فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247671
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247671 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بنظرهم والقدوة التي يقتدون بها في حياتهم.

وقد حاول الأوّلون بمختلف الوسائل، وبجهود مكثّفة استغلال ذلك كلّه لصالحهم، ونجحوا في ذلك نسبياً، كما يظهر ممّا سبق.

إلاّ إنّ الصراع الذي بدأه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، واستمر عليه خواص شيعته، وتحمّلوا صنوف الأذى والتنكيل من أجله، وختم بفاجعة الطفّ وتداعياتها، كلّ ذلك قد جعل من واقع الخلفاء بنظر جمهور المسلمين أمراً لا ينسجم مع شيء من ذلك.

بل هم ينظرون لهم كذئاب كاسرة لا يؤمنون على دنيا ولا دين، وأصبح تقييمهم للخليفة منوطاً بعمله وسلوكه معهم من دون صبغة دينية ترفع من شأنه، وتجعلهم يتفاعلون معه.

اتضاح أنّ بيعة الخليفة لا تقتضي شرعية خلافته

كما إنّ البيعة للخليفة - حتى من الخاصة - لا تعني إضفاء الشرعية على خلافة الخليفة، بل الرضوخ له والتعايش معه؛ دفعاً لشرّه، وتقيّة منه.

أوّلاً : لتبلور مفهوم التقيّة تدريجاً نتيجة إفراط الخلفاء في الظلم والجبروت والطغيان، نظير ما تقدّم من الإمام علي بن الحسين زين العابدين (صلوات الله عليه) حول البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة بعد واقعة الحرّة(١) .

وثانياً : لتسافل أمر الخلافة بتسافل وسائل الوصول إليه، وتحوّلها إلى سلطة قمع لتثبيت الطغاة.

وثالثاً : لتسافل واقع الخلفاء، ونزولهم للحضيض، وتوحّلهم في مستنقع

____________________

١ - تقدّم في/٣٥٦.

٣٨١

الجريمة والرذيلة والخلاعة والتحلل.

ومثل هذه الخلافة لا يمكن الاقتناع بشرعيتها من كلّ مسلم مهما كان التزامه الديني وثقافته، وإن كان يتعامل معها كأمر واقع مفروض عليه.

وإذا كان معاوية في حديثه المتقدّم(١) مع المغيرة بن شعبة قد استصعب الولاية بالعهد ليزيد لما يعرفه من واقعه المشين، ولبقاء شيء من الحرمة للخلافة، فإنّ الأمر بعد ذلك لم يعد صعباً؛ لسقوط حرمة الخلافة، وتحوّلها إلى أداة قمع ووسيلة للترف والاستهتار.

اتضاح أنّ وجوب الطاعة ولزوم الجماعة لا يعني الانصياع للسلطة

وقد اضطر ذلك رجال الدين والفقهاء - فيما بعد - إلى أن يفصحوا بحرمة طاعة السلطة في معصية الله تعالى(٢) ؛ لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

كما إنّ الجماعة التي يجب لزومها، ولا يجوز الخروج عنها ليست هي جماعة الخليفة الحاكم كما كان عليه الأمر في الصدر الأوّل، وحاول الحكّام التشبّث به على طول الخطّ، بل هي جماعة الحقّ أين كان، وكيف كان.

قال أبو شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحقّ واتّباعه وإن كان المتمسّك به قليلاً والمخالف كثيراً؛ لأنّ الحقّ هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (رضي الله عنهم)، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم(٣) .

____________________

١ - تقدّم في/٣٤٦.

٢ - المغني - لابن قدامة ٩/٤٧٩، بدائع الصنائع ٧/١٠٠، الثمر الداني/٢٤، كشاف القناع - للبهوتي ٥/٦١١، جواهر العقود - للمنهاجي الاسيوطي ٢/٢٨٠، فقه السنة ٢/٦٤٣ - ٦٤٤، عمدة القارئ ١٤/٢٢١، تحفة الأحوذي ٥/٢٩٨، وغيرها من المصادر.

٣ - شرح العقيدة الطحاوية - لابن أبي العزّ الحنفي/٣٠٧ - ٣٠٨، واللفظ له، فيض القدير ٤/١٣١، النصائح الكافية/٢١٩.

٣٨٢

وقد استحسن ذلك منه ابن أبي العزّ الحنفي(١) .

وقال أبو حاتم: الأمر بالجماعة بلفظ العموم، والمراد منه الخاص؛ لأنّ الجماعة هي إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمَنْ لزم ما كانوا عليه وشذّ عمّنْ بعدهم لم يكن بشاقٍّ للجماعة، ولا مفارقٍ لها، ومَنْ شذّ عنهم وتبع مَنْ بعدهم كان شاقّاً للجماعة. والجماعة بعد الصحابة هم أقوام اجتمع فيهم الدين والعقل والعلم، ولزموا ترك الهوى فيما هم فيه وإن قلّت أعدادهم، لا أوباش الناس ورعاعهم وإن كثروا(٢) ، ونحوه كلام غيرهم.

بل بلغ الأمر بهم أنّهم رووا تفسير الجماعة التي يجب لزومها بالسواد الأعظم(٣) ، ومع ذلك قال إسحاق بن راهويه: لو سألت الجهّال عن السواد الأعظم قالوا: جماعة الناس. ولا يعلمون أنّ الجماعة عالم متمسّك بأثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمَنْ كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومَنْ خالفه فيه ترك الجماعة(٤) .

تخبّط الجمهور في تحديد وجوب الطاعة ولزوم الجماعة

نعم، هذا منهم تخبّط في تحديد وجوب الطاعة ولزوم الجماعة؛ لظهور أنّه بعد أن وجبت عندهم البيعة للخليفة؛ لأنّ مَنْ مات من دون بيعة مات ميتة جاهلية كما تظافرت به النصوص، ولتوقّف حفظ كيان الإسلام وإدارة أمور المسلمين على الخلافة والإمامة، فمن الظاهر أنّ الإمامة لا تؤدّي وظيفتها إلّا بالطاعة، وأي خليفة وإمام يستطيع حفظ كيان الإسلام وإدارة أمور المسلمين

____________________

١ - شرح العقيدة الطحاوية - لابن أبي العزّ الحنفي/٣٠٧ - ٣٠٨.

٢ - صحيح ابن حبان ١٤/١٢٦ - ١٢٧ كتاب التاريخ، باب بدء الخلق، ذكر تشبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عيسى بن مريم بعروة بن مسعود.

٣ - فتح الباري ١٣/٣١، عمدة القاري ٢٤/١٩٥، تحفة الأحوذي ٦/٣٢١.

٤ - حلية الأولياء ٩/٢٣٨ في ترجمة محمد بن أسلم.

٣٨٣

إذا كان لا يُطاع؟!

مع إنّ تمييز تصرّفات الخليفة المحلّلة من المحرّمة لا يتيسّر لعامة الناس، وحتى الخاصة كثيراً ما يختلفون في ذلك، وفي ذلك اضطراب أمور المسلمين، وانفراط نظمهم، وهو الذي حصل فعلاً.

كما إنّ الجماعة فيما يبدو من نصوصها - ومنها خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف المتقدّمة في أوائل المبحث الأوّل(١) - هي جماعة الخليفة والإمام الذي يقوم به كيان الإسلام، وينتظم المجتمع الإسلامي.

وببيان آخر: لزوم الجماعة إنّما ورد من أجل أن تكون الجماعة علماً على الحقّ، يعتصم به المسلمون، فإذا توقّف وجوب لزوم الجماعة على إحراز كونها جماعة حقّ لم تكن الجماعة علماً على الحقّ يعتصم به المسلمون، بل يعتصمون بالحقّ الذي لا بدّ لهم من معرفته قبل أن يعتصموا بالجماعة، كما لا يقوم بها كيان الإسلام؛ لخفاء الحقّ على جمهور الناس، واختلاف الخاصة فيه.

تناسق مفهوم الإمامة والطاعة والجماعة عند الإمامية

ولا مخرج عن ذلك إلّا بما سبق من أنّ المراد بالجماعة جماعة الإمام الحقّ، بعد الفراغ عن أنّ الله (عزّ وجلّ) قد عيّن الإمام الحقّ المعصوم بالنصّ الواضح الجلي الذي يجب على الأُمّة التسليم له، كما عليه الإمامية في أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم).

والإمام المذكور هو الذي تجب طاعته ولزوم جماعته، ولا يجوز الخروج عليه، ومَنْ لا تجب طاعته ولزوم جماعته على الإطلاق؛ لعدم عصمته لا بدّ أن لا يكون ممّا عند الله تعالى بحيث تجري عليه أحكام الإمام الشرعية.

____________________

١ - تقدّمت مصادرها في/١٥٧.

٣٨٤

وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك عند التعرّض لجهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كشف الحقيقة، وبيان معالم الدين في المقام الأوّل من هذا المبحث(١) .

إلاّ إنّ الجمهور حيث لم يقرّوا بالنصّ، ولم يذعنوا له - وذهبوا إلى أنّ الإمامة والخلافة تكون ببيعة الناس من دون ضابط -، ولم يمكنهم البناء على وجوب طاعة الخليفة، ولزوم جماعته مطلقاً وإن كان فاسقاً جائراً - نتيجة ما سبق -؛ اضطروا لهذا التخبط.

والمهم في المقام أنّ ضوابط الطاعة ولزوم الجماعة قد اهتزّت، واختلفت عمّا كانت عليه قبل فاجعة الطفّ كما يظهر بمراجعة ما سبق من الصدر الأوّل في التأكيد على لزوم الجماعة.

وقد اضطروا أخيراً للالتزام نظرياً بعدم وجوب الطاعة المطلقة لخليفة الجور، وإن كانوا كثيراً ما لا يجرون على ذلك عملياً؛ غفلة منهم أو تغافلاً.

وترتّب على ذلك أمران في غاية الأهمية:

الخروج على السلطة لم يَعُدْ يختصّ بالخوارج

الأوّل : إنّ الخروج على الحاكم لا يختص بالخوارج الذين تشوهّت صورتهم، وسقط اعتبارهم؛ من أجل ما سبق، بل خرج كثير من غيرهم على السلطات المتعاقبة، وفيهم مَنْ يَكنّ له المسلمون - على اختلاف ميولهم وتوجّهاتهم - الاحترام أو التقديس.

وتقييم جمهور الناس لخروج الخارج تابع لتقييمهم لشخصه، ولِما يقتنعون به من مبادئه وأهدافه وسلوكه، ولا يكون الخروج على الحاكم بنفسه جريمة بنظر عموم المسلمين حسب مرتكزاتهم كما هو الحال عند الشارع الأقدس في

____________________

١ - تقدّم في/٢٥٤ وما بعدها.

٣٨٥

الخروج على الإمام الشرعي؛ حيث يكون الخارج عليه باغياً يجب على المسلمين قتاله حتى يفيء لطاعته ويلزم جماعته.

غاية الأمر أنّ الخليفة نفسه حيث يفترض شرعية سلطته، فهو ومرتزقته يفترضون الخارجين عليه بغاة يعاملونهم معاملتهم، بل كثيراً ما يزيدون في التنكيل بهم على حكم البغاة تعدّياً وطغياناً.

إلاّ إنّ ذلك يفقد المصداقية عند جمهور المسلمين وعامّتهم، فلا يعترفون للخليفة بذلك، بل يرون هدفه الدفاع عن سلطته، وإشباع شهوته في الحكم والسلطة والاستغلال والاستئثار.

غاية الأمر أنّهم يستسلمون أخيراً للغالب بغض النظر عن شرعيته؛ اعترافاً بالأمر الواقع كما هو الحال في صراع الملوك فيما بينهم.

صارت الإمامة عند الجمهور دنيوية لا دينية

الثاني : إنّ الخلافة والإمامة في الصدر الأوّل كانت دينية ودنيوية، فكما يكون الخليفة مرجعاً للمسلمين في أمور دنياهم وسياسة أمورهم يكون مرجعاً لهم في دينهم.

وهو وإن كان قد يسأل غيره، ويستعين برأيه، إلّا أنّ له القول الفصل فيه. وتقدم عن ابن مسعود أنّه قال: إنّما نقضي بقضاء أئمّتنا(١) .

وعن سعيد بن جبير قال: «كنت أسأل ابن عمر في صحيفة ولو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه. قال: فسألته عن الإيلاء. فقال: أتريد أن تقول: قال ابن عمر، وقال ابن عمر. قال: قلت: نعم، ونرضى بقولك ونقنع. قال: يقول

____________________

١ - المحلّى ٩/٢٨٣، ٢٨٦، الإيضاح/٣٤١.

٣٨٦

في ذلك الأمراء»(١) .

وعن مطر قال: «ما لقيت شامياً أفقه من رجاء بن حياة إلا أنه إذا حركته وجدته شامياً وربما جرى الشيء فنقول [فيقول.ظ]: فعل عبد الملك بن مروان رحمة الله»(٢) .

وعن هشام بن عروة قال: «ما رأيت عروة يسأل عن شيء قط فقال فيه برأيه، إن كان عنده فيه علم قال بعلمه، وإن لم يكن عنده فيه علم قال: هذا من خالص السلطان»(٣) .

ولا يتوجّه الجمهور للسؤال من غيره والأخذ منه إلّا في حدود ما يسمح به. كما يظهر بأدنى ملاحظة لتاريخ الإسلام في الصدر الأول، وتقدم ويأتي بعض مفردات ذلك.

أمّا بعد أن سقطت قدسية الخلافة - نتيجة العوامل المتقدّمة - فقد اقتصرت الخلافة أخيراً عند الجمهور على الأمور الدنيوية وسياسة الدولة، تدعمها في ذلك القوّة والبطش بلا ضوابط من دون أن يكون الخليفة مرجعاً في أمور الدين.

واضطر الجمهور نتيجة ذلك للالتزام بعدم تشريع إمامة الدين في الإسلام - على خلاف ما عليه الشيعة - وأنّ على الناس أن يرجعوا للفقهاء على

____________________

(١) الطبقات الكبرى ج: ٦ ص: ٢٥٨ في ترجمة سعيد بن جبير. وقريب منه في مصنف ابن أبي شيبة ج: ٤ ص: ٩٨ كتاب الطلاق: في المولي يوقف وتفسير الطبري ج: ٢ ص: ٥٩١.

(٢) تاريخ دمشق ج: ١٨ ص: ١٠٤ في ترجمة رجاء بن حيوية، واللفظ له. تهذيب الكمال ج: ٩ ص: ١٥٤ في ترجمة رجاء بن حياة. تهذيب التهذيب ج: ٣ ص: ٢٢٩ في ترجمة رجاء بن حياة. طبقات الفقهاء ج: ١ ص: ٧٥ في ترجمة رجاء بن حياة الكندي. وغيرها من المصادر.

(٣) تاريخ دمشق ج: ٤٠ ص: ٢٥٧ في ترجمة عروة بن الزبير، واللفظ له. جامع بيان العلم وفضله ج: ٢ ص: ١٤٣.

٣٨٧

اختلافهم، وأنّ الله (عزّ وجلّ) لم يجعل لهم علماً يعصمهم من الاختلاف.

بل قد يصل الأمر بهم إلى الالتزام بصواب الكلّ على اختلافهم، وأنّ الحقّ يتعدّد في مورد الخلاف بعدد آراء المجتهدين، وأنّ اختلافهم رحمة للأُمّة؛ لأنّ فيه سعة له.

ومهما يكن في ذلك من التخبّط فهو فتح عظيم للدين؛ حيث حرّره من تحكّم الخليفة غير المعصوم فيه، ومسخِه له كما حصل نظيره في الأديان السابقة.

كسر طوق الضغط الثقافي في الفترة الانتقالية

الجهة الثانية: كسر طوق الضغط الثقافي على المسلمين، وارتفاع الحجر عملياً عن الحديث النبوي الشريف، فأصحرت كلّ فئة بمفاهيمها التي تتبنّاها وثقافتها التي تحملها، وأخذت تحاول تعميم تلك المفاهيم والثقافة على المسلمين، وبدأت اات المختلفة تتضح، وتتميّز بعضها عن بعض في المجتمع الإسلامي.

مكسب التشيّع نتيجة كسر طوق الضغط الثقافي

وكان لشيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الدور الأكبر في ذلك.

أوّلاً : لِما يأتي - في المطلب الثاني - من أنّ نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) شيعية الاتجاه.

وثانياً : لأنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) نفسه - الذي هو الرجل الأوّل عند عموم المسلمين، والذي ضحى هذه التضحية الكبرى - هو الإمام الثالث للشيعة.

حيث يترتّب على هذين الأمرين أن يكون ردّ الفعل على العدوان الذي

٣٨٨

حصل هو نشر الثقافة الشيعية من أجل الإنكار على العدوان المذكور، وبيان بشاعته.

وثالثاً : لأصالة المفاهيم الشيعية وعقلانيتها، وارتفاع مستوى ثقافة الشيعة، تبعاً لرفعة مقام أئمّتهم (صلوات الله عليهم) الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبواب مدينة علمه.

ورابعاً : لكثرة ما تضمّنه الكتاب المجيد والسُنّة النبوية الشريفة ممّا يخدم دعوة التشيّع، وعلم الله تعالى كم ظهر في هذه الفترة من الأحاديث التي تؤيّد الدعوة المذكورة من بقية الصحابة ومن التابعين، خصوصاً بعد مؤتمر الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي سبق أنّه قد عقده في الحج لحفظ ونشر التراث الذي يخص أهل البيت (عليهم السّلام)، ويتضمّن رفعة مقامهم(١) .

وخامساً : لوجود القيادة الحكيمة المعصومة الراعية للشيعة ولدعوتهم، وتسديدها ودعمها بالمدّ الإلهي غير المحدود.

ولذا كتب لدعوة التشيّع البقاء والخلود والظهور والانتشار من بين جميع الدعوات التي ظهرت في مواجهة انحراف السلطة، رغم كلّ المعوّقات والألغام التي زُرعت في طريقها على طول التاريخ.

وبعد أن انتهى الحديث عن هذه الفترة الانتقالية وثمراتها المهمّة نقول:

التوجّه الديني في المجتمع الإسلامي نتيجة فاجعة الطفّ

من الطبيعي أن يكون لفاجعة الطفّ بأبعادها السابقة وتداعياتها السريعة أثرها العميق في المسلمين بحيث أدّت إلى يقظة كثير منهم، ورجوعهم لدينهم، واهتمامهم بالتعرّف عليه وتحمّل ثقافته؛ لعدّة عوامل أفرزتها واقعة الطفّ

____________________

١ - تقدّم تفصيله ومصدره في/١٠٧.

٣٨٩

وتداعياتها السابقة:

أوّلها : الشعور بتدهور المجتمع الإسلامي، وابتعاده عن الدين وتقصيره في أمره بنحو يستوجب تأنيب الضمير على ذلك.

خصوصاً بعد أن ركّز أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشيعتهم على عظم الجريمة، واهتمّوا بإحيائها والتذكير بها؛ بإقامة المآتم، وزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ورثائه وما يجري مجرى ذلك.

حيث يكون ردّ الفعل المناسب لذلك من كثير ممّن لهم جذور دينية هو ترك السلطة ومَنْ يتنازع عليها جانباً والرجوع للدين، والتعرّف عليه، والتمسّك به.

ثانيها : معاناة الناس من السلطة الجائرة، ومن تدهور الأوضاع؛ نتيجة الصراعات والفوضى، فإنّ ردّ الفعل المناسب لذلك والميسور لعامّة الناس - ممّن لا حول له ولا قوّة - هو الانكفاء على النفس، والبُعد عن الفتن، واللجأ إلى الله (عزّ وجلّ) وطلب رضاه بالرجوع لدينه، والتزام تعاليمه الشريفة.

ولاسيما بعد أن ظهر على السلطة الاستهتار بالدين والاستهانة به؛ فإنّ ذلك يؤكّد الاندفاع نحو الدين؛ لكونه مظهراً إرادياً، أو لا إرادياً للتحدّي العملي للسلطة، والاحتجاج الصامت عليها الذي فيه السلامة من خطر الاحتكاك بها، مع ما فيه من فضح السلطة، والتنبيه لسلبياتها.

ولعلّ لهذين الأمرين أعظم الأثر في الصحوة الدينية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية في أيامنا هذه بعد موجة التحلّل من الدين؛ تبعاً للغرب والشرق الماديين، ثمّ ظهور العدوان منهما والتجاوز على حقوق الشعوب.

ثالثها : قوّة التشيّع وانتشاره بعد فاجعة الطفّ حيث إنّ من أبرز مفاهيم

٣٩٠

التشيّع وتعاليمه ضمّ العمل للعقيدة؛ فقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل بيته (صلوات الله عليهم) أنّ الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان(١) ، وأكّدوا (صلوات الله عليهم) على العمل كثيراً.

وكان التديّن والالتزام بالأحكام الشرعية من السمات البارزة في الشيعة، وقد سبق عن سفيان الثوري قوله: وهل أدركت خير الناس إلّا الشيعة؟ وسبق عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه) ما يُناسب ذلك(٢) .

وذلك ينضمّ للعاملين السابقين في تنبيه عامّة المسلمين لدينهم، وتحفيزهم على العمل بأحكامه، والتعرّف عليها وعلى واقع دينهم في العقائد والفقه والسلوك والأخلاق.

حاجة المجتمع الإسلامي لمتخصصين في الثقافة الدينية

وحيث تحرّر الدين وخرج عن هيمنة السلطة؛ لسقوط شرعية الدولة، نتيجة العوامل السابقة، فمن الطبيعي أن يحقّق التوجّه الديني المذكور الحاجة لجمهور المسلمين - على اختلاف توجّهاتهم - إلى جماعة يتوجّهون للثقافة الدينية، ويتخصّصون فيه، ويعرّفون به.

وهذه الطبقة قد كان لها وجود قبل ذلك من بقايا الصحابة والتابعين،

____________________

١ - نهج البلاغة ٤/٥٠، الخصال/١٧٨ ح ٢٣٩، وص ١٧٩ ح ٢٤١، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) ٢/٢٠٤، سنن ابن ماجة باب في الإيمان، المعجم الأوسط ٦/٢٢٦، و٨/٢٦٢، تفسير القرطبي ١/٣٧٢، الدرّ المنثور ٦/١٠٠، تاريخ بغداد ١/٢٧١ في ترجمة محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الله، تهذيب الكمال ١٨/٨٢ في ترجمة عبد السّلام بن صالح، سير أعلام النبلاء ١٥/٤٠٠ في ترجمة علي بن حمشاذ، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٢ - تقدّمت مصادره في/٣٥٨.

٣٩١

خصوصاً من أصحاب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، إلّا إنّها كانت محاصرة ومعزولة عن المجتمع العام؛ نتيجة الحجر الثقافي الذي قوي في عهد معاوية، ولعدم حاجة المجتمع لها، وعدم تبنّيه لها بعد مرجعية السلطة في الدين، ومن ثمّ كانت معرّضة للاضمحلال لو استمرت تلك المرجعية.

أمّا بعد سقوط شرعية السلطة، وفصل الدين عنها فقد قويت هذه الطبقة تدريجاً؛ نتيجة حاجة المجتمع إليها، وتعلّقهم بها، وتبنّيهم لها، وصار لها وجودها المتميّز على اختلاف توجّهاتها من حملة الحديث الشريف، والفقهاء، ومفسري القرآن المجيد، والزهّاد، والمتألهين، والوعّاظ ونحوهم ممّنْ يتميّز بجانب من جوانب الدين، ويكون مرجعاً أو قدوة فيه.

أهمية دور رجال الشيعة في مجال التخصص الديني

وقد كان لشيعة أهل البيت (عليهم السّلام) الحظّ الأوفر من ذلك؛ لثقافتهم العالية الأصيلة التي فتح الباب لها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وتعاهدها الأئمّة من ولده (عليهم السّلام)، ولصدق لهجتهم في الحديث وثقة الناس بهم.

وقد فرضوا أنفسهم بذلك على عموم المسلمين حتى ذكر الذهبي - مع ما هو عليه من التحامل على الشيعة - أنّه لو ردّ حديث الشيعة لذهبت جملة من الآثار النبوية(١) .

وقال الجوزجاني - على نصبه -: وكان قوم من أهل الكوفة لا يحمد الناس مذاهبهم هم رؤوس محدّثي الكوفة...، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث...(٢) ... إلى غير ذلك.

____________________

١ - ميزان الاعتدال ١/٥ في ترجمة أبان بن تغلب.

٢ - أحوال الرجال/٧٨ - ٨٠ في ترجمة فائد أبي الورقاء، واللفظ له، تاريخ دمشق ٤٦/٢٣٣ في ترجمة عمرو بن عبد الله بن أبي شعيرة، ميزان الاعتدال ٢/٦٦ في ترجمة زبيد بن الحارث اليامي، وقال الذهبي: وقال أبو إسحاق الجوزجاني - كعوائده في فظاظة عبارته - كان من أهل الكوفة...، =

٣٩٢

عدم اقتصار الأمر على الشيعة

غير أنّ ذلك لا يعني اقتصار الأمر على الشيعة؛ فقد عمّ ذلك جميع المسلمين على اختلاف توجّهاتهم كما هو ظاهر بأدنى ملاحظة لتاريخ تلك الفترة، بل قد يكون ظهور ذلك في الشيعة محفّزاً لغيرهم على التوجّه في هذه الوجهة، ولو من أجل أن لا ينفرد الشيعة في الساحة، ويستقطبوا طلاب العلم والثقافة الدينية، فتفرض ثقافتهم على جميع المسلمين.

ظهور طبقة الفقهاء والمحدّثين

والحاصل: إنّ جمهور المسلمين على اختلاف توجّهاتهم ومشاربهم بدؤوا يرجعون في دينهم لفقهائهم، فظهر الفقهاء السبعة في المدينة المنوّرة، وظهر غيرهم في بقيّة أمصار المسلمين، وصار للحديث والفقه سوق رائج.

وأخذوا يتسابقون في ذلك؛ إمّا اهتماماً بمعرفة الحقيقة، أو لدعم الوجهة التي يتوجّه إليها الفقيه والمحدّث ويتعصّب لها، أو ليَبدو تفوّقه ويكون رأساً يرجع إليه الناس في دينهم... إلى غير ذلك من العوامل المختلفة.

الاتفاق على انحصار مرجعية الدين بالكتاب والسُنّة

ولهذا الأمر - على سلبياته الكثيرة - أهميته العظمى في ظهور معالم الدين، وقيام الحجّة عليه حيث كانت نتيجة ذلك الاتفاق على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة من دون أن تكون للسلطة، أو غيرها حق التدخّل فيه.

____________________

= تهذيب التهذيب ٨/٥٩ في ترجمة عمرو بن عبد الله بن عبيد، وغيرها من المصادر.

٣٩٣

وحتى لو رجعوا في الدين لغير الكتاب والسُنّة - كالإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، وغيرها - فإنّهم حاولوا بعد ذلك توجيه العمل عليها بالكتاب والسُنّة؛ لدعوى دلالة الكتاب والسُنّة على حجّية الأمور المذكورة، أو كشف تلك الأمور عن دلالة الكتاب والسُنّة على ما يطابقها.

وأخذوا تدريجاً بتثبيت الضوابط لذلك حتى تبلور الفقه عن طريق الفقهاء - على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم - من دون دخل مباشر للسلطة.

تعامل السلطة مع الواقع الجديد بتنسيق وحذر

وقد فُرض هذا الأمر أخيراً في الواقع الإسلامي؛ نتيجة لما سبق حتى اضطرت السلطة لغض النظر عنه، بل للاعتراف به.

وقد حاولت التعامل معه بنحو من التنسيق والحذر يخفّف من وقعه عليها، وتناقضه معها، وذلك بأمرين:

إقدام السلطة على تدوين السُنّة

الأوّل : الاهتمام بتدوين السُنّة ولو بالنحو الذي يعجبها - على خلاف ما كان عليه الأوّلون - في محاولة منها للسيطرة على مسيرة الحديث والفقه.

فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو سُنّة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه؛ فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب أهله(١) .

____________________

١ - الطبقات الكبرى ٨/٤٨٠ في ترجمة عمرة بنت عبد الرحمن، واللفظ له، وج ٢/٣٨٧ عند ذكر عمرة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، معرفة السنن والآثار ٦/٣٨٩، التمهيد - لابن عبد البر ١٧/٢٥١، الأعلام - للزركلي ٥/٧٢، تقييد العلم ١/٢٥٢ ح ٢١٨ الرواية عن الطبقة الثانية والثالثة من التابعين في ذلك، المعرفة والتاريخ ١/٤٤١، وغيرها من المصادر.

٣٩٤

وعن الزهري: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً(١) .

تبنّي الخلفاء لبعض الفقهاء لكسب الشرعية منهم

الثاني: تبنّي الخلفاء لبعض الفقهاء جيلاً بعد جيل ودعمهم؛ من أجل تحسين صورتهم أمام الجمهور في محاولة لإثبات شرعية سلطتهم وتصرّفاتهم، وتسيير الفقه والحديث لصالحهم بعد فرض الدين في الواقع الإسلامي، وتحرّره من هيمنة السلطة.

مكسب الدين نتيجة هذين الأمرين

وباب الخطأ والتلاعب من المحدّثين والفقهاء وإن كان مفتوحاً، خصوصاً من أجل إرضاء السلطة كما يظهر بمراجعة التاريخ، إلّا أنّ لهذين الأمرين أهمّيتهما في صالح الدين؛ لأنّهما يتضمّنان الاعتراف ضمناً بمرجعية الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وأنّه لا مجال لتحكّم الخليفة، أو غيره في الدين بالمباشرة.

غاية الأمر أنّه قد يستعين بالفقهاء والمحدّثين الذين يتبنّاهم، أو ينسّق معهم لتحقيق هدفه، بل قد يشتدّ ويقسو في فرض ما يريد والمنع من مخالفته.

إلا إنّ ذلك لا يضيع معالم الحقّ بعد أن تسالم الجميع على أنّ المرجع في الدين هو الكتاب المجيد المحفوظ بين الدفتين المنتشر بين المسلمين، والسُنّة الشريفة المحفوظة في الصدور والمسطورة في الزبر.

____________________

١ - جامع بيان العلم وفضله ١/٧٦.

٣٩٥

موقف مالك بن أنس صاحب المذهب

ويبدو أنّ مالك بن أنس صاحب المذهب قد أدرك ذلك، فعن محمد بن عمر: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حجّ المنصور دعاني فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته. فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه - يعني الموطأ - فتُنسخ نسَخاً، ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيه، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدّث؛ فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.

قلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإنّ الناس قد سيقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كلّ قوم بما سيق إليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم، وإنّ ردّهم عمّا اعتقدوه شديد؛ فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كلّ بلد لأنفسهم. فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك(١) .

وعن ابن مسكين ومحمد بن مسلمة قالا: سمعنا مالكاً يذكر دخوله على المنصور، وقوله في انتساخ كتبه وحمل الناس عليه، فقلت: قد رسخ في قلوب أهل كلّ بلد ما اعتقدوه وعملوا به، وردّ العامّة عن مثل هذا عسير(٢) .

وروي أنّ هارون الرشيد أراد من مالك الذهاب معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له مالك: أمّا

____________________

١ - سير أعلام النبلاء ٨/٧٨ - ٧٩ في ترجمة مالك الإمام، واللفظ له، جامع بيان العلم وفضله ١/١٣٢، الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء/٤١، المنتخب من ذيل المذيل/١٤٤ القول في تاريخ التابعين والخالفين والسلف الماضين من العلماء ونقلة الآثار، ذكر مَنْ هلك منهم في سنة ١٦١ من الهجرة.

٢ - سير أعلام النبلاء ٨/٧٩ في ترجمة مالك الإمام، واللفظ له، الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء/٤١.

٣٩٦

حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه؛ لأنّ الصحابة (رضي الله تعالى عنهم) افترقوا بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم في الأمصار، فعند كلّ أهل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اختلاف أُمّتي رحمة»(١) .

على أنّ التلاعب والخطأ محدودان نسبياً؛ نتيجة الصراع بين الفقهاء والمحدّثين، واختلاف الأنظار والمصالح حيث يحاسب المخطئ والمتلاعب من قبل الآخرين على ضوء الكتاب والسُنّة، ويكون هدفاً لإنكارهم وتشنيعهم.

ولو فرض أن شذّ بعضهم في اختلاق الحديث، أو في آرائه الفقهية، بعيداً عمّا هو المألوف كان معزولاً عن الكيان العام، ولا احترام لرأيه.

كما إنّه ربما يكون انتساب الفقيه، أو المحدّث للسلطة نقطة ضعف فيه تقلّل من احترام رأيه وحديثه، وتكون مثاراً للإنكار عليه؛ لِما سبق من وهن شرعية السلطة، وتشوّه صورتها عند جمهور المسلمين.

قوّة الكيان الشيعي نتيجة ما سبق

وقد ساعد على ذلك كثيراً قيام كيان معتدٍّ به لشيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم)؛ حيث يهتمّون - بتوجيه من أئمّتهم (صلوات الله عليهم) - بالحق ويدعون له، وينكرون على الظالمين والمنحرفين، ويتتبعون سقطاتهم، ويشنّعون عليهم... إلى غير ذلك ممّا يكبح جماح الانحراف، وإن تحمّلوا في سبيل ذلك ضروب المحن والمصائب.

____________________

١ - فيض القدير ١/٢٧١، واللفظ له، حياة الحيوان الكبرى ٢/٥٧١ باب الميم، في مطية، آداب العلماء والمتعلمين ١/٢ الفصل الأوّل، آداب العالم في علمه، النوع الثالث، وقد روي أنّ ذلك كان مع المأمون كما في تاريخ دمشق ٣٢/٣٥٦ في ترجمة عبد الله بن محمد، وحلية الأولياء ٦/٣٦١ - ٣٦٢ في ترجمة مالك بن أنس.

٣٩٧

تحوّل مسار الثقافة الدينية بعد الفترة الانتقالية

والمتحصّل من جميع ما سبق: إنّه يبدو التحوّل واضحاً في مسار الثقافة الدينية على الصعيد العام بالمقارنة بين ما كان الوضع عليه من الصدر الأوّل حتى موت معاوية، وما صارت الأمور إليه بعد الفترة الانتقالية واستيلاء المروانيين على السلطة.

وبذلك بقيت معالم الدين، وكيانه العام، واتفق المسلمون على مشتركات كثيرة تحفظ صورة الدين ووحدته، وأهمّها انحصار المرجعية بالكتاب المجيد، والسُنّة الشريفة.

عقدة احترام سُنّة الشيخين

نعم، بقي أمر مرجعية سيرة الشيخين والأخذ بسنّتهما، الذي بدا بصورة رسمية في الشورى عند بيعة عثمان. وربما كانت الأرضية له قد سبقت ذلك.

فعن عبد الله بن عمر أنه قال: «قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فأثنوا عليه. فقال: راغب وراهب. وددت أني نجوت منها كفافاً، لا لي ولا عليّ. لا أتحملها حياً وميتاً»(١).

فإنه كالصريح في ان عمل أبي بكر سنّة تصلح لأن تتبع، كسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن الوظيفة مع اختلافهما التخيير بينهما، ولا يتعين الأخذ بسنّة

____________________

(١) صحيح البخاري ج: ٨ ص: ١٢٦ كتاب الأحكام: باب الاستخلاف، واللفظ له. صحيح مسلم ج: ٦ ص: ٤-٥ كتاب الأمارة: باب الاستخلاف وتركه. مسند أحمد ج: ١ ص: ٤٣ مسند عمر بن الخطاب. السنن الكبرى للبيهقي ج: ٨ ص: ١٤٨ كتاب قتال أهل البغي: جماع أبواب الرعاة: باب الاستخلاف. سنن الترمذي ج: ٣ ص: ٣٤١ أبواب الفتن: باب ما جاء في الخلافة. وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

٣٩٨

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكيف كان فنظراً لاحترام الجمهور لهما احتراماً يبلغ حدّ التقديس، نتيجة العوامل المتقدّمة حاول كثير منهم أن يقرّوا ما صدر عنهما من التشريعات، ويجعلوا سنّتهما ماضية بنفسها - من دون نظر لموافقتها للكتاب المجيد والسُنّة الشريفة - بحيث لا يحق لأحد الخروج عنها، كما سبق في حديث أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام)(١) .

وقد بقي ذلك بعده (عليه السّلام) مع شدّة النكير عليه منه ومن الأئمّة من ذريته (صلوات الله عليهم) ومن شيعتهم، وبعض مَنْ اقتنع بوجهة نظرهم.

حتى ورد في الحديث عن ابن عباس: قال: تمتّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟! قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون؛ أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر(٢) .

وفي حديث آخر أنّه قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر(٣) .

وفي حديث ثالث له: والله ما أراكم منتهين حتى يعذّبكم الله، نحدّثكم

____________________

١ - تقدّم في/٢٧٥ وما بعده.

٢ - مسند أحمد ١/٣٣٧ مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، واللفظ له، جامع بيان العلم وفضله ٢/١٩٦، تذكرة الحفاظ ٣/٨٣٧ في ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن، سير أعلام النبلاء ١٥/٢٤٣ في ترجمة ابن أيمن، المغني - لابن قدامة ٣/٢٣٩، الشرح الكبير - لابن قدامة ٣/٢٣٩، الفقيه والمتفقه ١/٣٧٧، حجّة الوداع ١/٣٩٨ ح ٣٦٩ الباب الرابع والعشرون الأحاديث الواردة في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفسخ الحجّ بعمرة في حجّة الوداع... وغيرها من المصادر.

٣ - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد/١٤٩، واللفظ له، زاد المعاد ٢/١٧٨ أعذار مَنْ لم يأخذ بفسخ الحجّ إلى العمرة، أضواء البيان ٧/٣٢٨، النصائح الكافية/٢١٣، وغيرها من المصادر.

٣٩٩

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر...(١) .

وقال أيضاً: أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض؟! أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!...(٢) .

وعن ابن عمر أنّه كان يأتي بمتعة الحجّ، فيُقال له: إنّ أباك كان ينهى عنها؟ فيقول: لقد خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء، قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أفسُنّة رسول الله تُتبع، أم سُنّة عمر بن الخطاب؟!(٣) .

وفي صحيح زرارة: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (عليه السّلام) فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهي حلال إلى يوم القيامة». فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر، ونهى عنها؟! فقال: «وإن كان فعل». قال: إنّي أُعيذك بالله من ذلك، أن تحلّ شيئاً حرّمه عمر. قال: فقال له: «فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهلمّ أُلاعنك أنّ القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ الباطل ما قال صاحبك...»(٤) .

وفي حديث أبي بصير: قال أبو عبد الله (عليه السّلام): «يا أبا محمد، كان عندي رهط من أهل البصرة فسألوني عن الحجّ، فأخبرتهم بما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أمر به. فقالوا لي: إنّ عمر قد أفرد الحجّ. فقلت لهم: إنّ هذا رأي رآه عمر، وليس رأي عمر كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله»(٥) ... إلى غير ذلك.

____________________

١ - جامع بيان العلم وفضله ٢/١٩٦، واللفظ له، التمهيد - لابن عبد البر ٨/٢٠٨، أضواء البيان ٤/٣٥٢، إمتاع الأسماع ٩/٣١ فصل في ذكر حجّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرها من المصادر.

٢ - الإحكام - لابن حزم ٢/١٤٨، و٤/٥٨١، و٥/٦٥٠.

٣ - البداية والنهاية ٥/١٥٩ في فصل لم يسمه بعد ذكر حجّة من ذهب إلى أنّه (عليه السّلام) كان قارناً، وقريب منه في مسند أحمد ٢/٩٥ في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب.

٤ - الكافي ٥/٤٤٩ من أبواب المتعة ح ٤.

٥ - وسائل الشيعة ٨/١٧٣ باب ٣ من أبواب أقسام الحج ح ٦.

٤٠٠