الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 84915
تحميل: 5135


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84915 / تحميل: 5135
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سلطاناً. وأمَّا إذا كانت الوسائط منصوبة من قبل اللَّه عزّ وجلّ وبسلطان منه، وكان التوجّه إليها بإرادته وأمره، فحينئذٍ يكون التوجّه إلى الوسائط انقياداً وامتثالاً للأمر الإلهي وعبادة للَّه تبارك وتعالى؛ لأنّه تحكيم لسلطانه وانصياع لأوامره.

فالذي يأتمر بأوامر اللَّه تعالى بالانقياد مطلقاً بالوسائط أو بغيرها هو الموحّد التامّ في مقام العبودية والطاعة، وفي غير ذلك يكون قد تجرّأ واستكبر على الباري تعالى وكفر بربوبيّته كما فعل إبليس عندما استكبر وكان من الكافرين.

الطائفة الرابعة: ومضمونها هو أن أخذ التشريع من غيره تعالى يُعدّ شركاً في التشريع إذا كان من دون إذن اللَّه عزّ وجل.

1 - قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) (1) .

2 - قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) .

نتيجة الطوائف الأربع:

إنّ الإنكار على الوثنية والمشركين ليس في فكرة الوسائط، بل باقتراحهم من الوسائط ما لم ينزّل اللَّه بها سلطاناً، فشركهم بمنازعة سلطانهم لسلطان اللَّه تعالى.

إذن، فمشركو الجاهلية مع أنهم توسّلوا وتشفّعوا بالأصنام والأوثان بُغية الزلفى والتقرّب إلى اللَّه تعالى، وهم يعلمون أن الأصنام ليست غنية بالذات

____________________

(1) الشورى: 21.

(2) يونس: 59.

٦١

وإنما هي وسائط وشفعاء إلى اللَّه عزّ وجل، مع ذلك كلّه اعتبرهم اللَّه تعالى من المشركين؛ وليس ذلك إلّا لكون محطّ الإنكار عليهم ليس في نظرية وعقيدة الحاجة إلى الوسائط، بل لكون الوسائط والشفعاء التي تشفّعوا بها لم يأذن بها اللَّه تعالى، ولم تكن بإرادته وسلطانه، وإنما هي من تحكيم سلطانهم على سلطان اللَّه تعالى.

وهذه الطوائف من الآيات مفسّرة لكلّ آيات الإنكار على المشركين والوثنيين - عبدة الأصنام - وغيرهم، وأين هذا من المعنى الذي يتوخّاه المنكرين لأصل التوسيط والوساطة؟! إذ جهة الزيغ والانحراف ليس في أصل فكرة الوسائط والوسائل والاحتياج إليها، بل من جهة كونها بإرادة العبيد وتحكيمها على إرادة الربّ وسلطانه.

2 - قصة آدم مع إبليس:

إنّ هذه الملحمة تعدّ من أوضح الأدلّة على ضرورة التوجّه إلى الوسائط والحجج الإلهيّة لطلب الزلفى والقرب من اللَّه عزّ وجل.

وهذه الواقعة تضفي بلونها على جميع أصول الدين؛ إذ هي جاءت لتعيين مصير ومعالم مسار البشرية في مبدأ وفاتحة الخليقة، وذلك واضح لمن تتبّع الآيات التي استعرضت هذه الواقعة.

ونحن هنا نتعرّض إلى ما له صلة بالمقام:

وفيما يلي نذكر بعض السور والآيات التي استعرضت القصة:

1 - قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى

٦٢

وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (1) .

2 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (2) .

3 - قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (3) .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ ِلأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (4) .

5 - قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ

____________________

(1) البقرة: 34.

(2) البقرة: 71 - 78.

(3) الأعراف: 11 - 13.

(4) الحجر: 28 - 35.

٦٣

الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (1) .

هذه بعض الآيات التي تعرّضت للواقعة التي هي محلّ البحث.

وقد احتوت هذه القصّة على دلالات متعدّدة تنصّ على أسس المعارف الاعتقادية، وأحد تلك الجوانب المهمّة في القصّة هي أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود لآدم، وذلك ضمن عدّة تعابير تبيّن شدّة الأمر بالانقياد والخضوع لآدم عليه‌السلام كقوله تعالى: ( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) (1) ؛ حيث احتشدت فيها الدوالّ التأكيدية كـ: (هم) و (أجمع) و (كلّ) و (الملائكة) وغيرها، وكقوله تعالى: ( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ؛ فهو أمر بالوقوع للسجود مباشرة بلا فصل. ولا يخفى ما في التعبير بالوقوع من شدّة الخضوع والطواعية وانقياد الملائكة لآدم عليه‌السلام .

وعلى ضوء مقالة أصحاب الشبهات المتقدّمة الجاحدين للتوسّل يكون امتناع إبليس من السجود عين التوحيد، فحيث إن إبليس أبى جعل الواسطة، يكون أكبر موحّد؛ لكونه متقيّداً ومتشدّداً في العقيدة التوحيديّة وأول رائد لدعوة التوحيد ونفي العقيدة الشركيّة التي تورّط بها الملائكة بحسب زعم الجاحدين للتوسّل، ويكون إبليس على هذا صاحب تحرّر وانفتاح وشفّافية في العبادة لرفضه الواسطة، ويكون انقياد الملائكة وخضوعهم للواسطة هو الشرك الأكبر، ويكونون بذلك مغالين في آدم؛ قد خلقوا منه صنماً - والعياذ باللَّه - لتقديسه وتعظيمه، بينما

____________________

(1) الكهف: 50.

(2) الحجر: 30.

٦٤

القرآن الكريم يقرّر الحقيقة على خلاف ذلك؛ حيث يعتبر الملائكة موحدين مطيعين، أصبحوا بسجودهم في غاية القرب للَّه تعالى؛ لامتثالهم وطواعيَّتهم للأوامر الإلهيّة، وفي الوقت ذاته حكم على إبليس بالكفر؛ حيث عبّر عنه بأنّه كافر مستكبر مدحور ملعون مطرود عن ساحة الرحمة الإلهيّة.

ولا يستقيم معنى كفر إبليس وتوحيد الملائكة في القرآن الكريم إلّا على الضابطة التي ذكرناها؛ وهي: أنّ المدار في الطاعة والعبادة وتوحيد اللَّه تعالى على وجود الأمر الإلهي، فمع مخالفة الأمر الإلهي يتحقّق الكفر والشرك وإن كان مضمون المخالفة هو رفض الوسائط، وذلك ما صنعه إبليس فأصبح مذموماً مدحوراً. وأمَّا الملائكة الذين انقادوا وخضعوا للأمر الإلهي، فهم الموحّدون المطيعون، ولو كان ذلك عن طريق الواسطة والسجود لآدم عليه‌السلام ؛ سواء فُسّر السجود بمعنى جعل آدم قبلة لهم أم بمعنى الاحترام والتعظيم والانقياد لآدم والخضوع له.

إذن، أصبح إبليس في غاية البعد من اللَّه عزّ وجل واستحقّ الطرد من رحمة اللَّه تعالى؛ لاستكباره على طاعة الأمر الإلهي ولأنّه أراد أن يُحكّم إرادته وسلطانه على إرادة الباري تعالى وسلطانه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي، قال إبليس: (ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، فقال جلَّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد) (1) ؛ وليس ذلك إلّا لكون عبادته التي يزعمها - مع رفضه السجود لوليّ اللَّه وواسطته - تكبّراً وتجبّراً على اللَّه عزّ وجل وتحكيماً لسلطانه

____________________

(1) تفسير القمي، ج1، ص42.

٦٥

على سلطان اللَّه تعالى، وهذا ينافي مضمون حقيقة العبادة التي هي الخضوع والطواعية للأوامر الإلهية؛ إذ ليس مدار العبادة على وجود الواسطة وعدمها كما سبق.

فإبليس في حقيقة الأمر كان عابداً لهواه، والعابد أصبح هو المعبود لنفسه؛ إذ لم تكن عبادته خاضعة للأوامر الإلهية. ثم إن مقام السجود والخضوع والانقياد لآدم عليه‌السلام لم يكن من مختصّاته، بل إن ذلك مقام الخلافة الإلهيّة، فكلّ مَن يتحلّى بهذا المقام ويتسنّم منصب الخلافة يكون مسجوداً للملائكة والجنّ وغيرهم ممّا خلق اللَّه عزّ وجل.

إذن، فالخطاب والأمر بالسجود شامل لكلّ خلفاء اللَّه تعالى، خصوصاً وأن بعض الخلفاء الإلهيّين أعلى وأشرف منزلة من آدم عليه‌السلام في مقام الخلافة.

وعلى ذلك صحّ أن يقال: إن الآيات والأمر الإلهي بالسجود شامل وعام؛ أي اسجدوا لمحمّد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهارون وداود وأوصياء الأنبياء عليهم‌السلام ، الذين هم خلفاء اللَّه في الأرض بنحو أشدّ وأكثر خضوعاً ممّا كان لآدم عليه‌السلام . ومعنى ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ يُطوِّع جميع مخلوقاته ويأمرهم بالخضوع إلى خليفته ويأمرهم بالسجود له، أي يفترض عليهم ولايته وطاعته، بمعنى أن يتوجّهوا في عباداتهم إلى اللَّه تعالى بالخليفة الذي جعله واسطة بينه وبينهم؛ وهذا هو معنى جعل وليّ اللَّه قبلة يتوجّه به إلى اللَّه تعالى.

وقد ورد التعميم في حكم السجود والخضوع لمطلق الخليفة في قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ

٦٦

مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (1) ، فالبشر الذي خلقه اللَّه تعالى من طين وشرّفه بروح منه، وهو روح القدس، لابدّ من السجود والخضوع والانقياد له في التلقّي عن اللَّه تعالى.

ملحمة إباء إبليس وسجود الملائكة

لا زالت راهنة مستمرّة في هذا العصر

وإذا عرفت هذا وتمعّنت فيه يتّضح لك أن الملائكة وسائر الموجودات المخلوقة لا زالت ساجدة خاضعة منقادة لوليّ اللَّه وخليفته في أرضه، ولا زال إبليس وأعوانه وأتباعه وأشياعه من الجنّ والإنس يستكبرون على خليفة اللَّه، وينكرون وساطته ويرفضون الخضوع له والتوجّه إليه والتوسّل به إلى اللَّه تبارك وتعالى.

وهذا الذي ذكرناه كما ينطبق على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك يصدق على الأوصياء الأصفياء والأئمّة والخلفاء من بعده من أهل بيته عليهم‌السلام . وهذا أيضاً نداء قرآني للمسلمين وكافّة البشر بالانقياد لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ بمعنى الخضوع لهم والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجلّ في مقام العبادة، وهذا هو النمط الثاني لفرض ولايتهم وطاعتهم عليهم‌السلام ، مضافاً إلى النمط الأول وهو معرفتهم والإيمان بهم.

والحاصل: أن ما اقترحه إبليس على اللَّه عزّ وجلّ من السجود المباشر من دون توسيط وليّ اللَّه تعالى، وهو آدم عليه‌السلام ، عين الشرك والكفر؛ لأنّه تكبّراً وتجبّراً

____________________

(1) ص: 72 - 71.

٦٧

وتمرّداً على اللَّه عزّ وجل، وهو ينافي العبادة والعبودية التي مدارها على الطواعية والانصياع.

والملائكة في سجودهم لآدم موحّدون في العبادة؛ لكونهم خاضعين منقادين لأمر اللَّه عزّ وجلّ، وهو معنى العبادة والاستسلام لإرادة الباري عزّ وجل. وكان سجودهم وخضوعهم وانقيادهم لآدم عبادة للَّه تعالى وطاعة له؛ لكونها ناشئة عن أمره عزّ وجل؛ ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال في سجود الملائكة: (لم يكن سجودهم عبادة له، وإنما كان سجودهم طاعة لأمر اللَّه عزّ وجل) (1) .

وهذا هو الفارق الأساس الذي يفصل بين التوجّه لأحجار الكعبة الشريفة وبين التوجّه للأصنام، مع أن كلّ منهما حجر؛ فهذا شرك وذاك توحيد، ومداره وجود الأمر الإلهي وعدمه.

ثمّ إنّ السجود لآدم والسجود تجاه الكعبة والتبرّك بالحجر الأسود وغير ذلك ليس عبادة لها، بل هي عبادة لصاحب الأمر، وهو اللَّه عزّ وجل، فهو الذي أمر بذلك، والعباد منقادون مطيعون لأمره تبارك وتعالى.

الإمامة ركن التوحيد:

ومن المعالم المهمّة أيضاً، والتي استعرضتها الآيات القرآنية في قصّة آدم هي الولاية والخلافة، فالتوحيد في العبادة لا يكون إلّا بالانصياع والتذلّل لخليفة

____________________

(1) بحار الأنوار، ج16، ص342.

٦٨

اللَّه تعالى المنصوب من قبله عزّ وجل، فإبليس الذي استكبر على الخلافة والإمامة في الأرض كافر بنصّ القرآن الكريم، والملائكة الذين خضعوا وسجدوا لخليفة اللَّه تعالى موحّدون في العبادة.

فالإمامة معلم من معالم توحيد اللَّه تعالى في الطاعة، والمطيع والخاضع لوليّ اللَّه ووسيلته، هو الموحّد الحقيقي، وبذلك يكون الكون بأجمعه مأموراً بالطاعة والانقياد لمقام الخلافة والإمامة في الأرض، بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، حيث أخذ اللَّه عزّ وجلّ الولاية للإمام والخليفة على جميع الملائكة، فمن يأبى ذلك يندرج تحت قوله تعالى: ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) .

ولا شكّ أن الإيمان بهذه العقيدة من مختصّات المذهب الإمامي، الذي آمن بأن السبب المتّصل بين الأرض والسماء لم ينقطع بعد وفاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن الولاية الفعلية للَّه تعالى والحاكمية السياسية والقضائية والتنفيذية والتشريعية، لا زالت قائمة بعد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فولاية اللَّه تعالى في تدبير النظام الاجتماعي - بشكل مطلق - غير معطّلة.

وبذلك كلّه نخلص إلى أنّ إنكار الواسطة المنصوبة من اللَّه عزّ وجلّ هو ما قام به إبليس، حيث يدّعي التوحيد في العبادة، لكن باطن دعواه الشرك، فلابدّ أن يُلتفت إلى أن العبادة في جوهرها وروحها ليست بهيئة السجود أو الركوع أو تحريك اللسان أو بالقصد إلى بيت اللَّه الحرام فيما إذا كان المكلّف يحمل في طيّات نفسه الإباء والاستكبار على ربّه، فإن هذا هو محطّ الكفر والصنمية والفرعنة.

٦٩

ضابطة العبادة:

ومن هنا قد ينبثق إشكال - أشرنا إليه سابقاً وأجبنا عنه إجمالاً - نحاول أن نجيب عنه بشي‏ء من التفصيل.

وحاصل الإشكال؛ هو: أن البحث انتهى بنا إلى أن المدار في العبادة على قصد الأمر وعدمه، فلو كان كذلك فهل يعقل أن الباري يأمر بعبادة غيره؟!

فإذا كان ذلك غير معقول، فلا يكون المدار على وجود الأمر وعدمه، بل المدار على تخصيص العبادة باللَّه تعالى وعدم تخصيصها به.

وبعبارة أخرى: لو كان المدار على وجود الأمر وعدم الأمر، لكان من المعقول أن اللَّه تعالى يأمر بعبادة غيره، والحال أن القرآن الكريم في آيات عديدة ينهى عن الكفر والشرك وعبادة غير اللَّه تعالى. وحينئذٍ يكون المدار على ذات الفعل وذات الخضوع، فإن كان لغير اللَّه فلا يعقل أن يؤمر به من قبل اللَّه عزّ وجل، وإن كان للَّه عزّ وجلّ فهو العبادة التوحيدية، فالخضوع والفعل العبادي لا يقبل التوسيط، بل لابدَّ من توجيهه وتخصيصه وإضافته إلى اللَّه عزّ وجل، ولا يعقل أن يتوجّه إلى غير اللَّه عزّ وجلّ في الفعل.

فالضابطة ليس على وجود الأمر فقط، بل على إسناد الفعل أيضاً، فإذا تمحّض الفعل في الإضافة إلى اللَّه عزّ وجلّ يكون توحيداً في العبادة، وإذا امتزج الفعل في الإضافة إلى غير اللَّه تعالى يكون شركاً، فالمدار على إثبات الواسطة ونفيها.

والجواب: هو أن المدار على وجود الأمر لا غيره، والذي يُحقّق كون العبادة

٧٠

والخضوع مضافتين إلى اللَّه عزّ وجلّ دون غيره هو نفس وجود الأمر وامتثاله.

وذلك كما ذكرنا في الفارق بين التوجّه إلى الكعبة - وهي أحجار - وبين التوجّه إلى الأصنام من قبل الوثنية؛ وهو وجود الأمر وعدمه.

وبعبارة أخرى: مع وجود الأمر الإلهي لا يكون الخضوع والعبادة للواسطة، بل لأمر اللَّه محضاً، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الخضوع للَّه وإن نفيت الواسطة، بل يكون خضوعاً لهوى النفس واستكبارها.

فإن العبادة بتسالم علماء الإسلام ليس تحقّقها بالهيئة فقط، وإنما جوهر العبادة وروحها بالخضوع والطواعية والسلم والاستسلام.

ومن الواضح أن الهيئات والأفعال البدنية، من السجود والركوع وألفاظ الدعاء، من درجات العبادة النازلة في القوى الإنسانية. وأمَّا درجات ذات الإنسان العالية كقوة عقله وقلبه، فإن عبادته بالتسليم والانقياد والإذعان، وهي المعرفة الإيمانية، ومن ثَمَّ ورد أن (الأعمال بالنيّات) أي أن قيمة العبادة بلحاظ النيّة، والنيّة هي التوجّه القلبي المتولّد من الإيمان.

وعليه فما اشتهر من تقسيم التوحيد إلى توحيد الذات والصفات والأفعال وتوحيد العبادة لا يخلو من مسامحة؛ لأن التوحيد في مقام المعرفة هو توحيد عبادة أيضاً، حيث إن إذعان القلب والعقل والروح وتسليمها بتوحيد الذات والصفات والأفعال خضوع للباري تعالى، وإخبات وتسليم، فهي عبادة للَّه من العقل والقلب والروح، ولا يمكن أن يكون للبدن والنفس عبادة للَّه ولا يكون للعقل والقلب والروح عبادة للَّه بالإيمان والإذعان والتسليم والإخبات وعدم الجموح والتمرّد على اللَّه تعالى، إذ أن جوهر العبادة هو التسليم والانقياد

٧١

والطاعة والطواعية وكون العبد طيِّعاً مطاوعاً.

فإذا أمر الباري تعالى بهيئة معينة في العبادة فطاعة ذلك الأمر هو العبادة التوحيدية وإن كان لهيئة العبادة المأمور بها علاقة وإضافة إلى وسيلة وواسطة معيّنة، فقوله تعالى: ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) إنما هو جعل إلهي للواسطة والوسيلة، وهي الكعبة، وهذا لا يعني أن اللَّه تعالى يأمر بعبادة الكعبة والسجود والخضوع لها، بل إنما السجود والخضوع له تبارك وتعالى، وباب التوجّه إليه عزّ وجلّ هي الكعبة، فهي وجه اللَّه عزّ وجل؛ حيث أطلق الباري على الكعبة والمسجد الحرام بأنه وجه اللَّه، لأنه تعالى قال: ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ، والوجوه إنما يقابلها وجه يكون واسطة بين العبد والمعبود. ثم بعد ذلك يُعقّب اللَّه عزّ وجل بـ: أنني عندما أقول توجّهوا إلى الكعبة واجعلوها قبلة ووجهاً لا يعني انحصار الوجه الإلهي بالكعبة، بل ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنََما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (2) ، وإنما الوجه الأساس الذي جعل في التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة هو الكعبة الشريفة.

فإذا كانت الكعبة تستحقّ أن تكون وجهاً للَّه تعالى، فكيف لا يكون سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهاً من وجوه اللَّه عزّ وجل، بل أعظم الوجوه للَّه تعالى؟!

مع أن الكعبة المشرّفة عبارة عن أحجار.

____________________

(1) البقرة: 144.

(2) البقرة: 115.

٧٢

نعم المجسّمة يقولون إن وجه اللَّه تعالى هو العضو الجسماني منه، وهو قول باطل بالضرورة؛ إذ لا وجه ولا يد ولا رجل للَّه عزّ وجل؛ بمعنى أنه عين ذاته. نعم، يده من مخلوقاته بمعنى القدرة والتصرّف، ووجهه بمعنى التوجّه إليه تعالى بآياته، التي هي علامات ودلالات مخلوقة للَّه تعالى لابدّ من الاستدلال بها على ذي الآية.

وحينئذٍ فالمدار على وجود الأمر، وهو الذي يخصّص الخضوع بكونه للَّه تعالى لا لغيره وإن أضيف إلى الواسطة؛ إذ ليست هي إضافة خضوع وعبادة، بل إضافة وسيلة وتوجّه بحسب ما هو الأمر الإلهي، والأمر هو مقام الآمرية والمولوية للَّه عزّ وجلّ، وإعمال سلطنة على العبد، وانقهار العبد واستسلامه لإرادة مولاه يُعدّ عبادة لمولاه لا لغيره، فمع وجود الأمر لا يعقل أن تكون العبادة لغير اللَّه، لأن العبادة التي هي الطاعة لغير اللَّه لا يتحقّق معناها مع وجود الأمر من اللَّه تعالى، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الإتيان بالفعل طاعة وعبادة للَّه وإن حذفت الوسائط، بل يكون شركاً وطاعة لهوى النفس وتكبّراً واستكبار على آيات اللَّه تعالى وحججه.

والحاصل: إن المدار في العبادة ليس على هيئة الأفعال والطقوس فحسب، كما تسالم على ذلك علماء المسلمين من فقهاء ومحدِّثين ومتكلّمين ومفسّرين، فإن اللّاعب الرياضي قد يتخذ هيئة خاصة كالسجود والركوع وغيرهما، ولكن قصده الرياضة من شدّ عضلات الظهر أو الركبتين أو غيرها، وكذا دفع الخمس أو الزكاة بقصد الرشوة أو السمعة والرياء، فإن ذلك كلّه ليس من العبادة، وإن كانت هيئته هيئة عبادية؛ وليس ذلك إلّا لكونه خارجاً عن إطار

٧٣

الأوامر الإلهية.

ولذا كان امتثال الأمر الإلهي بالسجود أو الركوع إلى الكعبة والاعتكاف في المسجد والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة والازدلاف إلى منى والطواف حول البيت الحرام ليس عبادة للكعبة أو المسجد أو عرفة أو غيرها، وإنما إضافة تلك الهيئات العبادية إليها إضافة امتثال وطاعة وتوسّل وتوجّه إلى اللَّه تعالى انقياداً لأمره، ولا يعني ذلك صنمية أو عبادة لتلك البقاع الطاهرة؛ إذ مع وجود الأمر الإلهي يكون الامتثال انقهاراً واستسلاماً من العبد لربّه، ولا يمكن أن تكون عبادته عبادة لغير اللَّه تعالى، بل قد تكون أفعال ونسك الحج والصلاة إلى الكعبة شركاً كما كان في عهد الجاهلية قبل الإسلام، وتكون توحيداً إذا كانت بولاية ولي اللَّه - وهو الرسول - كما في أفعال الحج بعد الإسلام، فالسجود والخضوع لمِن أمر اللَّه عزّ وجلّ بالخضوع له طاعة للَّه بالأصالة، وليس المسجود له إلّا واسطة في العبادة، وآية في المعرفة والانقياد.

3 - الآيات البينات في المسجد الحرام:

قال تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (1) ، فالآية تتحدّث عن بناء البيت الحرام وأنه أوّل بيت وأشرف بيت وضع للناس لأجل عبادة اللَّه تعالى، فهو إمام المساجد وأوّلها، ومنه تتشعّب بقيّة بيوت اللَّه تعالى التي وضعت للعبادة، ففي

____________________

(1) آل عمران: 96 - 97.

٧٤

الآية الكريمة مزج بين حقيقتين:

الأولى: أن البيت الحرام هو أوّل بيت وضع للعبادة وللحجّ.

الثانية: ما يحويه هذا البيت المبارك من آيات بيّنات؛ وهي مقام إبراهيم، ومَن دخله كان آمناً.

فعندما أراد اللَّه تعالى أن يبيّن حقيقة بيته المبارك وأنه وضع للعبادة والتوحيد والتطهير من الشرك والهداية للعالمين، ذكر سبب ذلك؛ وهو أنه فيه آيات بيّنات.

إذن الركن الركين في ماهية البيت الإلهي وفي كونه هداية للعالمين ومحلّاً للعبادة والتوحيد ونفي الشرك هو كونه فيه آيات بيّنات، فالذي يُعَظِّمْ شأنه ويجعل العبادة فيه عبادة توحيدية توفّره على تلك الآيات البيّنات. والعطف في الآية المباركة عطف بيان، فالآيات المقصودة في الآية المباركة هي مقام إبراهيم عليه‌السلام أوّلاً، ومَن دخله كان آمناً ثانيا ً، وهاتان الآيتان في البيت الحرام ذُكرا على سبيل التمثيل لا الحصر؛ ولذا جاء التعبير في الآية بلفظ الجمع وهو (آيات بيّنات).

فالبيت الذي وضع للناس من أجل العبادة والهدى ونفي الشرك ميزته التي جعلته كذلك هي أنه فيه آيات بيّنات، والحجّ الذي هو شرعاً القصد إلى بيت اللَّه الحرام للوفود على اللَّه تعالى جُعل مقروناً بالآيات، وهي مقامات الأنبياء وقبورهم ومناسكهم؛ ليكون دليلاً وشاهداً على أن التوجّه والسير إلى اللَّه عزّ وجلّ لا يتمّ إلّا بالتوجّه بأنبيائه وأصفيائه والتوسّل بهم إلى اللَّه تعالى.

فلا ينفكّ توحيد اللَّه وعبادته عن التمسّك بالآيات البيّنات، كما مرّ ذلك في

٧٥

سورة الأعراف؛ وهو قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) (1) ، حيث ربطت بين التمسّك بالآيات وبين استجابة الدعاء والتقرّب وقبول الأعمال والنجاة من النار.

وفيما يلي نحاول استعراض بعض هذه الآيات البيّنات الموجودة في البيت الحرام؛ وهي:

1 - مقام إبراهيم عليه‌السلام .

2 - الأمن والأمان بالنسبة إلى داخليه من الحجّاج والمعتمرين وغيرهم.

3 - المستجار أو الملتزم.

4 - حجر إسماعيل وقبره وقبر اُمِّه وقبر سبعين نبيّ.

5 - الصفا والمروة.

6 - الحجر الأسود.

7 - مشاعر الحجّ ومناسكه، كالمزدلفة ومنى والجمرات وعرفة.

مقام إبراهيم:

هذه الآية الإلهية من أبرز معالم وآيات المسجد الحرام، وقد نصّت على ذلك الآية التي هي محلّ البحث، وقد ورد في سورة البقرة أيضاً قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى

____________________

(1) الأعراف: 40.

٧٦

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (1) ، والتعبير بـ(مقام) في كلا الآيتين للدلالة على التفخيم والتعظيم لذلك المكان، وهو حجر من الأحجار كما في قوله تعالى: ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ) (2) ، وقوله تعالى: ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) (3) ؛ وليس ذلك إلّا لكونه لامس بدن إبراهيم عليه‌السلام ، حيث كان يقف عليه عند بنائه للبيت الشريف.

فهذا الحجر عظّمه اللَّه تعالى وفخّمه وسمّاه مقاماً، وأمرنا أن نتّخذه مصلّى؛ أي نتّخذه قبلة بالاتجاه إليه وإلى الكعبة أثناء صلاة الطواف وغيرها في شعيرة الحجّ والعمرة، التي هي القصد والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل، فالحاج عندما يريد أن يقصد ويتوجّه إلى ربّه بعمرة أو حجّ في الطواف وفي بيت التوحيد ومعقله، لابدّ له من التوجّه بالحجج والوسائط والآيات إلى اللَّه تعالى، وهو مقام إبراهيم والكعبة المشرّفة، وليس ذلك كلّه إلّا لتبرّك الحجر بملامسة بدن إبراهيم عليه‌السلام ، فيتوجّه به إلى اللَّه في الصلاة، فلا يستطيع المسلم أن يتجنّب أو يستبعد آيات اللَّه وحججه في أبرز معالم التوحيد، وهو الحجّ.

وإذا كان الحجر بملامسته بدن إبراهيم عليه‌السلام هذا حاله، فكيف بك بنفس النبيّ إبراهيم؟ ألا يتوجّه به إلى اللَّه عزّ وجلّ بالأولوية، فيقال: يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه؟!

وقد جاء في دعاء الندبة ما يقرِّب من هذه المضامين.

والحاصل: إن هناك رمزاً آخر بالإضافة إلى رمزيَّة الكعبة؛ لابدّ من التوجّه

____________________

(1) البقرة: 125.

(2) سورة النازعات: 40.

(3) سورة الإسراء: 79.

٧٧

إليه واستقباله في الصلاة، ومن لم يصلِّ صلاة الطواف إلى المقام والكعبة معاً، فصلاته باطلة، وبالتالي يكون نُسكه باطلاً وقصده إلى الباري تعالى لم يتحقّق؛ لعدم إتيان البيوت من أبوابها.

بيان آخر للآية الكريمة:

ثبت في علم الأصول أن الحكم معلول لموضوع نفسه، ولا يمكن أن يكون علّة له، ففرض الموضوع سابق ومتقدّم على فرض الحكم، والحكم في قوله تعالى: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) هو وجوب اتخاذ المقام مصلّى، والموضوع هو مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ومتعلّق الحكم هو استقبال مقام إبراهيم عليه‌السلام في الصلاة؛ وحيث إن الموضوع سابق على الحكم سبق العلّة على معلولها، فلابدّ من فرض المفروغية عن جعل سابق لتحقّق الموضوع في نفسه، وهو كون مقام إبراهيم عليه‌السلام محلّ للقربات والتعبّد والبركة والقداسة، وحينئذٍ - وبعد الفرغ عن ذلك - يأتي المحمول؛ وهو وجوب اتخاذه مصلّى باستقباله في الصلاة إلى جهة الكعبة.

فالحكم دالّ على أن للموضوع أسبقية في القداسة وكونه معلماً من معالم الدين، وليس المقام المذكور إلّا صخرة لامست قدمي إبراهيم عليه‌السلام ، فتقدّست بذلك وأصبحت ذات حرمة يتولّد منها وجوب اتخاذه مصلّى؛ بأن يُجعل قبلة مع الكعبة، فيستقبل في صلاة الحجّ والطواف في بيت اللَّه الحرام، ويتقرّب بالاتجاه به إلى اللَّه تعالى.

٧٨

فالمثابة إلى بيت اللَّه الحرام من دون اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى يكون وثناً وشركاً كعمل المشركين ومناسكهم.

ومن ذلك يتّضح أن البيت الحرام إنما يجب أن يقصد بشرط؛ وهو أن تُقرن العبادة التوحيدية للحجّ بوليّ اللَّه إبراهيم عليه‌السلام والمقامات المقدّسة والمشاهد المشرّفة التي حلّ فيها أو لامست بدنه المبارك، فالمسلم يقصد في حجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ الوصول إلى آثار الأنبياء ومقاماتهم؛ لكونها مواطن شعّرها اللَّه عزّ وجلّ وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربى والزلفى إليه تعالى.

وإذا كانت صخرة لامست قدمي إبراهيم عليه‌السلام لها تلك القداسة والعظمة والبركة، فكيف بك بمشاهد النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام الذين هم أفضل وأعظم من إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم‌السلام ؛ حيث نصّ القرآن على كون علي عليه‌السلام بمنزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا مقام لم يحظَ به أحد من الأنبياء والمرسلين، وكذلك قرنهم اللَّه تعالى بنبيّه في مواطن عديدة كما سيأتي بيانه، اختصهم بذلك دون بقية الأنبياء والمرسلين، كما نعتهم بأنهم أوتوا علم الكتاب كلّه في قوله: ( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (1) ، وهم أهل آية التطهير، وكذا ما في قوله تعالى: ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (2) بينما لم يثبت اللَّه تعالى علم الكتاب كلّه لأحد من الأنبياء، ففي النبي عيسى عليه‌السلام قال تعالى على لسانه: ( وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (3) ، وفي شأن النبي موسى عليه‌السلام :

____________________

(1) الواقعة: 79.

(2) الرعد: 43.

(3) الزخرف: 63.

٧٩

( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً ) (1) فلم يكن من مقامهما عليهما‌السلام أن يبيّنا كلّ ما يختلف فيه بني إسرائيل، ولم يكتب في ألواح موسى عليه‌السلام كلّ شي‏ء، بل من كل شي‏ء؟! وعلى هذا كلّه ألا تكون مشاهدهم والأماكن التي حلّوا فيها محلّاً للبركة والقداسة وموجبة للزلفى إلى اللَّه (عزّ وجل)؟!

إذن؛ هذه الآية المباركة تفيد عموم التبرّك بمواضع الأنبياء والأولياء وأنه من صميم التوحيد ونبذه من صميم الوثنية والجاهلية؛ وليس ذلك إلّا لكونها من شعائر اللَّه، فيجب تعظيمها تعظيماً للَّه تعالى، فهذه الآية الكريمة دالّة بالنصّ على تشعير مواطن الأنبياء والمصطفين للقربى والعبادة.

ثُم إنه لا يخفى ما في التعبير بـ(المقام) في الآية المباركة من الدلالة على ما تقدّم؛ لأن التعبير بـ(مقام) له دلالة شرعية أديانية بكون ذلك المكان محلّاً يتبرّك به.

وهكذا إضافة المقام إلى إبراهيم مُشعر بالعليّة، فليس ذلك الحكم حكماً لكلّ حجر، بل الحجر المنتسب إلى إبراهيم عليه‌السلام ، بل قد حكى القرطبي في تفسيره - عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء -: أن مقام إبراهيم الحج كلّه. وعن عطاء: أنه عرفة ومزدلفة والجمار. وقاله الشعبي النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم. وقاله مجاهد (2) . فعلى هذه الأقوال في تفسير مقام إبراهيم يتّضح جليّاً أن الحج والحرم كلّه قد مُلأ ببصمات وإضافات منتسبة

____________________

(1) سورة الأعراف: 145.

(2) تفسير القرطبي، ج 2، ص 113.

٨٠