فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 247723
تحميل: 4881

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247723 / تحميل: 4881
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إخباره (عليه السّلام) لأخيه بما أمره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا

نعم، روى ابن طاووس أنّه (عليه السّلام) حدّث أخاه محمد بن الحنفية عند السحر، وهو يريد الخروج إلى العراق بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له.

قال (قدّس سرّه): ورويت من أصل لأحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد الثقة - وعلى الأصل أنّه كان لمحمد بن داود القمّي - بالإسناد عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «سار محمد بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَنْ قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال مَنْ مضى، فإن رأيت أن تُقيم؛ فإنّك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقال: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن، أو بعض نواحي البر؛ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد. فقال: أنظر فيما قلت.

فلمّا كان السحر ارتحل الحسينُ (عليه السّلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى. قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟

فقال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟

____________________

= مكّة متوجّهاً إلى الكوفة وما كان من أمره في مسيره، تاريخ دمشق ١٤/٢٠٩ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، وتهذيب الكمال ٦/٤١٨ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، وتاريخ الإسلام ٥/٩ حوادث سنة واحد وستين، مقتل الحسين، وغيرها من المصادر.

٤١

فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا. وسلّم عليه ومضى»(١) .

بعض شواهد إصراره (عليه السّلام) على الخروج للعراق مع علمه بمصيره

وعن ابن عباس قال: لقيت الحسين وهو يخرج إلى العراق، فقلت له: يابن رسول الله لا تخرج.

فقال لي: «يابن عباس، أما علمت أنّ منيتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟».

فقلت له: فأنّى لك ذلك؟

قال: «بسرٍّ سُرَّ لي، وعلمٍ أُعطيته»(٢) .

وقال ابن عساكر: وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لحدّثتني عائشة أنّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يُقتل حسين بأرض بابل».

فلمّا قرأ كتابها قال: «فلا بدّ لي إذاً من مصرعي». ومضى(٣) .

وقريب من ذلك جوابه لأُمّ سلمة (رضي الله عنهم) لما أخبرته بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله (عليه السّلام)(٤) .

ومرجع ذلك إلى قطع الطريق عليهم، وإلزامهما بما يعلمان به من الوعد الإلهي، مع التصميم على المضي فيه.

____________________

١ - اللهوف في قتلى الطفوف/٣٩ - ٤٠ خروج الحسين من مكة إلى العراق.

٢ - دلائل الإمامة/١٨١ - ١٨٢ في ترجمة الحسين (عليه السّلام)، ذكر معجزاته (عليه السّلام)، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ٤/٥٤ الباب الخامس عشر، معجزات أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الفصل السابع عشر.

٣ - تاريخ دمشق ١٤/٢٠٩ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، واللفظ له، تهذيب الكمال ٦/٤١٨ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، سير أعلام النبلاء ٣/٢٩٦ - ٢٩٧ في ترجمة الحسين الشهيد، تاريخ الإسلام ٥/٩ حوادث سنة واحد وستين، مقتل الحسين، ترجمة الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد/٥٨ ح ٢٨٣، وغيرها من المصادر.

٤ - إثبات الوصية/١٧٥ قصة كربلاء، الهداية الكبرى/٢٠٣، الثاقب في المناقب/٣٣٠، مدينة المعاجز ٣/٤٨٩ - ٤٩٠، وغيرها من المصادر.

٤٢

رواية الفريقين للمضامين السابقة شاهد بصحته

ولو اختصّ الشيعة برواية ذلك لأمكن للمدّعي أن يتجاهل كثرة النصوص المذكورة ومؤيّداته، ويتّهمهم باختلاق تلك النصوص من أجل

الدفاع عن شرعية هذه النهضة، وتأكيد شرف أهدافه.

لكنّ الجمهور قد شاركوهم في رواية كثير من ذلك، مع إنّه لا يتناسب مع نظرتهم للحدث، وعرضهم له بما يوحي بأنّ التخطيط للنهضة بشري؛ فإنّ رواية الجمهور لتلك النصوص مع مخالفتها لوجهة نظرهم في عرض الواقعة يشهد بشيوعه، بحيث فرضت نفسها عليهم، ولم يستطيعوا تجاهله.

رواية الفريقين إخبار الأنبياء السابقين بالفاجعة

بل، قد روى الشيعة(١) وكثير من الجمهور(٢) ما يوحي بأنّ هذا الحدث

____________________

١ - منها ما روي عن آدم (عليه السّلام) (بحار الأنوار ٤٤/٢٤٢ - ٢٤٣، ٢٤٥)، وإبراهيم (عليه السّلام) (كامل الزيارات/١٤٢ - ١٤٣، خصال الصدوق/٥٨ - ٥٩ ح٧٩، وإسماعيل (عليه السّلام) (بحار الأنوار ٤٤/٢٤٣ - ٢٤٤)، ونوح (عليه السّلام) (الأمان من أخطار الأسفار/١١٨ - ١١٩ الفصل الرابع)، وزكريا (عليه السّلام) (كمال الدين وتمام النعمة/٤٦١ الباب الثالث والأربعون، دلائل الإمامة/٥١٣، مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/٢٣٧،- وغيرها من المصادر)، وموسى (عليه السّلام) (بحار الأنوار ٤٤/٢٤٤)، وسليمان (عليه السّلام) (بحار الأنوار ٤٤/٢٤٤)، وعيسى (عليه السّلام) (الأمالي - للصدوق/٦٩٥، بحار الأنوار ٤٤/٢٤٤)، وغيرهم من الأنبياء (كامل الزيارات/١٣٧ - ١٣٩).

٢ - راجع المعجم الكبير ٣/١١١ مسند الحسين بن علي، ذكر مولده وصفته ح ٢٨٢٧، وتاريخ دمشق ١٤/١٩٩ - ٢٠٠ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، وسير أعلام النبلاء ٣/٢٩١ في ترجمة الحسين الشهيد، وتاريخ الطبري ٤/٢٩٦ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مسير الحسين (عليه السّلام) من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة وما كان من أمره في مسيره، والفتوح - لابن أعثم ٤/٣٣٠ - ٣٣١ ابتداء أخبار مقتل مسلم بن عقيل...، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١/١٦٥ الفصل الثامن، وحياة الحيوان ١/١١٠ عند كلامه عن الأوز، وغيرها من المصادر الكثيرة. =

٤٣

العظيم قد تحدّث عنه الأنبياء السابقون (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسّلام) في غابر العصور، وعُرف قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزمان طويل.

وهو المناسب لما ورد من أنّ أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة (رضي الله عنها)(١) وغير واحد

____________________

= ومما يشهد بذلك ما رواه ابن عساكر بأسانيد متعدّدة إلى يحيى بن يمان قال: «أخبرني إمام مسجد بني سليم قال: غزا أشياخ لنا الروم، فوجدوا في كنيسة من كنائسهم:

كيف ترجو أمة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فقالوا: منذ كم وجدتم هذا الكتاب في هذه الكنيسة؟ قالوا: قبل أن يخرج نبيّكم بستمائة». تاريخ دمشق ١٤/٢٤٢ - ٢٤٤ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، ونقله عنه في البداية والنهاية ٨/٢١٨ في أحداث سنة إحدى وستين، فصل بلا عنوان بعد ذكر صفة مقتله، ورواه بسند آخر الطبراني في المعجم الكبير ٣/١٢٤ في مسند الحسين بن علي في ذكر مولده وصفته ح ٢٨٧٤، ونقله عنه في مجمع الزوائد ٩/١٩٩ كتاب المناقب، باب مناقب الحسين بن علي (عليهم السّلام)، ورواه أيضاً المزي بسند آخر في تهذيب الكمال ٦/٤٤٢ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب.

وكذا ما رواه ابن عساكر أيضاً بسندين عن الأصمعي قال: مررت بالشام على باب دير، وإذا على حجر منقور كتابة بالعبرانية، فقرأته، فأخرج راهب رأسه من الدير، وقال لي: يا حنيفي أتحسن تقرأ العبرانية؟ قلت: نعم. قال لي: اقرأ. فقلت:

أيرجو معشر قتلوا حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فقال لي الراهب: يا حنيفي، هذا مكتوب على هذا الحجر قبل أن بُعث صاحبك يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثين عاماً، تاريخ دمشق ٣٧/٥٧ - ٥٨ في ترجمة عبد الملك بن قريب بن عبد الملك.

وكذا ما رواه السمهودي عن محمد بن سيرين أنّه قال: وجد حجر قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثمئة سنة عليه مكتوب بالسريانية، فنقلوه إلى العربية، فإذا هو:

أترجوا أمة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم القيامه

جواهر العقدين ق٢ ج٢/٣٨٧ الذكر الرابع عشر، وروى مثله في ينابيع المودّة ٣/٤٦، ونظم درر السمطين/٢١٩، وغيرها من المصادر.

١ - تاريخ دمشق ١٤/٢٤٠ في ترجمة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، البداية والنهاية ٨/٢١٩ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة فصل من دون ترجمة، نظم درر السمطين/٢١٧. =

٤٤

في أماكن مختلفة(١) سمعوا بعد قتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) هاتفاً يهتف ويقول:

أيّها القاتلون جهلاً حسين

أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ

كلّ أهلِ السماءِ يدعو عليكم

من نبي وملَكٍ وقبيلِ

قد لُعنتم على لسانِ ابن داود

وموسى وصاحبِ الإنجيلِ

حيث يكشف ذلك عن أهميته عند الله تعالى في الدعوة إليه حتى أطلع عليه أنبياءه، كما أطلعهم على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخاتمة للرسالات، والتي تتضمّن دين الإسلام الخاتم للأديان والذي يكون هذا الحدث من الأحداث المهمّة المتعلّقة به.

وذلك يرجع إلى أنّ سيّد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد أُعِد لمهمّة إلهية تتناسب مع هذا الإعلام الإلهي المكثّف، ومع حجم التضحية التي يقدم عليها.

وهو المناسب لأهمية دين الإسلام العظيم في الدعوة إلى الله تعالى؛ لكونه خاتم الأديان وأكمله، وبه بقاء الدعوة لله (عزّ وجلّ)، وخلودها في الأرض، حيث تكتسب الأحداث المؤثّرة فيه أهمية تتناسب مع أهميته.

ولاسيما إنّ هذا الحدث لم يكن نصراً لدين الإسلام فحسب، بل هو انتصار للأديان السماوية بأجمعها على ما يأتي التنبيه له في الفصل الأوّل من الخاتمة إن شاء الله تعالى.

____________________

= مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/٩٥ الفصل الثاني عشر، وقد اقتصر على البيت الأوّل والثالث.

١ - تاريخ الطبري ٤/٣٥٨ أحداث سنة إحدى وستين، الفتوح - لابن أعثم ٥/١٥٦ بعد ذكر كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية وبعثه إليه برأس الحسين بن علي (رضي الله عنهم)، كتاب الهواتف/٨٧ باب هواتف الجن، الكامل في التاريخ ٤/٩٠ أحداث سنة إحدى وستين ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، وقد اختلفت المصادر في بعض ألفاظ الأبيات وقد أثبتناها بلفظ الكامل في التاريخ.

٤٥

كتابه (عليه السّلام) إلى بني هاشم بالفتح الذي يحقّقه

ولعلّه إلى هذا يشير كتابه (صلوات الله عليه) الذي كتبه من مكّة المكرّمة - وهو يعدّ العدّة لنهضته - إلى بني هاشم في المدينة المنوّرة: «بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَنْ قِبَله من بني هاشم. أمّا بعد، فإنّ مَنْ لحق بي استشهد، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسّلام»(١) .

حيث لا يبعد أن يكون مراده (عليه السّلام) في كتابه هذا أنّ في نهضته التي تنتهي به وبمَنْ معه للقتل والشهادة فتحاً للدين، وللدعوة إلى الله تعالى يتناسب مع حجم التضحية التي تحصل فيها.

إخبار الإمام السجّاد (عليه السّلام) بأنّ أباه (عليه السّلام) هو الغالب

وهو المناسب لما عن الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) في جوابه لإبراهيم بن طلحة حينما سأله بعد رجوعه بالعائلة الثاكلة للمدينة كأنّه شامت: يا علي بن الحسين مَنْ غلب؟

حيث قال له (عليه السّلام): «إذا أردت أن تعلم مَنْ غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثمّ أقم»(٢) .

فإنّه كالصريح في أنّ تلك الفاجعة الفظيعة هي السبب في الحفاظ على الصلاة التي هي عمود الدين، وأظهر شعائره، كما يكشف عن شدّة الخطر الذي يتعرّض له الدين لو لم يقف في وجهه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بنهضته المباركة التي خُتمت بهذه الفاجعة.

____________________

١ - كامل الزيارات/١٥٧، واللفظ له، دلائل الإمامة/١٨٨، الخرائج والجرائح ٢/٧٧١ - ٧٧٢، بصائر الدرجات/٥٠٢، وغيرها من المصادر.

٢ - الأمالي - للطوسي/٦٧٧.

٤٦

خلود الفاجعة يناسب أهميتها

وذلك يتناسب مع خلود هذه الملحمة الشريفة والفاجعة العظمى، وما قدّره الله (عزّ وجلّ) لها من أسباب الظهور والانتشار، رغم المعوّقات الكثيرة، والجهود المكثّفة من قبل الظالمين، والجاهلين أو المتجاهلين لثمراتها وبركاتها، من أجل خنقها والقضاء عليها، أو تحجيمها والتخفيف من غلوائها، ومن تفاعل الناس بها وانشدادهم نحوها.

فإنّ ذلك بمجموعه يؤيّد عظمة هذه الملحمة الإلهية، وأهمية الثمرات المترتبة عليها لصالح الدعوة إلى الله تعالى، وحفظ دينه العظيم الذي هو خاتم الأديان، والذي لا بدّ أن يكون واجداً لمقوّمات البقاء والخلود، والظهور والانتشار، لتسمع دعوته، وتتم حجّته على الناس( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (١) .

كما إنّه نتيجة لما سبق يحسن التنبيه لأمرين:

لا موجب لإطالة الكلام في تفاصيل النهضة الشريفة

أحدهما: إنّه لا ينبغي إطالة الكلام في تقييم بعض خصوصيات النهضة الشريفة، مثل توقيتها، حيث خرج (صلوات الله عليه) من مكّة المكرّمة قبل الحجّ، ومثل حمل العائلة الكريمة، واختيار العراق دون غيره من المناطق التي يشيع فيها الولاء لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وغير ذلك.

إذ بعد أن ظهر أنّ النهضة كانت بعهد من الله سبحانه وتعالى، فلا بدّ أن تكون تفاصيلها وخصوصياتها ذات الأثر فيها بعهد منه (عزّ وجلّ)، لمصالح

____________________

١ - سورة الأنفال/٤٢.

٤٧

هو أعلم بها، وربما بيّنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصلت للإمام الحسين (عليه السّلام) من طريقه، ولاسيما بعد البناء على عصمة الإمام (صلوات الله عليه).

وقد كتب غير واحد في توجيه كثير من خصوصياتها ما لا يسعنا إطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا، على أنّه قد يظهر من حديثنا هذا - تبعاً - بعض الفوائد المترتّبة على بعض تلك الأمور.

عظمة الإمام الحسين (عليه السّلام) وروح التضحية التي يحمله

ثانيهما: إنّه ممّا تقدّم تتجلّى عظمة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وروح التضحية في سبيل الله تعالى التي يتحلّى بها، وقوّة العزيمة والتصميم اللذين يحملهما بين جنبيه.

فإنّ الغالب أنّ الذين يضحّون إمّا أن يتشبثوا بأمل السلامة ونجاح المشروع الذي يخطّطون له، فيشرعون في تنفيذه ويدخلون في المعركة حتى إذا أخطأوا وفشل مشروعهم عسكرياً منعهم دينهم، أو أبت لهم كرامتهم وحميّتهم التراجع والاستسلام من أجل السلامة؛ فيثبتون حتى النهاية.

وإمّا أن يُفاجَأوا بالمعركة من دون تخطيط سابق لها، وتنسد أمامهم طرق النجاح؛ فيمنعهم دينهم أو حميتهم أيضاً من الاستسلام طلباً للسلامة ويثبتوا حتى النهاية.

أمّا أن يدخل الإنسان في مشروع طويل الأمد يعلم مسبقاً بأنّه ينتهي بمثل هذه التضحيات الجسام والفجائع الفادحة، ويخطّط لتنفيذه بصلابة وعزم، فهو أمر يحتاج إلى قابلية استثنائية.

والناظر في تفاصيل واقعة الطفّ - بموضوعية وإنصاف - يرى أنّ الإمام

٤٨

الحسين (صلوات الله عليه) منذ امتنع من بيعة يزيد في أواخر شهر رجب، وتحرّك ركبه من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، صمّم على المضي في مشروعه وتحقيق هدفه عالماً أنّ ذلك ينتهي بقتله وقتل أهل بيته نجوم الأرض من آل عبد المطلب - كما تقول العقيلة زينب (عليها السّلام) في خطبتها الجليلة(١) - مع الصفوة من أصحابه، مع ما يترتّب على ذلك من نهب رحله، وانتهاك حرمته، وسبي عياله، والتشهير به وبهم، وتركهم غنيمة بأيدي تلك الوحوش الكاسرة، والنفوس المغرقة في الجريمة والرذيلة.

ولم يمنعه شيء من ذلك عن التصميم والتخطيط والإصرار والاستمرار حتى النهاية التي حصلت بعد ما يقرب من ستة أشهر.

تحلّي الإمام الحسين (عليه السّلام) بالعاطفة

ولاسيما أنّه (صلوات الله عليه) لم تجفّ عاطفته في هذه المدّة الطويلة، ولم يتجرّد عنها ويدعها جانباً، كما قد يحصل لكثير من ذوي التصميم والإصرار على الدخول في الصراعات المضنية ومقارعة الأهوال، بل كان (عليه السّلام) - كسائر أهل بيته - متكامل الإنسانية. فهو أشدّ الناس عاطفة، وأرقّهم قلباً، يتفاعل مع الآلام والمصائب التي ترد عليه، وتستثيره المناسبات الشجيّة حسرة وعبرة، كما يظهر بمراجعة تفاصيل الواقعة تاريخياً، وتقدم منّا التعرّض لبعض مفردات ذلك، وربما يأتي شيء منه في أثناء حديثنا هذا.

وذلك يزيد في معاناته (عليه السّلام) في هذه المدّة الطويلة، خصوصاً في تخطّي مفاصلها المثيرة للعاطفة، والباعثة على الحسرة، كما انتبهت لذلك أُخته العقيلة زينب الكبرى (عليها السّلام) حينما أنشد (صلوات الله عليه) ليلة العاشر من المحرّم:

____________________

١ - راجع ملحق رقم (٤).

٤٩

يا دهرُ أفٍّ لكَ من خليل

كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل

والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليل

وكلّ حيّ سالكٌ سبيلي

حيث لم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: «واثكلاه. ليت الموت أعدمني الحياة. اليوم ماتت أُمّي فاطمة وعلي أبي وحسن أخي. يا خليفة الماضين وثمال الباقي». فنظر (عليه السّلام) إليها، وقال: «يا أُخيه، لا يذهبنَّ حلمك الشيطان». قالت: بأبي أنت وأُمّي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك! فردّ (عليه السّلام) غصّته وترقرقت عيناه، وقال: «لو تُرك القطا ليلاً لنام». فقالت (عليها السّلام): يا ويلتي! أفتُغصب نفسك اغتصاباً؟! فذلك أقرح لقلبي، وأشدّ على نفسي(١) .

ولكن عاطفته (صلوات الله عليه) مهما بلغت لم تمنعه من المضي في طريقه، ومن تصميمه على الوصول للنهاية المفجعة؛ كلّ ذلك لفنائه (عليه السّلام) في ذات الله تعالى، ولأنّ هدفه الأسمى رضاه (جلّ شأنه)، كما أفصح عن ذلك في أحاديثه المتفرّقة، خصوصاً خطبته الجليلة حينما أراد الخروج من مكّة، التي سبق التعرّض

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٣١٩ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٥٩ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، أنساب الأشراف ٣/٣٩٣ خروج الحسين بن علي من مكة إلى الكوفة، مقاتل الطالبيين/٧٥ مقتل الحسين بن علي (عليهم السّلام)، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢٠/٢٧٢ - ٢٧٤ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مسير الحسين بن علي (رضي الله عنهم) وخبر مَنْ نهاه عن المسير، إعلام الورى بأعلام الهدى/٤٥٧، اللهوف في قتلى الطفوف/٥٠ وصول الحسين إلى كربلاء، وقريب منه في البداية والنهاية ٨/١٩٢ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمّة الشأن، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٤٤ مقتل الحسين بن علي، والمنتظم ٥/٣٣٨ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، وغيرها من المصادر.

٥٠

لها آنفاً(١) .

ومن أقواله المرويّة عنه (عليه السّلام): «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»(٢) ، و: «عند الله أحتسب نفسي وحُماة أصحابي»(٣) ... إلى غير ذلك.

الموقف المشرّف لِمَنْ في ركبه من عائلته وصحبه

والملفت للنظر - مع كلّ ذلك - أنّه (صلوات الله عليه) استطاع أنّ يختار لنهضته الشريفة من أهل بيته وأنصاره مَنْ لا يتراجع عنها بعد أن اقتنع بها، وكان بوسعهم التراجع في أيّ وقت أرادوا.

لكنّهم آمنوا بقيادته، واستسلموا لما يقرّره حتى النفس الأخير، مع قوّة في البصيرة، ومزيد من السرور والشعور بالفوز والسعادة، وقد آمنوا بمشروعه كما آمن هو (عليه السّلام).

بل قد ثبتوا معه (عليه السّلام) ولم يتركوه حتى بعد أن أذن لهم بالانصراف وجعلهم في حلّ من بيعته، وكان كلامهم في التعقيب على ذلك يؤكّد على الإصرار على مواساته بأنفسهم والقتال دونه والتضحية في سبيله، وعلى الشعور بالفوز والسعادة بذلك. ولا يسعنا استقصاؤه لكثرته.

كما إنّه يأتي في حديثنا هذا منهم بعض النكات الملفتة للنظر، والتي تحمل على المزيد من الإعجاب والاحترام لهم رفع الله تعالى شأنهم.

____________________

١ - تقدّمت مصادرها في/٥٠.

٢ - اللهوف في قتلى الطفوف/٦٩ شهادة أهل بيته (عليهم السّلام).

٣ - مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/١٩، بحار الأنوار ٤٥/٢٧، ووردت هكذا: «أحتسب نفسي وحماة أصحابي» في تاريخ الطبري ٤/٣٣٦ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، والكامل في التاريخ ٤/٧١ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، ونهاية الأرب في فنون الأدب ٢٠/٢٨٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ما تكلّم به الحسين.

٥١

نعم، ورد أنّ الضحّاك بن عبد الله المشرفي قال للإمام الحسين (صلوات الله عليه): إنّي أُقاتل عنك ما رأيت مقاتل، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف، وإنّه انصرف حين لم يجد مقاتلاً(١) .

وهذا في الحقيقة ليس تراجعاً عن موقف مسبقاً، بل هو قصور في الموقف من أوّل الأمر، مع تنفيذه كاملاً.

وحتى عائلته الكريمة التي رأت من بعده الأهوال لم ينقل عن أيّ منها مَنْ يدل على استنكاره لموقفه (عليه السلام) أو الشكوى منه في استمراره إلى النهاية المفجعة، بل يظهر من مواقف كثير منها الإيمان بمشروعه (عليه السّلام)، وقوّة البصيرة بأنّ عاقبته النجاح والفلاح.

ويكفينا من ذلك قول العقيلة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليهم السّلام) في خطبتها في مجلس يزيد: فلئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك، وإنّ الله ليس بظلام للعبيد. فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، ولا تغيب منك شنارها. فهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وشملك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي:( أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) . فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والرحمة، ولآخرنا بالشهادة والمغفرة...(٢) .

وهذا أمر نادر لا يسهل حصوله لولا العناية الإلهية والتسديد الربّاني.

____________________

١ - الكامل في التاريخ ٤/٧٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، واللفظ له، تاريخ الطبري ٤/٣٣٩ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

٢ - راجع ملحق رقم (٤).

٥٢

المقصد الأوّل

في أبعاد فاجعة الطفّ وعمقها

وردود الفعل المباشرة لها

والكلام في ذلك في فصلين:

الفصل الأوّل

في أبعاد فاجعة الطفّ وعمقه

تمهيد:

من المعلوم من مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) أنّ الخلافة والإمامة حقّ لهم مجعول من قِبَل الله تعالى، وأنّه لا شرعية لخلافة كلّ مَنْ تقمّصها من غيرهم، وعلى ذلك ابتنت نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، كما يأتي - عند الكلام فيما كسبه التشيّع من هذه النهضة المباركة - إن شاء الله تعالى.

استنكار جمهور المسلمين لعهد معاوية ليزيد

أمّا الجمهور فخلافتهم وإن ابتنت على عدم الانضباط بنظام محدّد، بل جروا أخيراً على شرعية الإمامة المبنيّة على النصّ بولاية العهد من السابق

٥٣

للاحق بلحاظ قربه النسبي منه، بغضّ النظر عن مؤهّلاته الشخصية، إلّا أنّهم استنكروا عهد معاوية لابنه يزيد بالخلافة في وقته.

أوّلاً: لأنّه أوّل مَنْ فتح هذا الباب، وتجاهل سيرة مَنْ قبله من خلفائهم، خصوصاً الشيخين اللذين لهما مكانة خاصة في نفوسهم.

ولاسيما أنّ من جملة دوافع قريش لصرف الخلافة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم) هو علمهم بأنّها إذا صارت لهم لم تخرج عنهم، حتى قال قائلهم: وسّعوها في قريش تتسع(١) .

فإذا فُتح الباب لولاية العهد بقيت في آل معاوية ولم تخرج عنهم لبطون قريش، وهو عين ما فرّوا منه.

وثانياً: لابتنائها على الإرغام والقسر، والاستعانة على ذلك بالترغيب والترهيب والخداع والمكر، كما يظهر بأدنى نظر في تاريخه، وإذا غضّت قريش النظر عن ذلك في حقّ الأوّلين؛ لأنّه يوافق مصلحتها في صرف الخلافة عن بني هاشم، فهي لا تقبله من معاوية بعد أن كان يضرّ بمصالحها.

كما إنّ عموم المسلمين إذا غضّوا النظر عنه في حقّ الأوّلين؛ لجهلهم بما حصل، أو لحبّهم لهم، أو حسن ظنّهم بهم - لما يأتي من دواعي ذلك في حقّهم - فهم لا يرتضونه من معاوية؛ لعدم الموجب لذلك.

وثالثاً: لعدم مناسبة واقع يزيد وسلوكه المشين للخلافة، خصوصاً مع وجود جماعة من أعيان الصحابة وأولاد المهاجرين الأوّلين لهم المقام الاجتماعي الرفيع، والمكانة العليا في النفوس، وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

وقد أكّد ذلك أنّ تجربة أبيه معاوية في الحكم - الذي تسلّط بالقوّة والقهر والخداع والمكر - كانت مرّة على المسلمين في الجانبين الديني والمادي، كما يظهر

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٦/٤٣.

٥٤

بأدنى نظر في سيرته، وكان المنتظر من يزيد أن يزيدَ على أبيه في معاناة المسلمين في دينهم ودنياهم.

وإذا كان بعض متأخري الجمهور يحاول الدفاع عن بيعة يزيد، وإضفاء الشرعية عليها بعد أن شاعت هذه الأمور في الخلفاء وألفها الناس، فهو يخالف ما عليه ذووا المقام والمكانة في المسلمين في الصدر الأوّل، بل حتى عامّة الناس.

ولذا لم يثبت بوجه معتدٍّ به أنّ شخصاً منهم حاول ردع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن الخروج ببيان شرعية خلافة يزيد، وكلّ مَنْ أشار عليه بترك الخروج فإنّما أشار عليه لخوفه عليه من فشل مشروعه، ومن غشم الأمويين الذين لا يقفون عند حدّ في تحقيق مقاصدهم والإيقاع بمَنْ يقف في طريقهم.

غاية الأمر أنّه قد يُنسب لبعض الناس أنّه أضاف إلى ذلك التذكير بمحذور شقّ كلمة الأُمّة وتفريق جماعتها، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولذا لا ريب عند خاصّة المسلمين، وذوي المقام الرفيع عند الجمهور ممّن عاصر الحدث في أنّ خروج الإمام الحسين (صلوات الله عليه) لم يكن جريمة منه يستحق عليها العقاب، فضلاً عن القتل وما استتبعه من الجرائم، بل كلّ ما وقع عليه هو عدوان من الأمويين وإجرام منهم.

كان الإمام الحسين (عليه السّلام) مسالماً في دعوته للإصلاح

ويزيد في الأمر أنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) حينما رفع مشروعه الإصلاحي لم يرفعه بلسان الإلزام والتهديد، ولم يلجأ فيه للّفّ والدوران، والمكر والخديعة من أجل الاستيلاء على السلطة، بل بلسان النصيحة والتذكير.

فهو (عليه السّلام) يقول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب

٥٥

الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر... فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين»(١) .

كما إنّه (عليه السّلام) لم يختر الكوفة من أجل أن يخرج أهلها من طاعة يزيد لطاعته ويرغمهم على ذلك، بل لامتناعهم بأنفسهم من القبول ببيعة يزيد.

فقد تضمّنت كتبهم:... إنّه ليس علينا إمام؛ فأقبل، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد...(٢) . و: أمّا بعد، فحي هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك...(٣) . و: أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمّت الجِمام(٤) ، فإذا شئت فاقدم علينا؛ فإنّما تقدم على جند لك مجنّدة(٥) ، ونحو ذلك.

____________________

١ - تأتي مصادرها في أوائل المقام الثاني في الجانب العاطفي/٣٩٨.

٢ - تاريخ الطبري ٤/٢٦٢ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم، وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، واللفظ له، أنساب الأشراف ٣/٣٦٩ أمر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، الكامل في التاريخ ٤/٢٠ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي ليسير إليهم وقتل مسلم بن عقيل، الإمامة والسياسة ٢/٤ ولاية الوليد المدينة وخروج الحسين بن علي، الإرشاد - للشيخ المفيد ٢/٣٧، وغيرها من المصادر.

٣ - تاريخ اليعقوبي ٢/٢٤٢ أيام يزيد بن معاوية، واللفظ له، أنساب الأشراف ٣/٣٧٠ أمر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، ومثله في الإرشاد ٢/٣٨ إلّا إنّه بدل قوله: (لا إمام لهم غيرك) (لا رأي لهم غيرك)، وكذا في تاريخ الطبري ٤/٢٦٢ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، والفصول المهمّة ٢/٧٨٧ الفصل الثالث، فصل في مخرجه (عليه السّلام) إلى العراق، والفتوح - لابن أعثم ٥/٣٣ ذكر أخبار الكوفة وما كان من كتبهم إلى الحسين بن علي (رضي الله عنهما)، وغيرها من المصادر.

٤ - طما البحر والنهر: أمتل. والجِمام جمع جَمة: البئر الكثيرة الماء. والمراد الكناية عن حصول الوقت المناسب للعمل، وتوفّر آليات النجاح وأسبابه.

٥ - أنساب الأشراف ٣/٣٧٠ أمر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، واللفظ له، الإرشاد ٢/٣٨، إعلام الورى بأعلام الهدى ١/٤٣٦، تاريخ الطبري ٤/٢٦٢ أحداث سنة ستين من الهجرة: =

٥٦

وقد جاء في كتابه (صلوات الله عليه) الذي كتبه لهم مع مسلم بن عقيل (عليه السّلام): «وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم: إنّه ليس علينا إمام؛ فأقبل، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ. وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي، وثقتي من أهل بيتي، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله...»(١) .

ولمّا التقى بالحرّ وأصحابه في الطريق خطبهم، فقال: «أيّها الناس، إنّها معذرة إلى الله وإليكم؛ إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدم علينا؛ فليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجعلنا بك على الهدى؛ فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا، أو كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه»(٢) .

وخطبهم خطبة أُخرى بعد صلاة العصر تتضمّن ذلك أيضاً(٣) .

وحينما ورد عليه عمر بن سعد بجيشه أرسل إليه قرّة بن قيس الحنظلي؛ ليسأله عمّا جاء به وماذا يريد، فقال (عليه السّلام) له: «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم.

____________________

= ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم، وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، الفتوح - لابن أعثم ٥/٣٣ ذكر أخبار الكوفة وما كان من كتبهم إلى الحسين بن علي (رضي الله عنهما)، وغيرها من المصادر.

١ - الإرشاد ٢/٣٩، واللفظ له، تاريخ الطبري ٤/٢٦٢ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه).

٢ - الكامل في التاريخ ٤/٤٧ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، واللفظ له، تاريخ الطبري ٤/٣٠٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، الفتوح - لابن أعثم ٥/٨٦ ذكر الحرّ بن يزيد الرياحي لما بعثه عبيد الله بن زياد لحربه الحسين بن علي (رضي الله عنهما)، الإرشاد ٢/٧٩، وغيرها من المصادر.

٣ - الإرشاد ٢/٧٩، تاريخ الطبري ٤/٣٠٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، الكامل في التاريخ ٤/٤٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، مقتل الحسين (رضي الله عنه).

٥٧

فأمّا إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم»(١) .

وفي حديث عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الحسين (عليه السلام) - وكان قد صحب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في مسيرته الطويلة من المدينة إلى حين مقتله - أنّه (عليه السّلام) قال: «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس»(٢) .

ومن هنا لم يقع منه ما يستحق به العقاب والتنكيل، فضلاً عن تلك الجرائم الوحشية التي قام بها الأمويون والتي هزّت ضمير المسلمين.

وبعد ذلك كلّه فلنستعرض بإيجاز الجرائم المذكورة:

قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) هو الجريمة الأولى

ولا ينبغي الإشكال في أنّ أعظم جريمة من الناحية الواقعية - بل حتى العاطفية - في هذه الفاجعة الممضة هو قتل شخص الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، لما يتمتّع به:

أوّلاً: من مقام ديني رفيع يستحق به الولاء والتقديس، كما يتّضح بالرجوع إلى ما ورد في حقّه وحقّ أهل بيته (صلوات الله عليهم) في الكتاب المجيد، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممّا لا يسعنا استيعابه بإيجاز، فضلاً عن تفصيل الكلام فيه، ولاسيما مع وضوحه وشيوعه، وتيسر الاطلاع عليه بالرجوع للمصادر الكثيرة

____________________

١ - الإرشاد ٢/٨٥، واللفظ له، الفتوح - لابن أعثم ٥/٩٧ - ٩٨ ذكر نزول الحسين (رضي الله عنه) بكربلاء، تاريخ الطبري ٤/٣١١ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، الكامل في التاريخ ٤/٥٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، وغيرها من المصادر.

٢ - الكامل في التاريخ ٤/٥٤ - ٥٥ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، واللفظ له، تاريخ الطبري ٤/٣١٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، البداية والنهاية ٨/١٩٠ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمّة الشأن.

٥٨

للفريقين.

وإذا اختصّ الشيعة بالقول بالنصّ الإلهي على إمامة الحسين (صلوات الله عليه)، وأنّه هو الإمام الحقّ دون غيره، فلا إشكال بين المسلمين قاطبة في أنّه (عليه السّلام) في عصره هو الرجل الأوّل في المسلمين، أفضلهم عند الله (عزّ وجلّ)، وأرفعهم مقاماً، وأعظمهم كرامة، وأولاهم بالإمامة من غيره.

وقال البلاذري: وكان رجال من أهل العراق ولثمان أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلّونه ويعظّمونه، ويذكرون فضله، ويدعونه إلى أنفسهم، ويقولون: إنّا لك عضد ويد؛ ليتّخذوا الوسيلة إليه، وهم لا يشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين أحداً(١) .

وثانياً: من قربه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو بقيّة أهل البيت الذين كان صلى الله عليه وآله وسلم يخصّهم بعواطفه وألطافه، ولازال بقايا الصحابة يذكرون مفردات ذلك، ويحدّثون به، حتى إنّ غير واحد من الصحابة أنكروا على عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية حينما أخذا ينكتان ثغر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بالقضيب لما وضع رأسه بين أيديهما، وذكروا لهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُقبّل ثغره، كأنس بن مالك(٢) ،

____________________

١ - أنساب الأشراف ٣/٣٦٦ أمر الحسين بن علي بن أبي طالب.

٢ - مجمع الزوائد ٩/١٩٥ كتاب المناقب، باب مناقب الحسين بن علي (عليهما السّلام)، المعجم الكبير ٣/١٢٥ مسند الحسين بن علي، ذكر مولده وصفته، البداية والنهاية ٦/٢٦٠ الأخبار بمقتل الحسين بن علي (رضي الله عنهما)، و٨/٢٠٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمّة الشأن، بغية الطلب في تاريخ حلب ٣/٣٨ في ترجمة الحسين بن علي بن عبد مناف أبي طالب، وغيرها من المصادر.

وقد روي ما ظاهره الإنكار في صحيح البخاري ٤/٢١٦ كتاب بدء الخلق، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، وسنن الترمذي ٥/٣٢٥ أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باب بعد باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب، ومسند أحمد ٣/٢٦١ مسند أنس بن مالك (رضي الله تعالى عنه)، =

٥٩

وزيد بن أرقم(١) ، وأبو برزة الأسلمي(٢) ، وربما غيرهم(٣) .

وبالجملة: كان الناس إذا رأوا الحسين (صلوات الله عليه) ذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتذكّروا مشاهده معه، وما كان يعامله من مظاهر الحبّ والحنان والتكريم والتبجيل؛ وذلك ممّا يوجب مزيداً من الانشداد الديني والعاطفي نحوه (عليه السّلام).

وثالثاً: من مؤهّلات شخصيته؛ من عقل ودين، واستقامة وشجاعة، وعلم وعمل، وخلق وسلوك، وسخاء وحسن معاشرة، ومخالطة مع الناس... إلى غير ذلك؛ ممّا يفرض حبّ الخاصّة والعامّة له (عليه السّلام)، واحترامهم إيّاه، وانشدادهم نحوه.

____________________

= وصحيح ابن حبان ١٥/٤٢٩ كتاب إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن مناقب الصحابة، مناقب الحسن والحسين (رضي الله عنهم)، ومسند أبي يعلى ٥/٢٢٨ ح ٢٨٤١، وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

١ - مجمع الزوائد ٩/١٩٥ كتاب المناقب، باب مناقب الحسين بن علي (عليهما السّلام)، المعجم الكبير ٥/٢٠٦، ٢١٠ في ما رواه ثابت بن مرداس عن زيد بن أرقم، تاريخ دمشق ١٤/٢٣٦ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، و٤١/٣٦٥ - ٣٦٦ في ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الأخبار الطوال/٢٦٠ نهاية الحسين، فتح الباري ٧/٧٥، الوافي بالوفيات ١٢/٢٦٤ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، كنز العمال ١٣/٦٧٣ ح ٣٧٧١٧، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد/٨٠ ح ٢٩٢، الفائق في غريب الحديث ١/٣٦٣ في مادة (دحج)، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٢ - أسد الغابة ٥/٢٠ في ترجمة نضلة بن عبيد، تهذيب الكمال ٦/٤٢٨ - ٤٢٩ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، سير أعلام النبلاء ٣/٣٠٩ في ترجمة الحسين الشهيد، تاريخ دمشق ٦٢/٨٥ في ترجمة نضلة بن عبيد، تاريخ الطبري ٤/٢٩٣ أحداث سنة ستين من الهجرة، خروج الحسين (عليه السّلام) من مكة متوجّهاً إلى الكوفة، وص٣٥٦ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، الكامل في التاريخ ٤/٨٥ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، البداية والنهاية ٨/٢٠٩، ٢١٥ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمّة الشأن، الفتوح - لابن أعثم ٥/١٥٠ ذكر كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية وبعثته إليه برأس الحسين بن علي (رضي الله عنهما)، مروج الذهب ٣/٧٢ مقتل الحسين (رضي الله عنه)، بغية الطلب في تاريخ حلب ٣/٣٨ في ترجمة الحسين بن علي بن عبد مناف أبي طالب، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٣ - ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد/٨٢ ح ٢٩٦.

٦٠