وقعة الطف

وقعة الطف0%

وقعة الطف مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 290

وقعة الطف

مؤلف: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن مسلم الازدى الغامدى
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف:

الصفحات: 290
المشاهدات: 158736
تحميل: 6247

توضيحات:

وقعة الطف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 290 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158736 / تحميل: 6247
الحجم الحجم الحجم
وقعة الطف

وقعة الطف

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: اكتب إلى الحسينعليه‌السلام كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد؛ فإنّه أحرى أنْ تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ما شئت واتني به حتّى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليعليه‌السلام ، أمّا بعد:

فإنّي أسأل الله أنْ يصرفك عمّا يوبقك وأنْ يهديك لما يرشدك، بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أعيذك من الشقاق؛ فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليّ معهما فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك الله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسّلام عليك.

ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه، ففعل فلحقه عبد الله بن جعفر ويحيى [ بن سعيد ]، فأقرأه يحيى الكتاب.

وكتب إليه الحسينعليه‌السلام :

« أمّا بعد:

فإنّه لمْ يشقاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله عزّ وجل وعمل صاحلاً، وقال إنني من المسلمين؛ وقد دعوت إلىّ الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمّن الله يوم القيامة مَن لمْ يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجب لنا أمأنّه يوم القيامة، فإنْ كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي، فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسّلام » .

ثمّ انصرفا [ إلى عمرو بن سعيد ] فقالا: أقرأنّه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر إلينا أنْ قال:« إنّي رأيت رؤياً فيها رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) وأُمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له، عليّ كان أولي ».

فقالا له: فما تلك

١٦١

الرؤيا؟ قالعليه‌السلام :« ما حدّثت بها أحداً وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي! » (١) و(٢) .

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: حدثنى الحرّث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال ٥ / ٣٨٨.

(٢) لمْ يسع الإمامعليه‌السلام المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره لكلّ من قابله، إذ لا كلّ ما يُعلم يُقال، ولا سيما بعد تفاوت المراتب واختلاف الأوعية والظروف سعةً وضيقاً، فكانعليه‌السلام يُجيب كلّ واحد بما يسعه ظرفه وتتحمله معرفته.

وقد أشار الإمامعليه‌السلام لهؤلاء إلى الجواب الواقعي بقوله:« لمْ يُشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله وعمل صالحاً وخير الأمان أمان الله، ولن يؤمّن الله يوم القيامة مَن لمْ يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجب لنا أمأنّه يوم القيامة » . ولكن حيث لمْ يقتنع هؤلاء لهذه الإجابة أجابهم، بأنّه مأمور بأمر في رؤيا رأى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ لمْ يُحدّثهم بها بل قال:« وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي » .

ولعلّ أحمد بن الأعثم الكوفي المتوفي (٣١٠ هـ). من هنا حدّث بحديث رؤياهعليه‌السلام على قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة، ولكنّه من أين؟ وقد قال الإمامعليه‌السلام أنّه غير محدّث بها حتّى يلقى ربّه، فهذا ما عهدته عليه، والله أعلم به.

١٦٢

[ منازل الطريق ]

[ التنعيم ](١)

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام أقبل حتّى مرّ بالتنعيم، فلقى بها عيراً قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري(٢) إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن وعلى العير: الورس(٣) والحلل ينطلق بها إلى يزيد فأخذها الحسينعليه‌السلام فانطلق بها.

ثمّ قالعليه‌السلام لأصحاب الإبل:« لا أكرهكم، مَن أحبّ أنْ يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته، ومَن أحبّ أنْ يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض ».

فمَن فارقه، منهم حُوسب فأوفى حقّه ومَن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه(٤) .

____________________

(١) موضع: على فرسخين من مكّة، كما في معجم البلدان٢ / ٤١٦عن يمينه جبل، اسمه: نعيم وعن شماله آخر، اسمه: ناعم.

والوادي: نعيمان، وبه مسجد، وهو أدنى المواقيت وأدنى الحلّ للحرم، وهو اليوم عن مركز مكّة ستّ كيلو مترات، فهو فرسخ لا فرسخين، متصل بالبلد في بدايته للداخل إليه من طريق المدينة وجدّة.

(٢) كأنّه كان ينظر في النّجوم فتطيّر لعبد الله بن مطيع العدوي، لمّا بعثه ابن الزبير والياً على الكوفة٦ / ٩. وكان طاووس اليماني المعروف مولاه، فمات طاووس بمكّة سنة (١٠ ٥ هـ) ٦ / ٢٩.

(٣) الورس: نبات، كالسّمسم يصبغ به ويتخذ منه الغمرة، وليس إلاّ باليمن.

(٤) قال أبو مِخْنف: حدّثني الحرّث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان ٥ / ٣٨ ٥.

١٦٣

[ الصفاح ](١)

عن عبد الله بن سليم [ الأسدي ] والمذري [ بن المُشمَعلّ الأسدي ] قالا: أقبلنا حتّى انتهينا إلى الصفاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر(٢) . فواقف حسيناًعليه‌السلام ، فقال له: أعطاك الله سؤلك وأمّلك فيما تحبّه.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« بيّن لنا نبأ النّاس خلفك » .

فقال له الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب النّاس معك وسيوفهم مع بني اُميّة والقضاء ينزل من السّماء، والله، يفعل ما يشاء.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن، إنْ نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء، فلمْ يعتدّ مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته » .

____________________

(١) الصفاح: بين حنين وأنصاب الحرّم، يسرة الداخل إلى مكّة.

(٢) هو: همام بن غالب بن صعصعة، وعمّاه: ذهيل والزحاف، كانا في ديوان زياد بن سميّة في البصرة على ألفين ألفين، وهجا بني نهشل وفقيم فاستعدّوه عند زياد فطلبه فهرب. فكان إذا نزل زياد البصرة نزل هو الكوفة، وإذا نزل زياد الكوفة نزل الفرزدق البصرة. وكان زياد ينزل البصرة ستّة أشهر والكوفة ستّة أشهر، ثمّ ذهب إلى الحجاز فلمْ يزل بمكّة والمدينة لاجئاً من زياد إلى سعيد بن العاص حتّى هلك زياد ٥ / ٢٤٢ - ٢ ٥ ٠، فهجاه وهجا راثيه، يقول:

بكيت امرءاً من آل سفيان كافرا

ككسرى على عدوأنّه أو كقيصرا

٥ / ٢٩٠

ثمّ رجع إلى البصرة، فكان بها وحجّ سنة ستّين باُمّه؛ ولذلك لمْ يصحب الحسينعليه‌السلام ٥ / ٣٨٦ونظم الشعر للحجّاج ٦ / ٣٨٠ - ٣٩٤. وكان في بلاط سليمان بن عبد الملك ٥ / ٥ ٤٨. وكان حيّاً إلى سنة (١٠٢ هـ)٦ / ٦١٦. وكان في هجائه لبني نهشل شابّاً، بل غلاماً حدثاً أعرابيّاً نزل البادية ٥ / ٢٤٢، فيكون في لقائه الإمامعليه‌السلام على أقلّ من ثلاثين سنة.

١٦٤

ثمّ حرّك الحسينعليه‌السلام راحلته، فقال:« السّلام عليك » . ثمّ افترقا(١)(٢) .

ولمّا بلغ عبيد الله [ ابن زياد ] إقبال الحسينعليه‌السلام من مكّة إلى الكوفة، بعث الحصبن بن تميم [ التميمي ] صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ونظّم الخيل ما بين القادسيّة(٣) إلى خفّان(٤) ، وما بين القادسيّة إلى القطقطانة(٥) و إلى لعلع(٦) .

[ الحاجر ](٧)

[ و ] أقبل الحسينعليه‌السلام حتّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمّة بعث

____________________

(١) قال أبو مِخْنف، عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم ٥ / ٣٨٦: وهذا لا يتّفق مع ما يأتي عنهما، أنّهما يقولان لحقناه بزرود، وهو بعد الصفاح إلى الكوفة بعدّة منازل، اللهمّ، إلاّ أنْ يكون قولهما: أقبلنا حتّى انتهينا، أي: أقبلنا من الكوفة حتّى انتهينا إلى الصفاح في دخولهما إلى مكّة، ثمّ بعد قضاء المناسك لحقا بهعليه‌السلام بزرود.

(٢) قال الطبري: قال هشام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عن أبيه، قال: حججت في سنة ستّين [ و ] دخلت الحرّم في أيّام الحجّ، إذ لقيت الحسين بن عليعليه‌السلام خارجاً من مكّة، فأتيته، فقلت: بأبي أنت وأمّي يابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟ فقالعليه‌السلام :« لو لم أعجل لأخذت » . قال، ثمّ سألنيعليه‌السلام :« ممّن أنت؟ » . فقلت له: امرؤ من العراق، فولله، ما فتشني أكثر من ذلك. فقالعليه‌السلام :« أخبرني عن النّاس خلفك » . فقلت له: القلوب معك والسّيوف مع بني اُميّة، والقضاء بيد الله. فقالعليه‌السلام لي:« صدقت ». فسألته عن أشياء من نذور ومناسك، فأخبرني بها ٥ / ٣٨٦.

(٣) بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً، وبينها وبين العذيب أربعة أميال، وتسمّى: الديوانية. وكانت أوّل مدينة كبيرة من العراق إلى بادية الحجاز، وفيها أولى فتوحات العراق: وقعة القادسيّة، بقيادة سعد بن أبي وقّاص.

(٤) قرية قرب الكوفة فيها عين لبني العبّاس، كما في معجم البلدان ٣ / ٤ ٥ ١.

(٥) القطقطانة: تبعد عن الرهيمة إلى الكوفة نيفاً وعشرين ميلاً ٧ / ١٢ ٥. وقال اليعقوبي: إنّ خبر مقتل مسلم أتى الإمام، وهو بالقطقطانة ٢ / ٢٣٠.

(٦) قال أبو مِخْنف: حدّثني يونس بن أبي إسحاق السّبيعي ٥ / ٣٩٤.

(٧) واد بعالية نجد. وبطن الرّمة: منزل يجتمع فيه أهل الكوفة والبصرة إذا أرادوا المدينة، كما في معجم البلدان ٤ /٢٩٠، وتاج العروس ٣ / ١٣٩.

١٦٥

قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:«

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوأنّه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم:

فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسالت الله أنْ يحسن لنا الصنع، وأنْ يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء، لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه أنْ شاء الله. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».

وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسينعليه‌السلام حتّى إذا انتهى إلى القادسيّة، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله بن زياد. فقال له عبيد الله: اصعد إلى القصر فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب.

فصعد، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ هذا الحسين بن عليعليه‌السلام خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليهما)، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

فأمر به عبيد الله بن زياد أنْ يرمى به من فوق القصر، فرمي به فتقطّع فمات [رحمه‌الله ](١) .

[ ماء من مياه العرب ]

ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام سيراً إلى الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: وحدّثني محمّد بن قيس ٥ / ٣٩٤. والإرشاد / ٢٢٠. وخلط خبره بخبر عبد الله بن يقطر، وذكره في تذكرة الخواص / ٢٤ ٥، ط النّجف.

١٦٦

العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي(١) وهو نازل ها هنا، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام قام إليه، فقال: بأبي أنت وأمّي يابن رسول الله، ما أقدمك؟! فقال له الحسينعليه‌السلام :« كتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم » . فقال له عبد الله بن مطيع: أذكّرك الله، يابن رسول الله وحرمة السّلام أنْ تنتهك، أنشدك الله في حرمة رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ])، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله، لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهأبون بعدك أحداً أبداً(٢) . والله، أنّها الحرّمة السّلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأتِ الكوفة، ولا تعرض لبني اُميّة. فأبى إلاّ أنْ يمضي.

[ منزل قبل زرود وهي الخزيميّة ](٣)

فأقبل الحسينعليه‌السلام حتّى كان بالماء فوق زرود(٤) ، [ وهي: الخزيميّة ].

[ لحوق زهير بن القين بالإمام الحسينعليه‌السلام ]

عن رجل من بني فزارة، قال: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسينعليه‌السلام ، فلمْ يكن شيء أبغض إلينا من أنْ نسايره

____________________

(١) مضت ترجمته في إسناد الكتاب.

(٢) لمْ تنتهك حرمة السّلام ولا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا العرب ولا قريش بفعل الإمامعليه‌السلام ، بل بفعل أعداء السّلام. ولقد أخطأ ابن مطيع، إذ قال: ولئن قتلوك لا يهأبون بعدك أحداً أبداً، بل تجرّأ عليهم مَن لمْ يكن يتجرّأ قبل ذلك من أهل مكّة والمدينة والكوفة، بما فيهم نفس ابن مطيع إذ ولى الكوفة من قبل ابن الزبير، بل إنْ لمْ يكن يخرج الحسينعليه‌السلام لمْ يكن يجرأ على بني أمية أحد، فكانوا يفعلون ما يشاؤون من هدم السّلام.

(٣) تقع قبل زرود من مكّة، وبعدها للذاهب من الكوفة، كما في معجم البلدان. وقِيل: بينها وبين الثعلبيّة اثنان وثلاثون ميلاً، وهو من منازل الحجّاج بعد الثعلبيّة من الكوفة.

(٤) ٥ / ٣٩٤. قال أبو مِخْنف: حدثني محمّد بن قيس، ولعلّه ابن قيس بن مسهر.

١٦٧

في منزل، فإذا سار الحسينعليه‌السلام تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسينعليه‌السلام تقدّم زهير حتّى نزلنا في منزل لمْ نجد بدّاً من أنْ ننازله فيه. فنزل الحسينعليه‌السلام في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنّ أبا عبد الله الحسين بن عليعليهما‌السلام بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ انسان ما في يده حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير(١) .

قالت دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين، فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول اللهعليه‌السلام ثمّ لا تأتيه سبحان الله! لو أتيته فسمعت كلاُمّه، ثمّ انصرفت. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أنْ جاء مستبشراً قد أسفر وجهه.

ثمّ قال لأصحابه: من أحبّ منكم أنْ يتبعني، وإلاّ فإنّه آخر العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً: غزونا بلنجر(٢) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم. فقال سلمان الباهلي(٣) : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: فحدّثني الأسدي، عن رجل من بني فزارة، قال الأسدي: لمّا كان زمن الحجّاج بن يوسف، كنّا مختبئين في دار زهير بن القين الجبلي، وكان أهل الشام لا يدخلونها. فقلت للفزاري حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي؟ قال ٥ / ٣٩٦. والإرشاد / ٢٢١، والخوارزمي / ٣٢ ٥.

(٢) مدينة الخزر عند باب الأبواب، فُتحت سنة (٣٣) على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، على عهد عثمان بن عفّان، كما في معجم البلدان.

(٣) وفي الطبري ٤ / ٣٠ ٥: إنّ سلمان الفارسي وأبو هريرة كانا معهم. ونصّ ابن الأثير في الكامل ٤ / ١٧: أنّ الذي حدّثهم هو سلمان الفارسي وليس الباهلي، في حين أنّ ابن الأثير إنّما أراد بكتابه الكامل في التاريخ أنْ يُكمل تاريخ الطبري، فهو في أكثر أخباره ناقل عنه.

ونصّ على أنّه الفارسي أيضاً الشيخ المفيد في الإرشاد، والفتال في روضة الواعظين / ١ ٥ ٣، وابن نما في مثير الأحزان / ٢٣، والخوارزمي في المقتل ١ / ٢٢ ٥، والبكري في المعجم ممّا استعجم ١ / ٣٧٦.

ويؤيّد هذا نصّ الطبري على وجود سلمان الفارسي في هذه الغزوة. ولكن الظاهر أنّ سلمان الفارسي كان والياً على المدائن بعد فتحها سنة (١٧ هـ) حتّى توفّي بها بدون أنْ يخرج منها إلى غزو، وأنّه توفّى قبل هذا على عهد عمر.

١٦٨

معهم منكم بما أصبتم من الغنائم؛ فأمّا أنا، فإنّي استودعكم الله.

ثمّ قال لامرأته: أنت طالق إلحقي بأهلك؛ فإنّي لا أحبّ أنْ يصيبك من سبي إلاّ خير(١) و(٢) .

وسرّح الحسينعليه‌السلام عبد الله بن يقطر الحميري(٣) من بعض الطريق إلى مسلم بن عقيل(٤) ، فتلقّاه خيل الحصين بن تميم بالقادسيّة، فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب، ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي. فصعد، فلمّا أشرف على النّاس، قال: أيّها النّاس، إنّي رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ])، لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سميّة الدّعي.

فأمر به عبيد الله [ ابن زياد ] فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظاُمّه، و[ كان ] به رمق فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي(٥) فذبحه.

____________________

(١) قال أبو مِخْنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين، قالت ٥ / ٣٩٦. وفي الإرشاد / ٢٢١.

(٢) وسيُعلم من خطبة زهير بكربلاء، أنّه كان ناقماً من قبل على استلحاق معاوية زياداً وقتله حجر بن عدي.

(٣) كانت اُمّه حاضنة للحسينعليه‌السلام ؛ فلذلك قِيل فيه: أنّه أخوه من الرضاعة.

وجاء: (بقطر) في الطبري بالباء الموحدّة، وكذلك ضبطه الجزري في الكامل، إلاّ أنّ مشايخنا ضبطوه بالياء المثنّاة، كما في إبصار العين للسماوي / ٥ ٢.

(٤) قال أبو مِخْنف: حدّثني أبو علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٠، وخلط خبره بخبر قيس بن مسهر الصيداوي.

(٥) ولي القضاء في الكوفة بعد الشعبي، توفّي سنة (١٣٦ هـ)، عن مئة وثلاث سنين، كما في ميزان الاعتدال ١ / ١ ٥ ١، وتهذيب السّماء / ٣٠٩.

وسيأتي: أنّ خبر شهادته بلغ الإمامعليه‌السلام بمنزل زبالة، قبل خبر الصيداوي، فالظاهر أنّ ابن يقطر كان مبعوثاً قبل الصيداوي.

١٦٩

زرود(١) .

عن عبد الله بن سليم والمذري بن المُشمَعلّ الأسديين، قالا: لمّا قضينا حجّنا لمْ يكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسينعليه‌السلام في الطريق، لننظر ما يكون من أمره وشأنّه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقنا بزرود(٢) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسينعليه‌السلام ، فوقف الحسينعليه‌السلام كأنّه يُريده، ثمّ تركه ومضى، فقالعليه‌السلام :« أحدنا لصاحبه، اذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإنْ كان عنده خبر الكوفة علمناه ». فمضينا حتّى انتهينا إليه فقلنا: السّلام عليك. قال: وعليكم السّلام ورحمة الله. ثمّ قلنا: فمَن الرجل؟ قال: أسدي. فقلنا: فنحن أسديّان، فمَن أنت؟ قال: أنا بكير بن المثعبة. فانتسبنا له، ثمّ قلنا أخبرنا عن النّاس وراءك؟ قال: نعم، لمْ أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السّوق. قالا: فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسينعليه‌السلام فسايرناه حتّى نزل.

[ الثعلبيّة ](٣)

الثعلبيّة ممسيّاً، فجئناه حين نزل فسلّمنا عليه فردّ علينا. فقلنا له: يرحمك

____________________

(١) بين الخزيميّة والثعلبيّة بطريق الكوفة، كما في معجم البلدان ٤ / ٣٢٧.

(٢) وهذ ممّا يتنافى مع ما مرّ عنهما من خبر الفرزدق في منزل الصفاح، قبل زرود بعدّة منازل، إذ ظاهر هذا الخبر - بل نصّه - أنّهما إنّما لحقا به في زرود، وليس قبل ذلك، بل لا يمكن ذلك مع أدائهما الحجّ؛ فان منزل الصفاح في أوائل الطريق وقد خرج الإمامعليه‌السلام يوم التروية، فلو لحقا به لمْ يمكنهما الحجّ. والعجب أنّ الرواة هم الرواة في الخبرين، ولمْ يتنبّهوا لذلك، لا أبو جناب ولا أبو مِخْنف ولا الطبري. اللهمّ،، إلاّ أنْ يكونا لقياه في الصفاح قبل حجّهما، ثمّ لحقابه بعد حجّهما بزرود.

(٣) هي بعد الشقوق للذاهب إلى مكّة من الكوفة، نسبةً إلى ثعلبة، رجل من بني أسد كما في المعجم.

١٧٠

الله، إنّ عندنا خبراً فإنْ شئت حدّثنا علانية، وإنْ شئت سرّاً. فنظر إلى أصحابه، وقالعليه‌السلام :« ما دون هؤلاء سرّ ». فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قالعليه‌السلام :« نعم، وقد أردت مسألته ». فقلنا: قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤ من أسد منّا، ذو رأي وصدق وفضل وعقل، وأنّه حدّثنا أنّه لمْ يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحتّى رآهما يُجرّان في السّوق بأرجلهما. فقالعليه‌السلام :« إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما! ». فردّد ذلك مراراً(١) .

فقلنا: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوّف أنْ تكون عليك. فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب(٢) .

[ و ] قالوا: لا والله، لا نبرح حتّى ندرك ثارنا، أو نذوق ما ذاق أخونا(٣) .

قالا: فنظر إلينا الحسينعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام :« لا خير في العيش بعد هؤلاء » . فعلمنا أنّه قد عزم له رأيه على المسير، فقلنا: خار الله لك. فقالعليه‌السلام :« رحمكما الله » .

ثمّ انتظر حتّى إذا كان السّحر، قالعليه‌السلام لفتيانه وغلمأنّه:« أكثروا من الماء ». فاستقوا وأكثروا، ثمّ ارتحلوا وساروا حتّى انتهوا إلى

____________________

(١) ظاهر هذه الرواية: أنّ خبر مقتل مسلم بن عقيل هنا كان عامّاً، وسيأتي أنّ الإمامعليه‌السلام أعلن ذلك لأصحابه بكتاب أخرجه للنّاس في منزل زبالة، ومن هنا يترجّح أنْ يكون قولهعليه‌السلام :« مادون هؤلاء » . سرّ، يعني: أمّا دون هؤلاء الحاضرين، فليكن الخبر سرّاً، وكذلك بقي الخبر سرّاً حتّى زبالة؛ وأمّا اليعقوبي، فقد قال: إنّ خبر قتل مسلم أتى الإمام بالقطقطانة ٢ /٢٣٠، ط النّجف.

(٢) قال أبو مِخْنف حدّثني أبو جناب الكلبي عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبد الله ٥ ٣٩٧ وفي الإرشاد ٢٢٢ روى عبد الله بن سليمان ...، ط النّجف.

(٣) قال أبو مِخْنف: حدّثني عمر بن خالد - هكذا والصحيح عمرو بن خالد -، عن زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام ، وعن داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس: أن بني عقيل، قالوا ٥ / ٣٩٧. والإرشاد / ٢٢٢، والمسعودي ٣ / ٧٠، والخواص / ٢٤ ٥، ط النّجف.

١٧١

[ زبالة ](١)

زبالة(٢) [ فـ ] -سقط إليه [ خبر ] مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر(٣) ، فأخرج للنّاس كتاباً [ ونادى ]:«

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد:

فقد أتانا خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا (٤) فمَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام ».

فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة.

وإنّما فعل ذلك؛ لأنّه إنّما تبعه الأعراب، لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أنْ يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لمْ يصحبه إلاّ مَن يُريد مواساته والموت معه(٥) .

فلمّا كان من السّحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثمّ سار حتّى مرّ بـ:

____________________

(١) تقع قبل الشقوق للذاهب إلى مكّة من الكوفة، وفيها: حصن وجامع لبني أسد. وزبالة: اسم امرأة من العمالقة، كما في معجم البلدان.

(٢) قال أبو مِخْنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٢، ط النّجف.

(٣) سبقت ترجمته، وإنّ اُمّه كانت حاضنة للحسينعليه‌السلام ؛ فلذلك قِيل فيه: أنّه أخوه.

(٤) هذا تصريح من الإمامعليه‌السلام بخذلان شيعته بالكوفة، وهو أوّل إعلان بأخبار الكوفة ومقتل مسلمعليه‌السلام ، وإنْ كان بلغه الخبر قبل هذا في منزل زرود، ولكن الظاهر: أنّه بقي سرّاً ما دون الحاضرين بمجلس الخبر إذ ذاك بأمر الإمامعليه‌السلام حتّى أعلنه لهم هنا.

(٥) هذا تمام الكلام في أنّ الإمامعليه‌السلام لماذا كان يأذن لهم بالانصراف عنه، وفيه الكفاية عن كلّ كلام؟

١٧٢

[ بطن العقبة ](١)

بطن العقبة، فنزل بها(٢) [ فسأله أحد بني عكرمة ]: إنّي أنشدك الله لمّا انصرفت، فوالله، لا تقدم إلاّ على السّنة وحدّ السّيوف، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّئوا لك الأشياء، فقدمت عليهم كان ذلك رأياً؛ فأمّا على هذه الحال التي تذكرها، فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل.

فقالعليه‌السلام :« له يا عبد الله، إنّه ليس يخفى عليّ الرأي ما رأيت، ولكنّ الله لا يغلب على أمره » (٣) . ثمّ ارتحل منها(٤) .

[ شراف ](٥)

[ و ] أقبل الحسينعليه‌السلام حتّى نزل شراف. فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النّهار.

ثمّ إنّ رجلاً، قال: الله أكبر. فقال الحسينعليه‌السلام :« الله أكبر، ممّ كبّرت؟ » . قال: رأيت النّخل. فقال له الأسديان [ عبد الله بن سليم والمذري بن المُشمَعلّ ]: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط. فقال الحسينعليه‌السلام :« فما

____________________

(١) منزل في طريق مكّة بعد واقصة وقبل القاع لمّن يُريد مكّة.

(٢) قال أبو مِخْنف: حدّثني أبو علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني، قال ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٢، ط النّجف.

(٣) وفي الإرشاد / ٢٢٣، ثمّ قال عليه‌السلام : « والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقه من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأمم » . وكذلك عنه في إعلامَ الورى / ٢٣٢.

(٤) قال أبو مِخْنف: فحدّثنى لوذان أحد بني عكرمة أنّ أحد عمومته حدّثه ٥ / ٣٩٩.

(٥) بينها وبين واقصة ميلان، وهي قبل العراق، نزل بها سعد قبل القادسيّة، منسوبة إلى رجل يُدعى: شراف استخرج بها عيناً، ثمّ أحدثت آبار كبار كثيرة عذبة، كما في معجم البلدان.

١٧٣

بريانه رأى » . قلنا: نراه رأى هوادي الخيل [، أي: رؤوسه ]. فقال [ الرجل ]: وأنا والله، أرى ذلك.

[ ذوحسم ](١)

فقال الحسينعليه‌السلام :« أمَا لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟ » . فقلنا له: بلى، هذا ذوحسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإنْ سبقت القوم إليه، فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه، فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه، فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا، فنزل الحسينعليه‌السلام فأمر بأبنيته فضربت.

فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي الخيل، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسينعليه‌السلام في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدون أسيافهم.

فقال الحسينعليه‌السلام لفتيانه:« اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ».

فقام فتيانه، وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم، وأقبلوا يملأون القصاع والطساس والأتوار(٢) من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيه ثلاثاً أو

____________________

(١) بضم ففتح، اسم جبل. كان النّعمان يصطاد فيه، كما في معجم البلدان. وبينه وبين عذيب الهجانات إلى الكوفة ثلاث وثلاثون ميلاً، كما في الطبري. وروى سبط ابن الجوزي عن علماء السّير: أنّ الإمامعليه‌السلام لمْ يكن له علم بما جرى على مسلم بن عقيل، حتّى إذا كان بينه وبين القادسيّة ثلاثة أميال تلقّاه الحرّ بن يزيد الرياحي، فاخبره بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وقدوم ابن زياد الكوفة واستعداده لهم، وقال له: ارجع. ٢٤ ٥، ط النّجف.

(٢) القصاع: جمع القصعة، والطساس: جمع الطاس، والأتوار: جمع تور، وهو إناء من صفر أو حجارة.

١٧٤

أربعاً أو خمساً(١) عزلت عنه، وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها(٢)(٣) .

(٤) [ وحضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسينعليه‌السلام الحجّاج بن مسروق الجُعفي أنْ يؤذن فأذّن، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسينعليه‌السلام في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:«

أيّها النّاس، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجل وإليكم، إنّي لمْ آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم، أنْ أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم، فان تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإنْ لمْ تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم ».

فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذّن: أقم. فأقام للصلاة.

فقال الحسينعليه‌السلام :« للحرّ أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ » . قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسينعليه‌السلام . ثمّ إنّه

____________________

(١) وهذا هو معنى: الترشيف.

(٢) قال الطبري: حدّثت عن هشام، عن أبي مِخْنف، قال: حدّثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري ٥ / ٤٠٠. والإرشاد / ٢٢٣، وأبو الفرج / ٧٣.

(٣) قال الطبري، قال هشام: حدّثني لقيط عن علي بن الطعان المحاربي، [ قال ]: كنت مع الحرّ بن يزيد [ الرياحي ]، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش، قالعليه‌السلام « أنخ الراوية ». - والراوية عندي السّقاء - ثمّ قالعليه‌السلام :« يابن أخ، أنخ الجمل ». فانخته، فقالعليه‌السلام :« اشرب ». فجعلت، كلّما شربت سال الماء من السّقاء، فقال الحسينعليه‌السلام :« أخنث السّقاء » - أي: أعطفه - قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل. فقام الحسينعليه‌السلام فخنثه فشربت وسقيت فرسي ٥ / ٤٠١. والإرشاد ٢٢٤، والخوارزمي / ٢٣٠.

(٤) هنا تصاب سلسلة أخبار أبي مِخْنف بالانقطاع، فلمْ يكن لنا بدّ من أنْ نسدّ الخلّة بخبر هشام الكلبي، عن لقيط، عن علي بن طعان المحاربي ٥ / ٤٠١. والإرشاد / ٢٢٤، والخواص / ٢٣١.

١٧٥

دخل، واجتمع إليه أصحابه.

وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسينعليه‌السلام أنْ يتهيّئوا للرحيل، ثمّ خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقدم الحسينعليه‌السلام فصلّى بالقوم، ثمّ سلّم وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«

أمّا بعد:

أيّها النّاس، فانّكم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت عليهم‌السلام أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان، وإنْ أنتم كرهتمونا وجهلتهم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم » .

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله،، ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.

فقال الحسينعليه‌السلام :« يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين (١) اللذين فيهما كتبهم إليّ ».

فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم.

فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« الموت أدنى إليك من ذلك » .

____________________

(١) مثنى الخرج، وهو: جوال ذو أذنين كما في مجمع البحرين. وسيأتي عن سبط ابن الجوزي: أنّ الإمامعليه‌السلام حينما خطب القوم يوم عاشوراء، فناشدهم أنّهم كتبوا إليه، قالوا: ماندري ما تقول. فقال الحرّ: بلى والله، لقد كاتبناك ونحن الذين أقدمناك، فأبعد الله الباطل وأهله، والله، لا أختار الدنيا على الآخرة. ثمّ ضرب فرسه ودخل في عسكر الحسينعليه‌السلام / ٢ ٥ ١.

١٧٦

ثمّ قالعليه‌السلام لأصحابه:« قوموا فاركبوا » .

فركبو، وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم.

فلمّا ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينهم وبين الانصراف.

فقال الحسينعليه‌السلام للحر:« ثكلتك اُمّك! ما تريد؟ ».

قال: أمَا والله، لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل أنْ أقوله كائناً مَن كان، ولكن والله،، ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يُقدر عليه(١) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :« فما تريد؟ ».

قال الحرّ: أريد والله،، أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد.

قال له الحسينعليه‌السلام :« إذن والله، لا اتّبعك ».

فقال له الحرّ: إذن والله، لا أدعك.

ولمّا كثر الكلام بينهما، قال له الحرّ: إنّي لمْ أؤمر بقتالك، وإنّما أمرت ألاّ أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إنْ أردت أنْ تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إنْ شئت، فلعلّ الله إلى ذلك أنْ يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أنء ابتلى بشيء من أمرك، فخذ ها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة [ كان هذا وهم بذي حسم ] وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً، [ فـ ] سار الحسينعليه‌السلام في أصحابه والحرّ يسايره ](٢) .

* * *

____________________

(١) ونقله في مقاتل الطالبيّين أبو الفرج، عن أبي مِخْنف / ٧٤، ط النّجف.

(٢) انتهى ما نقلناه عن هشام، والإرشاد / ٢٢ ٥، والخواص / ٢٣٢.

١٧٧

[ البيضة ](١)

[ و ] بالبيضة خطب الحسينعليه‌السلام أصحابه وأصحاب الحرّ، فحمد الله وأثني عليه، ثمّ قال:« أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ])، قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلمْ يُغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركو طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلال الله، وأنا أحقّ مَن غيّر.

قد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإنْ تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ])، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة، وإنْ لمْ تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم!

والمغرور من اغتّربكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم: ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) (٢) وسيُغني الله عنكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (٣) .

وأقبل الحرّ يسايره، وهو يقول له: يا حسين، إني أذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ، ولئن قُوتلت لتهلكنّ فيما أرى.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب

____________________

(١) ما بين واقصة إلى عذيب الهجانت، كما في معجم البلدان.

(٢) سورة الفتح / ١٠.

(٣) قال أبو مِخْنف: عن عقبة بن أبي العيزار ٥ / ٤٠٣.

١٧٨

أنْ تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول: كما قال أخو الأوس لابن عمّه، ولقيه وهو يُريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ])، فقال له: أين تذهب، فإنّك مقتول؟ فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

ممّا إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

ممّا وفارق مثبوراً يغش ويُرغما(١)

فلمّا سمع ذلك الحرّ منه تنحّى عنه. وكان يسير بأصحابه في ناحية، وحسينعليه‌السلام في ناحية أخرى، حتّى انتهوا إلى:

[ عذيب الهجانات ](٢)

عذيب الهجانات، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبون فرساً لنافع بن هلال، ومعهم دليلهم الطرّماح بن عدي على فرسه، فلمّا انتهوا إلى الحسينعليه‌السلام انشدوه هذه الأبيات:

يا ناقتي لا تُذعري من زجري

وشمّري قبل ط لوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر

حتّى تَحُلّي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر

أتى به الله لخير أمر

ممّا ثمّة أبقاه بقاء الدهر

____________________

(١) ونقلها ابن الأثير في الكامل، والمفيد في الإرشاد / ٢٢ ٥ بزيادة:

فان عشت لم آندم وإن مت لم

ألم كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

(٢) العُذيب - بالتصغير -: واد لبني تميم، وهو حدّ السّواد، أي: العراق. وكانت فيه مسلحة للفرس، بينه وبين القادسيّة ستّ أميال. وكانت خيل النّعمان ملك الخيرة تُرعى فيه، فقِيل: عُذيب الهجانات جمع: الهجين، بمعنى: ذي الدم الخليط.

١٧٩

فقال [ الحسينعليه‌السلام ]:« أمَا والله، إنّي لأرجو أنْ يكون خيراً ما أراد الله بنا، قُتلنا أمْ ظفرنا » .

وأقبل الحرّ بن يزيد، فقال [ للإمامعليه‌السلام ]: إنّ هؤلاء النّفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادّهم.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« لأمنعنّهم ممّا أمنع منه نفسي، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني أنْ لا تعرض لي بشيء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد ».

فقال [ الحرّ ]: أجل، لكن لمْ يأتوا معك.

قال [ الحسينعليه‌السلام ]:« هم أصحابي، وهم بمنزلة مَن جاء معي، فإنّ تممت عليّ ما كان بيني وبينك وإلاّ ناجزتك » . فكفّ عنهم الحرّ.

ثمّ قال لهم الحسينعليه‌السلام :« أخبروني خبر النّاس وراءكم؟ ».

فقال له مجمّع بن عبد الله العائذي، وهو أحد النّفر الأربعة الذين جاؤوه(١) : أمّا، أشراف النّاس، فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائزهم، يستمال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألب(٢) واحد عليك؛ وأمّا سائر النّاس بعد، فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

قالعليه‌السلام :« أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ » . قالوا: مَن هو؟ قال:« قيس بن مسهر الصيداوي » . قالوا: نعم، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أنْ يلعنك ويلعن أباك فصلّى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار(٣) القصر.

____________________

(١) لعلّهم جابر بن الحرّث السّلماني، وعمر بن خالد الصيداوي وسعد مولاه الذين ذكرهم أبو مِخْنف: أنّهم قاتلوا معاً في أوّل القتال حتّى قُتلوا في مكان واحد ٥ / ٤٤٦.

(٢) أي: اجتماع.

(٣) أي: أعلاه.

١٨٠