الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 84891
تحميل: 5132


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84891 / تحميل: 5132
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجل: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) (2) .

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب، وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (3) ، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________________

(1) الجاثية: 18.

(2) النحل: 2.

(3) السجدة: 24.

١٦١

الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر اللَّه ونواهيه هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان هو دالّا على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع اللَّه تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن؛ الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

١٦٢

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (1) .

والذي يتّضح ممَّا ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم‌السلام ، فالعبد ينقاد ويفد على اللَّه تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2) .

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالى، كما أخضع اللَّه عزَّ وجلَّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ مَن يتسنَّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الانقياد والخضوع والطاعة له.

____________________

(1) النساء: 83.

(2) المائدة: 55 - 56.

١٦٣

وحيث إن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلّا بالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى اللَّه تعالى في العبادات إلّا بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم‌السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن مَن يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه بطاعته وامتثال أمره، عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاثة وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى اللَّه تعالى إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاثة التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك، لَمَا قرن اللَّه تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلى التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس؛ الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه‌السلام .

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

١٦٤

مِنْكُمْ ) (1) التي حكمت بوجوب الطاعة، هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجل في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم‌السلام .

وما ورد من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أُطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت؛ والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________________

(1) النساء: 59.

١٦٥

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد رفع اللَّه عزّ وجل ذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنه باسمه في مجمل العبادات التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان؛ من حيث محوريَّتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (1) ، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم‌السلام (2) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (3) ؛ تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا يقبل اللَّه صلاة إلّا بطهور والصلاة عليّ) (4) . وقد بيّن النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: (قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) (5) ، كذلك يستحبّ الصلاة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور (6) . ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________________

(1) لاحظ: النووي، المجموع، ج3، ص460 وما بعد.

(2) الشيخ الطوسي، النهاية، ص89.

(3) الرافعي، فتح العزيز، ج3، ص504، والنووي، المجموع، ج3، ص467 وغيرهم.

(4) سنن الدارقطني، ج1، ص348.

(5) صحيح البخاري، ج4، ص118، والوسائل، أبواب الدعاء، ب 36.

(6) المجموع، ج3، ص499.

١٦٦

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته - التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها - على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى اللَّه تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالى، أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك، فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك، لَمَا كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، بخلاف صلاة المسلمين؛ حيث يقرن فيها اسم النبيِّ الأكرم إلى جانب ذكر اللَّه تعالى.

وقد قُرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى، غير الصلاة، باستحباب الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ (1) ، واستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذبح الهدي أو الأضحية (2) ، وقد جعلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (3) .

____________________

(1) الأم، الشافعي، ج2، ص171.

(2) المجموع، النووي، ج8، ص412.

(3) روضة الطالبين، النووي، ج1، ص530.

١٦٧

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام (1) ، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي - نقلاً عن النووي في شرح الوسيط - في كتابه الفقهي فتح المعين (2) ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّا توجّه وتوسّل بهم عليهم‌السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل. وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السُّنَّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قال: (الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله) (3) .

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا يزال الدعاء محجوباً حتَّى يصلَّى عليَّ وعلى أهل بيتي) (4) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول

____________________

(1) نفس المصدر، ص640.

(2) فتح المعين، ج1، ص280.

(3) لسان‏ الميزان، ابن حجر، ج4، ص53، وابن ‏إسحاق الحاكم، شعار أصحاب ‏الحديث، ص64.

(4) الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص38.

١٦٨

اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم) (1) .

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث قال: (إن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً. فقال له: يارسول اللَّه، إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل. فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزَّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه‌السلام : لا يسأل اللَّه عزّ وجل إلّا بدأ بالصلاة على محمّد وآله) (2) .

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالى ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عجّل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجل والثناء عليه، ثم يصلّي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء) (3) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليسأل؛ فإنه أجدر أن ينجح) (4) . قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5) .

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق، علّق معالقه، وملأ قدح ماء. فإن كانت له

____________________

(1) الأمالي، الطوسي، ص215.

(2) الكافي، ج2، ص493.

(3) سنن أبي داود، ج1، ص333، ح1481.

(4) الطبراني، المعجم الكبير، ج9، ص156.

(5) مجمع الزوائد، ج10، ص155.

١٦٩

حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره) (1) .

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء) (2) .

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (مَن دعا ولم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع الدعاء) (3) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (إذا كانت لك إلى اللَّه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (4) .

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه‌السلام قال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي، فإن الصلاة على النبي مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعض) (5) .

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، مَن كانت له إليكم حاجة، فسألكم بمَن تحبّون أجبتم

____________________

(1) الصنعاني، المصنف، ج2، ص216.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، ص66.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(3) وسائل الشيعة، ج7، ص94 - 93، ح8829.

(4) المصدر، ص97، ح8840.

(5) المصدر، ص96، ح8836.

١٧٠

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبيَّ وولييَّ، فمَن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمَن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه؛ وكيف أردّ دعاء مَن سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظَمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمَن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الإجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ) (1) .

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات، بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزَّ وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّا عن سبيلهم عليهم‌السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل؛ وهو اقتران الصلاة على النبي وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني ، وهو كذلك اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته. فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّا بإتمامه والفراغ منه، جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) وسائل الشيعة، ص102، ح8850.

١٧١

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيُّها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن اللَّه تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجل والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي ذكر للَّه تعالى، ونداءه نداء للباري عزّ وجل؛ وليس ذلك إلّا لكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالى.

إذن؛ طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبي لنيل مقامات القرب في الصلاة، التي هي قربان كلّ تقي، موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالى، فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالى في التوجّه إليه عزّ وجل شرك؟!

وهل هذا إلّا طمس لمعالم الشهادة الثانية؟

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجل في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة؛ حيث إن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلّا اللَّه

١٧٢

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّا لكون اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلى ربّه مفتاحُها وباب الولوج إليها اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقروناً باسم اللَّه تعالى.

ولو كان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك، لََمَا أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولَمَا أمر اللَّه عزّ وجل بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّا بالهجرة إلى اللَّه ورسوله، فلكي تصحَّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى اللَّه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال اللَّه عزّ وجل: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (1) .

والذي يتحصَّل من هذه الشواهد وغيرها أن اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أهل بيته عليهم‌السلام اقترن باسم اللَّه تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه وعلى آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة، وآخر قنوت الصلاة، وفي صلاة

____________________

(1) النساء: 100.

١٧٣

الجنائز، وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الفراغ من التلبية، وعند استلام الحجر، وعند الوقوف على قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه، وبعد الفراغ من الوضوء، وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة، وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلى غير ذلك من المواطن.

وقد ذُكر أيضاً للصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

1 - أنها سبب لغفران الذنوب.

2 - أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

3 - أنها سبب لشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

5 - أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

6 - أنها سبب لقضاء الحوائج.

7 - أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

8 - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

9 - أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

10 - أنها سبب لطيب المجلس.

11 - أنها سبب لنفي الفقر.

12 - أنها سبب لنفي البخل.

١٧٤

13 - أنها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

14 - أنها تُنجي من نتن المجلس.

15 - أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

16 - أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

17 - أنها سبب لإبقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

18 - أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19 - أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

20 - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

21 - أنها سبب لمحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبد.

22 - أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

23 - أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده.

إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لِمَا تقدَّم من قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) .

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

____________________

(1) المائدة: 35.

١٧٥

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجل.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّا أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد اللَّه تعالى، فالغاية القصوى هو اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الذي يُقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل، وهو اللَّه تبارك وتعالى.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ (وابتغو) أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ (إليه) مرتبط بالوسيلة، لا بـ (ابتغو)، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخرى:

إن فعل (وابتغو) عمل في لفظ (الوسيلة) كمفعول به، وأمَّا لفظ (إليه)، فليس متعلّقاً بـ (ابتغو)، وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة)؛ إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأنَّ التوسّل والوسيلة هو إلى اللَّه تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه؛ وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث إن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى اللَّه تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى اللَّه عزّ وجل ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جل ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى اللَّه تعالى.

١٧٦

ومن ذلك يظهر أن مقتضى مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلى الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة، إني أتوجّه بك إلى اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي. فيوجّه الخطاب والنداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كوسيلة إلى اللَّه عزّ وجل، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالى فقط من دون التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلى الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالى من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالى.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث إن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولا بدِّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى اللَّه عزّ وجل، ومعنى (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذٍ للاقتراب من اللَّه تعالى؛ لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

١٧٧

قرب اللَّه وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجل؛ لأن اللَّه تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (1) ، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لِمَا تقدّم من كون اللَّه تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.

إذن؛ القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف؛ فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

____________________

(1) ق: 16.

١٧٨

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلى اللَّه تعالى من حيث الكمالات؛ إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى، والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجل، ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجل، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة اللَّه تعالى وتقلُّ بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من اللَّه عزّ وجل، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

١٧٩

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها على عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة - الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم - عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالى.

الوسيلة معنى الشفاعة:

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد وصف اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) ، فهم عليهم‌السلام الأسماء الحسنى التي أمر اللَّه أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم عليه‌السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه؛ من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالى، هدى إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام عند بيانه لقوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

____________________

(1) القلم: 4.

١٨٠