريجاً، وتموت العصبيات، ويكون للعرب شرف ذلك كلّه، ويكسبون احترام العالم ومودّته.

لكنّهم أخطأوا حظّهم، وضيّعوا نصيبهم، و( بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (١) فكان عاقبة أمرهم خسراً.

وإلى ذلك يشير عمار بن ياسر رضي الله عنه في كلام له يوم الشورى بعد صرف الأمر عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وبيعة عثمان. فقد روى الجوهري قال: «نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم: يا معشر المسلمين، إنّا كنّا وما كنّا نستطيع الكلام قلة وذلة، فأعزنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله. فالحمد لله رب العالمين. يا معشر قريش، إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة؟! ما أنا آمن أن ينزعه منكم ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من

____________________

١ - سورة إبراهيم/٢٨.

٣٧٠

أهله ووضعتموه في غير أهله»(١) . وإنا لله وإنا إليه راجعون. ولله أمر هو بالغة.

إظهار دعوة الإسلام الحقّ أهم من قوّة دولته

أمّا كون الدولة إسلامية فهو من الأهمية بمكان، خصوصاً في تلك الظروف؛ حيث تكون سبباً في حفظ كيان الإسلام، وإيصال دعوته الشريفة للعالم، كما حصل فعلاً؛ ولذا تقدّم أنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ترك الصراع مع القوم لاسترجاع حقّه حفاظاً على كيان الإسلام العام.

إلاّ إنّ من أهم الثمرات المطلوبة من بقاء الكيان الإسلامي العام هو تحقيق الأرضية الصالحة لإيصال الإسلام الحقّ للمسلمين، بل للعالم عامّة وتعرّفهم به، فلا معنى للتفريط بهذه الثمرة حذراً من ضعفٍ مؤقت في قوّة الدولة الإسلامية التي هي في مقام تحريف الدين وتضييع معالمه.

بل يتعين إيقاف الدولة عند حدّها، والسعي لسلب شرعيتها؛ لتعجز عن تحريف الدين وتضييع معالمه، ثمّ تترك لتقوّي كيانها باسم الإسلام من دون أن تقوى على التدخّل في الدين؛ لحفظ معالمه، واتضاح ضوابطه مع ظهور دعوة الدين الحقّ وقوّته، وسماع صوتها في ضمن الكيان الإسلامي العام.

وهو ما حصل بجهود أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي انتهت بفاجعة الطفّ المدوّية الخالدة.

والحاصل: إنّه قد كان لفاجعة الطفّ التي ختمت بها نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - الذي هو المسؤول الأوّل في المسلمين - في هذا المفصل التاريخي من مسار السلطة، والوضع الحرج الذي يمرّ به الإسلام، ضرورة

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص: ٥٨. ونظيره في مروج الذهب ج: ٢ ص: ٣٤١ ذكر خلافة عثمان بن عفان: عمار بن ياسر.

٣٧١

ملحة من أجل التنفير من السلطة المنحرفة، وسلب الشرعية عنها؛ لدفع غائلتها عن الإسلام، ومن أجل إيضاح معالم الدين والتذكير بضوابطه.

حقّقت فاجعة الطفّ هدفها على الوجه الأكمل

وقد حقّقت هدفها على أكمل وجه؛ حيث صارت الفاجعة - بأبعادها المتقدّمة - صرخة مدوّية هزّت ضمير الأُمّة، ونبّهتها من غفلتها، وأشعرتها بالخيبة والخسران؛ لخذلان الحقّ ودعم الباطل، وبالهوّة السحيقة بين الواقع الذي تعيشه، والواقع الديني الذي أراد الله (عزّ وجلّ) منها أن تكون عليه.

ولاسيما مع قرب العهد النبوي الشريف وعهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)؛ حيث يتجسّد الإسلام الحقّ على الأرض، ولا يزال المسلمون يتذكّرونه ويتحدّثون عنه.

وبذلك تزعزعت الأسس التي قام عليها كيان الظالمين، وابتنت عليها شرعية حكمهم، وسعة صلاحياتهم، وتأثيرهم في تثقيف الأُمّة وتوجيهها.

وقد سبق أنّ السلطة بعد انحراف مسارها في الإسلام - باستيلاء غير المعصوم المنصوص عليه على الحكم - قد حاولت في الصدر الأوّل تمرير مشروع تدويل الإسلام الذي يُراد به تبعية الدين الإسلامي للدولة والسلطة بحيث يؤخذ منها، وتكون هي المرجع فيه، ويتيسّر لها التحكّم فيه لصالحها، وتبعاً لأهوائها.

وإذا كان أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في فترة حكمه القصيرة قد وقف في وجه المشروع المذكور، وأصحر بمقاومته وعدم شرعيته، واستمرّ خواص شيعته في صراع مرير ضدّه؛ فإنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد اغتنم الفرصة للإجهاز على المشروع المذكور، والقضاء عليه تماماً

٣٧٢

بفاجعة الطفّ الدامية؛ حيث قامت السلطة بأفظع جريمة في تاريخ الإسلام، لا يزال صداها مدوياً حتى اليوم، وبذلك تمّ الفتح على يديه (صلوات الله عليه).

هذا وقد سبق منّا(١) في المقصد الأوّل التعرّض في تتمّة الكلام في أبعاد الفاجعة وعمقها إلى ردود الفعل السريعة للفاجعة، وتأثيرها على موقف السلطة نفسها بعد شعورها بالخطأ والخيبة.

تداعيات فاجعة الطفّ في المراحل اللاحقة

ويحسن منّا هنا التعرّض لتداعيات الفاجعة في المراحل اللاحقة، وتأثيرها على موقف جمهور المسلمين وخاصتهم من السلطة؛ من أجل أن يتضح كيف سارت الأمور في اتجاه الفتح العظيم، وتحقيق أهداف تلك الملحمة الإلهية المباركة، فنقول بعد الاتكال على الله (عزّ وجلّ) وطلب التسديد منه:

ثورة أهل المدينة وعبد الله بن الزبير

من المعلوم أنّ من نتائج فاجعة الطفّ وتداعياتها السريعة الثورات المتلاحقة، والخروج على حكم يزيد من أهل المدينة المنوّرة الذي انتهى بواقعة الحرّة الفظيعة، ومن عبد الله بن الزبير الذي أدّى لانتهاك الأمويين حرمة الحرم، ورميهم مكة المكرّمة بالمنجنيق حتى أُصيبت الكعبة المعظمة واحترقت(٢) .

____________________

١ - راجع/٩٣ وما بعده.

٢ - الكامل في التاريخ ٤/١٢٤ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته، تاريخ الطبري ٤/٣٨٣ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، البداية والنهاية ٨/٢٤٧ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، السيرة الحلبية ١/٢٩٠، تاريخ دمشق ١٤/٣٨٥ في ترجمة حصين بن نمير، تاريخ الإسلام ٥/٣٤ حوادث سنة أربع وستين من الهجرة، تاريخ اليعقوبي ٢/٢٦٦ أيام مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير، الوافي بالوفيات ج: ١٣ =

٣٧٣

موت يزيد بن معاوية

وبعد ذلك عجّل الله تعالى على يزيد وأهلكه، وقد مقته الناس وأبغضوه حتى إنّ ابن زياد لما نعاه إلى أهل البصرة نال منه وثلبه(١) ، وما ذلك إلّا لإرضائهم، طمعاً في ودّهم وكسبهم لصالحه.

إعلان معاوية بن يزيد عن جرائم جدّه وأبيه

وكان يزيد قد عهد بالخلافة من بعده لابنه معاوية، فأعلن معاوية عن جرائم جدّه وأبيه بنحو يوحي بعدم شرعية خلافتهم، ثمّ رفض تحمّل مسؤولية الخلافة، وتعيين ولّي العهد له.

فقد خطب الناس، وقال في جملة ما قال: ألا وإنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر مَنْ كان أولى به منه في القرابة برسول الله، وأحق في الإسلام، سابق المسلمين، وأوّل المؤمنين، وابن عمّ رسول ربّ العالمين، وأبا بقيّة خاتم المرسلين. فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون حتى أتت منيّته، وصار رهناً بعمله.

ثمّ قلّد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل؛ فقلّت منعته، وانقطعت مدّته، وصار

____________________

= ص: ٥٧ في ترجمة حصين السكوني، تهذيب التهذيب ٥/١٨٨ في ترجمة عبد الله بن الزبير بن العوام، فتح الباري ٣/٣٥٤، و٨/٢٤٥، إمتاع الأسماع ١٢/٢٧٢، تعجيل المنفعة/٤٥٣، وغيرها من المصادر الكثيرة.

١ - الكامل في التاريخ ٤/١٣١ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، ذكر حال ابن زياد بعد موت يزيد، تاريخ الطبري ٤/٣٨٩ أحداث سنة خمس وستين من الهجرة، ذكر الخبر عمّا كان من أمر عبيد الله بن زياد وأمر أهل البصرة معه بها بعد موت يزيد، تاريخ دمشق ١٠/٩٥ في ترجمة أيوب بن حمران، وغيرها من المصادر.

٣٧٤

في حفرته، رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه.

ثمّ بكى وقال: إنّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وقبح منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله، وأباح الحرمة، وحرق الكعبة.

وما أنا بالمتقلّد أموركم، ولا المتحمّل تبعاتكم؛ فشأنكم أمركم. فوالله، لئن كانت الدنيا مغنماً لقد نلنا منها حظّاً، وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها.

فقال له مروان بن الحكم: سنّها فينا عمرية. قال: ما كنت أتقلدكم حيّاً وميتاً. ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر؟! ومَنْ لي برجل مثل رجال عمر؟!

هذا ما رواه اليعقوبي(١) ، وذكر قريباً منه باختصار المقدسي(٢) . أمّا ما رواه الدميري(٣) وابن الدمشقي(٤) والعصامي(٥) فهو أظهر في تعظيم أمير المؤمنين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان حقّهم، بل فيه تلويح أو تصريح بظلمهم (عليهم السّلام) حتى من قِبَل الأوّلين.

وقال البلاذري: وحدّثني هشام بن عمّار عن الوليد بن مسلم قال: دخل مروان بن الحكم على معاوية بن يزيد فقال له: لقد أعطيت من نفسك ما يُعطي

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢/٢٥٤ أيام معاوية بن يزيد بن معاوية، واللفظ له، وقريب منه في النجوم الزاهرة ١/٦٥ ولاية سعيد بن يزيد على مصر، وينابيع المودة ٣/٣٧.

٢ - البدء والتاريخ ٦/١٦ - ١٧ ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية.

٣ - حياة الحيوان/١١٢ في مادة: أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

٤ - جواهر المطالب ٢/٢٦١ - ٢٦٢ الباب الثاني والسبعون في ذكر الوافدات على معاوية بعد قتل علي (عليه السّلام) وما خاطبوه به وما أسمعوه، خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية.

٥ - سمط النجوم العوالي ٣/١٠٢، وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه.

٣٧٥

الذليل المهين. ثمّ رفع صوته فقال: مَنْ أراد أن ينظر في خالفة آل حرب فلينظر إلى هذا.

فقال له معاوية: يابن الزرقاء! اخرج عنّي، لا قَبِل الله لك عذراً يوم تلقاه(١) .

ولم يطل عهده، بل بقي عشرين يوماً(٢) أو أربعين يوماً(٣) أو ثلاثة أشهر(٤) أو أربعة(٥) ، وقيل: إنّه مات مطعوناً(٦) ، وقيل: مات مسموماً(٧) ولعلّه الأشهر.

____________________

١ - أنساب الأشراف ٥/٣٨١ في ترجمة معاوية بن يزيد.

٢ - أنساب الأشراف ٥/٣٧٩ في ترجمة معاوية بن يزيد، تاريخ دمشق ٥٩/٣٠٠ في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية، البدء والتاريخ ٦/١٧ ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية.

٣ - صحيح ابن حبان ١٥/٣٩ كتاب التاريخ، باب إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عمّا يكون في أُمته من الفتن والحوادث، بيان سني الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الطبقات الكبرى ٤/١٦٩ في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب، و٥/٣٩ في ترجمة مروان بن الحكم، الاستيعاب ٣/١٣٨٩ في ترجمة مروان بن الحكم، أنساب الأشراف ٥/٣٧٩ في ترجمة معاوية بن يزيد، تاريخ دمشق ٥٧/٢٥٩ في ترجمة مروان بن الحكم، و٥٩/٢٩٧ في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية، حياة الحيوان/١١٢ في مادة: أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، تاريخ خليفة بن خياط/١٩٦، البدء والتاريخ ٦/١٧ ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية، شرح نهج البلاغة ٦/١٥٢، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٤ - الطبقات الكبرى ٥/٣٩ في ترجمة مروان بن الحكم، أنساب الأشراف ٥/٣٧٩ في ترجمة معاوية بن يزيد، تاريخ دمشق ٥٧/٢٥٩ في ترجمة مروان بن الحكم، البدء والتاريخ ٦/١٧ ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية، سير أعلام النبلاء ٤/١٣٩ في ترجمة معاوية بن يزيد، الكامل في التاريخ ٤/١٣٠ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٥ - تاريخ دمشق ٥٩/٣٠٥ في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية، البداية والنهاية ٨/٢٦٠ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية، تاريخ اليعقوبي ٢/٢٥٤ في أيام معاوية بن يزيد بن معاوية.

٦ - البداية والنهاية ٨/٢٦١ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية.

٧ - تاريخ الطبري ٤/٤٠٩ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة: مبايعة أهل الشام لمروان بن الحكم. =

٣٧٦

انتقام الأمويين من مؤدّب معاوية بن يزيد

وسواء انتقم منه الأمويون بالسّم، أم لم ينتقموا؛ فإنّهم قد انتقموا من مؤدّبه عمر بن نعيم العنسي المعروف بالمقصوص(١) فدفنوه حياً(٢) .

وقال الدميري: ثمّ إنّ بني أمية قالوا لمؤدّبه عمر المقصوص: أنت علّمته هذا ولقّنته إيّاه، وصددته عن الخلافة، وزيّنت له حبّ علي وأولاده، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحسنت له الباع حتى نطق بما نطق، وقال ما قال. فقال: والله ما فعلته، ولكنّه مجبول ومطبوع على حبّ علي. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيّاً حتى مات(٣) .

وذكره مختصراً ابن الدمشقي، لكنّه قال: فقال: لا والله، وإنّه لمطبوع عليه. والله ما حلف قطّ إلّا بمحمد وآل محمد، وما رأيته أفرد محمداً منذ عرفته(٤) .

____________________

= البداية والنهاية ٨/٢٦١ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية، الكامل في التاريخ ٤/١٣٠ أحداث سنة أربع وستين من الهجرة، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية، سمط النجوم العوالي ٣/١٠١ وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه، الفخري في الآداب السلطانية ١/٤٣ في ترجمة معاوية بن يزيد، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢٠/٣١٣ أحداث سنة ثلاثة وستين من الهجرة، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية.

١ - جواهر المطالب ٢/٢٦٢.

٢ - البدء التاريخ ٦/١٧ ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية، تاريخ مختصر الدول/١١١ الدولة التاسعة: معاوية بن يزيد، سمط النجوم العوالي ٣/١٠٢ وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه، تاريخ الخميس ٢/٣٠١ خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية.

٣ - حياة الحيوان/١١٢ في مادة: أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، واللفظ له، سمط النجوم العوالي ٣/١٠٢ وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه.

٤ - جواهر المطالب ٢/٢٦١ - ٢٦٢ الباب الثاني والسبعون في ذكر الوافدات على معاوية بعد قتل علي (عليه السّلام) وما خاطبوه به وما أسمعوه، خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية.

٣٧٧

انهيار دولة آل أبي سفيان

وكيف كان فالذي لا ريب فيه أنّه لم يعهد لأحد من بعده بالخلافة.

وبذلك انهارت دولة آل معاوية أو آل أبي سفيان، تلك الدولة العظمى التي جهد معاوية بدهائه ومكره، وجرائمه وموبقاته وقوّة سلطانه في إرساء قواعدها وإحكام بنيانها، وبنى عليها آمالاً طويلة عريضة( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (١) .

اختلاف الأمويين وتعدد الاتجاهات في العالم الإسلامي

وقد استتبع ذلك اختلاف الأمويين فيما بينهم، وتعددت الاتجاهات في المسلمين، كما قال المساور بن هند بن قيس: وتشعّبوا شعب، فكلّ قبيلة فيها أمير المؤمنين(٢) .

حيث ظهر التوّابون، ثمّ المختار، ونشط ابن الزبير والخوارج، ورفع غير واحد رأسه في المناطق الإسلامية المختلفة، وقد أُريق بسبب ذلك أنهار من الدماء، وانتُهكت كثير من الحرمات، وعمّ الهرج والمرج.

تنبؤ الصديقة فاطمة (عليها السّلام) بما آلت إليه الأمور

وكأنّه إلى ذلك وأمثاله ممّا حصل للمسلمين في مفاصل تاريخية كثيرة تنظر الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) في قولها المتقدّم في ختام خطبتها الصغيرة، تعقيباً على انحراف مسار السلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أما لعمري، لقد

____________________

١ - سورة النور/٣٩.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢/٢٦٣ أيام مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير.

٣٧٨

لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً، وزعافاً مبيداً، هنالك( يَخسَرُ المُبطِلُونَ ) ، ويعرف البطالون غبّ ما أسس الأوّلون، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً، وأطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً...»(١) .

أهمية الفترة الانتقالية التي استمرت عشر سنين

ولم يستقر الأمر لعبد الملك بن مروان نسبياً إلّا بعد قتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين، في السنة الثالثة عشرة لفاجعة الطفّ ومقتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

وقد كان لهذه الفترة الانتقالية - التي استمرت عشر سنين تقريباً - أهمية كبرى من جهتين:

وضوح عزل الدين في الصراع على السلطة وفي كيانها

الجهة الأولى: وضوح تجرّد السلطة عن الدين والمبادئ في صراعها مع الآخرين، وفي سلوكها مع الرعية؛ وقد تجلّى ذلك على أتمّ وجه فيمَنْ كانت له الغلبة أخيراً، وهم آل مروان بن الحكم بن العاص الذين هم من أبعد الناس عن واقع الإسلام، وأسوئهم أثراً فيه.

وقد صدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً»(٢) .

____________________

١ - راجع ملحق رقم (٢).

٢ - المستدرك على الصحيحين ٤/٤٨٠ كتاب الفتن والملاحم، واللفظ له، مسند أبي يعلى ١١/٤٠٢ ح ٦٥٢٣، مجمع الزوائد ٥/٢٤١ كتاب الخلافة، باب في أئمّة الظلم والجور وأئمّة الضلالة، المعجم الصغير ٢/١٣٥، سير أعلام النبلاء ٣/٤٧٨ في ترجمة مروان بن =

٣٧٩

وقد أمعنوا في الاستهتار بالدين، والخروج على المبادئ الشريفة، وانتهاك الحرمات العظام في سبيل الاستيلاء على السلطة والاستئثار بالحكم.

كما أكّدوا واقع الأمويين الأسود بسوء سلطانهم وجبروتهم وطغيانهم، واستهتارهم وانتهاكهم للحرمات ومقارفتهم للموبقات واستغراقهم في الشهوات.

وقد أثار ذلك التوجّس والحذر والنقد لكلّ سلطة تُفرض، بل البغض والتنفّر منها نوعاً حتى سقطت حرمة السلطة، وفقدت قدسيتها عند جمهور المسلمين.

فالخليفة عندهم لا يمثّل الحقيقة الدينية المقدّسة وإن حاول أن يدّعي لنفسه ذلك، ويطلق عليها ألقاب الاحترام والتقديس، كخليفة الله، وسلطانه في الأرض، وخليفة رسوله، وأمير المؤمنين... إلى غير ذلك.

غاية الأمر أنّ التعامل وتمشية الأمور يكون معه؛ تبعاً للقوّة، رضوخاً للأمر الواقع، وانسجاماً معه في شرعية مهزوزة مادامت القوّة من دون إيمان بها في الأعماق، فضلاً عن التقديس المفترض لمقام الخلافة والإمامة. وكلّما زاد إجراماً وانتهاكاً للحرمات زاد بُعداً عن الحقيقة الدينية.

والحاصل: إنّه سبق أنّ الكتاب المجيد والسُنّة النبوية الشريفة قد أكّدا على وجوب معرفة الأئمّة، وفرض طاعتهم وموالاتهم والنصيحة لهم، ولزوم جماعتهم، وحرمة الخروج عليهم، وسقوط حرمة الخارج بحيث يكون باغياً يجب على المسلمين قتاله... إلى غير ذلك ممّا يفترض أن يترتّب عليه انشداد جمهور المسلمين للخلفاء وتقديسهم لهم بحيث يكونون هم الممثلين للدين

____________________

= الحكم، تاريخ الإسلام ٥/٢٣٣ في ترجمة مروان بن الحكم، تاريخ دمشق ٥٧/٢٥٣ في ترجمة مروان بن الحكم بن أبي العاص، إمتاع الأسماع ١٢/٢٧٦، كنز العمال ١١/١١٧ ح ٣٠٨٤٦، وص ١٦٥ ح ٣١٠٥٧، وغيرها من المصادر.

٣٨٠