فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247738
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247738 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد حاول الجمهور والسلطة الجري على ذلك حتى بعد تدوين السُنّة، وظهور طبقة الفقهاء والمحدّثين كما يظهر ممّا تقدّم من حديث عروة بن الزبير المعدود من فقهاء المدينة السبعة، وحديث عبد الله بن عمير الليثي مع الإمام أبي جعفر الباقر (صلوات الله عليه).

موقف عمر بن عبد العزيز

وقد سبق في كتاب عمر بن عبد العزيز الأمر بكتابة السُنّة الماضية(١) .

والظاهر أنّ المراد بها ما يعمّ سُنّة الشيخين كما يناسبه قوله في خطبة له في خلافته: ألا إنّ ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه(٢) .

وهو بذلك يجري على ما جرى عليه عبد الرحمن بن عوف حين أخذ اتّباع سيرتهما شرطاً في بيعة الخليفة، كالعمل بكتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى عليه عثمان لما أتمّ الصلاة بمنى، حيث ورد أنّه خطب فقال: إنّ السُنّة سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسُنّة صاحبيه. ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا(٣) .

بل في كلام لعمر بن عبد العزيز آخر: سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوّة على

____________________

١ - تقدّم في/٣٩٤.

٢ - تاريخ دمشق ١١/٣٨٥ في ترجمة حاجب بن خليفة، واللفظ له، كنز العمال ١/٣٧٠ ح ١٦٢٤، تاريخ الخلفاء/٢٤١ في ترجمة عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه).

٣ - السنن الكبرى - للبيهقي ٣/١٤٤ كتاب الصلاة، جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب مَنْ ترك القصر في السفر غير رغبة عن السُنّة، واللفظ له، معرفة السنن والآثار ٢/٤٢٩، كنز العمال ٨/٢٣٤ ح ٢٢٧٠١، تاريخ دمشق ٣٩/٢٥٥ في ترجمة عثمان بن عفان، وغيرها من المصادر.

٤٠١

دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فيما خالفها. مَنْ اقتدى بها مهتدٍ، ومَنْ استنصر بها منصور، ومَنْ خالفها اتّبع غير سبيل المؤمنين، وولّاه الله ما تولّى، وصلاه جهنم وساءت مصيراً(١) . ومقتضاه إمضاء سُنّة عثمان أيضاً.

كما جرى على ذلك معاوية؛ فإنّه لما حجّ صلّى الظهر ركعتين، ولما دخل فسطاطه عتب عليه الأمويون؛ لأنّه خالف سُنّة عثمان فخرج فصلّى العصر أربعاً(٢) .

إلاّ إنّه يبدو شعور عمر بن عبد العزيز بعد ذلك بعدم إمكان فرض سُنّة عثمان على المسلمين؛ بسبب تحرّر فقههم من سيطرة السلطة، فتراجع عن ذلك وأرجأه - كما في خطبته السابقة - واقتصر على سُنّة الشيخين؛ لما لهما من المكانة في نفوس الجمهور.

التغلّب أخيراً على عقدة سيرة الشيخين

لكن يظهر اتضاح الضوابط في الفقه وجميع شؤون الدين بعد ذلك وتبلورها؛ نتيجة الإنكار على الظالمين وتعريتهم، والتأكيد من أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومن شيعتهم، بل من الجميع على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وعدم جواز الأخذ من غيرهما، وأنّ ذلك هو الابتداع المنهي عنه عقلاً وشرعاً.

وقد اضطر ذلك الجمهور أخيراً إلى التراجع عن الموقف المذكور من سُنّة الشيخين، والبناء على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة، وأنّه لا بدّ أن

____________________

١ - تفسير ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٧، واللفظ له، الدرّ المنثور ٢/٢٢٢، البداية والنهاية ٩/٢٤٢ أحداث سنة إحدى ومئة من الهجرة، جامع بيان العلم وفضله ٢/١٨٧، وغيرها من المصادر.

وقد نسب هذا الكلام إلى مالك أيضاً، كما في سير أعلام النبلاء ٨/٩٨ في ترجمة مالك الإمام.

٢ - تقدّمت مصادره في/٢٣٨.

٤٠٢

يكون منهما الانطلاق لتحديد الأدلّة في أحكام الدين وشؤونه.

نعم، تحوّل الخلاف بعد ذلك إلى الخلاف في الضوابط والأدلّة التي يدلّ الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة على حجّيتها في أمور الدين؛ ولذلك الأثر الكبير في اختلاف المسلمين، وظهور الفرق والمذاهب فيهم.

إلاّ إنّه ليس بتلك الأهمية بعد الاتفاق على انحصار المرجعية في الكتاب والسُنّة؛ لأنّ طالب الحقّ يبقى حرّاً في الاختيار على ضوء هذين المرجعين العظيمين. وهو كافٍ في قيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه، كما تكفّل الله (عزّ وجلّ) بذلك. ولا يضرّه بعد ذلك التكلّف والتعصّب ضدّ الحقّ وأهله.

موقف الجمهور أخيراً من سُنّة الشيخين

أمّا موقف الجمهور من سيرة الشيخين فقد انحصر بين أمرين:

الأوّل : ترك بعض سُنّنهم، كما حصل في متعة الحجّ التي حرمها عمر وغيره.

الثاني : دعوى دعم الكتاب أو السُنّة لما سنّاه، كما حصل في متعة النساء وغيره، في كلام طويل وتفاصيل كثيرة لا يهمّنا التعرّض له.

وهي ترجع إمّا لوجود روايات في ذلك تضمّنتها كتبهم، وإمّا لحسن الظنّ بهما وتنزيههما عن الابتداع في الدين، وأنّهما لا يرضيان بذلك، بل لا بدّ أن يكونا قد اطّلعا على دليل لم يصل إلينا.

فعن ابن حزم في التعقيب على ما تقدّم من كلام عروة بن الزبير مع ابن عباس: إنّها لعظيمة ما رضي بها قطّ أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما)(١) .

وقال الذهبي في الدفاع عن عروة: قلت: ما قصد عروة معارضة

____________________

١ - تذكرة الحفاظ ٣/٨٣٧ في ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن.

٤٠٣

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم، بل رأى أنّهما ما نهيا عن المتعة إلّا وقد اطّلعا على ناسخ(١) .

وهذا منهم وإن ابتنى في كثير من الموارد على التمحّل غير المقبول، إلّا إنّه فتح عظيم للدين حيث يستبطن الاعتراف بانحصار المرجع فيه بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وبذلك تتمّ الحجّة، والتمحّل لا ينفع صاحبه، ولا يكون عذراً له مع الله (عزّ وجلّ). كما لا يقبله المنصف من الناس.

وبذلك اتّضحت معالم الدين، وتجلّت ضوابط الحقّ من الباطل بنحو يتيسّر لطالب الحقّ الوصول إليه؛ لظهور حجّته، ويكون حائلاً دون تحريف الدين وضياعه كما حصل في الأديان السابقة.

كلّ ذلك بجهود أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي انتهت بفاجعة الطفّ الدامية التي هزّت ضمير المسلمين، ونبّهتهم من غفلتهم، وغيّرت وجهتهم، وارتفعت بسببها أصوات الإنكار على الظالمين، وحفّزت على نقد مواقفهم وسلوكهم وتعريتهم بنحو قضى على مشروعهم في استغفال المسلمين، وتدويل الدين والتحكّم فيه، ممّا يؤدّي إلى ضياع معالمه على طالبيه.

فجزى الله الإمام الحسين (صلوات الله عليه) عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين، والسّلام عليه وعلى المستشهدين معه ورحمة الله وبركاته.

____________________

١ - سير أعلام النبلاء ١٥/٢٤٣ في ترجمة ابن أيمن.

٤٠٤

المطلب الثاني

فيما كسبه التشيّع

لأهل البيت (عليهم السّلام) بخصوصيته

ظهر ممّا سبق في المطلب الأوّل بعض مكاسب دعوة التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) نتيجة فاجعة الطفّ.

كما يأتي في المقام الثاني من الفصل الثاني - عند الكلام في العِبَر التي تستخلص من فاجعة الطفّ - أنّها سهلت على الأئمّة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) إقناع الشيعة بالصبر ومهادنة السلطة من أجل التفرّغ لبناء الكيان الشيعي الثقافي والعملي، وهو مكسب مهم جدّاً.

والمهم هنا التعرّض لمكاسب أُخرى لها أهمية كبرى في قيام كيان التشيّع وقوّته وبقائه، فنقول بعد الاستعانة بالله تعالى:

من الظاهر أنّ دعوة التشيّع تعتمد من يومها الأوّل:

أوّلاً : على الاستدلال والمنطق السليم والحجّة الواضحة كما ذكرناه آنفاً، ويظهر للناظر في محاورات الشيعة وحجاجهم مع الآخرين ممّا تناقلته الناس وسُطّر في الزبر.

وثانياً : على العاطفة؛ لِما لأهل البيت (صلوات الله عليهم) من مكانة سامية في نفوس عامّة المسلمين، وكثير من غيرهم، ولِما وقع عليهم (عليهم السّلام) من الظلم والأذى، وتجرّعوه من الغصص والمصائب. حيث يوجب ذلك بمجموعه

٤٠٥

انشداد الناس لهم عاطفياً.

وثالثاً : على الإعلام والإعلان عن دعوة التشيّع ونشر ثقافته، وإظهار حججه، وإسماع صوته لأتباع الدعوة من أجل تثقيفهم وتعريفهم بدينهم، وللآخرين من أجل إقناعهم، وإقامة الحجّة عليهم.

وقد جاءت فاجعة الطفّ الدامية - بأبعادها المتقدّمة، وتداعياتها المتلاحقة -؛ لتدعم هذه الدعوة الشريفة في الجوانب الثلاثة.

وبيان ذلك يكون في مقامات ثلاثة:

٤٠٦

المقام الأوّل

في مكسب التشيّع من حيثية الاستدلال

سبق في المطلب الأوّل أنّ فاجعة الطفّ قد هزّت ضمير المسلمين، ونبّهتهم من غفلتهم، وانتهت بهم إلى الالتزام بانحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة.

ومن الظاهر أنّ ذلك كما يكون مكسباً للإسلام بكيانه العام، كذلك هو مكسب جوهري للتشيّع بالمعنى الأخص، وهو الذي يبتني على أنّ الخلافة والإمامة بالنصّ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر.

اعتماد التشيّع بالدرجة الأولى على الكتاب والسُنّة

وذلك لاعتماد التشيّع المذكور بالدرجة الأولى على الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وخصوصاً السُنّة التي حاولت السلطة في الصدر الأوّل تغييبه، والتحجير عليه، والمنع من روايتها إلّا في حدود مصلحته كما سبق.

ومن الطريف جدّاً أنّ العناية الإلهية حفظت لهذا التشيّع ما يكفي في الاستدلال عليه والردّ على خصومه من الكتاب المجيد وأحاديث الجمهور ورواياتهم، ومن التاريخ الذي ثبتوه بأنفسهم بحيث لو تجرّد الباحث عن التراكمات والموروثات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونظر في تلك الأحاديث ووقائع التاريخ بموضوعية تامّة لاتضحت له معالم الحقّ، وبخع لدعوة التشيّع،

٤٠٧

ولزم خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم).

وقد تقدّم في أوائل المقام الثاني عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنّ طالب الحقّ أسرع إلى هذا الأمر من الطير إلى وكره(١) .

وقد حاول أهل العلم من خصوم التشيّع تجاهل تلك الآيات والأحاديث، وعدم التركيز عليه، أو الجواب عنها بوجوه ظاهرة التكلّف والتعسّف بنحو لا يخفى على طالب الحقّ وعلى المنصف.

انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة انتصار للتشيّع

وعلى كلّ حال فقد اتّضحت معالم الدين، وكانت الغلبة منطقياً للتشيّع بعد أن تمّ تسالم المسلمين بعد فاجعة الطفّ، وما تبعها من تداعيات - كما سبق - على انحصار المرجع في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وأنّه لا يحق لأي شخص أن يخرج عنهما، أو يتحكّم في الدين من دون أن يرجع لهما، وأنّ الخروج عنهما جريمة تطعن في شخص الخارج مهما كان شأنه.

الطرق الملتوية التي سلكها خصوم التشيّع لتضييع هذا الانتصار

ولذا اضطر خصوم التشيّع على طول الخطّ وحتى يومنا الحاضر لمقاومته، والمنع من امتداده في عمق المجتمع المسلم بطرق:

أوّلها : القمع والتنكيل بالشيعة بمختلف الوجوه وبدون حدود؛ لئلا يتسنّى لهم إسماع دعوتهم، والاستدلال عليها.

ثانيها : تشويه صورتهم، وافتراء كثير من الأمور المستنكرة عليهم، بل كثيراً ما انتهى بهم الأمر إلى تكفير الشيعة وإخراجهم من الإسلام.

____________________

١ - تقدّم في/٣١٩.

٤٠٨

كلّ ذلك من أجل تنفير عامّة الجمهور منهم، وإبعادهم عنهم؛ لئلا يتيسّر لهم السماع منهم، والتعرّف على ثقافتهم وعقيدتهم الحقيقية، وعلى أدلّتهم المنطقية عليه.

ثالثها : إبعاد عامّة الجمهور عن كثير من تراث الجمهور أنفسهم، وإغفالهم عمّا يخدم خطّ التشيّع منه، والتركيز على غيره وإشغالهم به، وإن كان دون ما سبق دلالة أو سنداً.

رابعها : محاولة إبعاد عامّة الجمهور أيضاً عن البحث في الأمور العقائدية، وحملهم على التمسّك بما عندهم على أنّها مسلمات لا تقبل البحث والنظر.

خامسها: إغفال التراث والفكر الشيعي في مقام البحث والنظر، وإبعادهما عن متناول الجمهور، بل حتى عن الباحثين منهم.

وقد بلغنا أنّ بعض المكتبات المهمّة في عصرنا تمتنع من عرض الكتب الشيعية وإن كانت قد تعرض كتباً تتضمّن أفكاراً تتناقض مع الدين والأخلاق.

وقد جروا في ذلك على سيرة أسلافهم.

قال ابن خلدون: وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلّها أصول واهية، وشذّ بمثل ذلك الخوارج.

ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم؛ فكتب الشيعة في بلادهم، وحيث كانت دولتهم قائمة...(١) .

بل موقفهم من الخوارج دون موقفهم من الشيعة؛ إذ كثيراً ما يتعاطفون

____________________

١ - مقدّمة ابن خلدون ١/٤٤٦ الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من فرائض.

٤٠٩

معهم، ويتواصلون مع رجالهم وتراثهم كما يظهر بالرجوع للمصادر المعنية بذلك.

ويلحق بذلك تجاهل أئمّة الشيعة (صلوات الله عليهم) وجميع رموز التشيّع وأعلامه، أو التخفيف من شأنهم مع ما لهم من الأثر الحميد في الإسلام، والموقع المتميز في المسلمين، وتسالمهم على رفعة مقامهم.

سادسها: التحذير من الاحتكاك بالشيعة والتحدّث معهم في الأمور العقائدية، وفتح باب الجدل والاحتجاج معهم... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على شعور الجمهور بأصالة الفكر الشيعي وقوّة حجّته.

ولذا كان التشيّع في غنى عن نظير ذلك مع بقيّة فرق المسلمين، بل يؤكّد الشيعة على لزوم البحث والنظر في الدين بموضوعية كاملة، كما ينتشر تراث الجمهور بينهم على ما تعرّضنا له في جواب السؤال الأوّل من الجزء الأوّل من كتابنا (في رحاب العقيدة).

رفض الإمام الحسين (عليه السّلام) نظام الجمهور في الخلافة

وفي ختام الحديث عمّا كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ من حيثية الاستدلال والبرهان يحسن التنبيه لأمر له أهميته في ذلك.

وهو إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بما له من مقام رفيع عند جمهور المسلمين قد خرج على نظام الخلافة عند الجمهور.

وإذا كان الجمهور قد تجاهلوا تلكؤ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) عن بيعة أبي بكر، بل إنكاره عليه، وحاولوا تكلّف توجيه موقفه (عليه السّلام) بما ينسجم مع شرعيتها وشرعية النظام المذكور.

وتجاهلوا أيضاً موقف الصديقة فاطمة الزهراء سيّدة النساء (صلوات الله عليه) حيث ماتت مهاجرة لأبي بكر، غير معترفة بخلافته مع ما هو المعلوم من

٤١٠

وجوب معرفة الإمام والبيعة له، وأنّ مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يبايعه ويقرّ له بالطاعة مات ميتة جاهلية.

فمن الظاهر أنّه لا يسعهم تجاهل موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) من بيعة يزيد ورفضه لها وخروجه عليه، وإصراره على موقفه حتى انتهى الأمر بفاجعة الطفّ بأبعادها وتداعياتها السابقة.

وحينئذٍ يدور الأمر عقلياً بين الالتزام بعدم شرعية بيعة يزيد؛ لعدم شرعية النظام الذي ابتنت عليه، وهو السبق للبيعة ولو بالقوّة كما عليه الجمهور، ويرفضه الشيعة جملة وتفصيلاً، أو الالتزام بعدم شرعية خروج الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وكونه باغياً، يجوز، بل يجب قتاله كما جرى عليه يزيد ومَنْ هو على خطّه من المغرقين في النصب.

وليس بعد هذين الوجهين إلّا الحيرة والتذبذب، أو الهرب من الحساب كما قد يبدو من عامّة الجمهور، وكفى بهذا مكسباً للتشيّع ببركة فاجعة الطفّ، ويأتي في المقام الثاني ما يتعلّق بذلك وينفع فيه.

٤١١

المقام الثاني

في الجانب العاطفي

وقد خدمت واقعة الطفّ دعوة التشيّع في هذا الجانب من جهتين:

نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) شيعية الاتجاه

الجهة الأولى: إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وإن رفع شعار الإصلاح في أُمّة الإسلام، إلّا إنّه رفعه بلواء التشيّع، فهو:

أوّلاً: يقول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية حينما أراد الخروج من المدينة: «... وإنّي لم أخرج أشرّاً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب...»(١) .

____________________

١ - العوالم/١٧٩، واللفظ له، بحار الأنوار ٤٤/٣٢٩ - ٣٣٠، مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/٢٤١ فصل في مقتله (عليه السّلام)، لكن ذكره على أنّه كلام للإمام الحسين (عليه السّلام) خاطب به محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس لما أشارا عليه بترك الخروج للعراق.

ومن الطريف أنّ ابن أعثم روى الكتاب هكذا:...أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين.... الفتوح - لابن أعثم ٥/٢٣ ذكر وصية الحسين (رضي الله عنه) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، وتبعه في ذلك الخوارزمي في مقتله ١/١٨٩.

هذا ولا ينبغي الإشكال في كون هذه الزيادة موضوعة: =

٤١٢

____________________

= أوّلاً: لأنّ إطلاق عنوان (الخلفاء الراشدين) على الأوّلين لم يعرف في عصور الإسلام الأولى، وإنّما حدث بعد ذلك في عصر العباسيين.

وثانياً: لأنّ ذلك لا يتناسب مع رفض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لاشتراط عبد الرحمن بن عوف في بيعة الشورى الالتزام بسيرة أبي بكر وعمر.

وثالثاً: لأنّ ذلك لا يتناسب مع كون أنصار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذين دعوه واستجاب لهم هم شيعته من أهل الكوفة، وموقفهم ممّن تقدّم على أمير المؤمنين (عليه السّلام) معلوم، ولاسيما عثمان حيث إنّ سيرته أثارتهم فيمَنْ ثار عليه.

وهذا حجر بن عدي من أعيان الشيعة في الكوفة ورد في شهادة الشهود في تجريمه: وزعم أنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا في آل أبي طالب. الكامل في التاريخ ٣/٤٨٣ ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما.

ولمّا قدم عبد الله بن مطيع الكوفة والياً من قبل عبد الله بن الزبير خطب الناس، فقال في جملة ما قال: وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلّا برضى منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين....

فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما أمر ابن الزبير إيّاك أن لا تحمل فضل فيئنا عنّا إلّا برضانا فإنّا نشهدك أنّا لا نرضى... وأن لا يسار فينا إلّا بسيرة علي بن أبي طالب...، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا، ولا في أنفسنا؛ فإنّها إنّما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرّاً....

فقال يزيد بن أنس: صدق السائب بن مالك وبر. رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله. تاريخ الطبري ٤/٤٩٠ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٢١٣ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، ذكر وثوب المختار بالكوفة، ولكنّه بتر كلام يزيد بن أنس، البداية والنهاية ٨/٢٩٠ - ٢٩١ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، ولكنّه أجمل الرواية مع بعض التصرّف فيه، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢١/٦ - ٧ ذكر وثوب المختار في الكوفة، جمهرة خطب العرب ٢/٦٨ - ٦٩ خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة.

وقريب منه في الفتوح - لابن أعثم ٥/٢٤٩ ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه، وأنساب الأشراف ٦/٣٨٣ في أمر المختار بن أبي عبيد الثقفي وقصصه، وغيرهما من المصادر. =

٤١٣

وهو (عليه السّلام) بذلك يشير إلى أنّ السيرة الرشيدة التي ينبغي اتّباعها والتمسّك بها هي سيرة النبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، دون سيرة غيرهما ممَنْ استولى على السلطة.

____________________

= ورابعاً: لأنّ المعركة في الطفّ قد تضمّنت ما لا يناسب ذلك؛ ففي حديث عفيف بن زهير - وكان ممّنْ شهد المعركة - قال: وخرج يزيد بن معقل... فقال: يا برير بن خضير كيف ترى صنع الله بك؟

قال: صنع الله - والله - بي خيراً، وصنع الله بك شرّاً.

قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً. هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالاً مضلاً، وإنّ إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟

فقال له برير: أشهد أنّ هذا رأيي وقولي.

فقال له يزيد بن معقل: فإنّي أشهد أنّك من الضالين.

فقال له برير بن خضير: هل لك؟ فلأباهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المبطل، ثمّ اخرج فلأبارزك؟

قال: فخرج، فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً، وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ؛ فخرّ كأنّما هوى من حالق وإنّ سيف برير بن خضير لثابت في رأسه. فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه.... تاريخ الطبري ٤/٣٢٨ - ٣٢٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

وفي حديث هانئ بن عروة أنّ نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: أنّا الجملي، أنّا على دين علي.

قال: فخرج إليه رجل يُقال له: مزاحم بن حريث، فقال: أنّا على دين عثمان.

فقال له: أنت على دين شيطان. ثمّ حمل عليه فقتله. تاريخ الطبري ٤/٣٣١ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، واللفظ له، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/٥، وقد ذكر ابن كثير كلام نافع من غير أن يذكر تتمة الرواية، راجع البداية والنهاية ٨/١٩٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

ومن الظاهر أنّ ذلك بمرأى ومسمع من الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وما كانا ليخالفانه في الرأي، فكيف يصدق عليه (عليه السّلام) مع ذلك أن يلتزم بسيرة الخلفاء وفيهم عثمان؟!... إلى غير ذلك ممّا يشهد بافتعال هذه الزيادة على سيّد الشهداء (صلوات الله عليه).

٤١٤

وثانياً : يقول في كتابه إلى رؤساء الأخماس بالبصرة: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحق علينا ممّنْ تولاه...»(١) .

وقد أكّدت ذلك العقيلة زينب الكبرى (عليها السّلام) في خطبتها الجليلة في مجلس يزيد التي هي في الحقيقة من جملة أحداث نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وواجهاتها المضيئة.

حيث قالت (عليها السّلام) منكرة على يزيد:

فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً؛ حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً...(٢) . فإنّ كلامها هذا صريح في أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (عليهم السّلام)، وأنّ السلطان الإسلامي لهم.

وثالثاً : قد استجاب لشيعته في الكوفة، ومن المعلوم من مذهبهم أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (صلوات الله عليهم)... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ نهضته الشريفة من الشواهد الدالة على أنّها تبتني على استحقاق أهل البيت (عليهم السّلام) لهذا المنصب الرفيع.

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٦٦ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم، وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، واللفظ له، البداية والنهاية ٨/١٧٠ قصّة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله.

٢ - راجع ملحق رقم (٤).

٤١٥

وهو (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بذلك وإن كان قد يخسر تأييد مَنْ يوالي الأوّلين، ويخفّف أو يفقد تعاطفهم معه، إلّا إنّه (صلوات الله عليه) كان يرى أنّ التأكيد على مبادئ أهل البيت ومذهبهم في السلطة، وتبنّيها في نهضته أهم من تكثير المؤيّدين له والمتعاطفين معه.

ولاسيما أنّ هدفه (عليه السّلام) ليس هو الانتصار العسكري كما سبق، بل الإنكار على الظالمين، وسلب الشرعية عنهم، والتضحية من أجل مصلحة الدين، والتذكير بمبادئه؛ حيث يقتضي ذلك منه (عليه السّلام) إيضاح تلك المبادئ والتركيز عليها وعلى حَفَظتها ورُعاتها؛ خدمة لها.

فوز التشيّع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية

وبذلك كسب التشيّع شرف التضحية في أعظم ملحمة دينية وحركة إصلاحية في الإسلام، بل في جميع الأديان السماوية كما يظهر من النصوص، ويشهد به التأمّل والاعتبار؛ حيث كان لها أعظم الأثر في بقاء معالم الإسلام ووضوح حجّته، وهو خاتم الأديان وأشرفها.

وقد تضمّخ بتلك الدماء الزكية، وصار رمزاً للشهادة والفناء في سبيل الله (عزّ وجلّ)، وفي سبيل دينه القويم وتعاليمه السامية، وعنواناً للإنكار على الظالمين، والصرخة في وجوههم بنحو يوجب المزيد من الشدّ العاطفي نحوه، والتجاوب معه؛ ولذلك أعظم الأثر في قوّة التشيّع.

بل هي نقطة تحوّل فيه؛ حيث صار له بسببها من المخزون العاطفي ما يمدّه بالقوّة على مرّ الزمن، وشدّة المحن.

فهو يزيد الشيعة إيماناً بقضيتهم، وإصراراً على مواقفهم وثباتاً عليه، ويهوّن عليهم الاضطهاد والفجائع التي تنزل بهم مهما عظمت؛ إذ لا

٤١٦

فاجعة أشدّ من فاجعة الطفّ بأبعادها التي سبق التعرّض لها، كما قال الشاعر:

أنست رزيتُكم رزايانا التي

سلفت، وهوّنتِ الرزايا الآتيه

وفجايعُ الأيامِ تبقى مدة

وتزولُ، وهي إلى القيامةِ باقيه

بل جعل الشيعة (رفع الله تعالى شأنهم) يشعرون بالفخر والاعتزاز بما يقع عليهم بسبب تشيّعهم من المصائب والمتاعب، ويرونها أوسمة شرف لهم على مرّ العصور وتعاقب الدهور، فتشدّ عزائمهم، وترفع من معنوياتهم، وتمدّهم بالحيوية والطاقة.

كما تزيدهم ارتباطاً بالله (عزّ وجلّ) وبرسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وتذكّرهم بدينهم القويم وتعاليمه السامية، وتحملهم على الرجوع إليها والتمسّك بها.

نقمة الظالمين على الشيعة في إحياء فاجعة الطفّ

ولذا انصبّت نقمة الظالمين - على مرّ التاريخ وحتى عصرنا الحاضر - على الشيعة وممارساتهم، ولاسيما إحياء فاجعة الطفّ؛ سواء بإقامة مجالس العزاء، أم برثاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أم بزيارة قبره وتشييده... إلى غير ذلك من وجوه الإحياء.

حيث يجدون في ذلك إنكاراً من الشيعة عليهم، وصرخة في وجوههم، وتعرية لهم، وتحريضاً عليهم بنحو قد يفقدهم رشدهم في معالجة المواقف، والتعامل معها؛ فيكون ردّ الفعل منهم عليها عنيفاً بنحو يؤكّد ظلامة الشيعة والتشيّع، ويعود في صالحهما على الأمد البعيد.

٤١٧

فاجعة الطفّ زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور

الجهة الثانية: إنّ فاجعة الطفّ بأبعادها السابقة كما هزّت ضمير المسلمين زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، بما في ذلك خلافة الأوّلين؛ حيث لا يتعقّل المنصف شرعية نظام ينتهي بالإسلام والمسلمين في هذه المدّة القصيرة إلى هذه المأساة الفظيعة والجريمة النكراء، وتداعياتها السريعة.

ولاسيما أنّ هذه الفاجعة - مع فضاعتها في نفسها - قد نبّهت إلى ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخطّ، وإلى جميع سلبيات النظام المذكور، ومآسيه المتتابعة في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإلى حجم الخسارة التي تعرّض لها الإسلام نتيجة انحراف السلطة فيه عن أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فاجعة الطفّ هي العقبة الكؤود أمام نظام الخلافة

وقد أكّد على ذلك أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أحاديثهم الكثيرة، وفي الزيارات الواردة عنهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه).

وإذا كان احترام الجمهور للصدر الأوّل، بل تقديسهم له؛ نتيجة العوامل المتقدّمة - ومنها جهود معاوية الحثيثة - قد كان هو العقبة الكؤود أمام دعوى النصّ التي يتبّناها الشيعة كما سبق، فإنّ فاجعة الطفّ صارت هي العقبة الكؤود أمام شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، واحترام الصدر الأوّل ممّنْ جرى على ذلك النظام وتقديسهم.

بل قد آذنت بنسف ذلك كلّه بعد أن كان من الناحية الواقعية هشّاً غير محكم الأساس، ولا قوي البرهان.

٤١٨

موقف بعض علماء الجمهور من إحياء الفاجعة

وقد أدرك ذلك كثير من علماء الجمهور حتى قبل ظهور دعوة التكفيريين، الذين جعلوا من الدين حرمة إحياء الذكريات المجيدة في الإسلام، والقيام بمظاهر التمجيد والتقديس لرموزه العظام.

فإنّ الجمهور - مع استهجانهم لفاجعة الطفّ عند الحديث عنها، وتعظيمهم لمقام الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يحاولون إحياء ذكرى فاجعة الطفّ بما يتناسب مع مبانيهم، بل لا يطيق كثير منهم النيل من الظالمين والتذكير بجرائمهم.

وقد حاول كثير منهم المنع من إحياء تلك الذكرى الأليمة، والتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما جرى عليهم، والضغط في الاتجاه المذكور بمختلف الوسائل والحجج.

بل منعوا من لعن القائمين بتلك الجريمة النكراء والنيل منهم، وإن كان في جرائمهم ما لا يخصّ الشيعة، كواقعة الحرّة الفظيعة، وهتك حرمة الحرم، وضرب مكة المكرّمة والكعبة المعظّمة بالمنجنيق وغير ذلك.

وقد حاولوا تجاهل ذلك كلّه أو التخفيف منه؛ من أجل حمل المسلمين على نسيان فاجعة الطفّ، وعدم التركيز عليها والاهتمام بها؛ لما للتذكير بها من الآثار السلبية على مبانيهم في نظام الحكم التي تسالموا عليه من دون أن يستندوا إلى ركن وثيق يقف أمام الهزّة العاطفية التي تحدثها هذه الذكرى الأليمة، والحساب المنطقي الذي تنبّه له.

كلام الغزالي

بل انتهى الأمر ببعضهم إلى تحريم التعرّض لهذه الفاجعة وما يتعلّق بها. فعن الغزالي: يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين (رضي الله عنه) وحكاية ما جرى

٤١٩

بين الصحابة من التشاجر والتخاصم؛ فإنّه يهيج بغض الصحابة، والطعن فيهم، وهم أعلام الدين، وما وقع بينهم من المنازعات فيُحمل على محامل صحيحة. فلعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد، لا لطلب الرئاسة أو الدنيا كما لا يخفى(١) .

كلام التفتازاني

وقال سعد الدين التفتازاني: ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات - على الوجه المسطور في كتب التواريخ وعلى السُنّة الثقات - يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسة، والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوم، ولا كلّ مَنْ لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخير موسوم.

إلاّ إنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق؛ صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيّما المهاجرين والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء؛ إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له مَنْ في الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشقّ الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور، فلعنة الله على مَنْ باشر، أو رضي أو سعى، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

____________________

١ - روح البيان - للبروسوي ٨/٢٤ في تفسير آية:٢٥ سورة ص، وهي قوله تعالى:( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) ، الغرر البهية ٥/٧١ باب البغاة.

٤٢٠