فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247666
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247666 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تحقيق هدفه عن المبادئ الشريفة، والتعاليم الدينية القويمة بأعذار ومبرّرات ما أنزل الله بها من سلطان، فيكون قد أعطى باليمين ما أخذه باليسار.

بل قد يزيد في الفساد؛ لأنّه إذا فتحت الباب للأعذار والمبرّرات صعب غلقها أو تحجيمها وتحديدها، وكلّما استمر الإنسان على ذلك زاد هو وكلّ مَنْ هو على خطّه جرأة على الخروج عن المبادئ الشريفة والتعاليم السامية حتى يتمحّض مشروعه في الجريمة.

على أنّه ربما يفشل في مشروعه، ويبقى عليه تبعة الخروج في سبيل تحقيق هدفه عن الموازين الدينية والعقلية والأخلاقية.

مع إنّ تبرير الجريمة في نفسه من أجل الغاية من قِبَل الشخصيات ذات الوجود الاجتماعي المحترم موجب لتخفيف حدّة الجريمة في نفوس العامّة، وضعف الرادع الوجداني عنها تدريجاً، فيسهل ارتكابها، وبذلك تضيع معالم الحقّ، وهو من أعظم الجرائم في حق المجتمع.

وما أكثر ما استغلّ المصلحيون والانتهازيون في سبيل تحقيق مصالحهم وأهدافهم الجهنمية تأجيج العواطف ضدّ الفساد، والدعوة للإصلاح؛ من أجل إغفال أتباعهم عن واقعهم المشبوه وسلوكهم المشين، فسار الناس وراءهم متغافلين عن كلّ ما يصدر منهم، ثمّ لم ينتبهوا إلّا بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم. ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والسداد.

٤٤١

المقام الثاني

في النتائج

سبق أن أشرنا إلى أنّ تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في السلطة كشفت عن تعذّر إصلاح المجتمع الإسلامي بإقامة حكم يطبّق الإسلام عملياً بنحو كامل.

لكنّ اهتمام شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) والموالين لهم في الكوفة بالإصلاح، ومعاناتهم من الفساد، وشعورهم بالتقصير آنفاً إزاء أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كلّ ذلك جعلهم يستسهلون الصعاب في سبيل الإصلاح المذكور، وأفقدهم النظرة الموضوعية في الموازنة بين قوى الخير والشرّ، وفي التمييز بين ذوي المبادئ والتصميم حتى النفس الأخير، وغيرهم ممّنْ ينهار إذا جدّ الجدّ وضاقت الأمور، أو يكون انتهازياً في مواقفه من أوّل الأمر.

وقد جعلهم ذلك يترددون على الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في عهد معاوية يحاولون حملهما على الخروج عليه، لكنّهما (عليهما السّلام) لم يستجيبا لهم؛ لعدم تحقّق الظرف المناسب على ما يأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى.

حتى إذا انتهى عهد معاوية تخيّلوا إمكان تحقيق حلمهم في الإصلاح؛ فاندفعوا في سبيل ذلك، وتحمّلوا مسؤولية تعهّدهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وحملهم له على تلك النهضة المقدّسة، وتبعات تقصيرهم في حقّه، والعدوان الذي حصل عليه وعلى مَنْ معه.

٤٤٢

وإذا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد استجاب لهم من أجل التضحية لصالح الدين - كما أوضحناه فيما سبق - فإنّ ذلك لم يكن هو مشروعهم الذي تحرّكوا من أجله، بل حاولوا إقامة حكم إسلامي أصيل يطبّق الإسلام عملياً بالوجه الكامل.

كشفت فاجعة الطفّ عن تعذّر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل

وقد كشفت فاجعة الطفّ أخيراً عن تعذّر ذلك، وأكّدت ما كشفت عنه تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من قبل.

وكلّما امتدّ الزمن كان ذلك أولى بالتعذّر؛ فإنّ ظرف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتميّز عمّا بعده من العصور بأمور:

الأوّل : شخص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو أعرف الناس بحقيقة الإسلام، مع مؤهلاته الشخصية الأخرى من حكمة واستقامة، وقوّة وتصميم، وصلابة موقف... إلى غير ذلك.

مضافاً إلى أنّه خامس أصحاب الكساء (عليهم السلام)، وقد فرض احترامه على عموم المسلمين، وهم يرونه في قرارة نفوسهم الرجل الأوّل فيهم كما سبق.

الثاني : القرب من العهد النبوي؛ حيث يوجد بقيّة من كبار الصحابة والتابعين الذين هم على علم بكثير من الحقائق قد تكون خفيت بعد ذلك.

الثالث : التدهور السريع نتيجة الانحراف، خصوصاً في العهد الأموي الذي تمادى فيه الانحراف لصالح مَنْ يعرف عنهم المسلمون أنّهم أعداء الإسلام، حيث صدمهم ذلك، وعظم وقعه عليهم.

أمّا بعد ذلك فيهون ما استصعبوه أوّلاً؛ إذ كلّما طال الزمن وتعاقبت الأجيال يخفّ وقع الانحراف والتدهور، ويألفه المجتمع حتى يكون جزءاً من

٤٤٣

كيانهم، ولا يستفزّهم.

الرابع : وجود نخبة صالحة قد تعرّفت على الحقيقة الكاملة من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وصمّمت على التضحية في سبيل هذه الحقيقة.

ولا نعني بذلك كلّ مَنْ كتب إلى الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أو بايع؛ إذ كثير منهم انتهازيون قد قاموا بذلك لتخيّلهم نجاح الإمام (عليه السّلام) في الاستيلاء على السلطة، وكثير منهم همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق.

بل نعني به مَنْ كان مصمّماً على التضحية عن جدّ وإخلاص، وهم كثيرون نسبياً؛ سواء مَنْ ضحى بالفعل، أم مَنْ لم يضحِ؛ إمّا لأنّه منع من الوصول للإمام الحسين (عليه السّلام) لسجن، أو لقطع الطرق وجعل المراصد - كما أشرنا إليه في المقدّمة -، أو لأنّ عزمه قد ضعف عندما جدّ الجدّ، أو عندما يئس من انتصار الإمام الحسين (عليه السّلام) عسكرياً.

ومع كلّ هذه الأمور الأربعة لم يتسنَّ للنهضة الشريفة النجاح العسكري؛ بسبب غشم السلطة، وفساد المجتمع، وتخاذله أمام الغشم المذكور.

كما قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته في الطريق أو حينما نزل كربلاء: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون»(١) .

وقد تجاهلت السلطة كلّ الحواجز والمثبّطات، وقامت بهذه الجريمة النكراء بأبعادها المتقدّمة، وتبعها مَنْ تبعها، وكُمّت الأفواه، بين الخوف والأطماع.

وذلك كافٍ لأن يكون عبرة ودليلاً على تعذّر الإصلاح الكامل؛ إذ لا ينتظر وجود قائد أكفأ من الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ولا وجود أُناس

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/٣٦.

٤٤٤

أصلح ممّنْ كان في عصره، ولا تهيؤ ظرف أحسن من ظرفه بحسب الوضع الطبيعي، بل كلّما استمر الزمن زاد الفساد وألِفه الناس.

لا ينبغي الاغترار باندفاعات الناس العاطفية

ولا ينبغي الاغترار بمواقف الناس العاطفية حتى لو صدقت؛ نتيجة اكتوائهم بآلام الفساد وتعطشهم للإصلاح؛ لأنّ ذلك قصير الأمد، ثمّ لا بدّ من التراجع نتيجة العوامل المختلفة من خوف أو رجاء، أو ملل أو وهن أمام المتاعب والعقبات التي تقف في طريق الإصلاح... إلى غير ذلك.

ولو فرض تحقّق فرصة لانتصار المشروع عسكرياً في ظروف استثنائية، فيتعذّر الاحتفاظ به مع الحفاظ على المبادئ، بل لا بدّ إمّا من الإجهاز عليه أخيراً - كما حدث في تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - أو الانحراف به تدريجاً حتى يُمسخ؛ نتيجة فساد المجتمع، وتكالب قوى الشرّ والطغيان كما حصل في كثير من المحاولات.

ينحصر الأمر بمحاولة الإصلاح النسبي

ومن هنا ينحصر الأمر بالإصلاح النسبي الراجع لتخفيف الفساد؛ إمّا على الصعيد الفردي بالتربية الصالحة، والموعظة الحسنة، والتثقيف الديني السليم، وإمّا على الصعيد الاجتماعي العام بتخفيف نسبة الفساد فيه ولو إلى أمد قصير؛ فإنّ الميسور لا يُترك بالمعسور، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه.

نعم، لا بدّ:

أوّلاً : من إحراز المبرّر الشرعي للتحرّك.

وثانياً : من الموازنة الموضوعية بين الخسائر التي تقع في طريق العمل،

٤٤٥

والفوائد المترتبة عليه بحيث يكون العمل مثمراً ولازماً أو سائغاً.

وذلك يختلف باختلاف الظروف والمقارنات، كما تختلف فيه وفي أساليبه الأنظار والقناعات، ولكلّ وجهة نظره، وهو يتحمّل مسؤولية عمله من دون أن يتحمّل الإسلام سلبيات ذلك، والحساب على الله (عزّ وجلّ).

وثالثاً : من الإصحار بالهدف على حقيقته، وعدم إطلاق الدعاوى العريضة، والمواعيد الكبيرة من أجل جمع الأعوان والتغرير بالناس. كلّ ذلك للحفاظ على سلامة آليّة العمل كما سبق.

وهذه الحقيقة وإن كانت مرّة إلّا إنّها واقع قائم لا مفرّ منه، ويجب الاعتراف به؛ نتيجة النظرة الموضوعية، ثمّ التعامل مع هذا الواقع بحكمة ورويّة، وبعد نظر بعيداً عن النظرة العاطفية، والمواقف الانفعالية.

وقد سبق أنّ ذلك لم يكن يخفى على الإمامين الشهيدين أمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهما)، وأنّهما لم يقدما على ما أقدما عليه من أجل تحقيق العدل المطلق، وإقامة النظام الإسلامي الأكمل، بل كان هدفهما رضى الله سبحانه وتعالى والقيام بتكليفهما.

وقد ظهر لنا من ثمرات تحرّكهما وجهادهما كبح جماح الانحراف في الدين، وتخفيف الفساد بظهور صوت الحقّ المنكر عليه، وإقامة الحجّة على الحقّ، وإسماع دعوته، وقطع العذر على مَنْ يخرج عنه... إلى آخر ما تقدّم.

مسألة الأئمة المتأخرين عليهم السلام للسلطة

وإذا كان شيعة أهل البيت قبل فاجعة الطفّ لا يستوعبون هذه الحقيقة، ولا يذعنون بتعذّر الإصلاح الكامل وتعديل مسار السلطة في الإسلام؛ لقلّة تجربتهم وشدّة إنكارهم للظلم، وعظيم ما قاسوه منه، واغترارهم بمواقف

٤٤٦

الناس الانفعالية، وبتعهّدهم بالانتصار للحق، وبالثبات على ذلك.

فمن القريب جدّاً أن تكون صدمتهم بفاجعة الطفّ الفظيعة - بأبعادها المأساوية المتقدّمة - وما ظهر من نقض الناس للعهود، وتخاذلهم إذا جدّ الجدّ قد أعادت لكثير منهم رشدهم.

فأخذوا يتقبّلون من الأئمّة من ذريّة الإمام الحسين (صلوات الله عليه وعليهم) إصرارهم على الموقف المسالم للسلطة، والرافض للخروج عليها بالسيف، وإعلانهم (عليهم السّلام) عن أنّ قيام دولة الحقّ إنّما يكون بظهور خاتمهم القائم المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

حتى صار ذلك شعاراً للأئمّة (صلوات الله عليهم)، وعرفه عنهم الجمهور، وتميّزوا به عن غيرهم - من الفاطميين وغيرهم - ممّنْ يدعو للثورة، والكفاح المسلّح ضدّ الظالمين، وإقامة نظام بديل عن نظامهم.

وقد صار ذلك سبباً لتعاطف عامّة الناس معهم (عليهم السّلام)، وشعورهم بمظلوميتهم عند تعرّضهم لضغط السلطة وتنكيلها بعد أن لم يكونوا بصدد منافستها والخروج عليها.

ولاسيما مع ما لهم (صلوات الله عليهم) من الكرامة والاحترام في نفوس المسلمين عامّة؛ نتيجة مقامهم الرفيع في النسب والعلم والعمل.

ولا يظهر الإنكار على الأئمّة (عليهم السّلام) من شيعتهم، أو التململ من الموقف المذكور إلّا بصورة فردية انفعالية يسهل عليهم (عليهم السّلام) تجاهلها أو الردّ عليها، وإفهام مَنْ يصدر منه ذلك بخطئه، وسوء تقديره للأمور.

ولاسيما بعد أن تبلور مفهوم عصمة الإمام، ووجوب التسليم له. وقد حفظ لنا التراث الشيعي كثيراً من مفردات ذلك.

٤٤٧

حديث سدير الصيرفي

وقد يحسن بنا أن نذكر هنا حديث سدير الصيرفي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام)، فقلت له: والله ما يسعك القعود. فقال: «ولِمَ يا سدير؟». قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك. والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ما لَكَ من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم وعدي. فقال: «يا سدير، وكم عسى أن يكونوا؟». قلت: مئة ألف. قال: «مئة ألف؟!». قلت: نعم، ومئتي ألف. قال: «مئتي ألف؟!». قلت: نعم، ونصف الدنيا. قال: فسكت عنّي. ثمّ قال: «يخفُّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟». قلت: نعم. فأمر بحمار وبغل أن يُسرج... فمضينا، فحانت الصلاة، فقال: «يا سدير، انزل بنا نصلّي». ثمّ قال: «هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها». فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء، نظر إلى غلام يرعى جداءً، فقال: «والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود». ونزلنا وصلّينا، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر(١) .

ومن الطبيعي أن يكون مراده (عليه السّلام) من الشيعة هنا الخلّص ذوي الثبات والتسليم، والتصميم على الوجه الأكمل الذين لا تزعزعهم المحن والبليات، ولا تزيلهم الشبهات والمغريات.

وقد يشير إلى ذلك حديث أبي مريم عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: «قال أبي يوماً وعنده أصحابه: مَنْ منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفّه، فيمسكها حتى تطفُ؟». قال: «فكاع الناس كلّهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إيّاك عنيت؛ إنّما أنت منّي وأنا منك، بل إيّاهم أردت [ قال: ] وكرّرها ثلاثاً. ثمّ قال: ما أكثر الوصف، وأقلّ الفعل. إنّ أهل الفعل قليل، إنّ أهل الفعل قليل، وإنّا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منّا

____________________

١ - الكافي ٢/٢٤٢ - ٢٤٣ ح ٤.

٤٤٨

تعامياً عليكم، بل لنبلوا أخباركم، ونكتب آثاركم». فقال: «والله لكأنّما مادت بهم الأرض حياء ممّا قال...، فلمّا رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله، فما أردت إلّا خيراً. إنّ الجنّة درجات، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم». قال: «فوالله، لكأنّما نشطوا من عقال»(١) .

وعلى ذلك يجري قوله تعالى:( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أنّهم فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيت ) (٢) .

نعم، قد تعرّض الأئمّة (صلوات الله عليهم) للإنكار عليهم ممّنْ يتبنّى خطّ الثورة من العلويين وغيرهم، إلّا إنّهم (عليهم السّلام) لم يكترثوا بذلك بعد رضوخ شيعتهم لهم، وتقبّلهم لموقفهم، ولاسيّما بعد ظهور فشل محاولات الثورة والإصلاح الكثيرة عسكرياً، أو عملياً بانحراف الثورة حين قيامها أو بعد نجاحها.

والحاصل: إنّ فاجعة الطفّ قد خفّفت من ضغط الدعوة للثورة على سلطان الجور عن الأئمّة (صلوات الله عليهم)، وسهّلت عليهم إقناع شيعتهم بعدم الجدوى فيه، وانتظار الفرج بقيام الحجّة المهدي المنتظر (صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه).

وهذه فائدة مهمّة لفاجعة الطفّ حيث سهّلت على الأئمّة (عليهم السّلام) بناء الشيعة ثقافياً كما يريدون، بعيداً عن الضجيج والعجيج، وهي في الحقيقة من جملة الثمرات الدينية لفاجعة الطفّ تضاف لما سبق في الفصل الأوّل.

____________________

١ - الكافي ٨/٢٢٧ - ٢٢٨ ح ٢٨٩.

٢ - سورة النساء/٦٥ - ٦٦.

٤٤٩

دعوى أنّ ذلك لا يتناسب مع قابلية الإسلام للتطبيق

هذا وقد يدّعي المدّعي أنّ ذلك لا يتناسب مع ما نعتقده - نحن وعامّة المسلمين - من ابتناء التشريع الإسلامي على حكم الإسلام في الأرض؛ وما ذلك إلّا لقابلية نظام الإسلام للتطبيق بوجه كامل من أجل إصلاح المجتمع، وتطهيره من الفساد، وتعميم العدل، فكيف يدّعى تعذّر ذلك، خصوصاً في عصر حضور الأئمّة (صلوات الله عليهم)؟!

دفع الدعوى المذكورة

والجواب عن ذلك: إنّ من تتمّة نظام الإسلام العظيم أن يكون المشرف على تطبيقه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، المأمونين عليه نتيجة عصمتهم، والمحكمين فيه نتيجة وجوب موالاتهم وطاعتهم، وبذلك كمال الدين وتمام النعمة.

ولو أنّ الصحابة الأوّلين من المهاجرين والأنصار أجمعوا على ذلك، واتّحدت كلمتهم، وتسلّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) السلطة بناء على ذلك وإقراراً له لاختلف كيان الإسلام عمّا انتهى إليه بسبب الانحراف.

إذ يُقرّ قولاً وعملاً بنحو إجماعي عند المسلمين نظام الخلافة حينئذٍ على ما أراده الله تعالى من خلافة الإمام المعصوم المنصوص عليه، بدءاً بأمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وهو الذي كان يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الضاربة، وسيفه الصارم في جهاده الطويل، والمبلّغ عنه والناطق باسمه.

والذي هو امتداد طبيعي لوجوده صلى الله عليه وآله وسلم الشريف في كونه عميداً لبني هاشم، القبيلة ذات المقام الرفيع في نفوس العرب الذي زاد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أضعافاً كثيرة.

٤٥٠

كما إنّه (عليه السّلام) امتداد طبيعي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوّة شخصيته (عليه السّلام) وصلابته وهيمنته، وفي علمه وعمله، وفي مبادئه ومثاليته.

ويترتّب على ذلك أمور في غاية الأهمية:

الأوّل : انصياع العرب لأمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتجنّب المسلمون كثيراً من الحروب التي سمّيت بحروب الردّة، أو جميعها.

كما يناسبه قول سلمان الفارسي حينما بويع أبو بكر: أصبتم ذا السنّ منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيّكم. لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً(١) ، وقول أبي ذرّ: لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم اثنان(٢) .

إذ الظاهر أنّ كثيراً من تلك الحروب أو كلّها إنّما كانت من أجل تثبيت السلطة الجديدة المهزوزة دينياً؛ لعدم كونها بعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واجتماعياً؛ لاستهانة العرب بأبي بكر وقبيلته، ولسقوط هيبة الإسلام باختلاف المسلمين وانشقاقهم على ما أوضحناه في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة ).

الثاني : قطع آمال الآخرين في السلطة إلى الأبد، ويتجنّب المسلمون الصراع عليه، ذلك الصراع الذي فرّقهم ونخر في كيانهم، بل دمّرهم.

الثالث : تحجيم دور المنافقين وحديثي الإسلام في إدارة الأمور، وفي نشر مفاهيمهم، وقطع الطريق عليهم من أجل قضاء مآربهم الخبيثة على حساب الإسلام.

الرابع : قوّة نفوذ السابقين من الصحابة المعروفين بقوّة الدين، والإخلاص والأثر الحميد في الإسلام، والتابعين لهم بإحسان من ذوي الإيمان والتقوى

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٢/٤٩، و٦/٤٣.

٢ - شرح نهج البلاغة ٦/١٣، واللفظ له، و٢/٤٩، بحار الأنوار ٢٨/١٩٥.

٤٥١

والالتزام العملي.

وبذلك يتجنّب الإسلام كثيراً من السلبيات والمفارقات التي تقدّم منّا التعرّض لبعضها في حديثنا هذا.

ومن الطبيعي حينئذ أن تسير عجلة الإسلام بتعاليمه الكاملة ومثله السامية على الطريق الواضح من دون أي انحراف أو تحوير أو وهن، ويتجسّد بواقعه الثقافي والعملي على ما أراده الله (عزّ وجلّ) كما تضمّنت ذلك النصوص الكثيرة.

فإذا تمّت الفتوح في عهد هذا الإسلام الأصيل وهذه القيادة الفذة، والجماعة الصالحة، واتّسعت رقعته، وجاءت بسببها الغنائم والخيرات، والعزّة والكرامة قوي هذا الإسلام وارتفع شأنه، وتركّز في النفوس وتجذّر في أعماقها.

وبذلك يقوم كيان الإسلام على الاستقامة والصلاح مهما اتسع وانتشر من دون أن يكون هناك ما يدعو للخروج عليه، أو الانحراف به.

صلاح المجتمع مدعاة للتسديد والفيض الإلهي

ولاسيما أنّ المجتمع المذكور يكون حينئذ مورداً للفيض الإلهي، كما قال الله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) (١) ، وقال (عزّ وجلّ):( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أنّهم أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم... ) (٢) .

وقد تقدّم قريباً في كلام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ما يناسب ذلك، ونحوه في كلام له آخر(٣) . وفي كلام له ثالث: لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم، ومن تحت

____________________

١ - سورة الأعراف/٩٦.

٢ - سورة المائدة/٦٥ - ٦٦.

٣ - المصنّف - لابن أبي شيبة ٨/٥٨٦ كتاب المغازي، ما جاء في خلافة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

٤٥٢

أرجلهم(١) . وفي كلام أبي ذرّ: أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله، وأخّرتم مَنْ أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم(٢) .

ومن الظاهر أنّ الفيض الإلهي المذكور يقلل من فرص الخلاف والشقاق، ومن الخروج على السلطة الشرعية؛ لفقد المبرّر له، ورفض المسلمين لذلك حينئذٍ.

بل قد ورد في كلام غير واحد من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ووجوه الصحابة القطع بعدم تحقّق الخلاف والشقاق حينئذٍ، كما يناسبه ما سبق في كلامي سلمان وأبي ذرّ.

وقالت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في خطبتها الكبرى: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر...، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً للفرقة»(٣) .

وقال عبد الله بن جعفر في حديث له مع معاوية: فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وإن أُخذ فيها بسُنّة رسول الله فأولوا رسول الله...، وأيم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر في موضعه؛ لحقه وصدقه، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان، وما اختلف في الأُمّة سيفان(٤) ... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأُمّة لو لم تنحرف من أوّل الأمر لاستمرت في استقامتها وتماسكها.

____________________

١ - أنساب الأشراف ٢/٢٧٤ أمر السقيفة.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢/١٧١ أيام عثمان.

٣ - راجع ملحق رقم (١).

٤ - الإمامة والسياسة ١/١٤٠ ما تكلم به عبد الله بن جعفر، جمهرة خطب العرب ٢/٢٤٧ الباب الثالث، الخطب والوصايا في العصر الأموي، خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها، خطبة عبد الله بن جعفر.

٤٥٣

ولو فرض أن سوّلت بعض النفوس لأصحابها بذلك كان خارجاً عن جماعة المسلمين محارباً من قبلهم، لا مجال لتبرير موقفه بعد اتفاقهم على وجوب طاعة الإمام وعصمته اللذين لا مجال معهما للاجتهاد والاختلاف.

ولاسيما بعد إدراكهم خير ذلك وبركته بنحو يقتضي تجذّر الاستقامة والانقياد للحق في نفوسهم، والاهتمام بالحفاظ عليه، والدفاع عنه.

إنّما يتعذّر الإصلاح الكامل بعد حصول الانحراف

وإنّما قلنا آنفاً بتعذّر الإصلاح التام وتطبيق حكم الإسلام كاملاً من أجل الواقع الذي حصل حيث انحرفت من اليوم الأوّل مسيرة السلطة في الإسلام، فترتّب على ذلك التلاعب في الدين، وإبعاد المخلصين، ونفوذ المنافقين، واختلاف الأُمّة وانشقاقها على نفسها، وطمع في السلطة مَنْ ليس أهلاً له من دون ضابط ولا وازعٍ حتى انتهى الأمر إلى أعداء الإسلام والمسلمين، والموتورين منه ومنهم.

ثمّ ظهرت الفرق في الأُمّة، وانشقّت على نفسها، وصار لكلّ فرقة دينها الذي تختص به، ومقاييسها التي تجري عليها، وتجذّر في أعماقها بحيث يصعب التحرّر منها، والفحص عن الحقّ بموضوعية خالصة.

وفتح باب الاجتهاد والتشبّث بالمبرّرات للخروج عن النصّ، ومرضت النفوس، وتعوّدت على اللف والدوران، والبغي والعدوان، وظهرت كوامن النفوس الشريرة، وشيب الحقّ بالباطل.

زيادة الأمر تعقّداً في عصر الغيبة

ويزيد الأمر تعقّداً في عصر الغيبة؛ حيث لا معصوم ناطق يرعى بالمباشرة

٤٥٤

الدين والدولة، وغاية ما نملك مجتهدون معرّضون للخطأ، وهم يختلفون في معرفة الحكم الشرعي وتحديده، وفي الطريق الأمثل لتطبيقه نسبياً، ولا يملك أي منهم القدرة على إقناع الآخرين بما أدّى إليه اجتهاده، وليس له الحقّ في فرض قناعته على غيره.

مضافاً إلى ما أفرزته التداعيات السابقة من نظريات مناهضة للدين يروّج لها الأعداء والنفعيون، وعقبات وألغام يزرعونها في طريق العاملين المخلصين الثابتين الذين هم أقلّ القليل.

ويدعمها في ذلك قوى هائلة ظاهرة وخفية تحاول أن تمسك بزمام الأمور، لا يهمّها تدمير المجتمع الإنساني في سبيل مصالحها الخاصة، ومن أجل تنفيذ مخططاتها الجهنّمية.

وكلّما امتدّ الزمن بالمجتمع الإنساني المريض زادت الأوضاع سوءاً والأمور تعقّداً، وتضاعفت المشاكل والسلبيات، إلّا إن تتدخل العناية الإلهية بنحو خاص، ولا مفرّج إلّا الله (عزّ وجلّ) وإليه يرجع الأمر كلّه.

لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور

نعم، لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه، ولكلّ وجهة نظره، والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وعلى كلّ حال فذلك كلّه ليس لقصور في النظام الإسلامي الرفيع، ولا في التشريع الإلهي القويم، بل لتقصير الأُمّة في واجبها من اليوم الأوّل حيث فسحت المجال للانحراف، وغضّت الطرف عنه، ولم تقم بواجبها في إنكار

____________________

١ - سورة العنكبوت/٦٩.

٤٥٥

المنكر والاستجابة للإمام المعصوم (صلوات الله عليه) من أجل تعديل المسار وإصلاح الأوضاع.

فتبوء هي بذنبها، وتتحمّل مسؤولية عملها من دون أن يتحمّل الإسلام ولا رموزه العظام شيئاً من ذلك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ونسأله (عزّ وجلّ) التسديد والتوفيق، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونعتصم به من الشيطان الرجيم، ومن مضلات الفتن، إنّه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٥٦

المقصد الثالث

في توقيت فاجعة الطفّ

من الظاهر أنّ الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) بأجمعهم يشتركون في مسؤولية رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته، وظهور دعوته وحجّته، ولا يختص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بذلك.

فلا بدّ أن يكون انفراده من بينهم بنهضته التي انتهت بفاجعة الطفّ لاختصاصه (عليه السّلام) بظروف، ودواعي ألزمته بذلك لم تتحقّق لهم (عليهم السّلام)؛ لظهور أنّ عصمتهم بأجمعهم (صلوات الله عليهم) تستلزم قيام كلّ منهم بوظيفته المناسبة لظروفه التي يعيشها، وتكليفه الذي يختص به.

وقد أكّدت النصوص الشريفة الواردة عنهم (عليهم السّلام) على أنّ كلاً منهم إنّما يقوم بوظيفته المعهودة له من قبل الله تعالى، وقد سبق ذكر بعضها في مقدّمة هذا الكتاب، والله سبحانه وتعالى هو العالم بما يقتضيه كلّ ظرف وزمان.

وهذا على الإجمال أمر لا إشكال فيه، وإنّما نحاول هنا التعرّف على ما امتازت به ظروف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - بحيث لزمه النهوض ولم يسعه القعود - حسبما يتيسّر لنا، ونرجو أن نوفّق في ذلك، فنقول:

بالتأمّل فيما ذكرناه في المقصدين السابقين يتّضح كثير من وجوه الفرق

٤٥٧

بين ظروفه وظروف بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين)، إلّا إنّه يحسن بنا هنا التعرّض بتفصيل لما ندركه في وجه اختلاف مواقفهم.

والكلام..

تارة : في أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام).

وأُخرى : في الإمام الحسن السبط (صلوات الله عليه).

وثالثة : في الأئمّة من ذرية الحسين (عليهم السّلام)، وذلك في فصول ثلاثة.

٤٥٨

الفصل الأوّل

في موقف أمير المؤمنين (عليه السّلام)

بعد خروج السلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه، وانحراف مسيرة نظام الحكم الإسلامي، فأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - فيما يبدو - كان معنيّاً بأمرين لهما أهمية كبرى في الحفاظ على دعوة الإسلام الحقّ، وبقائها للأجيال، وتبليغهم بها.

اهتمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بحفظ كيان الإسلام العام

الأوّل : حفظ كيان الإسلام العام الذي بذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمناصحون من أصحابه جهوداً جبّارة من أجله؛ لتبقى دعوة الإسلام الشاملة بين مجموعة كبيرة من الناس ذات قوّة وعدد بحيث تسعى لنشره والدفاع عنه، ولو من أجل مصالحها وامتيازاتها، وقد ورد أنّ الله (عزّ وجلّ) ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(١) .

كلّ ذلك من أجل أن يتسنّى للأمم البعيدة سماع دعوته، والتعرّف عليه،

____________________

١ - تهذيب الأحكام ٦/١٣٤، مستدرك الوسائل ١١/١٥، صحيح ابن حبان ١٠/٣٧٦ كتاب السير، ذكر البيان بأن الأمراء وإن كان فيهم ما لا يحمد فإنّ الدين قد يؤيد بهم، السنن الكبرى - للنسائي ٥/٢٧٩ كتاب السير، إنّ الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر، مسند أحمد ٥/٤٥ حديث أبي بكرة، مجمع الزوائد ٥/٣٠٢ كتاب الخلافة، باب فيمَنْ يؤيد بهم الإسلام من الأشرار، المعجم الأوسط ٢/٢٦٩، و٣/١٤٢، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٤٥٩

والنظر فيه، والاهتداء به، برغم السلبيات التي يفرزها الانحراف؛ ليكون الدخول في الإسلام - بكيانه العام - مفتاحاً لمعرفة الإسلام الأصيل، والمذهب الحقّ بعد الاطلاع على اختلاف المسلمين، والاستئناس بتعاليمهم وأدلتهم.

أمّا مع انهيار كيان الإسلام العام - بالردّة العامّة ونحوها - فلا يتيسّر لتلك الأمم الاطلاع على الدين الحقّ، والفرقة الناجية حتى لو بقيت الثلّة الصالحة من حملته؛ لقلتهم وعجزهم عن اكتساح القوى الهائلة المناهضة للإسلام، والاصطدام به، والانتشار في فجاج الأرض.

اهتمامه (عليه السّلام) بالحفاظ على حياته وحياة الثلّة الصالحة

الثاني: الحفاظ على حياته (صلوات الله عليه) وحياة الثلّة الصالحة من شيعته، ممّنْ آمن بالإسلام الحقّ بإخلاص وتفهم، واستعداد للتضحية من أجل أن يحمل هو (عليه السّلام) وهذه الثلّة الإسلام الحقّ من دون تحريف وتشويه؛ ليتسنّى لهم - في الوقت المناسب - تعريف عامّة المسلمين به؛ سواء مَنْ كان منهم مسلماً عند انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، أم مَنْ يدخل بعد ذلك في الإسلام، ثمّ تهيئة ثلّة تحمل دعوة الإسلام الحقّ؛ لتبشّر به وتهيئ الحَمَلة له، وهكذا ما بقيت الدنيا.

لتبقى هذه الدعوة مسموعة في الأرض، ولا يُقضى عليها بالقضاء على حملتها في مبدأ الانحراف والانشقاق؛ كي لا ينفرد الإسلام المشوّه بالساحة، وقد تعرّضنا لذلك بشيء من التوضيح في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة ).

وبذلك يظهر أنّه لا مجال لقيام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بتضحية شبيهة بتضحية الإمام الحسين (عليه السّلام).

٤٦٠