الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 84897
تحميل: 5132


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84897 / تحميل: 5132
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مَحْذُورًا ) (1) .

حيث بيّن أمير المؤمنين عليه‌السلام ضرورة الوسيلة، وأن اشتباه وخطأ المشركين إنما هو في اتخاذهم وسيلة اقتراحية غير مأذون بها، حيث طبّقوا الوسيلة الأعظم كمالاً على غير المصداق والفرد الحقيقي لها، فذمّهم اللَّه عزّ وجلّ على ذلك.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال: ( فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى مَن في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكلّ محمول يحمله اللَّه بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشور ) (2) .

فإن الأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسيلة إلى اللَّه تعالى، بسبب عظمته ونوره وتعاليه عزّ وجل.

ومن ذلك كلّه يتّضح أن من ينكر التوسّل أسوء حالاً من قريش التي آمنت بالوسيلة وأخطأت المصداق؛ حيث جعلوا وسائط باقتراحهم من غير سلطان أتاهم، لشعورهم بالفطرة التي خلقهم اللَّه عليها بعظمته تعالى عن أن ينال أو يدرك بلا واسطة.

____________________

(1) الإسراء: 57.

(2) الكافي، ج1، ص130.

١٨١

ترامي الوسائل وتعاقبه:

ثم إن الآيات الكبرى تتفاوت فيما بينها، فأهل البيت عليهم‌السلام شفيعهم ووسيطهم إلى اللَّه تعالى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في نيل المقامات، وبالنسبة للنبيّ ذاته فهو بذاته آية وعلامة عظمى على صفات اللَّه تعالى، فتكون نفسه من حيث هي مخلوقة وفعل للَّه تعالى وسيلة لنفسه، نظير ما ورد في الروايات (خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة) (1) .

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرآة الكمالات والصفات الإلهية له ولغيره في جميع جهات الارتباط باللَّه تعالى كقبول التوبة أو بقيّة العبادات أو مطلق نيل مقامات القرب من اللَّه عزّ وجل، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أمينه على وحيه وعزائم أمره.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المغفرة

هنا أيضاً نريد التعرّض لبيان أدقّ وأعمق ودالّ على المطلوب في المقام لقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (2) .

لقد نصّت هذه الآية المباركة على ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:

1 - المجي‏ء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - إبراز الاستغفار من اللَّه عزّ وجل.

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص148.

(2) النساء: 64.

١٨٢

3 - إمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك الاستغفار، واستغفاره للتائبين.

فهذه الآية من ضمن مجموع الآيات التي تعرّضت لذكر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام اللَّه تعالى مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجي‏ء إلى الحضرة النبويّة والالتجاء إليه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلى‌الله‌عليه‌وآله . فأولاً لابدّ أن يأتي العبد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي ترتيبي، حيث أخذت المراتب بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط؛ بقرينة العطف بالفاء.

والمجي‏ء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عين التوجّه إليه والتوسّل به في قبول التوبة.

وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكبر خطر مصيريّ يُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصية، التي قد تؤدّي بالعبد إلى الهلاك والسقوط في الهاوية، في مثل هذا الأمر الخطير جعل اللَّه تعالى الملاذ والملجأ هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلابدّ من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه تعالى الذي منه يؤتى، فيكون اللّواذ باللَّه عزَّ وجلَّ باللّواذ بنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) .

إذن؛ الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلى اللَّه بنبيّه أُخذ شرطاً في أخطر موقف للعبد مع ربّه، وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصّاً بالذنوب

١٨٣

الفردية التي بين العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعي السياسي أو النظام الاقتصادي المعاشي أو التعدّي على المنظومة الحقوقية والأخلاقيّة، ومعنى ذلك أن استعلام ومعرفة تلك الأمور الفردية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق الالتجاء واللّواذ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّ حيف أو زيغ يحصل من الفرد أو المجتمع في تلك الأمور لابدّ من الرجوع فيها إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي مقابل تعدّد أنواع الظلم يتعدّد أنواع اللجوء والتولّي والتوجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية المباركة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات؛ لكونها أوبة ورجوع إلى اللَّه تعالى واقتراب منه وقصد وتوجّه إليه، فليست الآية في ذكرها لشرطية التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكلّ العبادات. خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلى اللَّه تعالى، أي الاقتراب والزلفى منه عزّ وجل. ولا شك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفى إلى اللَّه تعالى، فهي نوع من أنواع التوبة؛ وبناءً على ذلك لا تكون التوبة عملاً منحازاً ومنفصلاً عن سائر العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل للعبادات كافَّة.

كذلك التوبة نوع من أنواع الدعاء؛ لأنها طلب المغفرة من اللَّه تعالى ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآية المباركة مشترك مع ما تقدم من الروايات الدالّة على أن الدعاء وطلب العبد القرب من اللَّه تعالى لا يرتفع إلى السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم يقترن بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة على محمّد وآل محمّد، وإذا كان كذلك، فإن الدعاء وطلب القرب من اللَّه عزّ وجلَّ شامل للمقامات الثلاثة التي

١٨٤

ذُكرت في صدر البحث، وهي: قبول التوبة والعبادة ونيل مقامات القرب، وهو لا يقبل إلّا باللّواذ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوجّه إليه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجي‏ء في حضرته المباركة.

وهذه الآية الكريمة الدالّة على شرطية التوجّه والتوسّل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصّة بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ ليس المراد من المجي‏ء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط، بل المجي‏ء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجي‏ء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشواهد على ذلك عديدة، منها:

1 - إن هذه الآية المباركة جاءت لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافّة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصّة بالفترة التي عاشها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بمَن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجي مطلق الارتباط بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالتوجّه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الإتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالى: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ، إذ معنى ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعّرها اللَّه تعالى ليُتقرّب بها إليه.

ويتّضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الأمة، وغير مختصّة بمَن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - إن نفس التعبير بقوله تعالى: ( جَاءُوكَ ) يتضمّن معنى اللّواذ واللجوء

١٨٥

والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي، وليس فيه دلالة على الاختصاص بالحضور الجسماني.

3 - استغفار آدم عليه‌السلام وتوبته أيضاً كانت - كما مرَّ - بالمجي‏ء للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد؛ فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لَمَا غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: ياربّ لأنَّك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوب، لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم، إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) وغيرها من الروايات الدالّة على أن مجي‏ء آدم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولواذه به كان بالتوجّه القلبي به إلى اللَّه تعالى.

وفي هذه الرواية الأخيرة التي نقلناها إشارة أخرى إلى اقتران اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجلَّ في أعظم عبادة وأشرف كلمة في الإسلام، وهي كلمة التوحيد.

4 - إن المسلمين في سيرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الرواية الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا دليل على عموم المعنى المستعمل في ارتكاز أبناء اللغة، ولذا كانوا يتوجّهون إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المغفرة ويأمرون الآخرين بذلك حتى بعد وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشواهد الروائية والتاريخية على ذلك كثيرة جدّاً:

____________________

(1) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص615.

١٨٦

منها: ما أخرجه النووي عن العتبي قال: (كنت جالساً عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يارسول اللَّه، سمعت اللَّه تعالى يقول: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي، ثم أنشأ يقول:

يا خير مَن دفنت بالقاع أعظمه

فطاب مِن طيبهنَّ القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم، فقال لي: ياعتبي، ألحق الأعرابي فبشّره بأن اللَّه تعالى قد غفر له) (2) .

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن أبي حرب الهلاليّ قال: (حجّ أعرابي، فلمَّا جاء إلى باب مسجد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى دخل القبر ووقف بحذاء وجه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول اللَّه، جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك على ربّك، لأنه قال في محكم كتابه: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (3) وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا استشفع بك على اللَّه ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع فيّ( (4) .

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال: (قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) النساء: 64.

(2) النووي، الأذكار النووية، ص206، وكذلك في تفسير ابن كثير، ج1، ص532.

(3) النساء: 64.

(4) الدرّ المنثور، ج1، ص238.

١٨٧

وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول اللَّه قلت فسمعنا قولك ووعيت عن اللَّه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل اللَّه عليك: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر أنه غفر لك ) (2) ، إلى غير ذلك من الشواهد.

5 - إن القرآن الكريم قد دلّ على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ربّه، كما قال تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ، بل وكذا قوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ ) (4) وغيرها من عشرات الآيات الدالّة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى ويشهد على جميع أعمال العباد إلى يوم القيامة، فهو حيّ عند ربّه. كيف لا وقد دلّ القرآن على حياة الشهداء في قوله تعالى: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (5) ، وقد اتّفقت روايات الفريقين المتواترة أيضاً الدالّة على حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها ما ورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام قال: (إن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: حيثما كنتم فصلّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) (6) .

____________________

(1) النساء: 64.

(2) كنز العمال، ج2، ص386، والصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، ج12، ص390.

(3) التوبة: 105.

(4) النحل: 89.

(5) آل عمران: 169.

(6) الطبراني، المعجم الأوسط، ج1، ص117.

١٨٨

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون) قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزاز ورجال أبي يعلى ثقات (1) .

وقد نقل السقّاف في كتابه الإغاثة جملة من الروايات وكلمات علماء السُّنَّة التي ادّعي فيها الإجماع والتواتر والعلم القطعي بحياة النبي الأكرم فراجع (2) .

وإذا ثبت ذلك ثبت عموم الآية المباركة بالرجوع إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستغاثة به.

6 - آيات وروايات عرض الأعمال على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في قوله تعالى: ( قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) وهذه الآية متطابقة ومتشاهدة مع آية ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ... ) . وأمَّا الروايات في هذا المجال، فهي كثيرة جدّاً:

منها: ما عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام قال: (تعرض الأعمال على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروه) (4) .

ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (إن الأعمال تعرض على نبيكم كلّ عشية خميس، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح) (5) .

منها: ما ورد عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (حياتي خير لكم

____________________

(1) مجمع الزوائد، ج8، ص211.

(2) الإغاثة، ص 7 - 5.

(3) التوبة: 105.

(4) تفسير البرهان، ج 3، ص 488.

(5) تفسير البرهان، ج 3، ص 490.

١٨٩

تحدّثون وتحدّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيتُ من خير حمدت اللَّه عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت لكم). قال الهيثمي: رواه البزاز ورجاله رجال الصحيح (1) .

وهذه الرواية وغيرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث في الآية التي هي محلّ البحث؛ حيث جاء فيها: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)، فالتائب والمستغفر يتوجّه إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعرض استغفاره عنده لكي يستغفر له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشفع له عند اللَّه تعالى في قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن يشفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ربّه في قبولها، وهو المضمون والغرض والحكمة من عرض الأعمال وأنَّ قبولها مشروط بإمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشفاعته. فكما أن آيات وروايات عرض الأعمال ذكرت أن سبب العرض هو أن يستغفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته، كذلك في الآية المباركة إنما يعرض العبد استغفاره في الحضرة النبويّة لكي يستغفر له، وإذا كانت آيات وروايات العرض عامة لحال الحياة وبعد الممات، فكذلك الآية المباركة.

وهذا الذي ذكرناه أخيراً هو الشرط الثالث في الآية المباركة وهو استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمذنب الظالم لنفسه.

7 - إن كل الأحكام في الآيات الكثيرة التي أخذ فيها الحكم مرتبطاً بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تختص بحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وقوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

____________________

(1) مجمع الزوائد، ج9، ص24.

(2) الممتحنة: 6.

١٩٠

الرَّسُولَ ) (1) وقوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (2) وقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (3) وغيرها من الآيات، فإنه لو توهم اختصاصها بحياته صلى‌الله‌عليه‌وآله الدنيوية لعُطّل العمل بهذه الآيات وتقوّضت أركان الدين.

والذي يتحصّل من الآية: أن المجي‏ء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوجّه إليه شرط في قبول التوبة، بل كافّة العبادات ومطلق المقامات القُربيَّة عند اللَّه تعالى.

كما يستفاد من الآية المباركة أيضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعييني ضروري لابدّ منه، وليس هو أمراً تخييرياً بيد العبد فعله أو تركه.

واتضح أن التوجّه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك المقامات ليس خاصّاً بالتوجّه الفيزيائي البدني، بل شامل للتوجّه القلبي أيضاً.

ثم إن المجي‏ء إلى النبيِّ والتوسّل به بمعنى الارتباط به والانتماء إليه بكلّ أنحاء الانتماء، كانتماء المواطنة والانتماء الأُسري والوظيفي والتنظيمي، وغيرها من أنحاء الانتماء إلى الرسالة الخاتمة والحاكمية الإلهية المتمثّلة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

كذلك لابدّ أن يُعلم أن الآية الخاصّة في المقام غير مختصّة بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هي سُنَّة إلهيّة جارية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فالآية عامة؛ ولذا نصّت على هذا العموم آية عرض الأعمال؛ حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نصّ على ذلك قوله تعالى: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ

____________________

(1) النساء: 59.

(2) الحشر: 7.

(3) الأنبياء: 107.

١٩١

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (1) إذ هم الأمة المسلمة من ذرِّيَّة إبراهيم وإسماعيل المجتباة الذين بعث فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعلهم اللَّه شهداء على الناس وأعمالهم وعقائدهم، ويدلّ على العموم أيضاً الآيات المتقدّمة التي نصّت على وجوب المجي‏ء إلى إبراهيم في الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهويّ القلوب إلى ذرّيته، وسيأتي من الآيات ما يدلّ على العموم أيضاً.

إذن؛ التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابدّ من توفّرها لنيل ما يبتغيه العبد.

الدليل السابع: التوسّل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ميثاق الأنبياء

قال تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) ، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين اللَّه تعالى والأنبياء عليهم‌السلام ، والطرفان اللذان وقع عليهم الميثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغيبة التي أعطاها اللَّه تعالى للأنبياء في مقابل أمر مهمّ وخطير لابدّ أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالى: ( ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) فالمقامات الإلهية والمنح

____________________

(1) الحج: 78.

(2) آل عمران: 81.

١٩٢

الربّانية إنما تعطى للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولا شك أن الذي يكون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبياء كلّهم مأمومون والرسول الأكرم إمامهم، والأنبياء سبقوا الناس بالاصطفاء الإلهي الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغيبيّة بتوسّط إيمانهم بولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شيعة وإسلاماً لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الأنبياء على دين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

ومن ثمّ فإن هذه الآية المباركة تدلّل على أن دين الأنبياء بعد الإيمان باللَّه عزّ وجلَّ هو الإيمان بخاتم الأنبياء ومشايعته ومؤازرته، فالأنبياء كانوا على دين النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الإسلام.

بيان ذلك:

إن قوله تعالى في الآية المباركة: ( مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ) معناه أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس تابعاً للأنبياء، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل اللَّه تعالى؛ ولذا لم يأمر اللَّه عزّ وجلَّ نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدى الذي هم عليه، قال اللَّه تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (1) .

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس على هدى نبيّ من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو على هدى اللَّه عزّ وجلَّ، وهو أوّل المسلمين، والفاتح الأول للهدى الإلهي والدين الإسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبَّر عن نبيٍّ من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أوّل المسليمن على الإطلاق سوى النبي

____________________

(1) الأنعام: 90.

١٩٣

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك في قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) (1) وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (2) وقوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ ِلأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) (3) . وأمَّا سائر الأنبياء، فقد عُبّر عنهم في القرآن الكريم بأنهم من المسلمين، بما فيهم أنبياء أولي العزم، فقد حكى اللَّه عزّ وجلَّ على لسان نوح قوله:

( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (4) ولم يُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمين. ولا شك أن الدين عند اللَّه عزّ وجلَّ واحد، قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلَامُ ) (5) ، ولا يتقبّل من مخلوق من المخلوقات غير الإسلام، قال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (6) ، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل المسلمين وأوّل مَن نطق بميثاق التوحيد والتسليم للَّه عزّ وجل، فكان هو أفضل الأنبياء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في الدين الإسلامي، فضلاً عن غيرهم من المخلوقين؛ ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (أن بعض قريش قال لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1) الأنعام: 14.

(2) الأنعام: 162 - 163.

(3) الزمر:11 - 12.

(4) يونس: 72.

(5) آل عمران: 19.

(6) آل عمران: 85.

١٩٤

بأي شي‏ء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أوّل مَن آمن بربّي وأوّل مَن أجاب حين أخذ اللَّه ميثاق النبيين ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) فكنت أنا أوّل نبيّ قال بلى، فسبقتهم بالإقرار باللَّه) (1) .

وفي الحديث أيضاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه لأصحابه قال: (فأخذ لي العهد والميثاق على جميع النبيين، وهو قوله الذي أكرمني به جلَّ مَن قائل: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) وقد علَّمتهم أن الميثاق أُخذ لي على جميع النبيِّين، وأنا الرسول الذي ختم اللَّه بي الرسل، وهو قوله تعالى: ( رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيينَ ) (3) فكنت - واللَّه - قبلهم وبُعثتُ بعدهم وأعطيتُ ما أعطوا وزادني ربّي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمِن ذلك إنه أخذ لي الميثاق على سائر النبيِّين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نَبَّأ نبيّاً ولا أرسل رسولاً إلّا أمره بالإقرار بي وأن يبشّر أمته بمبعثي ورسالتي) (4) .

إذن؛ فالدين دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو فاتح ذلك الصرح العظيم، وإن كانت الفطرة والملّة ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وهي غير الدين. وكذلك للأنبياء شرائع ومناهج مختلفة وهي غير الدين أيضاً، وإنما هي تفصيلات وتنزّلات كلّيات ذلك الدين الحنيف، وهو الإسلام؛ ولذا جاء في دعاء التوجّه في الصلاة:

____________________

(1) الكافي، ج 1، ص 441.

(2) آل عمران: 81.

(3) الأحزاب: 40.

(4) الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى، ص380.

١٩٥

(وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهدي علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وما أنا من المشركين) (1) .

إذن الإسلام دين النبي، والأنبياء على دينه ومن شيعته؛ ولذا فُسّر قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (2) بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن إبراهيم من شيعته وعلى دينه الحنيف؛ حيث ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (قوله عزّ وجل: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) أي إن إبراهيم عليه‌السلام من شيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) (3) وقد اختار هذا القول الكلبي وابن السائب والفرّاء (4) .

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس تابعاً للأنبياء، بل على العكس، فهو على الهدى الذي هو هدى اللَّه تعالى، ومصدّق لِمَا مع الأنبياء؛ أي شاهد على ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدّق ما هم عليه. أمَّا الأنبياء، فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ) لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد مطّلع مصدّق على ما عندهم. وأمَّا هم، فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند اللَّه تعالى ما هو غيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمَّا الذي يؤمن بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - وهم سائر الأنبياء عليهم‌السلام - فهو يؤمن بأمر غيبيّ، فمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى باقي الأنبياء

غيب الغيوب. وأمَّا مقامات سائر الأنبياء، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مطّلع عليها ويعلمها ويشهد لهم على صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر

____________________

(1) الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص307.

(2) الصافات: 83.

(3) هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، ج6، ص419.

(4) تفسير القرطبي، ج15، ص91.

١٩٦

الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا على أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفيع الكلّ، والأنبياء لم ينالوا ما نالوا إلّا بالديانة لخاتم الأنبياء، فهو الشفيع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة اللَّه العامّة ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتّضح أن هذه الآية المباركة نصّ في المقام الثالث، وأن التوجّه إلى اللَّه لنيل أي مقام أو قربى أو زلفى لا يتمّ إلّا بالتوسل

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتشفّع به، وبالتشفّع به يعطى للعبد أعظم الأرزاق، وهو النبوّة والكتاب والحكمة، فكيف بك بسائر الأرزاق الأخرى، التي لا تقاس بمقامات الأنبياء؟!

ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالى: ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم اللَّه تعالى على ذلك، حيث قال: ( فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) ، وهذا يعني أن للتوسُّل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحورية رئيسية في رسم معالم الدين.

وإنكار التوسّل في المسائل الدنيوية غير الخطيرة ليس إلّا تعظيماً لصغائر الأمور وتصغيراً لِمَا عظّمه اللَّه عزّ وجل، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقّوا ما استحقّوه إلّا بتوسُّلهم بالإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنكار التوسّل في بعض الأمور الدنيويّة والحاجات المعاشية ليس له معنى إلّا الاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتعظيم وتهويل ما ليس حقّه ذلك.

____________________

(1) الأنبياء: 107.

(2) آل عمران: 81.

١٩٧

أهل البيت عليهم‌السلام شركاء النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميثاق

ثمّ إن أهل البيت عليهم‌السلام يشتركون مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في دائرة الميثاق والدين الحنيف الذي أُخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته والدعوة إليه، وإن كان أهل البيت عليهم‌السلام تابعين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم يتوجّهون به إلى اللَّه تعالى، وبشفاعته يكونون معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقامه، وهو مقام الشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى.

ويدلّ على اشتراك أهل البيت عليهم‌السلام مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في دائرة الميثاق الذي أخذ على الأنبياء وجوه عديدة، وإليك بعضها:

1 - إن نصرة الأنبياء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تتحقّق إلى يومنا الحاضر، وهي إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بيته عند ظهور المهدي من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة عليهم‌السلام ، كما نصّت على ذلك الروايات المتضافرة؛ حيث جاء فيها أن عيسى عليه‌السلام وإدريس وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي عليه‌السلام عند قيامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفريقين. وأمَّا من

طرقنا، فقد دلّت الروايات المتضافرة أيضاً على أن جميع الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة عليهم‌السلام عند رجوعهم وكرّتهم في دولتهم العالمية المباركة، بل إن بعض الأنبياء - كإلياس والخضر عليهما‌السلام على القول بنبوّة الخضر عليه‌السلام - هم الآن وزراء في حكومة الإمام المهدي عليه‌السلام الخفيّة، وهي حكومة خليفة اللَّه في أرضه، التي لا يمكن أن تفتقدها البشرية في لحظة من اللحظات؛ وإلاّ لساخت الأرض بأهلها.

ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الروايات التي وردت في هذا المجال:

١٩٨

منها: طوائف الروايات التي دلّت على أن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام ينزل لنصرة المهدي عليه‌السلام . وإليك فيما يلي هذه الرواية - ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذي نحن فيه - قال أبو عبداللَّه الصادق عليه‌السلام :

(أتى يهودي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يايهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلّمه اللَّه، وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه يكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إن آدم عليه‌السلام لمَّا أصاب الخطيئة، كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا غفرت لي، فغفرها اللَّه

له، وإن نوحاً عليه‌السلام لمَّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا نجّيتني من الغرق، فنجّاه اللَّه منه، وإن إبراهيم عليه‌السلام لمَّا ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا نجّيتني منها، فجعلها اللَّه عليه برداً وسلاماً، وإن موسى عليه‌السلام لمَّا ألقى عصاه أوجس في نفسه خيفة، قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا آمنتني منها، فقال اللَّه جل جلاله: ( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ) (1) . يايهودي: إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوّتي، ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته نبوّته. يايهودي: ومن ذرِّيَّتي المهدي؛ إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّى خلفه) (2) .

____________________

(1) طه: 68.

(2) الصدوق، الأمالي، ص288، النيسابوري، روضة الواعظين، ص272.

١٩٩

وفي حديث آخر: (فيلتفت المهدي فينظر عيسى عليه‌السلام فيقول لعيسى: ياابن البتول، صلِّ بالناس، فيقول: لك أقيمت الصلاة، فيتقدّم المهدي فيصلّي بالناس ويصلّي عيسى خلفه ويبايعه) (1) .

ولا شك أن المبايعة لأجل نصرته عليه‌السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرينة تتمّة الرواية؛ حيث ورد فيها أن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام - بعد المبايعة - يكون من وزراء المهدي عليه‌السلام ويخرج لقتال الدجَّال.

ومنها: الروايات التي دلّت على أن نصرة الأنبياء للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما تحصل بالنصرة لوصيّه أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام والقتال بين يديه عند الكرّة والرجعة في دولة الحقّ. وذلك نظير ما أخرجه سعد بن عبداللَّه القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه‌السلام يقول وتلا هذه الآية: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ ) : (لتؤمننّ برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولتنصرنّ علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام . قال: نعم - واللَّه - مِن لدن آدم وهلمّ جراً، فلم يبعث اللَّه نبيّاً ولا رسولاً إلّا ردَّ جميعهم إلى الدنيا حتّى يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ) (2) .

ومن الواضح أن نصرة أمير المؤمنين عليه‌السلام نصرة لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وللدين الذي جاء به.

وحاصل هذه النقطة هو: اشتراك أهل البيت عليهم‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميثاق الذي أخذ على الأنبياء؛ إذ إن إيفاءهم بالعهد إنما يكون بنصرتهم لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) الشافعي، عقد الدرر، ص275.

(2) الحسن بن سليمان الحلّي، مختصر بصائر الدرجات، ص25.

٢٠٠