الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 84920
تحميل: 5136


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84920 / تحميل: 5136
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بل إن بقية الأعمال لا تقبل ولا يثاب عليها الإنسان إلّا بالإيمان، فإذا كان الإيمان أعظمها، والإيمان هو الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، بل إن الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الهادي إلى حقيقة التوحيد، فيكون الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعظم ما يتوسّل به إلى اللَّه عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلى الحضرة الإلهية، فهذا يقتضي كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم وسيلة؛ لأن الإيمان إنما حاز هذا الشرف العظيم ومكان الوساطة والوسيلية إلى اللَّه تعالى ببركة تعلّق الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ شرف المعرفة بالمعروف الذي تعلّقت به المعرفة، كما أن شرف العلم بالمعلوم الذي تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا يقضي بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ومن ثم نُعت في القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذا ما أشارت إليه الأدلّة المتضافرة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الوسيلة الكبرى والشفاعة العظمى.

ولكي تكون الإجابة واضحة لابدّ من التأمل في مفاد الآية المباركة، وذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: ما هو المراد من الوسيلة؟

لقد جاء التعبير في الآية الكريمة هكذا ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ولم يقل اللَّه عزَّ وجل: (وابتغوه بالوسيلة)، وليس ذلك إلّا للتنبيه على أن الذي يُبتغى ويُقصد لطلب الحوائج هو الوسيلة، التي تكون واسطة في الفيض بين العبد وربّه، ومعنى الآية المباركة وابتغوا الوسيلة إليه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسيلة

٢٦١

إلى اللَّه عزَّ وجل، ولا تتحقّق البُغية إلى اللَّه تعالى إلّا بالوسيلة؛ ولذا لابدّ من تحديد ما هو المراد من الوسيلة.

إن روايات الفريقين متّفقة على أن الوسيلة مقام من المقامات المشهودة والسامية للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي على طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التي فسّرت الوسيلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) (1) ، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحديث أن المقصود من الوسيلة فيه هي الشفاعة ذاته (2) .

ولا شك أن الروايات نصّت على أن الشفاعة هي المقام المحمود، فالشفاعة التي هي المقام المحمود لا تحلّ على الشخص إلّا بسؤال ذلك الشخص مقام الوسيلة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنها: الطائفة التي يظهر منها أن مقام الوسيلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن قال حين يسمع النداء: اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إلّا حلّت له شفاعتي يوم القيامة) (3) ، وظاهر هذه الرواية تغاير المقامات الثلاثة وهي الوسيلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة منبر من نور ينصب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(1) مسند أحمد، ج2،ص168.

(2) المبارك فوري، تحفة الأحوذي، ج10، ص57.

(3) سنن النسائي، ج2، ص27.

٢٦٢

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث له مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال: (إذا جمع اللَّه الأوَّلين والآخرين يوم القيامة وُضع لي منبر بين الجنة والنار من نور، لذلك المنبر مائة مرقاة وهي الدرجة الوسيلة، ثم تحفّ بالمنبر النبيّون ثم الوصيّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم يجاء إليّ، فيقال لي: يامحمّد، قم فاَرْقه. قال: فأرقي حتى أصير في أعلى مرقاة من المنبر) إلى أن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ثم يقال لك: إرقَ ياعليّ، فترقى يا أبا الحسن حتّى تصير أسفل منّي بمرقاة، فأناولك يميني وأقعدك على جنبي الأيمن، وأقول: هذا الموقف الذي وعدني ربّي أنه يعطني فيك) (1) .

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (وفوق قبّة الرضوان منزل يقال له: الوسيلة، وليس في الجنّة منزل يشبهه، وهو منبر رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (2) .

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة مقام حظوة وحبوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطول المقام بذكرها فلا حاجة إلى استعراضها، وبعض الروايات المتقدّمة فيها إشارة إلى ذلك.

ولا يوجد أي تنافي بين هذه الطوائف من الروايات؛ حيث إنها تثبت للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقاماً خاصّاً لا يدركه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهذا المقام في جهة من جهاته يسمّى بالمقام المحمود وفي أخرى يسمّى بالوسيلة وفي ثالثة يسمّى بالشفاعة، وهذا أيضاً لا يتقاطع مع كون مقام الوسيلة منبر من نور؛ لأن التعبير بذلك للدّلالة على حظوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحمد مقامه عند اللَّه عزَّ وجلَّ في ذلك اليوم العصيب، الذي يكون فيه كلّ الأنبياء على جانب عظيم من الوجل

____________________

(1) محمّد بن سليمان الكوفي القاضي، مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ج1، ص200، والذهبي، ميزان الاعتدال، ج2، ص25.

(2) النعماني، كتاب الغيبة، ص101.

٢٦٣

والشفقة والخشية، والكلّ يستغيث: وانفساه. والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الحال وجيه عند اللَّه عزَّ وجلَّ على منبر من نور، صاحب حظوة ومكانة دون باقي البشر. فالمنبر كناية عن الوجاهة والقرب والزلفى والواسطة والشفاعة وأنه يُتوسّط به إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ويستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الكبرى، وهو القائل: (ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي) (1) .

النقطة الثانية: الرابطة بين الشفاعة والتوسُّل

قلنا في النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما نصّت على ذلك الروايات (2) ، وأشرنا أيضاً إلى أن الاستشفاع بشفاعة الشفيع والتوسّل بالوسيلة وجهان لمقام واحد، ونريد الوقوف قليلاً عند هذه الحقيقة، فإن تفرقة المتكلمين والفقهاء بين الشفاعة والتوسّل صحيحة من جهة وخاطئة من جهة أخرى؛ وذلك لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقيقة واحدة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفيع، والشفاعة هي فعل الشفيع بينه وبين المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بين طالب الشفاعة والشفيع يقال: توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملية ولكن من جهة الرابطة بين الشفيع والمشفوع عنده، فيقال لذات تلك العملية: شفاعة، فالوسيلة تتلوها الشفاعة والشفاعة يتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا كان المسلمون قد أجمعوا على ثبوت المقام المحمود والشفاعة

____________________

(1) ابن كثير، البداية والنهاية، ج10، ص254.

(2) لاحظ: مسند أحمد، ج2، ص478، المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص48.

٢٦٤

الكبرى للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو يستلزم إجماعاً آخر؛ وهو: جواز التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم.

فإذا جازت الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو فعل يقوم به بالإضافة إلى اللَّه عزَّ وجلَّ في حقّ أصحاب الحاجات، فبالتالي سوف يكون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفكاك مشروعية الشفاعة عن مشروعية التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا كانت الشفاعة مشروعه كيف يكون طلب المشروع غير مشروع؟!، بل حيث إن معتقد الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دين من أسس الإيمان، فلا محالة يكون التوسّل معتقد ديني من أسس الإيمان أيضاً، بل حيث كانت الضرورة قائمة على ثبوت مقام الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا محالة الضرورة قائمة أيضاً على أن التوسّل من أركان العبادات.

فالذهاب إلى الوسيط وطلب توسيطه في قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسيط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فيضمّ الوسيط جاهه إلى حاجة المتوسل فيقضيها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهيّة.

إذن؛ دليل التوسّل القول بمشروعية وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء على ذلك يكون عقد بابين مستقلّين للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التي وقع فيها أصحاب المقالة الجاحدة لعقيدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا يمكن أن ينفك عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشريع الشفاعة

حاول أصحاب هذه المقالة تحديد نطاق الأدلة الدالة على تشريع شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قالوا تارة بأن الشفاعة في دار الدنيا لا تجوز إلاّ إذا كان

٢٦٥

النبي الأكرم حيَّاً في هذه الدنيا. وأمَّا بعد وفاته، فلا مشروعية للشفاعة إلّا يوم القيامة دون الشفاعة في الدنيا أو البرزخ، وقالوا أخرى بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، وليس طلب الحاجات الدنيويّة، كشفاء المريض وغيره.

أمَّا المزعمة الأولى؛ من أن الشفاعة في الآخرة فقط أو مع حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي مبتنية على أن الشرك بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرك من مدركات العقل وأحكامه، وهي غير قابلة للتخصيص، فإذا كان التشفّع شركاً، فلابدَّ أن يكون كذلك في جميع النشآت وسواء كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله موجوداً في دار الدنيا أم بعد وفاته. فالتفرقة لجوء منهم إلى النصّ وأن الشرك ليس له حدّ عقلي منضبط، وهو خلاف ما عليه علماء المسلمين، من أن الشرك إمَّا بحثه عقلي أو عقلي ونقلي وليس هو نقلياً محضاً، هذا أولاً .

وثانياً: مع فرض أن دليل مشروعية الشفاعة نقلي، فلا دليل على الاختصاص بيوم القيامة؛ لأن الآية مطلقة، فقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) شامل لِمَا بعد وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ عند ربّه يرزق. مضافاً إلى قوله تعالى: ( قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ناظر للأعمال، والآية الكريمة مطلقة والمخاطب بها كلّ الأجيال، ولو بني على اختصاص الأحكام التي تعلّقت بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على خصوص حياته في دار الدنيا ونفي شمولها لحياته عند ربّه لاستلزم ذلك تعطيل جملة الآيات والأحكام في الدين الحنيف، ولَمَا قامت للدين قائمة، نظير قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

٢٦٦

فَانْتَهُوا ) (1) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (2) وقوله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3) وغيرها من الآيات والأحكام، فعلى زعمهم الواهي لابدّ أن تُخصّ هذه الآيات بخصوص حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا دون حياته في عند ربّه.

وقد وردت روايات متضافرة تنصّ على أن الأعمال تُعرض على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم أو كلّ يوم خميس أو جمعة، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمع السلام ويردّه، ويصلّي على مَن يصلّي عليه.

فما ذكر من الاختصاص بيوم القيامة باطل عقلاً ونقلاً.

وأمَّا المزعمة الثانية ؛ وهي أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنيوية؛ فالجواب عنها:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً من إطلاق الآية المباركة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنيوية أيضاً ولا دليل على التخصيص بما ذكروه.

و ثانياً: إذا صحّت المقايسة التي زعموها، فإن الحاجات الدنيوية أهون على اللَّه تعالى من حاجات الآخرة، فكيف يعقل أن الشفاعة تنفذ فيما هو أكثر خطورة وهي الحياة الأبديّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهي الحياة الدنيوية المنقطعة؟! وكيف يكون الثاني شركاً دون الأوّل؟!

ثم إن سيرة المسلمين وكذا الصدر الأول منهم تتنافي مع ما ذكره؛ حيث

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) المائدة: 55.

(3) الأعراف: 157.

٢٦٧

أثبتت كتب المسلمين - كما سيأتي - توسّل المسلمين بالنبي الأكرم بعد وفاته أيضاً، وسيرتهم إلى يومنا هذا جارية على التوسّل في طلب حاجاتهم الدنيوية، ولا يقتصرون في ذلك على طلب الحاجات الأخرويّة فقط.

وكذا ليس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتى في الرقيّ في المراتب والمقامات، فالشخص يحتاج إلى الشفاعة لعدم الأهلية في عمله للصعود إلى مقام أعلى، كما ورد ذلك في توسّل الأنبياء بسيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع أيضاً للأئمة المعصومين عليهم‌السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلى مقامه ودرجته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن متعلّق الشفاعة وسيع يشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغيرها، فالشفاعة بإذن اللَّه تعالى متعلّقها مطلق موارد فيض الباري عزَّ وجل.

و ثالثاً: ما ورد من وصف النبي موسى وعيسى عليهما‌السلام بأنهما وجيهان عند اللَّه عزَّ وجل، كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ) (1) ، وكذا قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) ، وهذا البيان ليس خاصاً بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، بل هو شامل على أقل تقدير لأنبياء أولي العزم، خصوصاً سيّد المرسلين وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الذين أُورثوا علم الكتاب

____________________

(1) الأحزاب: 69.

(2) آل عمران: 45.

٢٦٨

كلّه، بل قد أشير إلى ذلك في تشريع القبلة، وأنها رغم كونها وجهاً للَّه تعالى يتّجه إليه المصلّي في اتجاه استقباله في الصلاة، إلّا أن الغاية منها هي الانقياد والخضوع لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والولاية له، وهو يؤدّي للأوبة للَّه تعالى، حيث قال تعالى: ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) وقال تعالى أيضاً: ( أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (2) وقال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) (3) ، وللتعبير بالوجيه مدلولان إلتزاميان عقلي ونقلي:

أمَّا العقلي؛ فلأن اللَّه عزَّ وجلَّ منزّه عن الجسمية والمقابلة والمجابهة المادّية، فلابدّ من وجه يتوجّه به إليه، فالوجيه معناه هو وجه اللَّه الذي يتقرّب به إليه وآيته الدالّة عليه، التي لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع في التوجّه.

وأمَّا النقلي؛ فهو ما ورد من أن زكاة الوجاهة الشفاعة في الخيرات.

إذن؛ الشفاعة والوساطة مدلول إلتزامي عقلي ونقلي لمفهوم الوجاهة، فالوجيه هو الشفيع والوسيلة والواسطة بين العبد وربّه.

ومقتضى إطلاق كون الأنبياء عليهم‌السلام وجهاء عند اللَّه عزَّ وجلَّ هو كونهم شفعاء في الخيرات وقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط. ومعنى ذلك أيضاً أن الأنبياء وجهاء عند اللَّه وشفعاء في كلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بيوم القيامة أو قبل وفاة النبي؛ وذلك لإطلاق الآيات الدالّة

____________________

(1) البقرة: 144.

(2) البقرة: 115.

(3) البقرة: 143.

٢٦٩

على الوجاهة التي تلزمها الشفاعة عقلاً ونقلاً.

والحاصل:

إن الوسيلة في الآية التي ذكروها هو مقام الشفاعة الكبرى للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّضح أن الوسيلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أيضاً أن الشفاعة والتوسّل ركن من أركان الدين قائم في الدنيا والآخرة، سواء كان النبي حيّاً في دار الدنيا أم عند ربّه تعالى بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا الشفاعة منصوبة في ديانة الإسلام لطلب الحوائج الدنيوية وغيرها.

وممّا يبرهن على عموم شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرَّ في قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (1) ، حيث مرَّ في الفصل الثالث أن الآية تبيّن مشارطة اللَّه ومواثقته على النبيِّين في إعطائهم مقام النبوة والرسالة والمقامات الغيبية أنهم إنما يستأهلوها ويستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبيين والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا على أنفسهم بذلك، فالآية تبيّن أن سيد الأنبياء صاحب الوسيلة لجميع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الكبرى الغيبية من النبوّة والرسالة والحكمة بالتوسّل بذيل ولاية سيد الأنبياء وأهل بيته المعصومين، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُخلق بدنه حينذاك، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بيته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبياء، كما أشارت إلى ذلك

____________________

(1) آل عمران: 81.

٢٧٠

سورة النور والروايات من الفريقين، حسب ما تقدّم في الفصل الثالث.

فالآية ترصد أعظم ملحمة في الخِلْقة والخليقة لأعظم توسّل بأعظم متوسَّل به لأعظم حاجة، وكفى بذلك بشارة للمؤمنين بهذا الركن العظيم في الدين، ونذارة للجاحدين.

وأخيراً نقول:

إذا كانت الأعمال كما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ وهي فيها ما فيها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فكيف ظنُّك بمقام سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فالعمل موجود مخلوق وكذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لا قياس ولا نسبة بينهما في الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيميّ يأبى التوسّل بغير اللَّه

وذلك ما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه‌السلام حين أُلقي في النار (عرض له جبرئيل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأمَّا من اللَّه فبلى) (1) ، (قال جبرئيل: فسل ربّك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللَّه عزَّ وجل: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (2) فالنبي إبراهيم عليه‌السلام في هذا الحديث يحصر التوجّه في الحاجات إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ويرفض كلّ واسطة ولو كانت بمنزلة جبرئيل عليه‌السلام ، وهذا هو النفس التوحيدي الصحيح من مؤسّس

____________________

(1) تفسير ابن كثير، ج3، ص193.

(2) ابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص254.

٢٧١

التوحيد ومكسِّر الأصنام ومجاهد الوثنية إبراهيم عليه‌السلام ، إذ لم يوسّط حتى جبرئيل في طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفي الشرك في الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بين اللَّه وبين خلقه، ولم يتّخذ اللَّه تعالى أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً ليُتوجّه بها إليه.

الجواب عن الشبهة الخامسة:

وهو ما يتعلّق بقصة إبراهيم عليه‌السلام عندما أُلقي في النار، وما جرى بينه وبين جبرئيل، حيث إن جبرئيل عليه‌السلام تدارك إبراهيم وهو في حال الهويّ في النار، وهي حالة عصيبة جدّاً، ولكن مع ذلك عندما عرض جبرئيل عليه‌السلام عليه قضاء حاجته وتخليصه من محنته، قال عليه‌السلام : (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، فقالوا: إن نفس عدم سؤال إبراهيم عليه‌السلام من جبرئيل معناه أن السؤال والاستغاثة بغير اللَّه تعالى غير جائزة.

الردّ الأول: إن أي حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحفُّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخليتها في استيضاح سياق تلك الحادثة، وفي المقام مسائلة جبرئيل عليه‌السلام للنبيّ إبراهيم عليه‌السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إيمانه وطمأنينته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أمَّا إليك فلا) ليبيّن له أنه ليس في مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف، وأنه مطمئن النفس ثابت الإيمان متوكّل على ربّه.

ويعزَّز هذه الدعوى قول إبراهيم عليه‌السلام لجبرئيل عليه‌السلام : (علمه بحالي يغني عن سؤالي) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فيه ومحبّب عند اللَّه عزَّ وجل، وقد حثَّ

٢٧٢

القرآن الكريم في آيات عديدة على السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من اللَّه تعالى، وقد توعّد اللَّه تعالى المستكبر على عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن؛ الدعاء من الأمور المرغوب فيها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق عليه أن الرواية في المقام لا تريد أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهية، وقد قال اللَّه تعالى لنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) (1) وحاشا النبي إبراهيم عليه‌السلام أن يخرج عن أعظم الآداب الإلهية ولا يتقيّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بيّن دامغ على أن كلام إبراهيم عليه‌السلام بحسب السياق في مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات على الإيمان والطمأنينة به.

أراد إبراهيم عليه‌السلام باكتفائه بعلم اللَّه عزَّ وجلَّ بحاله أن يبيّن لجبرئيل عليه‌السلام أنه ليس على وَجَل واضطراب، ويظهر له الثبات والحزم الذي هو عليه في الحقيقة والواقع.

ودعاؤه عليه‌السلام في خصوص ذلك الظرف والمقام قد يكون كاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنينة، فهو عليه‌السلام لكمال ثباته وتوكّله على اللَّه تعالى أظهر ما هو عليه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإيمان.

فصدر الجواب وذيله هما في هذا المقام الذي ذكرناه.

الردّ الثاني:

قد يقال هنا أن إبراهيم عليه‌السلام لم يستنجد بجبرائيل عليه‌السلام ولم يسأله لأنه أفضل منه؛ وذلك إن مقام أنبياء أولي العزم أفضل من مقام الملائكة الذين أسجدهم

____________________

(1) طه: 114.

٢٧٣

وأطوعهم لآدم، وقد ورد في روايات الفريقين أن جبرئيل عليه‌السلام في مواطن عديدة لم يتقدّم على آدم لكونه مسجود الملائكة، ففي هذه الحالة يكون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ كلامنا فيما إذا كان السائل يتقرّب بواسطة المسؤول ويتوسَّل به إلى اللَّه عزَّ وجل، وإذا كان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معنى للتوسّط والتشفّع والزلفى.

الردّ الثالث : أنه ينقض عليهم بموارد:

منها: أن الجاحدين للتوسّل يقرّون بأن الضرورة قائمة في الدين - كما تقدّم - على ثبوت الشفاعة الكبرى لسيد الأنبياء يوم المعاد، وأنه يستشفع به صلى‌الله‌عليه‌وآله للنجاة الأبدية، فإذا كان الاستشفاع شركاً - حسب زعمهم - وخلاف منهج التوحيد الذي هو ملّة إبراهيم الحنيف، فكيف يسمح الباري بوقوعه يوم القيامة، ويُبشِّر به نبيّه، وأنه يعدّه الباري مقاماً محموداً؟!

و منها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسيد الأنبياء، فهل يظن بنبي اللَّه وصفوته مجانبة طريق التوحيد؟!

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالى

قد يطرح هنا إشكال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوى أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفيض الإلهي قد يوجب اعتقاد العجز في قدرة اللَّه تعالى، وممَّا لاشك فيه أن الباري عزَّ وجلَّ واجب بالذات وغني عن العالمين، فلابدّ من رفض الوسائط في التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل.

٢٧٤

وبعبارة أخرى: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلى غير اللَّه تعالى يستبطن التفويض والغلو وبالتالي يؤدّي إلى الشرك؛ لأن التوسّل يتضمّن إسناد بعض الصلاحيات الإلهية إلى الوسائل، وهو يعني إثبات العجز إلى قدرة الباري تعالى، وهو التفويض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة:

في مقام ردِّ هذه الشبهة نجيب بعدَّة أجوبة:

الجواب الأول: قصور الجاحدين للتوسّل عن معرفة التوحيد في الأفعال

إن اللَّه عزَّ وجلَّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات على بعض الأمور، فهو لا يعني سلب القدرة عنه تعالى في تلك الأمور، ولا يعني أيضاً عزله عن صفاته التي منها الصفات التي أعزاها إلى كلماته ووسائطه، فلا تجافي ولا عزلة في البين؛ لأن التجافي والعزلة من أحكام المادّة.

إذن؛ الباري تعالى لا يتجافى ولا ينعزل عن القدرة التي أقدر بعض الموجودات عليها، بل هو أقدر من تلك الوسائط على ما أقدرها عليه.

ويقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام في هذا المقام: (إن اللَّه تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة، ويهمل العباد في الهلكة، ولكنَّه المالك لِمَا ملّكهم والقادر لِمَا عليه أقدرهم) (1) .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفه للَّه عزَّ وجل: (لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواس ولا يقاس بالقياس، قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كلّ شي‏ء ولا

____________________

(1) علي بن بابويه، فقه الرضا عليه‌السلام ، ص408.

٢٧٥

يقال: شي‏ء تحته، وتحت كلّ شي‏ء ولا يقال: شي‏ء فوقه، أمام كلّ شي‏ء ولا يقال له: أمام، داخل في الأشياء لا كشي‏ء في شي‏ء داخل، وخارج من الأشياء لا كشي‏ء من شي‏ء خارج، فسبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره، ولكلّ شي‏ء مبتدأ) (1) .

والحاصل: إن أقدار اللَّه عزَّ وجلَّ وكلَّ عطية إلهية يجود بها على مخلوقاته ليس تمليكها تمليكاً عزلياً وبنحو التجافي، وإنما هو تمليك قيّومي إحاطي، فهو عزَّ وجلَّ محيط بكلّ شي‏ء وقيّوم على كلّ شي‏ء، وهو المالك لِمَا ملّكهم والقادر لِمَا عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطى والعطية كلّها قائمة باللَّه تعالى حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلى قيوميّة الباري تعالى؟!

وهذا يعني أن ذات المخلوق وفعله وتمكينه وتمليكه وإقداره على بعض الأمور كلّها بحول اللَّه وقوته، ولا يخرج عن حيطة قيوميّته، فلا مجال للتفويض العزلي في عالم الخلقة والإمكان، وليست الوسائط إلّا مجارٍ لفيض اللَّه عزَّ وجلَّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّي عن اللَّه تعالى مباشرة.

الجواب الثاني: الجاحدين للتوسّل بنوا جحودهم على التفويض الأكبر

إن هذه الشبهة التي ذكروها تستبطن التفويض والغلو في المخلوق؛ لأنها مبتنية على دعوى أن المخلوق مستقلّ عن خالقه في الوجود بقاءً، وأن اللَّه تعالى عندما ملّك وأقدر بعض الموجودات المادّية على بعض

____________________

(1) البرقي، المحاسن، ج1، ص240، والصدوق، التوحيد، ص285.

٢٧٦

الأفعال الحياتية اليوميّة، كقدرة الشخص على تحريك أعضائه مثلاً باختياره، انعزلت قدرته عن تلك الأفعال. فإنهم في شبهتهم المذكورة افترضوا أن إقدار اللَّه عزَّ وجلَّ وتمليكه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوك عن المالك، كاستدرار الفيض الإلهي عن طريق الوسائط تفويض وغلو في تلك المخلوقات، وحيث إنه ممَّا لا ريب فيه أن اللَّه تعالى - كما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً - أقْدَرَ الموجوداتِ المادّيةَ على الكثير من الأفعال التي نراها يومياً، فإنه يقتضي اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفويضية المغالية، وهي أن المخلوق محتاج إلى الخالق حدوثاً لا بقاءً، وأن اللَّه تعالى بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها في البقاء (والعياذ باللَّه).

ولا فرق بين فعل وفعل من الناحية العقلية، فإذا كان التوسّل وجعل الوسيلة والشفاعة لبعض المخلوقات يوجب التفويض العزلي، فكذلك إقدارهم على أفعالهم الحادثة اليومية لابدّ أن يكون أيضاً محكوماً بقانون التفويض العزلي، وأن اللَّه تعالى انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها وملّكها لأفعالها.

ولا شك أن هذا التفكير مبنيّ على الموازين الحسّية المادّية، ودعوى الفرق بين الأفعال الدنيوية الصغيرة والأفعال التدبيرية الخطيرة، كتدبير السماوات والأرض، وإيصال فيض اللَّه تعالى إلى الموجودات المادّية الدانية في الوجود، حيث آمنوا ببطلان التفويض بجعل وسائط في الفيض، وصحّحوا مقولة التفويض في صغائر الأمور والأفعال المادية الدنيويّة غير الخطيرة.

مع أن موازين بطلان التفويض موازين عقلية لا يفرق فيها بين الأفعال الصغيرة والخطيرة؛ لأن التفويض يوجب الشرك وهو باطل على جميع

٢٧٧

الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا يستقلّ بذاته وفعله عن الباري تعالى حدوثاً وبقاءً، ولا يفعل المخلوق فعلاً أيّاً كان حجمه وخطورته إلّا بإقدار اللَّه وتمكينه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو كان أصحاب هذه الشبهة يرفضون فكرة التفويض مطلقاً ويوحّدون في الخلقة حدوثاً وبقاءً، لَمَا حصلت لهم هذه الشبهة؛ لأن اللَّه تعالى لا تنحسر قدرته عن المخلوق في أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً يستمدّ وجوده وبقاءه من الفيض والمدد الإلهي، وهم أرادوا أن ينكروا التوسّل - وهو فعل من الأفعال - للزوم التفويض، فوقعوا فيما هو أعظم وهو التفويض في أصل وجود المخلوقات من حيث البقاء فضلاً عن أفعالها، مع أن اللَّه تعالى دائم الفيض على البريّة، والمخلوق في كلِّ آن من آنات وجوده محتاج إلى فيض باريه، لا يستقلّ عنه في وجوده ولا ينادده في فعله؛ إذ الباري قيّوم على وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بين الأمرين، فلا ننفي المخلوقات وأفعالها كما فعل ذلك بعض جهلة الصوفية، ولا نعزل قدرة اللَّه تعالى عن مخلوقاته كما فعل المفوّضة، بل نقول كما قال اللَّه عزَّ وجل: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (1) .

الجواب الثالث:

إن الجاحدين للتوسّل حيث كانوا عبّاد المذهب الحسّي المادي من حيث يشعرون أو من حيث تشبّع نفسياتهم وذهنهم بذلك، حيث يبنون على أن كلّ فعل حسّي هو فعل للمخلوقات، وكلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتي إلهي، أو أن الأفعال الصغيرة الحجم هي فعل للمخلوقات. أمَّا

____________________

(1) الأنفال: 17.

٢٧٨

الأفعال الكبيرة، فهي فعل إلهي، وعلى هذا الميزان يكون إماتة الموتى لا يصح إسنادها إلى الملك الموكَّل وهو عزرائيل عليه‌السلام ، لا سيما وأن الإماتة لا تقتصر على بني البشر فقط، بل تشمل جميع بني الجنّ وجميع النباتات، بل وجملة الملائكة، فهذه القدرة بهذا الحجم كيف تسند وتعزى إلى الملك عزرائيل؟ مع أن قدرة اللَّه تعالى أنفذ فيما أقدر عزرائيل عليه، وكذلك ميكائيل الموكَّل بتقسيم الأرزاق وتدبيرها لكلّ الكائنات الحيّة على وجه الأرض، وكذلك جبرئيل الموكّل بالبطش والنقمة الإلهيّة ونشر العلم على الكائنات المدركة، وإسرافيل الموكَّل بالإحياء وغير ذلك من عظائم الأفعال، فإنه على منطق هؤلاء الجاحدين تكون قدرة اللَّه معزولة عن تلك الأفعال كما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هي صلاحيات إلهيّة لا تقبل الإسناد لغير اللَّه.

فتبيّن أن الضابطة في كون الفعل إلهيّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرة غيره، ومن ثمّ لا يصحّ توهّم استقلال المخلوق في الفعل ولو كان حقيراً صغيراً؛ إذ لو استقلّ، لكان فاعلاً فعلاً إلهيّاً.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية كله إبداعي بلا واسطة.

قالوا في المقام: لِمَ لا يكون فعل الله تعالى إبداعياً بكن فيكون بلا أي واسطة أو وسيلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهيمنة الإلهية، بخلاف القول بالأفعال غير الإبداعية فهي تستبطن القول بعجز الله تعالى واحتياجه إلى الأسباب في عملية الخلق والإيجاد

٢٧٩

الجواب عن الشبهة السابعة:

ويُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضيف إليه بعض الأجوبة الأخرى:

الجواب الأول: لا ريب أننا نشاهد في عالم الخِلْقة الإمكانية أفعالاً لبعض المخلوقات، بل موجودات مخلوقة غير إبداعية، كما نصّ على ذلك القرآن الكريم في آيات عديدة - كما سيأتي - وأن اللَّه تعالى كان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطين البدن الإنساني، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء كلّ شي‏ء حيّ، وغير ذلك من المخلوقات غير الإبداعية، التي توجد بعملية التوليد والتوالد بين الأسباب والمسبّبات، وبناءً على ما ذكروه من الشبهة، من أن كلّ فعل غير إبداعي، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلى الوسيلة والأسباب ويكون إسناد تلك المخلوقات غير الإبداعية إلى اللَّه تعالى إسناداً للعجز والحاجة إلى اللَّه عزَّ وجل، وإن لم نُسند تلك المخلوقات إلى اللَّه تعالى نقع في معضلة الشرك في الخالقية، وهو شرك أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات كالموجودات المادّية في أصل وجودها فضلاً عن أفعالها يتمّ تخليقها عن طريق الأسباب والوسائط لا بنحو الإبداع، فإن أسندناها إلى الباري تعالى - على زعمهم - يلزم نسبة العجز إلى الخالق، وإن لم نسندها إليه عزَّ وجلَّ يلزم القول بالشرك في الخالقية وخروج تلك الموجودات عن حيطة قدرته تعالى.

فالصحيح: إن اللَّه تعالى خالق كلّ شي‏ء سواء كان بالإبداع أم التخليق، والسببيّة لا توجب الشرك ولا نسبة العجز إلى اللَّه تعالى؛ لأن المخلوق الذي

٢٨٠