التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي0%

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 550

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 153039
تحميل: 5804

توضيحات:

التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153039 / تحميل: 5804
الحجم الحجم الحجم
التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي

التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي

مؤلف:
العربية

وتكوّنت بسرعة; لأنّ الحكومات رَمَّزَتهما بالقوّة والتبليغ والترغيب والترهيب.

وأ مّا رمزية ظلامة أهل البيت وغصب الغاصبين فلم تترمّز إلاّ بعد جهد جهيد وبعد ‏آلآف الضحايا والقرابين، إذ لم يكن من السهل أن تثبت لعموم الناس ما فعله الشيخان ‏وأتباعهما بأهل البيت إلاّ بمرور الأ يّام والليالي، وهذا ما حدث بالفعل.

هذا و إنّ التسميات خاضعة لما يهدف إليه المُسَمِّي من وراء تسمية ابنه، وقد اكدنا ‏اكثر من مرة على أن التسمية من الأمور القلبية فلو وَضَعَ شخص اسم عمر على ابنه مثلاً ‏بلحاظ تقنين وتأييد هجوم عمر على بيت الزهراء وغيرها من الأمور التي فعلها ضد أهل ‏البيت فهو غير جائز، أمّا لو وضعَهُ لجمالية اسم عمر وكونه معدولاً عن عامر، ‏ولاستلطافه هذه الكلمة دون أن يلحظ فيها شخصاً معيناً اساء إلى العترة بل ينظر إلى الاسم ‏كآسم فقط فلا مانع من ذلك.

تفسير قول رسول الله: إذ ظلمت العيون العين

ولعلّ في حديث العيون خير شاهد على أنّ الملاك هو أفعال المسمّى لا نفس الاسم، ‏إذ اشترك اسم المظلوم أميرالمؤمنين ‏(‏ علي ‏)‏ مع أسماء ظالميه في حرف العين، وهم: ‏عتيق، وعمر، وعثمان، وعبدالرحمان بن عوف، وعائشة، ومعاوية(١) ، ‏وعبدالرحمان بن ملجم.

فعن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظلمت العيونَ العينَ، ‏كان قتل العين على يد الرابع من العيون، فإذا كان ذلك استحقّ الخاذل له لعنة الله والملائكة ‏والناس أجمعين، فقيل له: يا رسول الله ما العين والعيون ؟ فقال: أ مّا العين فأخي عليّ بن ‏أبي طالب، وأمّا العيون فأعداؤه، رابعهم قاتله ظلماً وعدواناً(٢) .

وقد أخبر أميرالمؤمنينعليه‌السلام حذيفة - وهو من أصحاب سرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - بالأمر على وجهه بعد أن لم يكن فهم مغزاه ولم يسأل عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال ‏

____________________

١- لأنّ معاوية مأخوذ من عوى. انظر لسان العرب ١٥: ١٠٨، تاج العروس ١٩: ٧١٤.

٢- معاني الأخبار: ٣٨٧ ح ٢٢.

١٦١

حذيفة بن اليمان لعليّ بعد الشورى وبيعة عثمان:‏

إنّي والله ما فهمت قولك ولا عرفت تأويله حتّى بلغت ليلتي أتذكر ما قلت لي بالحرة ‏و إنّي مقيل: كيف أنت يا حذيفة إذا ظلمت العيونُ العينَ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين ‏أظهرنا، ولم أعرف تأو يل كلامك إلاّ البارحة، رأيت عتيقاً ثمّ عمر تقدما عليك وأوّل ‏اسمهما عين، فقال: يا حذيفة نسيت عبدالرحمان بن عوف حيث مال بها إلى عثمان، ‏وسيضمّ إليهم عمرو بن العاص مع معاوية(١) .

وفي رواية: ثمّ أخوهم عبدالرحمن بن ملجم(٢) .

وفي رواية البرسي أ نّهعليه‌السلام كان يقول لابن عبّاس: كيف أنت يابن عم إذا ‏ظلمت العيونُ العينَ، فقال له: يا مولاي كلّمتني بهذا مراراً ولا أعلم معناه، فقالعليه‌السلام : عينُ عتيق، وعمر، وعبدالرحمان بن عوف، وعينُ عثمان، وستضمّ إليها عينُ ‏عائشة، وعينُ معاوية، وعينُ عمرو بن العاص، وعينُ عبدالرحمان بن ملجم، وعينُ ‏عمر بن سعد(٣) .

فهذه الأسماء كلّها تشترك بحرف العين، لكنّ البون شاسع بين المظلوم والظالم، فلا ‏يمكن أن نمنع من التسمية بهذه الأسماءِ الظالم أصحابها لأ نّها مشتركة في حرف ‏العين(٤) . بل أفعالُ المسمَّين هي الملاك، لذلك قال بعضهم: ‏

____________________

١- مناقب ابن شهر آشوب ٢: ١٠٣.

٢- الصراط المستقيم ٣: ١٢.

٣- مشارق أنوار اليقين: ١٢٣ ( في حقائق اسرار أمير المؤمنين ).

٤- من الطريف ان ننقل ما حكاه الجاحظ عن الاخرين كي تعلم بأن الشيعة لا تتعامل مع الأسماء والكنى وحتى ‏الحروف كما تعامل الآخرون معها، فالشيعة اعلى شاناً وأكرم منزلة مما حكاه الجاحظ عن رجل من رؤساء ‏التجار: أ نّه لقى شيخاً شرساً سيء الاخلاق يكره الشيعة فقال له: ما الذي تكرهه من الشيعة ؟ فقال: ما اكره ‏منهم إلاّ هذه الشين في أول اسمهم فاني لم اجدها قط إلاّ في كل شر وشوم وشيطان وشغب وشقاء وشنار وشرك ‏وشَوك وشكوى وشهوة وشتم وشُح، قال أبو عثمان ‏ ‎ [ ‎ الجاحظ ‎ ] ‎ ‏: فما ثبت لشيعي بعدها قائمة !!! (العقد الفريد ‏‏٢: ٢٥١ قولهم في الشيعة).

١٦٢

بأنّ في هذه العيون الظالمة إلماحاً إلى عين الحسد وعين التجسّس، وفي عين عليّ ‏المظلوم إلماحاً إلى أ نّه عين الله، وعينُ الرجال، وعين الحقيقة، كما يقال: فلانٌ عينُ ‏قومه، أي خيارهم وسيّدهم، والذين لا نظير له فيهم، و يقال: فلان عين من عيون الله، ‏أي خاصّة من خواصّ أوليائه.

وعليه فما يدّعيه القوم - من أنّ وضع الإمام عليّ لهذه الأسماء كان للمحبة - هو مما ‏يجب أثباته، ودونه خرط القتاد، بل إنّ في ترك أئمّة أهل البيت لهذه الأسماء في العصور ‏اللاحقة لها دلالة على عدم محبوبيّتها عندهم، لكنّهم لا يثيرون الحساسيّة مع الأسماء، ‏و يتركونها للّبيب العاقل الذي يشخّص مدى رمزيّتها في كلّ عصر من العصور وآن من ‏الآونة.

فالتسمية بمجرّدها لا تضرّنا وليس فيها ما يدلّ على حقّانيّة الثلاثة أو عدالتهم، وكذا لا ‏تنفي عنهم ما عملوه مع آل البيت، فذاك شيء وهذا شيء آخر.

وكذلك تسمية أعداء أهل البيت أبناءهم باسم محمّد، علي، حسن، حسين، فاطمة، ‏جعفر، الخ، لا يدلّ على محبّتهم لأهل البيت وعدالتهم ووثاقتهم وحسبك جعفر ‏المتوكّل العباسي الناصبي، وعلي بن الجهم الخارجي، وصدام حسين المجرم، وعلي ‏حسن المجيد القومي، وغيرها من الأسماء المقدّسة التي تسمّى بها النواصب والأراذل.

نحن لو أردنا أن ندرس ظاهرة التسمية بأسماء الثلاثة طبقاً للاحتمالات والادعاءات ‏فهناك العشرات من هذه الاحتمالات يمكن افتراضها في هكذا أمر، وباعتقادي أنّه لا يمكن ‏البتّ والقطع بقصد الإمام علي إلاّ بنص منهعليه‌السلام ، ولا نصّ في المقام، بل ‏الشواهد والقرائن والأدلّة التاريخية لا تدل إلاّ على العداء المستحكم بينهما وتخالف ‏النهجين.

١٦٣

السير التاريخي للمسألة

١٦٤

١٦٥

المراحل البدائة للتسمية

إنّ قضية تسمية بعض أولاد الأئمّة بأسماء بعض الخلفاء مرّت بعدّة مراحل، وقد ‏وضّحنا في الصفحات السابقة المرحلة الأولى منها، وهي طلب عمر بن الخطاب من ‏الإمام علي أن يسمّي ابنه ب- ( عمر )، وكان ذلك حينما ‏(‏ قام عمر ‏)‏ بالخلافة أي بعد السنة ‏الثالثة عشرة للهجرة.

وبعد هذه المرحلة دخل الموضوع في مرحلة ثانية، وهي استغلال أتباع الخليفة هذه ‏التسمية للتدليل على وجود محبّة بين الإمام علي وعمر بن الخطاب، أو نفي العداوة بينهما ‏في حين أنّ الإمام كان ينظر إلى هذه المسألة كظاهرة اجتماعية ليس لها ارتباط بموضوع ‏الخلافات العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية.

وكلامي هذا لا يعني بأ نّهعليه‌السلام لم يكن يعلم باستغلال الآخرين لموضوع ‏التسمية لاحقاً، لكن كان عليه أن يتعامل مع الأُمور طبق الظواهر لا البواطن.

ولمّا رأى الإمام خروج موضوع التسمية من سياقه الطبيعي المرسوم له في الفترة ‏اللاّحقة، واتضحت وانتشرت عند الجميع أهداف عمر من هذه التسمية، أخذ الموضوع ‏طابعاً تدليسياً وتلبيسياً و إعلامياً للآخرين، مما دعا الإمام - في أواخر عهد عثمان بن ‏عفان، أو أوائل خلافته - أن يصرّح بأ نّه قد سمّى ولده الثالث من أمّ البنين الكلابية ‏ب- (عثمان) حبّاً بأخيه في الإيمان عثمان بن مظعون، أي أنّ الإمام أراد أن يقول: للناس: ‏ان التسمية لو دلت على المحبة فهي لابن مظعون لا لابن عفّان، وبمعنى آخر ‏أ نّهعليه‌السلام أراد توضيح أمرين:‏

الأول: صحيح أنّ العادة قد تدعو قسماً من الناس لاِن يسمّوا أولادهم بأسماء من ‏يحبّونهم - وهذا ما قالَهُ الإمام في سبب تسميته ابنه بعثمان - لكن لا يمكن ‏

١٦٦

تعميم هذا الأمر على كلّ الأسماء التي سمّاها الإمام قبل هذا التاريخ، وأ نّه كان حبّاً ‏بهذا أو ذاك، فهوعليه‌السلام وضّح بأنّ المسمّى عندي غير ما تتصورونه.

الثاني: خَرَّجَ الإمام بجملة ( حبّاً لأخي عثمان بن مظعون ) عثمانَ بن عفان مع من ‏سبقه من الخلفاء من دائرة التسمية للمحبّة، أي أ نّهعليه‌السلام أراد أن يقول للآخرين: ‏لا تتصوّروا أنّي سمّيت ابني بعثمان حُباً به - وخصوصاً أ نّه قال بهذا بعد مقتل عثمان - ‏لأنّ اسم عثمان ليس حِكْراً على عثمان بن عفان، فإنّي قد سمّيت ابني باسم غيره وهو ‏عثمان بن مظعون !‏

وبعبارة أوضح: أ نّه كان يريد القول: إنّي حينما قبلت تسمية ابني بعمر أو أبي بكر لم ‏يكن حبّاً لعمر بن الخطاب، بل لوجود إخوان آخرين لي مسمَّين بعمر وأبو بكر، منهم: ‏عمر بن أبي سلمة وأبو بكر بن حزم وهما من عمالي على الأمصار.

الحرب المعلنة

بعد المرحلتين السابقتين جاءت المرحلة الثالثة، وهي مرحلة أعداء الإمام علي - ‏المحاربين له عَلَناً - ودورهم التخريبي لشخصه وشخصيته من خلال إبهام النصوص(١) ‏واختلاقها والافتراء والاتّهام، والظلم، والتعسف. وهؤلاء جاؤوا ليغيّروا الضوابط ‏الشرعية والعرفية الحاكمة في المجتمع الإسلامي من العقلنة والمنطق السليم إلى العداوة ‏الباعثة على الحمق، وتهيج العاطفة، ومن الحقيقة إلى التمويه كل ذلك بغضاً لعليّ، ‏فأخذوا يثيرون الحساسيّات و يهيّجون العواطف، ولذلك انقسم المسلمون بعد رسول الله ‏إلى نهجين: مسلم أمويّ، ومسلم نبويّ، ولكلّ واحد منهما ضوابطه ومعاييره، وإن كان ‏الغالب عليهم هو النهج الأموي. مؤكدين بأن النهج النبوي كان ولا يزال موجوداً بين ‏الأمة، و يمكن التعرف عليه ‏

____________________

١- كما سيأتي بعد قليل عن عائشة وعدم ذكرها اسم الإمام علي.

١٦٧

من خلال المواقف والاراء.

أجل، أخذت ظاهرة التسمية في هذا العصر تخرج من إطارها العام، وكونها ظاهرة ‏اجتماعيّة لتدخل في معترك الصراع السياسي وموازنة القوى، وأخذ هذا العمل يؤثّر شيئاً ‏فشيئاً على من يسمّى بعليّ ومعاو ية، والأوّل يُقْتَلُ والثاني توهب له العطايا وتهدى له ‏الهدايا، وقد قلنا بأن هذا هو سلاح الضعيف ومنهجه غالباً، وأ مّا القويّ في فكره وسلوكه ‏وشخصيّته فهو يتعالى عن مثل هكذا أعمال و يستحقرها، لكنّه لمّا يرى المخطَّط عامّاً ‏وشاملا يهدم كلَّ المقدّسات ولا يختصّ بالتسميات، يدخل بكلّ قوّة للتعريف بمخطّطهم ‏الإجرامي ضدّ الإسلام والمسلمين، وكان هذا هو منهج أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ شيعة عليّ كانوا يعلمون بأنّ ولاية معاوية على الشام بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان ‏كانت بأمر عمر، وأنّ عمر بن الخطّاب هو الذي قوّى سلطان معاوية وبني أميّة، وأنّ كلّ ‏ما لاقته الشيعة في عهد معاو ية، ومروان، والحجّاج يرجع وزره على عمر الذي نصبه ‏حاكماً على رقاب المسلمين، وقد جاء إقرار عثمان لمعاو ية تبعاً لولاية عمر له.

فالشيعيّ لم يكن حسّاساً أمام التسمية باسم الثلاثه والحجاج ومروان قبل هذا التاريخ، ‏لكونها اسماء عربيّة، ولكون التسمية ظاهرة اجتماعيّة لا تعني شخصاً، لكن لمّا جعلو هذه ‏التسميات معياراً للموالاة والبراءة وتحسّسوا من التسمية باسم عليّ والحسن والحسين ‏- وخصوصاً بعد تتبّع زياد بن أبيه، والحجّاج بن يوسف الشيعة تحت كلّ حجر ومدَر، ‏حتّى صار الرجل ليقال عنه: كافر أو زنديق أحبّ إليه من أن يقال له: إنّه من شيعة ‏عليّ(١) - فلما وصلت المباعضة في الأسماء إلى هذا الحد انعكس ذلك سلباً على جميع ‏شرائح المجتمع فاشمأزُّوا من تلك الأسماء شيئاً فشيئاً.

____________________

١- شرح نهج البلاغة ١١: ٤٤.

١٦٨

و إنّي لا أستبعد أن يكون ترك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام لأسماء الثلاثة - من بعد ‏الإمام السجّادعليه‌السلام - يعود للأعمال التي اقترفها الخلفاء والأمراء حينَ وقبل ‏عهدهعليه‌السلام مثل: معاو ية، يزيد، الحجّاج، وقتلهم على الهو يّة كلّ من سُمِّيَ ‏بعليّ، ولم تكن ولاياتهم إلاّ امتداداً لحكومات الثلاثة الأوائل، فهم كانوا على خلاف فكري ‏مع أولئك لكن ذلك لا يدعهم للمخالفة مع أسمائهم، لكن لما وصل الأمر إلى هذا الحد تركو ‏التسمية بأسماء الثلاثة.

فالأئمّة أكّدوا على محبوبيّة التسمية باسم عليّ، وسمّوا بالفعل أولادهم بهذا الاسم ‏المبارك، وتركوا التسمية بغيرها كي لا يظنّ أحدٌ بأنّ التسميات بأسماء الأغيار لها دلالات ‏خاصّة، أي أنّهم تركوا التسمية بأسماء الثلاثة من بعد الإمام السجّاد متعمّدين قاصدين كي ‏لا يختلط الأمر على المتأخّرين كما اختلط على المتقدّمين، فيتصوّروا بأنّ التسمية بعائشة ‏أو عمر هي لمكانة زوجة النبيّ أو محبة لعمر بن الخطّاب، مع الأخذ بنظر الاعتبار ‏امكان وضع هذه الأسماء على بعض الطالبيين وأولاد الأئمّة للتقيّة في بعض الأحيان.

وكذا الحال بالنسبة إلى تركهم لأسماء الآخرين من الصحابة، فقد يكونون تركوها كي ‏لا ينتزع منها ما انتزع من غيرها.

وهذه المرحلة بدأَتْ بعد تسلّم الإمام علي الخلافة، واختلافه مع عائشة، ومعاوية، ‏والخوارج، و إنّ هذا الاختلاف أدّى إلى حدوث واقعة الجمل وصفين والنهروان، وهذه ‏الخلافات والصراعات جعلت الآخرين يتعاملون مع الأمور بانفعالية دون أهل البيت الذين ‏كانوا يتعاملون مع الأمور بمصداقية وعقلانية، وقد كان لهذه المرحلة أدوات بشرية، ‏أشير إلى دور شخصيّتين منهم على وجه التحديد:‏

‏١ - دور عائشة بنت أبي بكر ( ت ٥٨ ه- ).

‏٢ - دور معاوية بن أبي سفيان ( ت ٦٠ ه- ).

١٦٩

دور عائشة في التسمية:‏

أ مّا دور عائشة في التسمية، فكان انفعالياً يحمل بين جوانبه الحقد والضغينة، فقد ‏جاء في كتاب ‏(‏ الشافي في الإمامة ‏)‏ وغيره والنص منه:‏

عن مسروق، قال: دخلت على عائشة فجلست إليها تحدّثني، فاستدعت ‏غلاماً لها أسود يقال له عبدالرحمن، حتّى وقف، فقالت: يا مسروق ‏أتدري لِمَ سمّيته عبدالرحمن ؟ فقلت: لا، فقالت: حبّاً منّي لعبد الرحمن بن ‏ملجم(١) .

انظر إلى كلام عائشة لترى البغض والضغينة يطفحان على كلامها، وهو نص قد ‏صدر عنها بعد سنة أربعين للهجرة يقيناً، أي بعد شهادة الإمام عليّعليه‌السلام .

وفي هذا النص نقلةٌ نوعيّة لموضوع التسميات، حيث إنّ الإمام عليّاً - وطبقَ ‏النصوص السابقة - لم يجرح ولم يتعرّض لأحد كما فعلته عائشة في النصّ الآنف، بل ‏إنّهعليه‌السلام كما في ( تاريخ المدينة ) لابن شبّه أخبر عن ولادة مولود له ثم قبوله طلب ‏عمر في تسمية ابنه بعمر.

لكنّه لمّا رأى - من بعد - استغلال الجهاز الحاكم لهذا الأمر، أراد أن يوضّح سبب ‏تسميات أبنائه; أو قبوله بها من خلال تسمية ابنه الثالث بعثمان، مصرّحاً بأ نّه سمّاه حبّاً ‏بأخيه عثمان بن مظعون لا غير، وفي كلامهعليه‌السلام إشارة إلى جانب إيجابي، وفيه ‏توضيح لحقيقة بقيت خافية على المسلمين لذلك اليوم في سبب تسمية أبنه بعمر، فخاف أن ‏تستغل من قِبلَ الآخرين في عثمان كذلك، ولأجله قال: ( إنما سميته باسم أخي عثمان بن ‏مظعون )، فلا ترى في كلامهعليه‌السلام شيء سلبيّ كالّذي رأيناه في كلام عائشة.

أي أ نّهعليه‌السلام أراد تصحيح التصوُّرات الخاطئة التي كان يحملها بعض الناس ‏

____________________

١- الشافي في الإمامة ٤: ٣٥٦; الجمل، للشيخ المفيد: ٨٤.

١٧٠

عن سبب تسمية الإمام علي لأولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان والتي أشاعت ‏الجهات الحكومية وأ نّها كانت عن حبّ للخلفاء، كل ذلك مع عدم التصريح بشتم أو كراهة ‏اسم أحد.

وفي مجال حرب الأسماء نرى أيضاً إبهام عائشة لاسم من اتّكأ عليه رسول الله حينما ‏خرج إلى الصلاة; فعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة: أنّ عائشة قالت:‏

لمّا ثقل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واشتدّ به وجعه، استأذن أزواجَه في أن ‏يُمَرَّضَ في بيتي، فَأَذِنَّ له، فخرج النبيّ بين رجلين، تخطُّ رجلاه في ‏الأرض، بين عبّاس ورجل آخر.

قال عبيدالله: فأخبرت عبدالله بن عباس، فقال: أتدري من الرجل الآخر ؟

قلت: لا.

قال: هو علي(١) .

وفي نصّ آخر: أتدري من الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة ؟ هو: عليّ(٢) .

نعم، إنّ عائشة لم تكن على وفاق مع علي والزهراءعليها‌السلام لكن هذا لا يجيز ‏لها ان تكتم الحقيقة بحيث أنّ لا تسمي علياًعليه‌السلام فيما روته من خبر عن رسول الله.

فقد ذكر أبو الفرج الإصفهاني: أنّ عائشة سجدت شكراً لله لمّا سمعت بمقتل علي بن ‏أبي طالب(٣) .

____________________

١- صحيح البخاري ١: ٨٣ ح ١٩٥ من كتاب الوضوء باب الغسل والوضوء في المِخضَب والقدح والخشب.

٢- صحيح البخاري ٤: ١٦١٤ ح ٤١٧٨ من كتاب المغازي، باب مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته، و ‏‏١: ٢٣٦ ح ٦٣٤ من كتاب الجماعة الإمامة، باب حد المريض ان يشهد الجماعة، و ٢: ٩١٤ ح ٢٤٤٨، و ‏‏٥: ٢١٦، صحيح مسلم ٢: ٣١٢ ح ٤١٨ من كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.

٣- أنظر مقاتل الطالبيين: ٢٧.

١٧١

وحكى أصحاب المعاجم أ نّها لم تأت إلى بني هاشم لتعزّيهم بوفاة فاطمة، بل نقل لعليّ ‏عنها كلام يدل على سرورها(١) .

وقد قالت ذات مرة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لقد عرفت أنّ علياً أَحبُّ إليك ‏من أبي ومنّي، قالتها مرتين(٢) .

وحكي عنها أ نّها روت عن رسول الله قوله في علي: إنه يموت على غير ديني(٣) !!‏

وقولها عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار فلينظر ‏إلى هذين، فنظرت عائشة فإذا بعلي والعبَّاس قد أقبلا(٤) .

وقد أشار الإمام علي إلى هذه الحقيقة في كتاب له: وأ مّا فلانة فأدركها رأي ‏النساء، وضِغنٌ غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دُعيتْ لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم ‏تفعل(٥) .

وهذه الشخصية المبغضة لعلي وفاطمة هي التي دعت أمثال الشيخين أن يخصّاها ‏بالعطاء أكثر من غيرها.

وتلك المواقف الكارهة حَتّى لاسم علَيٍّ هي التي جعلت معاوية يهدي إليها معاوية حلقاً ‏فيه جوهر مائة ألف درهم دون غيرها من نساء النبي(٦) .

وأخرج أبو نعيم: إنّ معاو ية أهدى لعائشة ثياباً ووَرِقاً وأشياء توضع في ‏أُسطوانها(٧) .

____________________

١- شرح نهج البلاغة ٩: ١٩٨.

٢- مسند أحمد ٤: ٢٧٥ ح ١٨٤٤٤، مسند البزار ٨: ٢٣٣ ح ٣٢٧٥، مجمع الزوائد ٩: ١٢٧، قال رواه ‏البزار ورجاله رجال الصحيح.

٣- شرح نهج البلاغة ٤: ٦٤.

٤- شرح نهج البلاغة ٤: ٦٤.

٥- نهج البلاغة: ٢١٨، الخطبة ١٥٦، شرح نهج البلاغة ٩: ١٨٩.

٦- الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير: ١١.

٧- حلية الاولياء ٢: ٤٨.

١٧٢

وأخرج ابن كثير، عن عطاء: إنّ معاو ية بعث إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته ‏مائة ألف، فقبلته(١) .

هذا بعض الشيء عن عائشة ودورها في حرب الأسماء وتشديدها للخلاف بين الآل ‏والصحابة، لا تمويع الجليد كما يقال. فلو كانت أماً بارة بأولادها لسعت إلى تمويع الجليد ‏لا تشديد الخلاف وبث روح البغض والضغينه بين المسلمين وخصوصاً بين الصحابة ‏الأوائل.

وقد جاء في كتاب ( الكافئة ) للشيخ المفيد، والجمل، والفتوح وغيرها: أ نّه لمّا بلغ ‏عائشة نزول أميرالمؤمنينعليه‌السلام بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر: ‏(‏ أ مّا بعد، ‏فإنّا نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار، واللهُ داقٌّ عُنُقَه كدقّ البيضة على الصفا، إنّه بذي ‏قار بمنزلة الأشقر، إن تقدم نحر، و إن تأخّر عُقِر ‏)‏(٢) .

فلمّا وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي وأعطت ‏جوار يها دفوفاً، وأمرتهن أن يضربن بالدفوف و يقلن: ما الخبر ما الخبر ! علي ‏كالأشقر، إن تقدم نحر، و إن تأخّر عْقِر.

فبلغ أمّ سلمة رضي ‌الله‌ عنها اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سبّ ‏أميرالمؤمنينعليه‌السلام والمسرّة بالكتاب الوارد عليهنّ من عائشة، فبكت وقالت: ‏أعطوني ثيابي حتّى أخرج إليهنّ وأقع بهنّ، فقالت أمّ كلثوم بنت أميرالمؤمنينعليه‌السلام : أنا أنوب عنك فإنّني أَ عْرَفُ منك، فلبست ثيابها وتنكّرت وتخفّرت واستصحبت ‏جواريها متخفّرات، وجاءت حتّى دخلت عليهنّ كأ نّها من النَّظَّارة، فلمّا رأت ما هنّ فيه ‏من العبث والسفه كشفت نقابها وأبرزت لهنّ وجهها، ثمّ قالت لحفصة: إن تظاهرتِ أنت ‏وأُختُكِ على أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقد تظاهرتما على أخيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل، فأنزل الله عزّ وجلّ فيكما ما أنزل، ‏

____________________

١- تاريخ دمشق ٥٩: ١٩٢، البداية والنهاية ٨: ١٣٩.

٢- وفي شرح نهج البلاغة ١٤: ١٣ - ١٤: وأقامعليه‌السلام بها مرعوباً خائفاً لِمَا بلغه من عدّتنا وجماعتنا ‏فهو بمنزله الأشقر إن تقدم عقر و إن تأخّر نحر.

١٧٣

والله من وراء حربكما. فانكسرت حفصة وأظهرت خجلا وقالت: إنّهن فعلن هذا ‏بجهل، وفرّقتهن في الحال، فانصرفن من المكان(١) .

ولم تكن عائشة بدعاً من قريش التي جدّت في حربها ضدّ الإمام علي بعد رسول الله، ‏وقد قالعليه‌السلام في كتاب لأخيه عقيل بن أبي طالب:‏

فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله قبلي، فجَزَتْ قريشاً ‏عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمي(٢) .

دور معاوية في حرب الأسماء:‏

‏ وقريب من موقف عائشة كان موقف معاوية بن أبي سفيان لكن بشكل آخر يغلب ‏عليه الكذب والدجل، فقد كتب إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:‏

لئن كان ما قلتَ وادّعيتَ واستشهدت عليه أصحابك حقّاً لقد هلك أبو بكر ‏وعمر وعثمان وجميع المهاجرين والأنصار غيرَك وغيرَ أهل بيتك ‏وشعيتك.

وقد بَلَغني ترحّمك عليهم واستغفارك لهم، و إنّه لَعلى وجهين ما لهما ‏ثالث:‏

إمّا تقيّة إن أنت تبرّأتَ منهم خِفتَ أن يتفرّق عنك أهل عسكرك الّذين تُقاتلني ‏بهم.

أو إنَّ الّذي ادّعيت باطل وكذب. وقد بلغني وجائني بذلك بعض من تثق به ‏من خاصّتك بأ نّك تقول لشيعتك ‏ ‎ [ ‎ الضالّة ‎ ] ‎ وبطانتك بطانة السوء: ‏(‏ إنّي قد ‏سمّيتُ ثلاثة بنين لي أبا بكر وعمر وعثمان، فإذا سمعتموني أترحّم على ‏أحد من أئمّة ‏

____________________

١- الكافئة، الشيخ المفيد: ١٦ - ١٧، والجمل: ١٤٩.

٢- نهج البلاغة: ٤٠٩ الكتاب ٣٦، شرح النهج ١٦: ١٤٨.

١٧٤

الضلالة فإنّي أعني بذلك بَنِيَّ ‏)‏(١) .

فاجابه أمير المؤمنين بكتاب طويل، فيه:‏

ولعمري يا معاوية، لو ترحّمتُ عليك وعلى طلحة والزبير ما كان ترحّمي ‏عليكم واستغفاري لكم ليحقّ باطلاً، بل يجعل الله ترحّمي عليكم واستغفاري ‏لكم لعنة وعذاباً. وما أنت وطلحة والزبير بأحقر جرماً ولا أصغر ذنباً ولا ‏أهون بدعة وضلالة ممّن استنّا لك(٢) ولصاحبك الّذي تطلب بدمه، ووطّئا ‏لكم ظُلمنا أهل البيت، وحَملاكم على رقابنا، فإنّ الله يقول:( ألَمْ تَرَ إلى ‏الَّذينَ اُوتُو نَصيباً مِنَ الكِتاب يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ ‏لِلَّذينَ كَفَروا هؤلاءِ أهْدى مِنَ الَّذينَ آمَنوا سَبيلاً * أولئك الَّذينَ لَعَنَهُمُ ‏اللهُ وَمَنْ يَلْعَن الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً * أمْ لَهُمْ نصيبٌ مِن المُلْكِ فَإذا لا ‏يُؤتُونَ النّاسَ نَقيراً * أمْ يَحْسُدونَ النَّاسَ على ما آتاهُم اللهُ مِنْ ‏فَضْلِهِ ) (٣) ، فنحن الناس ونحن المحسودون; قال الله عزّوجل:( فَقَدْ ‏آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وآتَيْناهُم مُلْكاً عَظيماً * فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ ‏به وَمِنْهُمْ مَنْ صَدّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعيراً ) (٤) (٥)

فالإمامعليه‌السلام بكلامه هذا كان يريد الاشارة إلى أن الدخول في مثل هذه الأمور ‏

____________________

١- كتاب سليم بن قيس: ٣٠١. وفي نسخة (ج) من الكتاب المزبور ‏(‏انك قد سميت ثلاثة بنين لك، كنيت أحدهم ‏ابا بكر، وسميت الاثنين عمر وعثمان‏)‏.

٢- يعني بذلك أبا بكر وعمر.

٣- النساء: ٥١ - ٥٤.

٤- النساء: ٥٤ - ٥٥.

٥- كتاب سليم بن قيس ٣٠٥، بحار الأنوار ٣٣: ١٥٤ باختلاف يسير.

١٧٥

ليست من مهامّ الطلقاء، والذين قاوموا الإسلام حتى الساعات الأخيرة، بل هذا الأمر ‏يرتبط به وبالسابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار، وقد جاء هذا الأمر صريحاً ‏في كتاب لهعليه‌السلام إلى معاوية مجيباً في ذلك الكتاب مدعياته فقال:‏

وَزَعَمْتَ أنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الاْسْلاَمِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ; فَذَكَرْتَ أَمْراً إنْ تَمَّ اعْتَزَلَك كُلُّهُ، ‏وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ. وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ ! وَمَا ‏لِلطُّقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالتَّمْييزَ بَيْنَ آلْمُهَاجِرِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ ! ‏هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قَدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا، وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا ! أَلاَ تَرْبَعُ أَ يُّهَا ‏الاْنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ، وَتَعْرِفُ ‎

قُصُورَ ذَرْعِكَ، وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ ! فَمَا عَلَيْك غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ، وَلاَ ظَفَرُ ‏الظَّافِرِ(١) !‏

ثمّ جاءعليه‌السلام يذكره بالأقدمين إسلاماً:‏

أنَّ قَوْماً آسْتُشْهِدُوا فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَآلاْنْصَارِ، وَلِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى ‏إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وخَصَّهُ رَسُولُ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً ‏عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ ! أَوَ لاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَلِكُلٍّ فَضْلٌ - حَتَّى إِذَا ‏فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: ‏(‏ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُو الْجَنَاحَيْنِ ! ‏)‏ وَلَوْلاَ مَا نَهَى اللهُ ‏عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا ‏آذَانُ السَّامِعِينَ. فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ; فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا. ‏لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلاَ عَادِي طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا; فَنَكَحْنَا وأَنكَحْنَا، فِعْلَ ‏الاْكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ ! وَأَنَّى يَكُونُ ذْلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ ‏الاْحْلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدا شَبَابِ أهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينِ، ‏وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، في كَثِير مِمَّا لَنَا وعَلَيْكُمْ !‏

____________________

١- نهج البلاغة: ٣٨٥ - ٣٨٦. الكتاب ٢٨.

١٧٦

إلى أن يقول:‏

وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ، وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذلِكَ كَذْلِكَ فَلَيْسَتِ ‏آلْجِنَايةُ عَلَيْكَ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ. ( وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ ‎ عَارُهَا ).

وَقُلْتَ: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ آلْجَمَلُ آلْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ آللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ ‏تَذُمِّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ ! وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَة في أنْ يَكُونَ مَظْلُوماً ‏مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً في دِينِهِ، وَلاَ مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ ! وَهذِهِ حُجَّتِي إلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا، وَلكِنِّي ‏أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا(١) .

بهذه الكلمات والآهات وضّح الإمام ما كان يعيش فيه، والمتأمّل في كلماته في نهج ‏البلاغة وغيره يعرف هذه الحقيقة بكل وضوح، فمما قالهعليه‌السلام أيضاً:‏

كنت في أ يّام رسول الله كجزء من رسول الله، ينظر إليّ الناس كما يُنظر إلى ‏الكواكب في أفق السماء، ثم غضَّ الدهر منّي فقُرن بي فلان وفلان، ثمّ قُرِنْتُ بخمسة ‏أمثلُهم عثمان فقلت: وا ذفراه(٢) ، ثمّ لم يرض الدهر لي بذلك حتّى أرذلني، فجعلني ‏نظيراً لابن هند وابن النابغة، لقد استنَّت الفِصال حتّى القَرْعى(٣) .

وفي رسالتهعليه‌السلام إلى معاوية بن أبي سفيان:‏

فياعجبا للدهر، إذ صرت يُقرَنُ بي من لم يسع بَقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا ‏يُدلي أحد بمثلها إلاّ أن يدّعي مُدَّع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على كلّ ‏حال(٤) .

هذا، وقد يمكن أن ترى فيما رواه المدائني جوانب اخرى، إذ طلب معاوية ‏

____________________

١- نهج البلاغة: ٣٨٧ - ٣٨٨ الكتاب ٢٨.

٢- والذفر: الرائحة الكريهة.

٣- شرح نهج البلاغة ٢٠: ٣٢٦، في الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام الرقم ٧٣٣.

٤- نهج البلاغة: ٣٦٨، الكتاب ٩ وشرح النهج ١٤: ٤٧.

١٧٧

من عمّاله والخطباء لعن أبي تراب، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من ‏بها من شيعة علي، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضمّ إليه البصرة(١) ، فكان ‏

____________________

١- جاء في الغارات، للثقفي (ت ٢٨٣ ه-) عن أبي غسّان البصري: بني عبيدالله بن زياد - لعنه الله - ‏مساجد بالبصرة تقوم على بغض عليّعليه‌السلام والوقيعة فيه: مسجد بني عدي، ومسجد بني ‏مجاشع، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة، ومسجد في الأزد (الغارات ٢: ٥٥٨).

تأمّل في النصّ لترى قيام المساجد الأربعة في البصرة على الوقيعة في عليّعليه‌السلام ، وهي سياسة بعض ‏الحكّام في البلدان الإسلامية اليوم أيضاً، وقد قال لي أحد أئمّة هذه المساجد: كلاّ إنّ الحكومات لا تنهانا عن ‏الرواية عن علي لكنّنا نرجح الرواية عن غيره كي لا نرمى بالتشيع.

انظُرْ إلى تعليل هذا الخطيب وهو يعلم بقرب عليّ من رسول الله ورجحانه في العلم والقضاء والفتوى على غيره ‏لكنه يرجح الرواية عن غيره.

ان الحكومات وعن طريق وزارات الأوقاف التابعة لها تبني المساجد وتنصب أئمّة عليها حسب ضوابط ‏الوزارة، فمن الطبيعيّ انّ لا يرتضى من يخالفهم بالمعايير التي رسمها الحاكم، وخصوصاً الشيعيّ فانه لا ‏يرتضي ذلك، لانّه يشترط في إمام الجماعة العدالة، وان المعيّن من قبل السلطان الجائر ليس بعادل عنده، فلا ‏يمكنه الصلاة خلفه في الظروف العادية، ولا يخفى عليك بأنّ الراضي بالله العباسي هدم مسجد براثا على الشيعة ‏بحجّة لعن الصحابه.

وهذا الامر وغيره دعا الشيعة إلى أن ينظّموا مجالسهم بعيداً عن المساجد الحكوميّة، متخذين إماماً وخطيباً ‏يرتضونه بعيداً عن الحاكم، ومن هنا انتشرت الحسينيات عند الشيعة، وإنّ الشيعة تمركزوا فيها تبعاً لأمر أئمّة ‏أهل البيت في إقامة مجالس العزاء في دُورهم، إذ أنّ الحكومات كانت لا تسمح لهم باقامة مآتم العزاء على السبط ‏الشهيد في المساجد، فكان من الضروريّ ان تجتمع الشيعة فيما بينهم لمدارسة قضاياهم، ومن هنا جاءت ‏الحسينيات.

وباعتقادي انّ كثرة الحسينيات على المساجد في البلدان الشيعية يعود إلى هذا السبب، إذ ان السيدة فاطمة ‏الزهراء قد رسمت أصول هذا المنهج عند الشيعة، حينما ذهبت إلى خارج المدينة (بيت الأحزان) أ يّام أبي بكر، ‏لتبكي على والدهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وما اصابها من ظلم من قبل الخليفة !! ثمّ انتهجه أئمّة أهل البيت في ‏الأزمان التي تلتها، وقد يمكننا ارجاع اهتمام الشيعة بالحسينيات إلى اختلاف احكام الحسينيات عن المساجد، فلا ‏يجوز أن يدخل المسجد جنب، أو حائض بخلاف الحسينية فإنه يجوز ذلك، مع علم جميع الشيعة بأنّ الصلاة في ‏المسجد أفضل من الصلاة في الحسينية، لكنّ الضرورة - الدينية والسياسة - كانت تدعوهم للصلاة في الحسينية ‏في بعض الأحيان.

وبهذا فقد فنّدنا بهذه التعليقة البسيطة شبهة يثيرها الخصم ضدّنا إذ يقولون بأنّ الشيعة لا يهتمّون بالمساجد، ‏فالأمر لم يكن كذلك، فللشيعة مساجد كثيرة مضافاً إلى الحسينيات، وقد تركوا الصلاة في المساجد اعتراضاً ‏على الحكّام الظلمة كشاه ايران أيّام زمانه وعدم قبولهم بشرعية الإمام المنصوب من قبل السلطة في المساجد، لا ‏لنفس المساجد، ويا حبّذا أن يفتح الكتّاب والعلماء هذا الأمر أكثر مما قلته، وأن تكتب في هذا الموضوع ‏رسائل، لأنّها التفاتة مهمّة لم يسبقني إليها أحد.

١٧٨

يتَتَبَّع الشيعة - وهو بهم عارف لأ نّه كان منهم أيام عليعليه‌السلام - فقتلهم تحت كلّ ‏حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع ‏النخل، وطردهم وشرّدهم من العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

وجاء في كتاب معاوية إلى عماله في الأمصار: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي ‏وأهل بيته شهادة.

وكتب إليهم أيضاً: أنِ انْظُرُوا من قِبَلَكُمْ من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين ‏يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي ‏كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ‏ومناقبه; لِما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في ‏العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مِصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس ‏يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاو ية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ ‏كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حينا، ثم كتب إلى عماله:‏

إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجهَ وناحية، فإذا جاءكم ‏كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا ‏خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا ‏أحب إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله فَقُرئت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة ‏

١٧٩

في ‏مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقية(١) .

فمعاوية كان يريد دائماً تهييج الخلاف العُمَري العلوي، والخلاف الموجود بين علي ‏وعائشة، وبينهعليه‌السلام وبين طلحة والزبير، واستغلال كل ذلك لمآربه الخاصة.

وكذا كان حال أبنائه وأتباع مدرسته أيضاً، فالأمويّون كانوا يريدون أن يثيروا ‏الخلاف بين الطالبيين وغيرهم ليصفو لهم مشربهم، و يسهل عليهم كسر شوكتهم، فلو ‏قرات في حوادث سنة ١٢١ من تاريخ الطبري فترى فيها مخاصمة زيد بن علي بن ‏الحسين الشهيد مع عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط، وفيه:‏

‏(‏ لما كان الغد أحضرهم الوالي [وهو إبراهيم بن هشام] وأحضر قريشاً والأنصار ‏وفطن عبد الله [بن الحسن] وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله يتكلّم فطلب إليه زيد ‏فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعنا على ‏مثله، و إنّي أُشْهِدُ الله أَن لا أنازعه إليك مُحِقّاً ولا مبطلاً ما كنتُ حياً، ثمّ قال لعبد الله: ‏انهض يا بن عم، فنهض وتفرّق الناس ...‏

ثمّ ولّى هشامُ بن عبد الملك خالدَ بن عبد الملك المدينة فقال خالد لهما: اغدوا علينا ‏غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما.

فباتت المدينة تغلي كالمِرجَل، يقول قائل كذا وقائل كذا، قائل يقول: قال زيد كذا، ‏وقائل يقول: قال عبد الله كذا، فلمّا كان الغد جلس في المسجد واجتمع الناس، فمن شامت ‏ومن مهموم، فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلّم فقال: زيد لا ‏تعجل يا أبا محمّد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا.

ثم أقبل على خالد، فقال له: يا خالد لقد جمعت ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ‏لأمر ما ‏ كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر.

____________________

١- شرح ابن أبي الحديد ١١: ٤٤ - ٤٥.

١٨٠