وقعة الطف

وقعة الطف0%

وقعة الطف مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 290

وقعة الطف

مؤلف: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن مسلم الازدى الغامدى
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف:

الصفحات: 290
المشاهدات: 158625
تحميل: 6242

توضيحات:

وقعة الطف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 290 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158625 / تحميل: 6242
الحجم الحجم الحجم
وقعة الطف

وقعة الطف

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

[ أسر مسلمعليه‌السلام بحيلة الأمان ]

فقال له محمّد بن الأشعث: إنك لا تُكّذب ولا تُخدع ولا تّغرّ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك. وأُثخن بالحجّارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الأشعث، فقال: لك الأمان. فقال [ مسلم ]: آمن أنا؟ قال: نعم، وقال القوم: [ نعم ]، أنت آمن. وقال ابن عقيل: أمَا لو لمْ تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم، [ فعلم أنّه استسلم للأمان ].

وأُتي ببغلة فحُمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنّه آيس من نفسه فدمعت عيناه، ثمّ قال: هذا أوّل الغدر.

قال محمّد بن الأشعث: أرجو أنْ لا يكون عليك بأس. قال: ما هو إلاّ الرجاء، أين أمانكم! إنّا لله وإنا إليه راجعون، وبكى.

فقال له عمرو بن عبيد الله بن عبّاس [ السلمى الذي كان على الرجال المبعوثين إليه ]: إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لمْ يبك.

قال: إنّي والله، ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي، وإنْ كنت لمْ أحبّ له طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين وآل الحسينعليه‌السلام .

١٤١

[ وصيّة مسلم إلى ابن الأشعث ]

ثمّ أقبلعليه‌السلام على محمّد بن الأشعث، فقال: يا عبد الله، إنّي أراك والله، ستعجز عن أماني فهل عندك خير؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسيناًعليه‌السلام ؛ فإنّي لا أراه إلاّ قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خارج غداً، هو وأهل بيته؛ وإنْ ما ترى من جزعي لذلك.

فيقول [ الرسول ]: إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أبدي القوم أسير لا يرى أنْ يمشي حتّى يُقتل، وهو يقول: ارجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل، إنّ أهل الكوفة كذبوك وكذبوني، وليس لمكذّب رأي. فقال ابن الأشعث: والله، لأفعلنّ ولا علمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك(١) .

[ مسلم على باب القصر ]

وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، منهم: عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو وكثير بن شهاب(٢) .

[ وكانت ] قلّة باردة موضوعة على الباب.

فقال ابن عقيل: اُسقوني من هذا الماء.

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: فحدّثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي ٥ / ٣٧٢، عن جدّه زائدة. انظره في: المقدمة.

(٢) قال أبو مِخْنف: فحدّثني جعفر بن حذيفة الطائي، وعرف سعيد بن شيبان الحديث ٥ / ٣٧٥.

١٤٢

فقال له مسلم بن عمرو [ الباهلي ]: أتراها ما أبردها! لا والله، لا تذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم.

قال له ابن عقيل: ويحك مَن أنت؟!

قال أنا ابن(١) مَن عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لأمّك الثكل! ما أجفاك وما أفظّك، وأقسى قلبك أغلظك، أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي.

ثمّ جلس متسانداً إلى الحائط.

[ فـ ] -بعث عمرو بن حريث [ المخزومي ] غلاماً له، يُدعى: سليمان فجاءه بماء في قلّة(٢) عليها منديل ومعه قدح، فصبّ فيه ماء ثمّ سقاه، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً، فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب؛ ليشرب فسقطت ثناياه فيه، فقال: الحمد لله! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته(٣) .

____________________

(١) هكذا النص، والصحيح: أنا مَن عرف، وليس: ابن مَن عرف.

(٢) يقطع أبو مِخْنف هنا حديثه عن قدامة بن سعيد؛ ليحدّث عن سعيد بن مدرك بن عمارة بن عقبة بن أبي معيط، أنّه هو الذي بعث غلامه قيساً فجاءه بقلّة

ويرجع الحديث في الظاهر إلى حديث قدامة، ونحن رجّحنا حديث قدامة بن سعيد، عن جدّه زائدة بن قدامة الثقفي إذ اتّهمنا سعيد بن مدرك، أنّه وضع الحديث كفضيلة لجدّه عمارة، بينما لا يرد مثل هذا على حديث قدامة إذ لمْ ينسب ذلك لجدّه زائدة مع حضوره هناك، بل نسبه إلى عمرو بن حريث؛ ولعمرو بن حريث موقفان آخران: يتسامح في أوّلهما للمختار، فيشهد له عند ابن زياد بما ينجو به من القتل؛ ويشفع في الثاني لزينب عند ابن زياد إذ همّ بها أنْ يضربها، وإنْ كان كلّ ذلك بحميّة قرشيّة.

أمّا عمارة بن عقبة بن أبي معيط الاُمّوي، فهو من أعداء آل البيتعليهم‌السلام وقد سبقت ترجمته في المقدمة، فراجع.

واختاره الشيخ في الإرشاد / ٢١٥، والخوارزمي / ٢١٠. وجمع السّماوي بين الخبرين بالعطف، أي: أنّ كليهما بعثا للماء، وهو خطأ. انظر: السّماوي / ٤٥.

(٣) قال أبو مِخْنف: فحدّثني قدامة بن سعيد ٥ / ٣٧٥.

١٤٣

فاستأذن [ ابن الأشعث ] فأُذن له(١) ، وأدخل مسلم على ابن زياد، فلمْ يسلّم عليه بالأمرة.

فقال له الحرسي: ألاَ تُسلّم على الأمير؟

فقال له: إنْ كان يُريد قتلي، فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يُريد قتلى، فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه.

فقال له ابن زياد: فلعمري لتقتلنّ.

قال: كذلك؟

قال: نعم.

قال: فدعني أوص إلى بعض قومي.

[ وصيّة مسلم إلى عمر بن سعد ]

فنظر إلى جلساء عبيد الله، وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة(٢) ولي إليك حجّة وقد يجب لي عليك نجح حاجتي وهو سرّ، فأبى أنْ يمكّنه من ذكرها.

فقال له عبيد الله: لا تمتنع أنْ تنظر في حجّة ابن عمّك.

فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد، فقال له: إنّ عليّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمئة درهم فاقضها عنّي، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى حسينعليه‌السلام مَن يردّه؛ فإنّي كتبت إليه أعلمه أنّ النّاس معه ولا أراه إلاّ مقبلاً(٣) .

____________________

(١) ٥ / ٣٧٥. حدثنى جعفر بن حذيفة الطائي، قال

(٢) والقرابة بينه وبين ابن سعد، هي: القرابة القرشيّة، ومن طرف الاُمّ إلى بني زهره عشيرة ابن سعد.

(٣) كرّر الوصيّة بهذا إلى ابن سعد بعد ابن الأشعث تأكيداً للأمر؛ عسى ولعلّ أحدهما يفعل ذلك.

١٤٤

[ مسلم أمام ابن زياد ]

ثمّ قال ابن زياد: إيه يابن عقيل! أتيت النّاس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة؛ لتشتتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض.

قال: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

قال: وما أنت وذاك يا فاسق، أوَلمْ نكن نعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر! والله، إنّ الله ليعلم أنّك غير صادق وأنّك قلت بغير علم، وإنّي لست كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النّفس التي حرّم الله قتلها، ويقتل النّفس بغير النّفس ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأنّ لمْ يصنع شيئاً.

قال له ابن زياد: يا فاسق! إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه، ولمْ يرَك أهله.

قال: فمَن أهله يابن زياد؟

قال: أمير المؤمنين يزيد.

فقال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم بها شيئاً؟

قال: والله، ما هو بالظنّ ولكنّه اليقين.

قال: قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لمْ يقتلها أحد في الإسلام.

قال: أمَا إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة، وخبث السّيرة ولؤم الغلبة، ولا أحد من النّاس أحقّ بها منك. وأقبل ابن سميّة(١) يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً.

____________________

(١) سميّة: أمّ زياد، ذات علم بالفحشاء بالجاهليّة؛ زنى بها أبو سفيان وغيره فولدت زياداً فاقترعوا عليه بسهام الأزلام، فخرج أبو سفيان فادّعاه، ولكنّه عُرف بزياد بن سميّة باسم اُمّه حتّى ألحقه معاوية بأبيه، فكان مَن أنكر منكراته في الدين والعرف.

١٤٥

[ مقتل مسلم عليه‌السلام ]

ثمّ قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثمّ أتبعوا جسده رأسه.

فقال [ مسلم لابن الأشعث ]: يابن الأشعث، أمَا والله، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت؛ قم بسيفك دوني فقد اُخفرت ذمّتك(١) .

وأقبل محمّد بن الأشعث فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل، وضرب بكير [ بن حمران ] إيّاه، [ و ] أخبره بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه.

فقال عبيد الله: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمّنه، إنّما أرسلناك لتأتينا به، فسكت(٢) .

ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسّيف وعاتقه؟ فدُعى، فقال: اصعد، فكن أنت الذي تضرب عنقه.

فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله، ويقول: اللهمّ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّون.

وأشرف به [ بكير الأحمري ] على موضع الجزّارين اليوم(٣) فضربت عنقه،

____________________

(١) قال ابو مِخْنف: وحدّثني سعيد بن مدرك بن عمارة ٥ / ٣٧٦، عن جدّه عمارة بن عقبة بن أبي معيط.

(٢) قال أبو مِخْنف: فحدّثني جعفر بن جذيفة الطائي، وعرف سعيد بن شيبان، الحديث ٥ / ٣٧٥.

(٣) وفي الإرشاد / ٢١٦: الحذائيين، وفي الخوارزمي / ٢١٥: سوق القصّابين، وفي ص/ ٢١٤: في موضع يُباع فيه الغنم، وهذا يرجّح نصّ الطبري. والمراد (باليوم): على عهد الراوي أبي مِخْنف.

١٤٦

وأتبع جسده رأسه(١) .

[ و ] نزل بكير بين حمران الأحمري الذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلته؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول، وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويتسغفر، فلمّا أدنيته لأقتله، قال: اللهمّ، احكم بيننا وبين قوم كذّبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا. فقلت له: ادنُ منّي، فضربته ضربة لمْ تغنِ شيئاً، ثمّ ضربته الثانية فقتلته.

ثمّ جيء برأسه إلى ابن زياد(٢)

فقال عمر [ ابن سعد ] لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنّه ذكر كذا وكذا.

قال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد يُؤتمن الخائن(٣) ؛ أمّا مالك، فهو لك ولسنا نمنعك أنْ تصنع فيه ما أحببت(٤) ؛ وأمّا حسينعليه‌السلام فإنّه إنْ لمْ يردنا لمْ نرده، وإنْ أرادنا لمْ نكفّ عنه؛ وأمّا جثّته، فإنّا لا نبالي إذ قتلناه ما صُنع بها(٥) .

[ مقتل هانئ بن عروة ]

لمّا كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان، أبى [ ابن زياد ] أنْ يَفي [ لمحمّد

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: وحدّثني سعيد بن مدرك بن عمارة ٥ / ٣٧٦.

(٢) قال أبو مِخْنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفه ٥ / ٣٧٨.

(٣) لمّا رأى ابن سعد، أنّ ابن زياد سأل ابن حمران عن مقالة مسلمعليه‌السلام عند القتل، بادر إلى إفشاء سرّ ما أوصى به ليتزلّف إليه بذلك، فجابهه ابن زياد بوصفه بالخيانة، وهكذا يُجازى المتزلّفون!.

(٤) يقول له: مالك، كأنّه يجعله وارث مسلمعليه‌السلام .

(٥) أو قال: فإنّا لن نشفعك فيها، إنّه ليس بأهل منّا لذلك، قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا ٥ / ٣٧٧ في نفس رواية أبي مِخْنف، بعبارة: وزعموا أنّه، قال

١٤٧

بن الأشعث بما وعده، بأن يهب له هانئاً حذراً من عداوة قومه؛ لأنّه هو الذي ذهب به إليه ]، فأمر بهانئ بن عروة، فقال: أخرجوه إلى السّوق فاضربوا عنقه.

فأُخرج بهانئ، وهو مكتوف حتّى انتهي به إلى مكان من السّوق يُباع فيه الغنم، فجعل يقول: وامذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وامذحجاه! وأين منّي مذحج!

فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتّاف، ثمّ قال: أمَا من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يجاحش(١) به رجل عن نفسه؟

ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً، ثمّ قِيل له: أمدد عنقك.

فقال: ما أنا بها مجدٍ سخيّ، وما أنا بمعينكم على نفسي.

[ فتقدّم ] مولى تركي لعبيد الله بن زياد، يقال له رشيد(٢) ، فضربه بالسّيف فلمْ يصنع سيفه شيئاً، وقال هانئ: إلى الله المعاد! اللّهمّ، إلى رحمتك ورضوانك!

ثمّ ضربه أخرى فقتله(٣) [ رحمة الله عليه ورضوانه، وذهبوا برأسه إلى ابن زياد ](٤) .

____________________

(١) أي: يدافع.

(٢) بصر بن عبد الرحمن بن الحصين المرادي بحازر مع عبيد الله بن زياد، فقال النّاس: هذا قاتل هانئ بن عروة، فحُمل عليه ابن الحصين بالرمح فطعنه، فقتله ٥ / ٣٧٩. وفي الإرشاد / ٢١٧، وفي الخواص / ٢١٤.

(٣) قال أبو مِخْنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن ابي جحيفة ٥ / ٣٧٨.

(٤) لمْ ينقل الطبري هنا: أنّهما جرّا بأرجلهما في السّوق، ولكنّه بعد هذا نقل ذلك عن نفس أبي مِخْنف، عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، عن بكير بن المثعبة الأسدي، قال:

لمْ أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السّوق ٥ / ٣٩٧.

وذكر الخوارزمي ٢ / ٢١٥، وابن شهر آشوب ٢ / ٢١٢: أنّ ابن زياد صلبهما بالكناسة منكوسين.

١٤٨

[ مَن قتل بعدهما ]

ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد لمّا قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأُتي به، فقال له: أخبرني بأمرك؟

فقال: أصلحك الله! خرجت؛ لأنظر ما يصنع النّاس فأخذني كثير بن شهاب.

فقال له: فعليك، وعليك من الإيمان المغلّظة إنْ كان أخرجك إلاّ ما زعمت. فأبى أنْ يحلف.

فقال عبيد الله: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السّبيع فاضربوا عنقه بها. فانطلقوا به فضربت عنقه.

وأخرج عمارة بن صلخب الأزدي، وكان ممّن يُريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره، فأتي به عبيد الله، فقال: له ممّن أنت؟ قال: من الأزد. قال: فانطلقوا به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم(١)

[ حبس المختار ]

فلمّا ارتفع النّهار فتح باب عبيد الله بن زياد وأذن للنّاس، فدخل المختار فيمَن دخل، فدعاه عبيد الله فقال له: أنت المقبل في الجموع؛ لتنصر ابن عقيل؟ فقال له: لمْ أفعل، ولكنّي أقبلت ونزلت تحت راية عمرو بن حريث وبتّ معه وأصبحت. فقال عمرو [ بن حريث ]: صدق أصلحك الله.

فرفع القضيب [ ابن زياد ] فاعترض به وجه المختار فخبط عينه فشترها(٢) ،

____________________

(١) ٥ / ٣٧٨. قال ابو مِخْنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة.

(٢) أي: قلّب جفن عينه من الأعلى إلى الأسفل.

١٤٩

وقال: أولى لك أمَا والله، لولا شهادة عمرو لضربت عنقك، انطلقوا به إلى السّجن. فانطلقوا به إلى السّجن، فحُبس فيه حتّى قُتل الحسينعليه‌السلام (١) .

[ بعث الرؤوس إلى يزيد ]

إنّ عبيد الله بن زياد بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الوادعي [ الكلبي الهمداني ] والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع، أنْ يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتاب طال فيه، فلمّا نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه، وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟

اُكتب: أمّا بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وإنّي جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما وأمكن الله منهما فقدّمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السّمع والطاعة والنّصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً، والسّلام.

فكتب إليه يزيد:

أمّا بعد، فإنّك لمْ تعد أنْ كنت كما أحبّ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيراً.

وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي توجّه نحو العراق، فضع المناظر

____________________

(١) قال أبو مِخْنف، قال: النّضر بن صالح ٥ / ٥٦١.

١٥٠

والمسالح(١) واحترس على الظنّ وخذ على التهمة، غير أنْ لا تقتل إلاّ مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسّلام عليك ورحمة الله(٢) .

[ و ] كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجّة سنة ستّين وكان مخرج الحسين [عليه‌السلام من مكّة ] يوم الثلاثاء، يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل(٣) .

فقال عبد الله بن الزّبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل وهانئاً بن عروة المرادي، ويقال الفرزدق:

[ف] ان كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ في السّوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السّيف وجهه

وآخر يهوي من طمار(٤) قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسداً قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كلّ مسيل

فتى هو أحيى من فتاة حيية

وأقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب أسماء(٥) الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطيف حوإليه مراد وكلهم

على رقبة من سائل ومسول

____________________

(١) المناظر: جمع منظرة، وهي: موضع يراقب منه العدو. والمسالح جمع: مسلحة، وهي: محلّ رجال مسلّحين مراقبين للعدوّ، لئلاّ يفاجأوا. [ انظر ] الإرشاد / ٢١٧، والخواص / ٢٤٥.

(٢) قال أبو مِخْنف، عن أبي جناب يحيى بن أبي حيّة الكلبي ٥ / ٣٨٠:

وهو أخو هانئ بن أبي حيّة، حامل رأس مسلم وهانئ إلى يزيد، وأخوه كأنّما يروى خبره مفتخراً بوصفه من ابن زياد بأنّ عنده علم وصدقاً وفهماً وورعاً، وتصديق فضلهما من قبل يزيد، وليس هذا من الكلبيين ببعيد.

(٣) قال أبو مِخْنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة ٥ / ٣٧٨.

(٤) طمار القصر: أعلاه.

(٥) يعني: أسماء بن خارجة الفزاري الذي ذهب بهانئ بن عروة إلى ابن زياد. والهاليج جمع: الهملاج، وهو: البرذون إذ يمشى الهملجة؛ وهي ضرب من المشى، وهي معربة من الفارسيّة، كما في المجمع.

١٥١

فإنْ أنتم لمْ تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا ارضيت بقليل(١)و(٢)

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة ٥ / ٣٨١.

(٢) وروى الطبري، عن عمّار الدهني، عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: « قال: شاعرهم في ذلك ». وذكر ثلاث أبيات منها أوّلها: « فإنْ كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري » ٥ / ٣٥٠.

وهنا ذكر صدر البيت هكذا: إنْ كنت لا تدرين، وهو كما ترى غلطاً، يقلّ به وزن البيت. والزبير ضبطه المحقَّق: الزَّبير بفتح الزاي، ولعلّه أخده عن ابن الأثير في الكامل ٤ / ٣٦، ومقاتل الطالبيّين / ١٠٨.

وقال الأصفهاني بشأنه: كان من وجوه محدّثي الشيعة، روى عنه عباد بن يعقوب الرواجني المتوفّى (٢٠٥ هـ) ونظراؤه، ومَن هو أكبر منه ٢٩٠. ورُوى عنه: أنّه كان من أصحاب محمّد بن عبد الله بن الحسن، ذي النّفس الزكيّة الشهيد على عهد المنصور سنة (١٤٥ هـ)، ثمّ قال: هو أبو أبي أحمد الزبيري المحدّث ٢٩٠ وهو: محمّد بن عبد الله بن الزبير.

وروى الكشّي عن عبد الرحمن بن سيابة، قال: دفع إليّ أبو عبد اللهعليه‌السلام دنانير وأمرني أنْ أقسّمها في عيالات مَن أُصيب مع عمّه زيد فقسّمتها، فأصاب عيال عبد الله بن الزبير الرّسان أربعة دنانير، رقم / ٦٢١.

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد، عن أبي خالد الواسطي، قال: سلّم إليّ أبو عبد اللهعليه‌السلام ألف دينار وأمرني أنْ أقسّمها في عيال مَن أصيب مع زيد، فأصاب عيال عبد الله بن الزبير أخي فضيل الرّسان، منها: أربعة دنانير ٢٦٩. ولعلّهما شخصان بهذا الاسم، إذ نرى الأصفهاني بعد أنْ عدّه من وجوه محدّثي الشيعة، نصّ في الأغاني ١٣ / ٣١، على أنّه:

من شيعة بني أميّة وذو الهوى فيهم والتعصب والنصرة لهم على عدوّهم، وأنّه لا يمالئ أحداً عليهم ولا على عمّالهم، وكان عبيد الله بن زياد يصله ويُكرمه ويقضي ديونه، ولابن الزبير فيه مدائح وكذلك في مدح أسماء بن خارجة الفزاري. الأغاني ١٣ / ٣٣ - ٣٧.

ذكر ذلك السيّد المقرّم (ره) في كتابه: الشهيد مسلم / ٢٠١، ثمّ قال:

وهل لأحد أنْ يَنسب هذه الأبيات في مسلم وهانئ إلى هذا الرجل بعد علمه بنزعته الاُمّوية ومدائحه هذه فيهم؟! ثمّ رجّح نسبة الأبيات إلى الفرزدق، وأنّه أنشأها بعد رجوعه من الحجّ سنة ستّين.

وذكر الأصفهاني الأبيات منسوبة إلى ابن الزبير الأسدي هذا، نقلاً عن المدائني عن أبي مِخْنف عن يوسف بن يزيد.

١٥٢

[ خروج الحسين [عليه‌السلام ] من مكّة ]

(١) كان مخرج الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى مكّة يوم الأحد، لليلتين بقيتا من رجب سنة ستّين، ودخل مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكّة شعبان وشهر رمضان وشوّال وذا القعدة، ثمّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة يوم الثلاثاء، يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

[ ولمّا ] نزل مكّة، أقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه , ومَن مكان بها من المعتمرين وأهل الآفاق.

[ موقف ابن الزبير مع الإمامعليه‌السلام ]

[ وكان ] فيمَن يأتيه ابن الزبير، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وقد عرف أنّ أهل الحجاز لا يتابعونه ولا يبايعونه أبداً مادام حسينعليه‌السلام بالبلد، وأنّ حسيناً أعظم في أعينهم منه وأطوع في النّاس منه(٢) .

____________________

(١) قال الطبري: وفي هذه السّنة، سنة ستّين عُزل يزيد الوليد بن عتبة في شهر رمضان، فأمّر عليها عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقدمها في شهر رمضان. وكان رجلاً عظيم الكبر مفوّهاً ٥ / ٣٤٣ وقِيل: قدمها في شهر ذي القعدة من سنة ستّين ٥ / ٣٤٦. وقال أيضاً: نُزع يزيد بن معاوية في هذه السّنة، سنة ستّين الوليد بن عتبة عن مكّة وولاّهما عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك في شهر رمضان منها، فحجّ بالنّاس عمرو بن سعيد في هذه السّنة، وكان عامله عن مكّة والمدينة في هذه السّنة ٥ / ٣٩٩.

(٢) قال أبو مِخْنف: حدّثني عبد الرحمن بن جندب، قال حدّثني عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية، امرأة حسينعليه‌السلام ٥ / ٣٥١.

١٥٣

فحدّثه [ يوماً ] ساعة، ثمّ قال: ما أدرى ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! خبّرني ما تريد أنْ تصنع؟

فقال الحسينعليه‌السلام :« والله، لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها، واستخير الله » (١) .

فقال له ابن الزبير: أمَا لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها!

ثمّ إنّه خشى أنْ يتّهمه، فقال: أمَا إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إنْ شاء الله. ثمّ قام فخرج من عنده.

فقال الحسينعليه‌السلام :« ها إنّ هذا ليس شيء يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أنْ اخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ النّاس لا يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له ». (٢) (٣)

[ محادثة ابن عبّاس ]

[ و ] لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عبّاس، فقال: يابن عمّ، قد أرجف النّاس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قالعليه‌السلام :« إنّي قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين (٤) إنْ شاء الله تعالى ».

____________________

(١) الاستخارة هنا بمعناها اللغوي، أي: طلب الخير، وليس بالمعنى المصطلح عليه المتأخّر.

(٢) قال أبو مِخْنف: وحدّثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان ٥ / ٣٨٣.

(٣) غير خافٍ على الإمامعليه‌السلام نفسيّات القوم وما شيبت به من الغدر والنفاق، ولكن لا تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره لكلّ مَن قابله، إذ لا كلّ ما يُعلم يُقال لا سيّما بعد تفاوت المراتب واختلاف الأوعية سعةً وضيقاً؛ فكان يُجيب كلّ واحد بما يسعه ظرفه وتتحمله معرفته.

والملاحظ هنا: أنّ ابن الزبير غير مخالف لقيام الإمامعليه‌السلام ، بل هو مرغّب للامام فيه، وإنّما كلامه في زمانه ومكانه.

(٤) وبما أنّ خروجهعليه‌السلام من مكّة كان في يوم التروية بعد الظهر، والنّاس رائحين إلى منى

١٥٤

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أعيذك بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله أتسير

____________________

٥ / ٣٨٥ يُعلم أنّ هذه المحادثة بينهعليه‌السلام وابن عبّاس كانت في يوم السادس من ذي الحجّة، وإنّ إرجاف النّاس وشيوع الخبر فيهم بذلك كان على الأكثر منذ يومين من قبل ذلك - أي: منذ اليوم الرابع من ذي الحجّة -. وأمّا قبل ذلك فلا شيء يدلّ على هذا، فما الذي حدث في هذه الأيّام بعد بقائه بمكّة أربعة أشهر ممّا جعله يخرج يوم التروية قبل تمام الحجّ؟

وكان مسلمعليه‌السلام قد أرسل الكتاب قبل سبع وعشرين يوماً من مقتله - أي: في العشرين من ذي القعدة - ومدّة وصول الكتاب إذ ذاك عشرة أيّام تقريباً، وعلى هذا يكون الكتاب قد وصل إليهعليه‌السلام في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجّة، ولكن ذلك لا يكفي لعدم إتمام الحجّ في أربعة أيّام.

ونجد الفرزدق الشاعر قد سأل الإمامعليه‌السلام عن هذا، إذ قال له: ما أعجلك عن الحجّ؟ فقالعليه‌السلام : « لو لمْ أعجّل لأُخذت » ٥ / ٣٨٦؛ ولذلك قال الشيخ المفيد (قده): لمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة؛ لأنّه لمْ يتمكّن من تمام الحجّ، مخافة أنْ يُقبض عليه بمكّة فيُنفذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً. الإرشاد / ٢١٨.

وروى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال:

« وقد اعتمر الحسين في ذي الحجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والنّاس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجّة لمَن لا يُريد الحجّ ».

وروى إبراهيم بن عمر اليماني، أنّه سأل الصادقعليه‌السلام عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً، ثمّ خرج إلى بلاده؟ قالعليه‌السلام : « لا بأس ». إلى أنْ قالعليه‌السلام : « وإنّ الحسين بن عليعليه‌السلام خرج يوم التروية إلى العراق، وكان معتمراً ». الوسائل ١٠ / ٢٤٦.

ولهذا قال الشيخ التستري: إنّهم جدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلةً، ولو وُجد متعلقاً بأستار الكعبة! فالتزم بأنْ يجعل إحرامه عمرةً مفردةً وترك التمتع بالحجّ. الخصائص / ٣٢، ط تبريز.

ونجد الشيخ الطبرسي في أعلام الورى، في الفصل الخاص بأخبار مسيرة الإمامعليه‌السلام ومقتله، ينقل نفس الفصل الخاص في إرشاد الشيخ المفيد (قده) تقريباً بدون تصريح بذلك، وفيه ينقل ما ذكره الشيخ المفيد إلاّ أنّه يغيّر كلمة: (تمام الحجّ) إلى: (إتمام الحجّ) وهذا خطأ، ولعلّه من النسّاخ لمَا بينهما من الفرق الواضح، إذ أنّ كلمة الإتمام تُفيد: أنّهعليه‌السلام قد تلبّس بإحرام الحجّ، دون كلمة: (تمام الحجّ).

ولعلّ نُسخ الإرشاد تختلف، فقد نقل الشيخ القرشي كلام الشيخ المفيد كما نقله الطبرسي: (إتمام الحجّ) ٣ / ٥٠ عن الإرشاد / ٢٤٣، ونحن نجد الكلمة في [ الصفحة ] / ٢١٨، من الإرشاد في الطبعة الحيدريّة: (تمام الحجّ)، وهو الصحيح.

١٥٥

إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإنْ كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإنْ كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبى بلادهم؛ فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغرّوك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأنْ يستنفروا إليك فيكونوا أشدّ النّاس عليك.

فقال له حسينعليه‌السلام :« وإنّي أستخير الله (١) وأنظر ما يكون » (٢) (٣) .

[ محادثة ابن عبّاس ثانيةً ]

فلمّا كان من العشي أو من الغد أتى عبد الله بن العبّاس، فقال: يابن عمّ إنّي أتصبّر وما أصبر، إنّي أخاف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ العراق قوم غدر فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد؛ فإنّك سيّد أهل الحجاز فإنْ كان أهل العراق يُريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تخرج فسر إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أنْ يأتيك عند ذلك الذي تُحبّ في عافية.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« يابن عم، إنّي والله، لأعلم أنّك ناصح (٤)

____________________

(١) الاستخارة هنا بمعناها اللغوي، أي: طلب الخير، وليس بالمعنى المصطلح عليه المتأخر، كما سبق.

(٢) قال أبو مِخْنف: وحدّثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان ٥ / ٣٨٣.

(٣) والملاحظ هنا: أنّ ابن عبّاس غير مخالف لقيام الإمامعليه‌السلام ، وإنّما يُشكّك للإمام في توفّر الأرضيّة اللازمة لذلك، والإمامعليه‌السلام لا يردّه في ذلك طبعاً.

(٤) النصح هنا بمعنى: الإخلاص، وليس بمعنى: الوعظ والإرشاد، فهو المعنى الحادث أخيراً للكلمة وليس معناها الأصيل. فالإمامعليه‌السلام يقول: إنّه يعلم أنّه يقول ما يقوله عن إخلاص وشفقة وعاطفة ومودّة، فهو لا يخالف الإمامعليه‌السلام في قيامه، وإنّما يُشكّك في توفر الأرضيّة اللازمة له، والإمامعليه‌السلام لا يردّه في هذا، بل يقول إنّه عازم على القيام مع ذلك؛ وذلك لما يرى من لزومه وضرورته لحياة الشريعة المقدسة.

١٥٦

... مشفق، ولكنّي أزمعت وأجمعت على المسير » .

فقال له ابن عبّاس: فإنْ كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله، إنّي لخائف أنْ تُقتل(١) .

[ محادثة عمر بن عبد الرحمن المخزومي ]

قال عمر بن عبد الرحمن بن الحرّث بن هشام المخزومي(٢) : لمّا تهيّأ الحسينعليه‌السلام للمسير إلى العراق أتيته فدخلت عليه فحمدت الله وأثنيت عليه، ثمّ قلت: أمّا بعد، فإنّي أتيتك يابن عمّ لحجّة أريد ذكرها نصيحةً، فإنْ كنت ترى أنّك تستنصحني، وإلاّ كففت عمّا أريد أنْ أقول.

فقال [ الحسينعليه‌السلام ]:« قل فوالله، ما أظنّك بسيّء الرأي ولا هوٍ (٣) للقبيح من الأمر والفعل ».

قال: أنّه قد بلغني أنّك تريد المسير إلى العراق، وإنّي مشفق عليك من مسيرك، أنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وامرؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنّما النّاس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أنْ يُقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه.

فقال الحسينعليه‌السلام :« جزاك الله خيراً بابن عم، فقد والله، علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقضِ من أمر يكن، أخذت

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: حدّثني الحرّث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان ٥ / ٣٨٣.

(٢) هو الذي ولاّه ابن الزبير الكوفة على عهد المختار سنة (٦٦ هـ)، فبعث إليه المختار زائدة بن قدامة الثقفي في خمسمئة رجل ومعه سبعين ألف درهم؛ ليردّ المختار بالدراهم وإلاّ فيُقاتله بالرجال، فقبل الدراهم وذهب إلى البصرة٦ / ٧١، وما يحدّث به من ثناء الإمامعليه‌السلام له فإنّما هو بنقله، وجدّه الحرّث بن هشام أخوتي جهل بن هشام عدوّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكرناه في المقدمة.

(٣) هَوٍ، أي: هاويا من الهوى؛ أي: مريداً للقبيح.

١٥٧

برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح » (١) .

[ محادثة ابن الزبير مع الإمام الأخيرة ]

[ وقال ] عبد الله بن سليم [ الأسدي ] والمُذري بن المُشمَعلّ [ الأسدي ] قدمنا مكّة حاجّين فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، فتقرّبنا منهما فسمعنا ابن الزبير، وهو يقول للحسينعليه‌السلام : إنْ شئت أنْ تُقيم أقمت، فوليت هذا الأمر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« إنّ أبي حدّثني: أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أنْ أكون أنا ذلك الكبش » (٢) و(٣) .

فقال له الزبير: إليّ يابن فاطمة. فأصغى إليه فسارّه، ثمّ التفت إلينا الحسينعليه‌السلام فقال:« أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ ».

فقلنا: لاندري، جعلنا الله فداك.

فقالعليه‌السلام :« قال: أقمْ في هذا المسجد، أجمع لك النّاس ».

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :« والله، لئن أقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أنْ أقتل داخلاً منها بشبر؛ وأيمْ الله، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، والله، ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في

____________________

(١) ٥ / ٣٨٢. قال هشامعن أبي مِخْنف: حدثنى الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن.

(٢) قال أبو مِخْنف: قال، أبو جناب يحيى بن أبي حيّة، عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبد الله ٥ / ٣٨٤.

(٣) الكبش: الذّكر من الغنم الذي يتقدّم القطيع غالباً؛ ولذلك شُبّه به: القوّاد. وبهذا الحديث ذكر الإمامعليه‌السلام ابن الزبير - لو كانت تنفعه الذكرى - فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين.

١٥٨

السّبت » (١) و(٢) .

[ موقف عمرو بن سعيد الأشدق ]

[ و ] لمّا خرج الحسينعليه‌السلام من مكّة اعترضه رُسل عمرو بن سعيد بن العاص(٣) عليهم يحيى بن سعيد(٤) .

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: عن أبي سعيد عقيصا عن بعض أصحابه قال ٥ / ٣٨ ٥.

(٢) هذا هو خير جواب موجز أجاب به الإمامعليه‌السلام كلّ السّئلة المطروحة، بأنّه مطلوب أينما كان وليعتدنّ عليه، فليخرج من مكّة لئلا يكون الكبش الذي ذكره له والده أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولذلك خرج منها هارباً بنفسه وأهله لئلا تُستحلّ به حرمتها. وإذا خرج من مكّة فخيرٌ له أنْ يمضي في قضاء حجّة شيعته من أهل الكوفة إتماماً للحجّة عليهم:ِلئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ * ولا يقول أحد:لوْ لا أَرْسَلْتَ إلينا رَسُولاً ًـ وأقمت لنا علماً هادياً - فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ . وإنْ لمْ يذهب إلى الكوفة فإلى أين يتوجّه؟ وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت!

(٣) لمّا ولي عمرو بن سعيد المدينة دعا عبيد الله بن أبي رافع، وكان يكتب لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال: مَن مولاك؟ فقال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وكان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر فورثه بنوه فأعتق ثلاثة منهم نصيبهم منه وقُتلوا يوم بدر جميعاً، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعتقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضربه مئة سوط، وقال: مولى مَن أنت؟ قال مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فضربه مئة سوط، فلمْ يزل يفعل به ذلك كلّما سأله مولى مَن أنت؟ قال مولى رسول الله حتّى ضربه خمسمئة سوط، ثمّ قال: مولى مَن أنت؟ قال: مولاكم. فلمّا قُتل عبد الملك عمرو بن سعيد، قال عبيد الله بن ابي رافع شعراً يشكر قاتله٣ / ١٧٠.

وهو الذي حارب ابن الزبير ٥ / ٣٤٣، وضرب بالمدينة كلّ من كان يهوي هوى ابن الزبير، منهم محمّد بن عمار بن ياسر، ضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى السّتّين ٥ / ٣٤٤، واستبشر حين بلغه خبر قتل الحسينعليه‌السلام .

ولمّا سمع واعية نساء بني هاشم عليه، قال: هذه واعية بواعية، عثمان بن عفّان. ثمّ سعد المنبر فأعلم الخبر ٥ / ٤٦٦، وأعلم يزيد أنّ عمرو بن سعيد يترفق بابن الزبير ولا يتشدّد عليه، فعزله لأوّل ذي الحجّة سنة (٦١ هـ) ٥ / ٤٧٧، فقدم على يزيد واعتذر إليه ٥ / ٤٧٩وكان أبوه سعيد بن العاص والي المدينة لمعاوية ٥ / ٢٤١.

(٤) أخو عمرو بن سعيد، نصره يوم قتله في قصر عبد الملك بالشام مع ألف ممّن تبعه من رجاله ومواليه وعبيده، فهُزموا وحبس، ثمّ أُطلق فلحق بابن الزبير ٦ / ١٤٣ - ١٤٧، ثمّ ذهب إلى الكوفة فلجاً إلى أخواله الجُعفيين، فلمّا دخل عبد الملك الكوفة وبايعوه بايعه واستأمن٦ / ١٦٢.

١٥٩

فقالوا له: انصرف، أين تذهب؟ فأبى عليهم.

وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسّياط، ومضى الحسينعليه‌السلام على وجهه.

فنادوه: يا حسين، ألاَ تتّقي الله، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الاُمة!

فتأوّل حسينعليه‌السلام قول الله عزّ وجلّ:( لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) (١) و(٢)

قال علي بن الحسين بن عليعليهما‌السلام :« لمّا خرجنا من مكّة كتب عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب (٣) إلى الحسين بن علي عليه‌السلام مع ابنيه عون ومحمّد (٤) :

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفت حين تنظر في كتابي؛ فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي تتوجّه له أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكت اليوم طفيء نور الأرض؛ فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسّير، فإنّي في أثر الكتاب، والسّلام ».

____________________

(١) سورة يونس / ٤١.

(٢) ٥ / ٣٨ ٥. قال أبو مِخْنف: حدثنى الحرّث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، قال

(٣) كان مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في الجمل وأعأنّه على حمل عائشة إلى المدينة٤ / ٥ ١٠وكان ممّن يستشيرهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بالكوفة، وهو الذي أشار إليه بتولية محمّد بن أبي بكر مصراً، وهو أخوه لاُمّه٤ / ٥ ٥ ٤. وكان معه في صفّين يتقدم عليه مفاداً له ٥ / ١٤٨. وكان مع الحسنعليه‌السلام في نهضته ٥ /١٦٠ورجع معهما إلى المدينة ٥ / ١٦ ٥. وكان ولداه: محمّد وعون مع الحسينعليه‌السلام ، فلمّا بلغه مقتلهم، قال: والله، لو شهدته لأحببت ألاّ أفارقه حتّى أُقتل معه ٥ / ٤٦٦.

(٤) قُتلا مع الحسينعليه‌السلام ؛ أمّا عون، فاُمّه: جمانة بنت المسيّب بن نحببته الفزارى الذي كان من زعماء التوابين؛ وأما محمّد، فاُمّه: الخوصاء بنت خصفة بن ثقيف من بكر بن وائل ٥ / ٤٦٩.

١٦٠