الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 84896
تحميل: 5132


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84896 / تحميل: 5132
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللَّه عزّ وجل: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (2) ؟

قال علي عليه‌السلام : (نحن البيوت التي أمر اللَّه بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللَّه وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها) (3) .

ج - قوله تعالى: ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .

وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخرى الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ) (4) .

فقد روى الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تعرّضت كتب التفاسير لقصة هذه الآيات المباركة بنحو مفصَّل (5) .

____________________

(1) الأعراف: 157.

(2) البقرة: 189.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص142.

(4) الإنسان: 7 - 11.

(5) لاحظ: تفسير القمي، ج2، ص398، وتفسير القرطبي، ج19، ص134.

١٢١

وهذا يكشف عن حقيقة أولئك الرجال الذين اختصّهم الله عزّ وجلّ بنوره، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والبيوت التي أذن الله أن ترفع وتعظّم ويتوسَّل بها إلى الله عزّ وجلّ، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبّح له بالغدو والآصال.

لا يتبادر إلى الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها‌السلام فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوى، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1) ، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثى، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالى: ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (2) فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة على إرادة الأعمّ من الذكر والأنثى في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من

____________________

(1) الحج: 27.

(2) سورة الأحزاب: 23.

١٢٢

القرائن الدالّة على أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

خلقة أهل البيت عليهم‌السلام النوريَّة:

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة على أن اللَّه تعالى خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلى ما تقدّم في آية النور:

الأول: قوله تعالى لرسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1) ، فهذه الآية المباركة صريحة في أن اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلى ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور ( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) ، ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث قالت: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلى صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليهم‌السلام الذين هم نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يهدي به اللَّه ويوحيه إلى مَن يشاء ويجتبيه من عباده، فلم

____________________

(1) الشورى: 52.

١٢٣

يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل. ونظير ذلك قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (1) فذكر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل، ويدلّ على أن الذين يشائُهم اللَّه وتتعلّق مشيئته بهم ويجتبيهم لذلك غير منحصر بالأنبياء والرسل، بل يعمُّ مَن يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها‌السلام بضعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ، وكون الحسن والحسين عليهما‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منهم (3) ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عليّ مني وأنا منه) (4) .

الثاني: قول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلمَّا خلق اللَّه آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب) (5) .

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً عند ولادته ملأ الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب(سلام اللَّه عليها) أم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام) (6) .

____________________

(1) سورة النحل 2: 16.

(2) لاحظ: ابن حنبل، فضائل الصحابة، ص 78.

(3) مسند أحمد، ج 4، ص 272.

(4) فضائل الصحابة، ص15.

(5) الصدوق، الخصال، ص 64، والزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص 79، وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص67، و الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص 507.

(6) الطبراني، المعجم الكبير، ج24، ص 215، وتفسير ابن كثير، ج 4، ص 384.

١٢٤

إلى غير ذلك من الشواهد الدالّة على الخلقة النورية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

11 - بناء المساجد على قبور الأولياء معالم للدين:

كما في قوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) (1) .

ذكر المفسِّرون: أن أصحاب الكهف لمَّا بعثوا بأحدهم إلى المدينة بورقهم لجلب الطعام وعثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم، جاءوا إلى الكهف، فلمَّا دخل الذي هو من أصحاب الكهف، دعا اللَّه تعالى مع أصحابه أن يميتهم لئلاّ يكونوا فتنة للناس، فأماتهم اللَّه تعالى، وخفي على أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللَّه فيه (2) .

وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) دلّ على أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد (3) .

ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين على رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد على قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،

____________________

(1) الكهف: 21.

(2) لاحظ: الشيخ الطوسي، التبيان، ج 7، ص 25، والطبري، جامع البيان، ج15، ص282.

(3) الطبرسي، مجمع البيان، ج 6، ص 328، والشوكاني، فتح القدير، ج 3، ص 277.

١٢٥

خصوصاً وأن القرآن الكريم إنما عرض لنا قصّة أصحاب الكهف، لأجل تعميق مبدأ الإيمان والتوحيد، والقرآن يذكر القصّة في ضمن بيان مآثر ومعالم أهل الكهف المشيَّدة والخالدة، وأنه بُني على قبورهم مسجداً لإظهار معجزتهم، وليبقى ذكرهم خالداً في أذهان البشر و موعظة للمؤمنين، فلو كان بناء المسجد على قبورهم والتبرّك بهم والتعبّد عندهم شركاً ووثناً من الأوثان، لكان ذلك على خلاف المطلوب، ومنافياً للحكمة التي أرادها اللَّه عزّ وجلّ من سرد القصّة.

إذن، قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس على التمسّك بهديه.

ومن ذلك أيضاً قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ) (1) ، فإن ذلك تشعيراً لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله محلّاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند اللَّه تعالى.

وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلّاً للعبادة والتقرّب إلى اللَّه تعالى.

____________________

(1) والحميري، قرب الإسناد، ص 13، الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 568، ومسند أحمد، ج 3، ص 64، وصحيح البخاري، ج 2، ص 57.

١٢٦

ولا شك أن الآيات والوسائط علامات على عظمة الصفات الإلهية، ففعل الذات العظيمة عظيم أيضاً، فلابدّ أن يعظّم، وتعظيمه تعظيماً للَّه عزّ وجل، والذي يحقّر آيات اللَّه ويهينها بكلّ نوع من أنواع الإهانات يكون قد هتك الحرمة والحريم الإلهي؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجل: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) .

والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ اللَّه والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلى اللَّه تعالى إخفاق في عقيدة التوحيد.

12 - حبط الأعمال وقبولها:

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) .

هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوى والمغفرة والقرب من اللَّه تعالى ونيل الأجر العظيم؛ وذلك لأن الخضوع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات اللَّه عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعْلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالى:

____________________

(1) الحج: 32.

(2) الحجرات: 3 - 2.

١٢٧

( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

وأمَّا الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يحافظون على التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم اللَّه تعالى بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عليها، فلا يكون لأعمالهم حينئذٍ وزن عند اللَّه تعالى، بما في ذلك العقيدة التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.

13 - آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها اللَّه تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً منها:

1 - قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (1) ، والقسم بعمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل اللَّه تعالى يدلّل على تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالى لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم سوى القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) (2) .

قال بعض المفسّرين: إن (لا) في قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ ) أصلية نافية؛ والمعنى هو أن اللَّه تعالى لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحرى أن يقسم به دون غيره، ذكر

____________________

(1) الحجر: 22.

(2) البلد: 1 - 3.

١٢٨

ذلك أبو البقاء العكبري في إملائه، حيث قال:

(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك) (1) .

وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلى القول بأن (لا) نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك) (2) .

والبعض الآخر من المفسّرين قال: إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعنى هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة على عظمة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له عظمة فوق ذلك، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع قسم أيضاً؛ إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلى هذا يكون في هذه الآية مديح له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه أكرم الخلق على اللَّه تعالى.

ذكر هذا المعنى عدد وافر من المفسّرين:

منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره:

( وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا البلد، ويستحلّون ظلمك فيه (3) .

ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تُحترم، فلم يبن للبلد حرمة،

____________________

(1) أبو البقاء العكبري، إملاء ما منّ به الرحمن، ج 2، ص 287.

(2) الشوكاني، فتح القدير، ج 5، ص 443.

(3) تفسير القمي، ج 2، ص 422.

١٢٩

حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (كانت قريش تعظّم البلد، وتستحلّ محمّد(صلَّى الله عليه وآله فيه)، فقال: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ، يريد أنهم استحلّوك فيه، فكذّبوك وشتموك... فاستحلّوا من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يستحلّوه من غيره، فعاب اللَّه ذلك عليهم) (1) .

ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ثلاثة معانٍ، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي) (2) .

وبعض ثالث قال: إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة على أفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها يكون القسم بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى وأدلّ.

وقد ذكر هذا المعنى أيضاً كثير من المفسّرين:

منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم اللَّه وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب) (3) .

ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلى القول بأنها زائدة، يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً لقدرك؛ لأنه قد صار

____________________

(1) مجمع البيان، ج 10، ص 361.

(2) زاد المسير، ج 8، ص 251.

(3) التبيان، ج10، ص 350.

١٣٠

بإقامتك فيه عظيماً شريفاً وزاد على ما كان فيه من الشرف والعظم) (1) .

كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالى: ( وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . قال ابن الجوزي: )والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني) (2) .

وهذا قسم آخر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نصّ على ذلك القاضي عياض (3) .

ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة على أن إنكار ولاية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين اللَّه تعالى مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.

3 - قوله تعالى: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (4) .

4 - قوله تعالى: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) (5) .

5 - قوله تعالى: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (6) .

6 - قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) (7) .

7 - قوله تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) (8) .

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه‌السلام في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسَم في

____________________

(1) فتح القدير، ج 5، ص 443.

(2) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص251.

(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج 1، ص 34.

(4) ص: 1.

(5) ق: 1.

(6) يس: 1و2.

(7) الحجر: 1.

(8) النمل: 1.

١٣١

القرآن الكريم بالقرآن والكتاب يسبقه اسم فهو من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عليه‌السلام في دعائه: (وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته من الأسماء ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ، وقلت عزّ قولك: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ، وقلت تقدّست أسماؤك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ، وقلت عظمت آلاؤك: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) ، فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلّا وهو اسمه، وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به) (1) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال: (يس اسم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها [يس] يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك) (3) .

كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم اللَّه عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.

والقسم بالشي‏ء نحو توسيط له؛ وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحّ القسَم على اللَّه تعالى به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة.

إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً

____________________

(1) الصحيفة السجادية، ص 310 - 311.

(2) تفسير القمي، ج 2، ص 211.

(3) زاد المسير، ج 6، ص 261.

١٣٢

في الاستيثاق من التشفّع والتوسّل كما لو كان القسم على إنشاء، كقولك: (واللَّه لتفعلنّ كذ)، وإذا صحّ التشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقسم، صحّ التوسّل به والتشفّع مطلقاً، وهذا نوع من الاستدلال بالدلالة الالتزامية البيّنة.

14 - الآيات الآمرة بالتوسُّل بالنبيّ الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسائر الأنبياء والأوصياء:

الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلى بعضها:

1 - قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) .

فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجي‏ء إلى الباب الذي نصبه اللَّه تعالى لذلك، وهو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال تعالى: ( جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ ) أي يأتونك ويتوجّهون إلى اللَّه بك، فالمجي‏ء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مجي‏ء إلى اللَّه تعالى.

إذن، استغفارهم لأنفسهم عند اللَّه تعالى لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعنى ذلك أن للمجي‏ء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد

____________________

(1) النساء: 64.

١٣٣

وربّه والإقبال على اللَّه تعالى.

وهذا هو معنى أن للَّه عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرَّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين اللَّه تبارك وتعالى.

والحاصل: إن اللَّه عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده؛ لأن ذلك من مواطن استجابة الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اللَّه عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة؛ ولذا قال عزّ وجلّ: ( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) ، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) .

2 - قوله تعالى: ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) (1) .

وهذا أمر من اللَّه عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.

3 - قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2) .

____________________

(1) آل عمران: 159.

(2) المنافقون: 5.

١٣٤

إن في هذه الآية المباركة أمر إلهي لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتوسلون به ليستغفر لهم اللَّه عزّ وجلّ.

والباري تعالى يقول: إن الإباء عن المجي‏ء عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صدود واستكبار على اللَّه تعالى، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبى عن السجود لوليّ اللَّه وخليفته آدم، حيث قال تعالى: ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ، كذلك الفسق وصَفَ به اللَّه عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلّا لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوسيطه والتوجّه به إلى اللَّه تعالى في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعدها؛ لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد على جميع الأمم.

4 - قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد على أن هذه الأمة لا ترحم إلّا بنبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن اللَّه عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.

5 - قوله تعالى حكاية لكلام إبراهيم عليه‌السلام مع عمّه آزر: ( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) (2) .

وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد إثباته؛ إذ إن النبيّ إبراهيم عليه‌السلام يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن اللَّه كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة

____________________

(1) النور: 62.

(2) مريم: 47.

١٣٥

والحبوة والوجيه والوجاهة التي يوليها اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه‌السلام وسيلة وباباً ووجهاً يتوجّه به إلى اللَّه عزّ وجلّ، كما تقدم ذلك في الآيات التي صرّحت بأن موسى وعيسى عليهما‌السلام وجيهان عند اللَّه تعالى ومن المقرّبين، فكلّ مقرّب ووجيه وحبيب لدى اللَّه ومن له كرامة وعزّة عنده عزّ وجلّ يتوجّه ويتوسّل به إلى اللَّه ويجعل شفيعاً في قول القائل: (إنّا توسّلنا وتوجّهنا واستشفعنا بك إلى اللَّه يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه).

والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ اللَّه تعالى إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلاً عامّاً على أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند اللَّه عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند اللَّه تعالى.

وهذه هي الملّة الإبراهيمية الحنيفية التي نحن عليها، ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (1) .

6 - قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه‌السلام : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (2) .

فالنبيّ موسى عليه‌السلام في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون عليه‌السلام ، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند اللَّه تعالى للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لبقيّة الأنبياء، بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم‌السلام في الكينونة معه في مقامه.

____________________

(1) سورة البقرة: 130.

(2) الأعراف: 151.

١٣٦

وإذا كان النبيّ موسى عليه‌السلام واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين هارون النبي وبين اللَّه تعالى، وهو نبيّ من الأنبياء، فكيف ظنّك بسائر البشر؟!

7 - قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب عليه‌السلام وولده: ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1) .

وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم عليه‌السلام ، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلى اللَّه عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة للَّه تعالى توجّهوا إلى أبيهم؛ لحفاوته عند اللَّه تعالى، والنبيّ يعقوب عليه‌السلام أقرّهم على فعلهم هذا، وقال لهم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) ، فقوله هذا شفاعة منه عليه‌السلام لأبنائه عند اللَّه تعالى، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ) (2) أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.

8 - قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) (3) .

وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روى الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من

____________________

(1) يوسف: 97 - 98.

(2) سورة يوسف: 111.

(3) غافر: 7.

١٣٧

الآخرين. أمَّا الأولون فهم الأنبياء أولو العزم؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الآخرون فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وثلاثة من هذه الأمة؛ وهم الإمام عليّ عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام . أخرج الكليني في الكافي عن يحيى بن سليمان المازني عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين؛ فأمَّا الأربعة الذين هم من الأولين، فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الأربعة من الآخرين، فمحمّد وعليّ والحسن والحسين (صلوات اللَّه عليهم) (1) .

وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.

9 - قوله تعالى على لسان بني إسرائيل: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ ) (2) .

فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة للَّه تعالى، وإنما سألوا اللَّه تعالى وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسى عليه‌السلام أجابهم على ما سألوا بقوله: ( فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ) ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك اللَّه عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

10 - قوله تعالى على لسان نبيّه سليمان عليه‌السلام : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي

____________________

(1) الكافي، ج4، ص585.

(2) البقرة: 61.

١٣٨

بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1) ، حيث توسّل النبيّ سليمان عليه‌السلام للإتيان بعرش بلقيس بمَن عنده علم من الكتاب، وهو وصيّه آصف بن برخيا.

والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكون وسيلة وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلى الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد مَن يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.

15 - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلى الأنبياء والأولياء:

هناك آيات عديدة تنصّ على مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة على اللَّه تعالى، والتي أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلى بعضها:

1 - ما هو مذكور في قصة يوسف عليه‌السلام ، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه على وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالى: ( إِذْهَبُوا

____________________

(1) النمل: 38 - 40.

١٣٩

بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (1) ، فالمشافى في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه‌السلام ، والشفاء حصل بتوسّط قميص لامس بدن يوسف عليه‌السلام ، وهذا نوع من التوسّل والتوسيط في إفاضة الشفاء من اللَّه عزّ وجلّ، فإن الشفاء حقيقة من اللَّه تعالى والفيض كلّه منه تعالى؛ لأنه الخالق الحقيقي لكلّ الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه‌السلام : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (2) إلّا أن ذلك لا يمانع جعل الوسائط وأن يتوسَّل الشخص بوسيلة منصوبة من اللَّه عزّ وجلّ ومجعولة لإفاضة الشفاء منه تعالى، كالأشياء المضافة إلى الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، والسرّ في ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل عالم الخلقة محكوماً بقانون الأسباب والمسببات، لتكون مواطن ومجاري فيضه إلى المراتب النازلة من الوجود.

إذن، إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه‌السلام ، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟

ثم إنه ليس في المورد، وهو القميص، خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلى نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول

____________________

(1) يوسف:93 - 96.

(2) الشعراء: 80.

١٤٠